إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

استثنائي مركب من قضية منفصلة حقيقة ذات أطراف كثيرة ، وهي : إمّا أن يكون علم إجمالي بالتكاليف ، أو لا يكون ، وعلى الأوّل إمّا أن ينسد باب العلم والعلمي إلى كثير منها أو لا. وعلى الأوّل إمّا أن يجوز الإهمال أو لا ، وعلى الثاني فالتعرض إمّا بالاحتياط أو بالأُصول العملية أو بالرجوع إلى القرعة أو بالإطاعة الوهمية والشكية أو الظنية. والكلّ باطل غير الأخير ، فتعين الأخير.

وإليك دراسة المقدّمات واحدة تلو الأُخرى.

المقدمة الأُولى

العلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

وهذه المقدمة أسقطها الشيخ من مقدمات دليل الانسداد والحقّ معه ، لأنّها إمّا أمر بديهي إذ أريد منه العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها ، أو راجعة إلى المقدمة الثالثة إذا أريد منها العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الوقائع المشتبهة التي لم يتبين حكمها ولذلك لا يجوز إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلاً.

ولكن الظاهر من المحقّق الخراساني هو اختيار الوجه الأوّل ، وبذلك تكون مقدمة بديهية لكن العلم الإجمالي بتكاليف فعلية في الشريعة ليس باقياً بحال إجماله بل كلّ ينحلّ بالترتيب التالي.

توضيحه : انّ لنا علوماً ثلاثة :

أ : علم إجمالي كبير ، وهو العلم بوجود التكاليف في الواقع وانّ الشرع لم يترك الإنسان سدى.

ب : علم إجمالي صغير ، وهو العلم بوجود عامة التكاليف بين الأمارات والأخبار الموجودة فيما بأيدينا.

٣٠١

ج : علم إجمالي أصغر ووجود عامة التكاليف المعلومة إجمالاً في خصوص الأخبار المودوعة في الكتب المعتبرة وغير المعتبرة التي يربو عددها على خمسين ألف حديث. (١)

فلازم ذلك العلم ، الاحتياط في خصوص الأخبار الأعم من المعتبرة وغيرها ولا يورث مثل هذا الاحتياط ، عسراً ولم يقم إجماع على عدم وجوبه في مورد الأخبار وإن قام الإجماع على عدم وجوبه في أطراف العلمين الأوّلين.

على أنّه سيوافيك إمكان انحلال ثالث العلوم برابعها أيضاً.

المقدمة الثانية

انسداد باب العلم والعلمي في معظم الفقه وعليها تدور رحى دليل الانسداد ، وقد اقتصر بها صاحبا المعالم والوافية وإنّما أضاف إليها سائر المقدّمات المتأخرون عنهما ، ولكن انسداد باب العلم بالنسبة إلى معظم الفقه صحيح لقلّة الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة لكن ادّعاء انسداد باب العلمي ، أي ما دلّ الدليل القطعي على حجّيته بالنسبة إلى معظم الفقه ، غير صحيح لما عرفت من الدليل القطعي على حجّية الخبر الموثوق بصدوره سواء حصل الوثوق بالصدور من وثاقة الراوي أو قرائن أُخر وهو بحمد اللّه متوفر وواف بمعظم الفقه على وجه لا يلزم الرجوع في غير مورد الخبر إلى الأُصول العملية محذور الخروج من الدين ، أو مخالفة العلم الإجمالي ، لعدم العلم بالتكاليف في غير موارد الاخبار.

نعم لو قلنا بحجّية خصوص الصحيح الأعلائي الذي يكون جميع من ورد في السند إمامياً معدلاً بعدلين من أهل الخبرة ، كان لما ادّعاه مجال ، ولكن الاقتصار ه على خلاف ما دلّت عليه الأدلّة.

__________________

١. الروايات الواردة في الجامع لأحاديث الشيعة تربو على خمسين ألف حديث.

٣٠٢

أو قلنا بمقالة المحقّق القمي من أنّ الظهورات حجّة لمن قصد إفهامه من الكلام ، فيدخل العمل بها لغير المشافهين تحت العمل بالظن المطلق ، وقد عرفت عدم صحّة ما ذكر.

المقدمة الثالثة

لا يجوز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها وترك التعرض لامتثالها بإجراء البراءة في جميعها ، ومع أنّ المقدمة قطعية كما قالها المحقّق الخراساني ، لكن الشيخ الأنصاري استدل عليها بوجوه ثلاثة :

أ : الإجماع القطعي على أن ليس المرجع على تقدير انسداد باب العلم وعدم ثبوت الدليل على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص ، هو البراءة وإجراء أصالة العدم في كلّ حكم ، بل لابدّ من إمتثال الأحكام المجهولة بوجه ما ، وهذا الحكم وإن لم يصرح أحد به من القدماء بل المتأخرين في هذا المقام ، إلا أنّه معلوم للمتتبع في طريقة الأصحاب بل علماء الإسلام طراً.

