إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

٤. في تقديم محتمل الأهمية

إذا قلنا بالتخيير فهل يستقل العقل به مطلقاً ، سواء كان أحدهما أقوى احتمالاً ، كما إذا كان الوجوب أقوى احتمالاً من الحرمة ، أو أقوى محتملاً ، كما إذا كان متعلق الوجوب أقوى أهمية على فرض كونه مطابقاً للواقع من متعلّق الحرمة كما إذا دار أمر شخص بين كونه محقون الدم أو مهدوره أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني ، واستدل عليه بوجهين :

الأوّل : انّ المقام من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والأصل فيه هو التعيين ، لأنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ومع إجماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه.

وأورد عليه سيّدنا الأُستاذ قدس‌سره : بأنّه إذا جرت البراءة في أصل التكليف ، فخصوصيته أولى بأن يكون مجرىً لها. (١)

يلاحظ عليه : أنّ البحث على أساس أن يكون الحكم الظاهري هو التخيير لا البراءة ، وعليه لا يستقل به عند إجمال المزية احتمالاً أو محتملاً.

الثاني : قياس المقام بالمتزاحمين ، فكما لا يستقل العقل بالتخيير إذا احتمل في أحد المتزاحمين الأهمية كاحتمال كونه إماماً فهكذا في المقام.

وأورد عليه صاحب المصباح بالفرق بين المقامين ، بأنّ الأهمية المحتملة في المقام تقديريّة إذ لم يثبت أحد الحكمين بخصوصه ، إنّما المعلوم ثبوت الإلزام في الجملة ، غاية الأمر أنّه لو كان الإلزام في ضمن أحدهما المعيّن احتمل أهميته ، وهذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت الحكم في كلا الطرفين ، وإنّما كان عدم وجوب امتثالهما معاً للعجز وعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما. (٢)

__________________

١. تهذيب الأُصول : ٢ / ٢٤٦.

٢. مصباح الأُصول : ٢ / ٣٣٤.

٤٦١

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره لا يتجاوز عن بيان الفرق بين المسألتين وهو غير منكر ، وأمّا انّه يجب مراعاة احتمال المزية في المتزاحمين دون المقام فلم يُبيِّن وجهه ، والحقّ انّ العقل لا يستقل بالتساوي إذا كان أحد الطرفين أقوى احتمالاً أو محتملاً.

وإن شئت قلت : كما لا يحكم العقل بتساوي المرجوح القطعي مع الراجح القطعي كذلك لا يحكم بتساوي المرجوح احتمالاً مع الراجح احتمالاً ، من غير فرق بين أن يكون الحكم ثابتاً والأهمية محتملة ، أو يكون كلاهما محتملين ، غاية الأمر على فرض ثبوت الحكم فأهميته محتملة.

المقام الثاني : في دوارن الأمر بين المحذورين في التعبديات

كان الكلام في المقام الأوّل في دوران الأمر بين المحذورين مع كون الحكمين توصليين ، وقد عرفت الأقوال وجريان الأُصول سوى الإباحة ، وأمّا إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديين كصلاة المرأة في أيام الاستظهار ، فلو كانت حائضاً حرمت العبادة ، حرمة توصلية وأمّا إذا كانت طاهراً وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً ، فقد ذهب الشيخ إلى أنّ محل الأقوال السابقة ما لو كان كلّ من الوجوب والحرمة توصليين بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ، وأمّا لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف وكان أحدهما المعيّن كذلك ، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة لأنّه مستلزم للمخالفة القطعية.

توضيح ذلك : كان الكلام فيما سبق منصبّاً فيما لو كانت الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية ممتنعة ، وأمّا المقام فالموافقة القطعية وإن كانت ممتنعة ، لكن المخالفة القطعية ممكنة ، فلو صلّت بلا نيّة القربة فقد أتت المبغوض ، إذ لو كانت طاهرة فصلاتها باطلة ، ولو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء على أنّ صورة

٤٦٢

العبادة محرمة عليها أيضاً.