ب : انّ الرجوع في جميع تلك الوقائع المشتبهة حكمها إلى نفي الحكم ، مستلزم للمخالفة القطعية المعبر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدين بمعنى انّ المقتصر على التدين بالمعلومات التارك للأحكام المجهولة ، جاعلاً لها كالمعدومة يكاد يعد خارجاً عن الدين لقلّة المعلومات وكثرة المجهولات.

ج : لا يجوز الرجوع إلى البراءة من جهة العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات ، فانّ أدلّة البراءة مختصة بغير هذه الصورة.

والفرق بين الوجهين الأخيرين واضح ، وهو انّ أوّل الوجهين مبني على عدم جواز المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين ، وهو محذور

٣٠٣

مستقل ؛ بخلاف ثانيهما ، فهو مبني على عدم جواز مطلق المخالفة القطعية وإن لم تكن كثيرة.

وبعبارة أُخرى : أساس الثاني هو العلم الإجمالي المنجز ومعه لا تجوز المخالفة مطلقاً قلت أو كثرت ، بخلاف الأوّل فانّ أساسه هو لزوم الخروج من الدين ولا يتحقق إلا بالمخالفة القطعية الكثيرة.

وقد اعتمد المحقّق الخراساني على الوجه الثاني وقال :

أمّا المقدمة الثالثة فهي قطعية ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه ، كما في المقام حسب ما يأتي ، وذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيراً عن الحرام ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعاً وممّا يلزم تركه إجماعاً.

ثمّ إنّه قدس‌سره أشار إلى إشكال في المقام وقال ان قلت :

إذا لم يكن العلم بها منجزاً للزوم الاقتحام في بعض الأطراف كما أشير إليه ، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذ على تقدير المصادفة ، إلا عقاباً بلا بيان ، والمؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان.

لكن يمكن الإجابة عنه بوجوه :

الأوّل : ما أفاده قدس‌سره بتوضيح منّا انّ إيجاب الاحتياط في غير ما يرتفع به العسر ، ليس أثر العلم الإجمالي حتى يقال انّه غير منجز ، بل أثر علمنا باهتمام الشارع بمراعاة تكاليف بحيث لا ينافيه عدم إيجابه الاحتياط ( فيما يرتفع به العسر ) ولو بالالتزام ببعض المحتملات ، وأمّا مصدر علمنا باهتمامه فهو إمّا الإجماع أو كونه مستلزماً للخروج عن الدين ( الوجهان الأوّلان ).

الثاني : انّ الاضطرار إلى بعض الأطراف إنّما ينافي تنجيز العلم الإجمالي إذا

٣٠٤

كان الاضطرار إلى طرف معين لا إلى واحد لا بعينه كما سيوافيك ، والاضطرار في المقام إنّما هو للبعض غير المعين لا المعين ، لأنّ الاضطرار يرتفع بارتكاب بعض الأطراف لا بعينه.

الثالث : الفرق بين الاضطرار المقدّم على العلم الإجمالي ، حيث يوجب عدم انعقاد العلم الإجمالي مؤثراً ، لأنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه مؤثراً على كلّ تقدير ، وهذا إنّما يتصور إذا لم يتقدّم الاضطرار على العلم إذ عندئذ ( فرض التقدم ) يكون مؤثراً على فرض وغير مؤثر على فرض. ومثل هذا ينافي العلم بتنجز التكليف على كلّ تقدير ، وبين الاضطرار الحادث بعد العلم ، فهو وإن كان رافعاً للعلم ، لكنّه ليس برافع أثره ، لأنّ العقل يحكم بوجوب الاجتناب لأجل العلم السابق المرتفع فعلاً ، وانّ الضروريات تتقدر بقدرها ، وهو الطرف الرافع للاضطرار ، لا غيره. وسوف يوافيك تفصيله.

المقدمة الرابعة : في بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقررة للجاهل.

إنّ الطرق المقررة للجاهل أحد أُمور ثلاثة :

١. الاحتياط في المشتبهات مطلقاً.

٢. الرجوع في كلّ مسألة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك المسألة ، ففي الشكّ في التكليف يرجع إلى البراءة ، وفي الشكّ في المكلّف به إلى الاحتياط إلا إذا لم يمكن فيرجع إلى التخيير ، وفي الشكّ في حكم سابق يحتمل بقاؤه يرجع إلى الاستصحاب.

٣. تقليد الغير ، ورجوع المجتهد الذي يعتقد بانسداد باب العلم إلى المجتهد القائل بالانفتاح وكلّ هذه الطرق باطلة ، فلم يبق إلا العمل بالظن.

فيجب البحث في محاور ثلاثة :

٣٠٥

١. الرجوع إلى الاحتياط

أمّا الرجوع إلى الاحتياط ، فوجه بطلانه أحد أمرين على وجه القضية المانعة الخلو :

أ : الإجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام ، بمعنى العلم بسيرة العلماء في الفقه ، وهو انّ المرجع في الشريعة على تقدير انسداد باب العلم ، ليس هو الاحتياط في الدين ، والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل وجوبه ولو موهوماً وترك ما يحتمل حرمته كذلك.

ب : لزوم العسر الشديد ، والحرج الأكيد لكثرة ما يحتمل خصوصاً في أبواب الطهارة والصلاة ، مع عدم إمكان الاحتياط في بعض الموارد ، كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ إلى صرفه عليه أو كما في المرافعات وعلى ذلك فلا مناص من العمل بالظن.

ثمّ إنّ الشيخ أورد إشكالاً على التمسك بأدلّة الحرج وقال : إنّ الأدلة النافية للعسر إنّما تنفي وجوده في الشريعة بحسب أصل الشرع أوّلاً وبالذات فلا تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند إلى الشارع ـ إلى أن قال : ـ ولا ريب في انّوجوب الاحتياط بإتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة إنّما هو من جهة اختفاء أحكام الشريعة وليس مستنداً إلى نفس الحكم.

ثمّ أجاب عنه بأنّ الحرج وصف للحكم والمرفوع هو الحكم الحرجي ولا فرق فيه بين ما يكون بسبب يسند عرفاً إلى الشارع وهو الذي أريد بقولهم : دع ما غلب اللّه عليه فاللّه أولى بالنذر ، وبين ما يكون مسنداً إلى غيره ، فانّ وجوب صوم الدهر على ناذره إذا بان فيه مشقة لا يحتمل عادة ، ممنوع ، وكذا أمثالها من المشي إلى بيت اللّه جلّ ذكره وإحياء الليالي وغيرهما.

٣٠٦

توضيحه : أنّ دليل نفي الحرج ينفي كلّ حكم حرجي سواء كان حرجياً حدوثاً ، كما في إيجاب المسح على البشرة على من وضع المرارة عليها ؛ أو بقاءً ، كما في المقام فانّ امتثال الأحكام في هذه الظروف التي يتوقف امتثال واجب على الإتيان بعشرة أُمور ، وترك المحرم على ترك أُمور كثيرة ناش من حفظ الحكم في المقام فيكون مدلولها نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج ولو باعتبار بقائه في حال الاشتباه (١).

وأمّا المحقّق الخراساني فقد وافق المستدل إذا استلزم الاحتياط اختلال النظام لا ما إذا استلزم الحرج ، إذ لا حكومة لأدلته على إيجاب الاحتياط في المقام.

وتوضيح كلامه مبني على بيان أمرين :

١. انّ المرفوع هو نفس الحرج ، لا الحكم ، والحرج والضرر من أوصاف أفعال المكلّفين التي هي متعلقات الأحكام ، فلا يستدل بأدلّتهما إلا إذا كان نفس الفعل ومتعلّق التكليف حرجياً. ولذلك يصحّ الاستدلال على عدم وجوب مسح البشرة لمن عثر وسقط ظفره ، لأنّ نفس الفعل ومتعلّق الحكم حرجي ولا يصحّ الاستدلال بها على عدم لزوم العقد الغبنيّ ، لأنّ الفعل ، أعني : نفس البيع ليس بحرجي وإنّما الحرج ناش من إيجاب العقد ، وهو غير مرفوع.

٢. انّ الغرض من رفع الفعل الحرجي إنّما هو رفع حكمه الشرعي ، كما هو الحال في : لا شك لكثير الشك ، ولا ربا بين الوالد والولد ، وهذا الشرط ـ أعني : كون المتعلّق حرجياً وإن كان حاصلاً في المقام ، لأنّ متعلّقه عبارة عن الإتيان بالمشتبهات الكثيرة ، لكن حكمه ، أعني : إيجاب الاحتياط ـ ليس شرعياً ، بل هو حكم عقلي من باب حكمه بتحصيل الموافقة القطعية عند الاشتغال اليقيني.

__________________

١. الفرائد : ١٢١ ، طبعة رحمة اللّه ؛ و ١١١ ، طبعة محمد علي.

٣٠٧

فعدم شمول أدلّة الحرج لأجل انتفاء الشرط الأخير ، أي عدم كون حكم المرفوع حكماً شرعياً.