أقول : ما ذكره إنّما يمنع عن جريان الأُصول ، ولكن لا يمنع من جريان أصل التخيير فهو كالصورة السابقة مخير بين الأمرين إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً ، والميزان في جريانها هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.

المقام الثالث : أصالة التخيير في الشكّ في المكلّف به

إنّ أصالة التخيير لا تختص بصورة الشكّ في التكليف ، بل تعمه والشكّ في المكلّف به ، لأنّ الملاك هو دوران الأمر بين المحذورين وعدم إمكان الموافقة القطعية ، سواء أمكنت المخالفة القطعية كما مرّ في المقام الثاني أو لم يمكن ، وبذلك تقف على أنّ أصل التخيير كما يجري في الشكّ في التكليف ، كما إذا كان نوع التكليف مجهولاً ، كذلك يجري في الشكّ في المكلّف به ، كما فيما إذا كان نوع التكليف معلوماً لكن كانت الموافقة القطعية غير ممكنة ، وإليك بعض الأمثلة :

١. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب والآخر حرام في زمان معيّن واشتبه أحدهما بالآخر ، فهو مخيّر بين فعل أحدهما وترك الآخر ، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة ، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما ، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.

٢. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في زمان ، وترك ذاك في زمان آخر ، واشتبه زمان كلّ منهما ، كما إذا حلف بالإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.

٣. نعم لا يجري أصل التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحة أو مانعاً كالجهر ، وذلك لأنّ الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة وإن كانت غير

٤٦٣

ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة صلاتين في إحداهما.

وقد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية وهو ليس بموجود في هذا المورد.

تمّ الكلام في أصالة التخيير

٤٦٤

الأصل الثالث :

أصالة الاحتياط

وقبل الدخول في المقصود نذكر أُموراً :

الأمر الأوّل : انّ حصر الأُصول العملية العامّة في الأربعة ، استقرائي ، وحصر مجاريها في الأربعة عقلي ، لكن اختلفت كلمة الشيخ في بيان المجاري ، فقرّره في أوّل رسالة القطع بوجهين مختلفين ، كما قرره في أوّل رسالة البراءة بوجه ثالث ، فلأجل دراسة الفرق بين الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به ، نأتي بالبيانين الواردين في أوّل رسالة القطع ثمّ نذكر فيها البيان الثالث قال قدس‌سره :

انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، وعلى الثاني ، إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى البراءة ، والرابع مجرى الاحتياط.

ففي هذا التعريف عدّ مجرى التخيير قسيماً لمجرى الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به ، فمورده ، دوران الأمر بين المحذورين الذي تمتنع فيه الموافقة القطعية ، فهو ليس من قبيل الشكّ في التكليف ولا في الشكّ في المكلّف به.

بخلاف التعريف الثاني ، فانّه جعل مجرى الاحتياط من أقسام مجرى الشكّ في المكلّف به ، وقسمه إلى ما لا يمكن الاحتياط فيه ، وما يمكن ، والأوّل مجرى

٤٦٥

التخيير ، والثاني مجرى الاحتياط ، قال :

وبعبارة أُخرى : الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو لا ، فالأوّل مجرى البراءة ، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا ، والأوّل مجرى الاحتياط والثاني التخيير.

الأمر الثاني : المراد من التكليف أحد التكاليف الخمسة المعروفة من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة ، والإباحة بالمعنى الأخص ، أي ما فيه اقتضاء التساوي.

وعلى ذلك فكون المورد من قبيل الشكّ في التكليف عبارة عن كون النوع مجهولاً ، سواء كان الجنس أيضاً مجهولاً ، كشرب التتن حيث إنّ النوع والجنس ( الجواز والمنع ) مجهولان ، أو كان الجنس معلوماً والنوع مجهولاً كما في دوران الأمر بين المحذورين والعلم إجمالاً بكون الشيء إمّا حراماً أو واجباً.

كما أنّ المراد من الشكّ في المكلّف به هو كون التكليف بنوعه معلوماً ، وإنّما الشكّ في المتعلّق ، كتردد الواجب بين الطهر والحرام ، والخمر بين الإناءين.