يلاحظ على ما ذكره بوجهين :

أمّا أوّلاً : فلأنّه لو صحّ ما ذكره فإنّما يصحّ في قوله : « لا ضرر » بناء على أنّ الضرر صفة الفعل ، وانّ المرفوع خصوص الفعل الضرري ـ لا الحكم الضرري ـ لكن لغاية رفع حكمه ، وأمّا القاعدة الأُخرى ، فالدليل الواضح فيها قوله سبحانه : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) فهو ظاهر في نفي الحكم الحرجي بقرينة قوله : ( وما جَعَلَ ) فانّ الجعل التشريعي يتعلّق بالحكم لا بالموضوع ، والمقصود كما هو الظاهر من رواية « عبد الأعلى مولى آل سام » أعني قوله : « إنّ هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللّه » هو الاخبار عن عدم جعل وجوب المسح على البشرة برفع ما عليها ، فكيف يقاس هذا بهذا؟!

وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكره غير تام حتى في نفس « لا ضرر » ، لأنّه إذا كان المراد نفي الفعل الضرري بلحاظ نفي حكمه ، يلزم ارتفاع حرمة الفعل الضرري وجواز الإضرار بالغير وهو خلاف المقصود قطعاً ، إذ لو كان وزان « لا ضرر » هو وزان « لا ربا بين الولد والوالد » يكون المقصود ارتفاع حرمة الضرر ، كارتفاع حرمة الربا بينهما ، وهو غير صحيح بالضرورة. فتعين انّ المقصود إمّا ما اختاره الشيخ ، أو ما ذهب إليه شيخ الشريعة من كون النفي بمعنى النهي ، مثل قوله سبحانه : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الحَجّ ) (١) ، أو ما اختاره سيّدنا الأُستاذ من كون النهي حكماً سلطانياً وحكومياً ، لا حكماً شرعياً وفرعياً. وسيوافيك تحقّيق الحال في محلّه فانتظر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار إلى إشكال آخر ، وهو انّه لا يصحّ الاحتجاج

__________________

١. البقرة : ١٩٧.

٣٠٨

بالعلم الإجمالي على لزوم الاحتياط للزوم رفع اليد عن بعض الأطراف لأجل رفع الاضطرار ، بل لابدّ من الاستدلال على وجوبه بالدليل الشرعي وهو الوجهان الأوّلان الماضيان في المقدمة الثالثة.

وقد عرفت الإشكال في كلامه عند البحث فيها بوجوه ثلاثة فلا يفيد.

الرجوع إلى الأصل في كلّ مورد

من الطرق المقررة للجاهل بالحكم الواقعي ، الرجوع إلى الأصل في كلّ مسألة ، فيرجع في الشك في التكليف إلى البراءة ، وفي المكلّف به إلى الاحتياط إذا أمكن ، وإلى التخيير إذا لم يمكن ، وإلى الاستصحاب إذا كان للحكم سابق; ولكن العمل بهذا الطريق غير صحيح لما أفاده الشيخ بقوله : فالعمل بالأُصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة ، وبالأُصول المثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزم للحرج ، وهذا لكثرة المشتبهات في المقامين. (١)

وأمّا المحقّق الخراساني فلم يوافق هذا الجزء من إجزاء الاستدلال ، وحاصل ما أفاد : أنّ المانع عند الشيخ الأنصاري عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي ، هو لزوم التناقض في مدلول الدليل الدال عليها ، أعني قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر » مثلاً إجراء أصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين باعتبار كونهما مسبوقي الطهارة يوجب دخولهما في صدر الحديث وكونهما محكومين بالطهارة ، لكن مقتضى العلم بوجود النجاسة في البين هو نقضهما والحكم بوجوب الاجتناب ودخولها في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » وهذا ممّا يصد الفقيه عن القول بدخول أطراف العلم الإجمالي تحت أدلّة الأُصول.

__________________

١. الفرائد : ١٢٦ ، أواخر المقدمة الثالثة للانسداد.

٣٠٩

لكن المانع عن جريان الأُصول عند المحقّق الخراساني ، هو وجود المخالفة القطعية ، وذلك لأنّ الحكم بطهارة الاناءين المشتبهين ينتهي إلى شربهما معاً فيلزم المخالفة القطعية.

إذا علمت هذه المقدمة ، فاعلم أنّ لكلام المحقّق الخراساني في المقام مقاطع ثلاثة :

١. لا مانع من جريان الأُصول في عامة الموارد المشتبهة ولا يلزم محذور التناقض في المقام ، فلأنّ استصحاب عدم التكليف مثلاً بمقتضى قوله : لا تنقض اليقين بالشك في مورد ، إنّما يستلزم التناقض إذا كان الشك في جميع الأطراف فعلياً بحيث لا يجري الأصل في مورد جزئي إلا ويجري في جميع الموارد المشتبهة ، فالحكم بالبراءة في تلك الموارد ، ينافي العلم بانتقاض الحالة السابقة في كثير منها ، فاستصحاب عدم التكليف في هذه الموارد ، تمسكاً بالصدور يناقضه العلم بانتقاض الحالة السابقة في كثير منها فيصدق قوله : ولكن تنقضه بيقين آخر.

وأمّا إذا لم يكن الشكّ فعلياً إلافي مورد جزئي ولم يكن سائر الأطراف مورداً للالتفات ، فلا يلزم التناقض لعدم العلم بانتقاض الحالة السابقة في هذا المورد الذي جرى فيه استصحاب عدم التكليف والبراءة منه.

٢. لا مانع من جريان الأُصول إذا قلنا بأنّ المانع عن جريانها هو لزوم المخالفة القطعية ، فإنّ إجراء أصل الطهارة في كلا الإناءين واستعمالها فيما يشترط فيه الطهارة يستلزم المخالفة القطعية ، لكن ذلك الملاك غير موجود في المقام ، وذلك :

لأنّ العلم الإجمالي الكبير ، بالتكاليف في المظنونات والمشكوكات والموهومات منحل ببركة أمرين :

٣١٠

أ : ما علم تفصيلاً أو نهض عليه دليل علمي.

ب : الأُصول المثبتة للتكاليف.

فبعد هذا لا يبقى علم بالتكليف بل يكون المقدار منطبقاً على المعلوم بالتفصيل.

ولو افترضنا عدم انحلاله وبقاء العلم الإجمالي بالتكليف لكنّه ليس على وجه يستكشف معه الاحتياط بالوجهين السابقين في المقدمة الثالثة ، أعني : الإجماع والخروج عن الدين.

وعند ذلك فلا يبقى وجه للاحتياط وتكون الأُصول ـ نافيها ومثبتها ـ جارية بلا إشكال.

٣. على فرض عدم الانحلال ، يلزم القول بالتبعيض في الاحتياط ، أي الاحتياط في مظنونات التكاليف ومشكوكاتها وموهوماتها. لا مطلق محتملات التكليف حتى يجب الاحتياط في موارد دلّ الدليل على التكليف ، أعني : الدليل العلمي والأُصول المثبتة ، ولو افترضنا لزوم العسر والحرج في الموارد الثلاثة فيقصر بموارد الظن بالتكليف.

وأمّا الجزء الثالث من أجزاء الاستدلال فواضح لا يحتاج إلى البحث ضرورة انّ التقليد لا يجوز إلا للجاهل لا للفاضل الذي يخطئ رأي القائل بالانفتاح.

هذا تمام الكلام في نقد المقدمة الرابعة ، أضف إليه انّ المطلوب غير حاصل منها على فرض صحّتها ، لأنّ المقصود إثبات حجّية الظن على وجه يقع في عداد الكتاب والسنة القطعية على وجه يخصص به عموم الكتاب والسنة وإطلاقهما حتى ولو كان مفاده على خلاف الاحتياط ولكن الحاصل منها هو حجّية الظن من باب الاحتياط. فيقتصر في العمل به بالموارد التي يكون العمل بها موافقاً للاحتياط ... وهو غير المطلوب في المقام.

٣١١

المقدمة الخامسة

إذا وجب التعرض لامتثال الأحكام المشتبهة ولم يجز إهمالها بالمرة كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة وثبت عدم وجوب الامتثال على وجه الاحتياط ، وعدم جواز الرجوع إلى الأُصول الشرعية إمّا لاستلزام جريانها طروء التناقض ، أو المخالفة القطعية كما هو مقتضى المقدمة الرابعة ، تعين التعرض لأمثال الأحكام المشتبهة على وجه الظن بالواقع ، إذ ليس بعد الامتثال العلمي ، والامتثال الظني بالظن الخاص ، امتثال مقدّم على الامتثال الظني.

توضيح ذلك : انّ للامتثال مراتب أربع :

١. الامتثال العلمي التفصيلي ، وهو أن يأتي بما يعلم تفصيلاً انّه هو المكلّف به وفي معناه إذا ثبت كونه المكلف به بالظن الخاص ، فالعمل بالخبر الواحد والأُصول التي تثبت حجّتها بالدليل من مصاديق هذه المرتبة.

٢. الامتثال العلمي الإجمالي ، وهو العمل بالاحتياط في الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي.

٣. الامتثال الظني ، أي أن يأتي بما يظن المكلف به ولم يقم دليل بالخصوص على حجّيته.

٤. الامتثال الاحتمالي ، كالتعبد ببعض محتملات المكلّف به.

وهذه المراتب لا يجوز عند العقل العدول عن سابقتها إلى لاحقتها إلا مع تعذّرها ، فإذا تعذرت الأُولتان بتعين الامتثال بصورة الظن بالمكلّف به لقبح الامتثال الشكي أو الوهمي ، مع إمكان الامتثال الظني وعلى هذا يصبح الظن حجّة.