إذا علمت ذلك فاعلم انّه يرد على البيانين الماضيين إشكالان :

الإشكال الأوّل

انّ حصيلة كلا التعريفين : انّ الشكّ في التكليف مجرى للبراءة مع أنّه ربّما يكون المورد من قبيل الشك في التكليف ولكن تكون الوظيفة الاحتياط كما في الموارد الثلاثة التالية :

١. الشبهة التكليفية قبل الفحص.

٢. الشبهة البدوية ولكن كان للمحتمل أهمية بالغة ، كما في الدماء والأعراض والأموال.

٤٦٦

٣. إذا دار الأمر بين وجوب فعل ، وترك فعل آخر ، فانّه من نوع الشكّ في التكليف لعدم العلم بنوع التكليف لكن يجب الاحتياط.

ويمكن الذبُّ عن الأوّل : بأنّ الفحص ليس من شرائط العمل بالأصل ، بل من شرائط جريانه ، فلا يجري الأصل قبل الفحص.

وعن الثاني : بأنّ مقتضى القاعدة هو البراءة ، ولكن دلّ الدليل الثانوي على الاحتياط ، من الإجماع ، أو ما ذكرناه سابقاً من أنّه إذا كان الحرمة أو الفساد هو مقتضى طبع الموضوع ، فلا تجري فيه البراءة ولا أصالة الصحة.

نعم النقض الثالث باق بحاله حيث يجب الاحتياط مع كونه من قبيل الشكّ في التكليف على تفسير الشيخ ، وإرجاعه إلى الشكّ في المكلّف به بأنّه عالم إمّا بوجوب فعل هذا أو ترك ذاك ، تكلّف واضح.

الإشكال الثاني

إذا كان الملاك في الشكّ في التكليف هو عدم العلم بالنوع ، وفي الشكّ في المكلّف به هو العلم به ، يلزم أن يكون مجرى التخيير داخلاً في الشكّ في التكليف ، مع أنّه جعله قسيماً لمجرى البراءة في التعريف الأوّل ، وقسماً من الشكّ في المكلّف به في التعريف الثاني ، وهذا إشكال لا يمكن الذبّ عنه.

البيان الثالث

جعل الشيخ ملاك البراءة والاحتياط كون الشكّ في التكليف ، والشكّ في المكلّف به ، وفسر التكليف بالعلم بالنوع توجه إليه هذان الإشكالان ، ولكنّه قدس‌سره أتى ببيان آخر في أوّل أصالة البراءة هو أتقن من ذينك البيانين إذ لم يعتمد فيه لا على عنوان الشكّ في التكليف ولا على الشكّ في المكلّف به ، بل بقيام الدليل على العقاب وعدمه ، وقال : إنّ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو

٤٦٧

لا سواء لم يكن يقين سابق أو كان ولم يكن ملحوظاً ، والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط ممكناً أو لا ، والثاني مجرى التخيير. والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع ، وإمّا أن لا يدل ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة.

وهذا البيان يشارك البيان الأوّل في بيان مجرى الأصلين : الاستصحاب والتخيير ، لكن يفارقه في بيان الأصلين في الأخيرين ، البراءة والاشتغال ، فالملاك على هذا البيان هو قيام الدليل على العقاب وعدمه ، من غير فرق بين الشكّ في التكليف أو المكلّف به ، فإن قام الدليل على العقاب لزم الاحتياط. وإن كان الشكّ في التكليف كما في الموارد الثلاثة التي أوردناها نقضاً على البيانين ، وإن لم يدل جرت البراءة وإن كان الشكّ في المكلّف به كما في موارد الشبهة غير المحصورة.

وبذلك ظهر أمران :

١. انّ لأصل التخيير مجرى مستقلاً.

٢. انّ الميزان في الاشتغال والبراءة قيام الدليل على العقاب وعدمه.

الأمر الثالث : انّ المطالب المبحوث عنها في الشكّ في المكلّف به ، كالشكّ في التكليف ثلاثة ، والفرق ، انّ الاشتباه كان هناك في الحكم وهنا في المكلّف به وهي عبارة :

١. اشتباه الحرام بغير الواجب بمسائله الأربع.