وأمّا انّ نتيجة دليل الانسداد إجمالاً هي حجّية مطلق الظن أو حجّيته في

٣١٢

الجملة فهو كلام آخر يبحث عنه في تنبيهات الدليل هذا.

ولكن القياس إنّما ينتج إذا كانت المقدمات سليمة عن النقد ، وقد عرفت أنّ أكثر المقدّمات غير خالية عن الإشكال.

أمّا الأُولى ، فقد عرفت أنّ العلم الإجمالي الكبير ينحل بالصغير وهو بالأصغر ، فغاية الأمر يلزم الاحتياط بما في ردّ الأخبار من الأحكام ولا يلزم منه العسر والحرج ، وهذا غير كون الظن حجّة.

أمّا الثانية ، فلما عرفت من أنّ باب العلم وإن كان مسدوداً ، ولكن باب العلمي ليس بمسدود.

أمّا الثالثة ، فهي لا غبار عليها إذ لا يجوز الإهمال لوجوه ثلاثة ، وإن أشكل المحقّق الخراساني على الوجه الثالث بعدم تنجيز العلم الإجمالي في المقام لجواز ارتكاب بعض الأطراف ، وقد تقدّم دفع إشكاله بوجهين من أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف ، أوّلاً ، وعروضه بعد العلم ثانياً لا يخلّ بتنجيز العلم الإجمالي.

وأمّا المقدمة الرابعة ، فقد أورد عليها المحقّق الخراساني إشكالات :

١. أمّا الرجوع إلى الاحتياط فهو إن كان حرجياً لكن أدلّته لا تشمل المقام لاختصاصها بالفعل الحرجي المحكوم بحكم شرعي والاحتياط وإن كان حرجياً لكنّه محكوم بحكم عقلي لا شرعي.

والرجوع إلى الأُصول مثبتة للتكليف أو نافية خال عن الإشكال ، لعدم لزوم المتناقض أوّلاً ، كما هو مسلك الشيخ في عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي لعدم كون جمع الأطراف محلاً للابتلاء.

ولا المخالفة العملية ثانياً كما هو مبنى المحقّق الخراساني ، لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف ينحل ببركة أُمور ثلاثة : العلم بالتكليف ، قيام الدليل العلمي

٣١٣

به ، والأُصول المثبتة له.

٣. ولو قيل بعدم الانحلال ، فلا مانع من الاحتياط في الصور الثلاث ، أي مظنون التكليف ، محتمله وموهومه ، لا كلّ المحتملات حتى في موارد الأُصول المثبتة للتكليف ، بل يكتفي فيها بنفس الأُصول ، ولا يجب الاحتياط.

وبذلك يثبت انّ القياس عقيم ولا ينتج حجّية الظن المطلق أصلاً ، فإذا بطل الدليل ، فالبحث عن نتائجه على فرض الصحّة أمر غريب فتح بابه الشيخ الأنصاري وتبعه المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ.

ولكن أرى ترك التعرض لها في هذه الأعصار أولى.

غير انّ المحقّق الخراساني ذيل التنبيهات بخاتمة ذكر فيها أمرين قابلين للبحث والدراسة.

٣١٤

خاتمة

وفيها أمران :

الأمر الأوّل : هل الظن حجّة في العقائد أو لا؟

قد ثبت بفضل البحوث السابقة انّ الظن الخاص حجّة في الفروع وانّ الظن المطلق ليس بحجّة أصلاً ، بقي الكلام في حجّية الظن خاصها ومطلقها في الأُصول والعقائد ، وإشباع البحث يتوقف على الكلام في محاور.

١. ما هي الأقوال في المسألة؟

قد اختلفت كلماتهم في اعتبار الظن في الأُصول على أقوال :

الأوّل : اعتبار العلم الحاصل من النظر والاستدلال ، وهو المعروف بين العلماء وادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر إجماع العلماء. (١)

الثانــي : اعتبار العلم واليقين وإن حصل من التقليد أو من قول الفرد أو الجماعة.

الثالــث : كفاية الظن مطلقاً.

الرابـــع : كفاية الظن المستفاد من النظر.

الخامس : كفاية الظن المستفاد من الخبر.

السادس : كفاية الجزم بل الظن من التقليد مع كون النظر واجباً مستقلاً ، ولكنّه معفو عنه.

هذه هي الأقوال التي ذكرها الشيخ الأنصاري في المقام. (٢)

__________________

١. الباب الحادي عشر : ٤.

٢. الفرائد : ١٦٩.