٢. اشتباه الواجب بغير الحرام بمسائله الأربع.

٣. اشتباه الواجب بالحرام بمسائله الأربع.

وأمّا المطلب الثالث فقد عرفت انّه مجرى التخيير ، فينحصر البحث في الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية.

٤٦٨

الكلام في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به

إذا اشتبه الحرام بغير الواجب ومسائلها أربع ، لأنّ منشأ الشكّ إمّا فقدان النصّ ، أو إجماله ، أو تعارضه ، أو خلط الأُمور الخارجية ، ولما لم يكن للمسائل الثلاث الأُولى ، تطبيقات كثيرة في الفقه ، انصبّ البحث في هذا المطلب على الشبهة الموضوعية ، كما إذا دار أمر المائع النجس بين إناءين مشتبهين ، وهو ينقسم إلى محصورة ، وغير محصورة ، فلنتاول الأُولى بالبحث.

حكم الشبهة التحريمية المحصورة

اختلفت أنظارهم في حكم الشبهة التحريمية المحصورة إلى أقوال :

١. حرمة المخالفة القطعية ، ووجوب الموافقة القطعية ، وهذا هو المشهور بين الأُصوليين.

٢. التفصيل بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، فتحرم الأُولى دون الثانية ، وهو المنسوب إلى المحقّق القمي قدس‌سره.

٣. جواز المخالفة القطعية ، فضلاً عن الاحتمالية ، وهو المنسوب إلى العلاّمة المجلسي رحمة اللّه عليه.

ومنشأ الأقوال الثلاثة هو اختلاف أنظارهم في مدى تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إلى الأمرين.

٤٦٩

فمن قائل بأنّه علّة تامّة بالنسبة إلى المخالفة القطعية والاحتمالية ، ولذلك اختار القول الأوّل.

إلى آخر قائل بأنّه علّة تامّة بالنسبة إلى المخالفة القطعية فلا تجوز ، ومقتض بالنسبة إلى المخالفة الاحتمالية فلا تجوز الأُولى دون الثانية ، وللشارع جعل حكم ظاهري مؤد إلى المخالفة الاحتمالية.

إلى ثالث بأنّه مقتض بالنسبة إلى كلتا المخالفتين ، فيجوز للشارع جعل حكم ظاهري مؤدّ إلى كلتيهما. وعلى هذه المباني تدور الأقوال الثلاثة.

وعلى كلّ تقدير يقع الكلام في مقامين.

المقام الأوّل : إمكان جعل الترخيص ثبوتاً

إنّ المحقّق الخراساني قد قسّم متعلّق العلم إلى قسمين ، لا يجوز في أحدهما جعل الترخيص عقلاً بخلاف الآخر ، فقال ما هذا حاصله :

إنّ التكليف المعلوم إجمالاً على قسمين :

١. ما كان التكليف فعلياً من جميع الأبواب بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامة للبعث أو الترك الفعليّين مع ما هو من الإجمال والتردّد كقتل المؤمن وإراقة دمه بلا وجه ، فلا محيص عن تنجزه وصحّة العقوبة على مخالفته ، وحينئذ لا تشمل أدلّة الأُصول أطراف مثل هذا العلم ، لاستلزامه التناقض بين التشريعين. (١)

٢. ما كان فعليّاً من سائر الجهات ، ولا يكون فعليّاً مطلقاً إلا إذا تعلّقبهالعلم التفصيلي ، بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله وصحّ العقابعلى مخالفته ، ففي هذه الصورة لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعية للأطراف ، نظير الأموال المخلوطة بالرباء ، أو إبل

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥ من أبواب ما فيه الربا ، الحديث ٣ ؛ والباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥ ؛ والباب ٤ من هذه الأبواب ، الحديث ٢١.

٤٧٠

الصدقة (١) المخلوطة بالحرام ، فلا يحرم شيء من تلك إلا إذا علم تفصيلاً انّه ربا أو انّه مال الغير ، كما وردت في الروايات.

يلاحظ عليه : أنّ الصورة الأُولى خارجة عن محطّ البحث ، بشهادة أنّ الاحتمال فيه أيضاً منجّز فضلاً عن العلمين التفصيلي أو الإجمالي ، وينحصر الكلام في الصورة الثانية.