٣١٥

٢. هل يجوز العمل بالظن الانسدادي في العقائد؟

لا يجوز العمل بالظن الانسدادي ولا بالظن الخاص في القسم الثاني ، أعني : ما يجب فيه عقد القلب إن حصل العلم ، أمّا الانسدادي فلعدم جريان مقدماته الخمس في هذا القسم ، لأنّ الواجب في هذا القسم هو التديّن بالواقع على تقدير حصول العلم وهو غير حاصل. هذا من جانب ومن جانب آخر الاحتياط في المقام ممكن بلا محذور ، وهذا بخلاف الفروع العملية ، فانّ الاحتياط فيها لا يخلو عن أحد المحاذير.

أضف إلى ذلك من لزوم التشريع من التعبد بالظن الانسدادي ، لأنّ المطلوب في الأُمور الجوانحية هو التديّن ، والعمل بالظن الانسدادي فيها مخالفة قطعية ، بالنسبة إلى حرمة التشريع وموافقة احتمالية بالنسبة إلى وجوب التديّن بالعقيدة الحقّة ، والعقل لا يجوّز المخالفة القطعية لأجل الموافقة الاحتمالية ، وهذا بخلاف الفروع فانّ المطلوب فيها هو العمل دون التديّن.

٣. هل يجوز العمل بالظن الخاص؟

هل يجوز العمل بالخبر الواحد في الأُصول الاعتقادية؟ يظهر من الشيخ جوازه حيث قال : فلا مانع من وجوبه في مورد الخبر الواحد ، بناء على أنّ هذا نوع عمل بالخبر الواحد ، فانّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لا يأبى عن ذلك. (١)

ويظهر أيضاً من صاحب مصباح الأُصول حيث قال : إنّه لا مانع من الالتزام بمتعلّقه وعقد القلب عليه ، لأنّه ثابت بالتعبد الشرعي. (٢)

__________________

١. الفرائد : ١٧٠ ، ط رحمة اللّه.

٢. مصباح الأُصول : ٢ / ٢٣٨.

٣١٦

ولكن الاعتماد على خبر الواحد في أُصول الفقه ، فضلاً عن أُصول العقائد ، فرع وجود إطلاق في أدلّة حجّية خبر الواحد التي عمدتها أو وحيدها هو السيرة العقلائية ، والقدر المتيقن منها هو ما يرجع إلى غير هذا القسم ، على أنّه لم يعهد من أعاظم الأصحاب كالمفيد والمحقّق العمل بأخبار الآحاد في الأُصول ، فالتوقف في هذا القسم وعقد القلب بما هو الواقع هو الأولى.

٤. ما يجب فيه تحصيل العلم

إذا ثبت عدم جواز العمل بالظن في الأُصول الاعتقادية يجب تحديد دائرة ما يلزم تحصيل العلم به ، فيظهر من العلاّمة في الباب الحادي عشر لزوم تحصيل العلم بتفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحق للعذاب الدائم.

ولكنّه غير تام ، فانّ معرفة الصانع ببعض صفاته الثبوتية ، مثل كونه عالماً ، قادراً ، حيّاً ، سميعاً ، بصيراً ، وصفاته السلبية ، مثل كونه غير جسم ، ولا مرئي ، ولا في مكان وزمان خاص ، أو معرفة نبيّه ، وإمامه ، ويوم ميعاده ، ممّا يمكن ادّعاء لزوم معرفته عقلاً ، وانّه يجب تحصيل العلم فيها ، لأنّ الآثار المتوخاة من التدين بها ليست حاصلة إلا بعد المعرفة ، ولا يكفي فيها عقد القلب بالواقع ، وإن لم يعرفه مشخصاً ، وأمّا ما وراء ذلك فلزوم تحصيل العلم به وعدم كفاية عقد القلب ممّا يحتاج إلى الدليل السمعي.

وقد ادّعى الشيخ الأنصاري وجود بعض الإطلاقات في الأدلة الشرعية الحاكمة بلزوم تحصيل العلم في الأُمور الاعتقادية.

١. مثل قوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُون ) (١) أي

__________________

١. الذاريات : ٥٦.

٣١٧

ليعرفون.

٢. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس » (١) ، بناء على أنّ الأفضلية من الواجب مثل الصلاة تستلزم الوجوب.

٣. عمومات وجوب التفقّه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد (٢) الإمام عليه‌السلام بها بوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق.

٤. عمومات طلب العلم. (٣)

فنتيجة هذه الإطلاقات هو لزوم معرفة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلّ قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد ، وإلا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل. (٤)

ولا يخفى انّ ما ذكره من الإطلاقات غير تام ، لعدم ورودها في بيان ما يجب التدين والاعتقاد به حتى يؤخذ بإطلاقها.

أمّا الأوّل : فالظاهر انّ المراد منه هو معرفة اللّه سبحانه لا كلّ ما جاء به النبي في مجال المعارف بدليل انّ اللام للغاية ، والنون للوقاية والمعنى : أي بعبادتي وعرفاني لا مطلق مايجب معرفته.

وأمّا الثاني : فالحديث في مقام بيان أهمية الصلوات الخمس ، لا في مقام بيان ما يجب معرفته حتى يؤخذ بإطلاق قوله بعد المعرفة.

__________________

١. جامع أحاديث الشيعة : ٤ / ٣ ، الأحاديث ١ ـ ٤.

٢. نور الثقلين : ٢ / ٢٨٢ ، الحديث ٤٠٦ وجاء فيه : أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال : أمّا أهل هذه البلدة فلا ـ يعني المدينة ـ وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم أنّ اللّه عزّوجلّ يقول : ( وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين ... ).

٣. بحار الأنوار : ١ / ١٦٢ ـ ٢٢١.

٤. الفرائد : ١٧١ ، طبعة رحمة اللّه.

٣١٨

وأمّا الثالث : فبمثل ما أجبنا عن الثاني ، فالآية في مقام الحث على النفر ، وكيفيته ، لا في مقام بيان ما يجب أن يتفقّه فيه ، وقد تمسك الإمام بالآية لإثبات كيفية التعرّف على الإمام بعد تسليم لزوم معرفته.

وأمّا الرابع : فهو في مقام بيان لزوم تحصيل العلم لا في بيان ما يجب تعلمه.

هذا كلّه فيما يجب المعرفة مستقلاً ، وقد عرفت أنّه لا دليل على وجوب معرفة ما ادّعى العلاّمة لزوم معرفتها ، إلا معرفة الصانع وتوحيده ، وبعض صفاته ومعرفة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامه ويوم ميعاده.

نعم يكفي تحصيل اليقين أو حصوله من دون حاجة إلى الاستدلال لعدم الدليل على اشتراطه.

حدّ ما يجب تحصيل العلم في الروايات

قد عرفت أنّ ما يدّعيه العلاّمة من وجوب تحصيل العلم بتفاصيل الأُصول الخمسة لا يمكن موافقته ، إذ لم يدلّ دليل على هذا اللزوم لا من الكتاب ولا من السنّة ولا من العقل ولا من الإجماع.

ويظهر من غير واحد من الروايات انّ ما يجب تحصيل العلم به لا يتجاوز عن أُمور ثلاثة : التوحيد ، والرسالة ـ وهما دعامتا الإسلام ـ والولاية وهي دعامة الإيمان ـ ولم يذكر المعاد ؛ لأنّ معرفة النبوة تلازم الاعتقاد بالمعاد ، إذ لا يتحقّق الدّين بمعناه الحقيقي من دون اعتقاد بالمعاد.

روى سماعة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : أخبرني عن الإسلام والإيمان ، أهما مختلفان؟ فقال : « إنّ الإيمان يُشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان » فقلت : فصفهما لي ، فقال : « الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه والتصديق برسول اللّه ،

٣١٩

به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ». (١)

وفي رواية سفيان بن السمط ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : « الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام شهر رمضان ، فهذا الإسلام ، وقال : الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا ». (٢)

وبهذا المضمون ما ورد في صحاح أهل السنّة روى البخاري ، عن عمر بن الخطاب أنّ علياً « صرخ » ( عندما بعثه النبي لمقاتلة أهل خيبر ) : يا رسول اللّه على ماذا أُقاتل؟ قال : « قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وانّ محمّداً رسول اللّه ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه ». (٣)

كلّ هذه الروايات تحدّد الواجب من المعرفة وانّها لا تتجاوز معرفة الأصلين في تحقّق الإسلام والولاية في تحقّق الإيمان.

هذه هي الضابطة ولو دلّ دليل على وجوب معرفة شيء آخر كمعرفة أحكام الصلاة فيكون أمراً رابعاً وخامساً.

في الجاهل القاصر

قد عرفت انّه يجب تحصيل العلم فيما تجب معرفته ولا يكفي الظن لعدم الدليل على كفايته.

فعلى ذلك فالمتمكن من المعرفة جاهل مقصر معاقب ، إنّما الكلام في الجاهل القاصر ، فيقع الكلام فيه من وجوه :

__________________

١. أُصول الكافي : ٢ / ٢٥ ، باب انّ الإيمان يشارك الإسلام ، الحديث ١.

٢. المصدر نفسه : ٢٤ ، باب انّ الإسلام يحقن به الدم ، الحديث ٤.

٣. البخاري : الصحيح : ١ / ١٠ ، كتاب الإيمان ; صحيح مسلم : ٧ / ١٧ كتاب فضائل علي عليه‌السلام ؛ إلى غير ذلك من الروايات.

٣٢٠