بيانه انّه إذا دلّ دليل قطعي على أصل الحكم ، دون حكم صوره ، وإنّما دلّ على حكمها إطلاق الدليل الشامل للمعلوم تفصيلاً والمعلوم إجمالاً والمشكوك وجوداً ، مثل قوله : « اجتنب عن الخمر » فانّ أصل الحكم ثابت بالدليل القطعي ، لكن حرمته في عامة الصور إنّما يثبت بإطلاق الدليل ، فلا شكّ في إمكان تقييد الدليل ، بصورة العلم التفصيلي ، وإخراج صورة العلم الإجمالي بالموضوع عن تحته ، كإخراج صورة الشكّ عنه في وجود الموضوع ، فهذا أمر ممكن فيجوز تقييد إطلاقه بإخراج صورة المعلوم بالإجمال ، فتكون النتيجة اختصاص حرمة الخمر بصورة العلم التفصيلي.

ويمكن استظهار كون الأحكام من قبيل القسم الثاني ، من كونها محدّدة بعدم طروء عناوين ثانوية ، كالضرر ، والعسر ، والحرج ، والاضطرار ، والإكراه والتقية ، وعدم الابتلاء بالأهم ، إلى غير ذلك من العناوين الثانوية ، التي تكون مانعة عن تنجز الأحكام الواقعية ، فلو كانت الأحكام منجزة على كلّ تقدير فما معنى تحديدها بهذه الحدود.

نعم انّ هنا أُموراً ربّما يتخيل أنّها من جعل الترخيص حتى في القسم الثاني من الأحكام ، وقد أشار إليها الشيخ الأنصاري ، ونحن نأتي بها على وجه التفصيل حتى يتبين عدم كونها مانعاً عقلياً من إمكان الترخيص.

__________________

١. كفاية الأُصول : ٢ / ٢٠٨.

٤٧١

أ. جعل الترخيص ، ترخيص في المعصية

إنّ جعل الترخيص في بعض الأطراف أو جميعها ، ترخيص في المعصية الاحتمالية أو القطعية.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكر إنّما يجري في الحكم المنجّز على كلّ حال ، دون المنجز بشرط تعلّق العلم التفصيلي. وبعبارة أُخرى : إنّما يتوجه إلى الحكم المعلوم بالوجدان ، لا المعلوم بالإطلاق ، فالترخيص في صورة العلم الإجمالي كالترخيص في صورة الشك ، كاشف عن رفع اليد عن الحكم الواقعي على فرض وجوده ، نظير ارتفاعه في مورد الحرج والضرر وسائر العناوين الثانوية.

ب. جعل الترخيص ، تصويب

إنّ جعل الترخيص لبعض الأطراف أو كلّها ، يرجع إلى تحليل الخمر في حقّ العالم به إجمالاً ، وهو يساوي مع نفي وجود حكم مشترك بين المكلّفين.

يلاحظ عليه : بما مرّ في الجمع بين الأحكام الواقعية ، وما قامت عليه الأمارات والأُصول التي ربما تتخلف عن الواقع ، فانّ الأمر بالعمل بها ، يلازم رفع اليد عن الواقع فعلاً ، مع التحفظ عليه إنشاء.

ج. جعل الترخيص إلقاء في المفسدة

إنّ جعل الترخيص ، إلقاء في المفسدة القطعية أو المفسدة الاحتمالية ، وكلاهما قبيح.

يلاحظ عليه : بما ذكر من باب الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، وقلنا ربما يكون في الترخيص مصلحة غالبة على مفسدة الواقع.

٤٧٢

المقام الثاني : في وقوع الترخيص

قد عرفت إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وعدم وجود مانع عقلي ، إنّما الكلام في وقوعه. وقبل الخوض في بيان مقدار دلالة الأُصول نبيّن ما هو مقتضى الأدلة الاجتهادية حتى يكون هو المتبع عند عدم الدليل على الخلاف.

لا شكّ انّ مقتضى إطلاق الدليل عدم الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي. لأنّ إطلاق قوله : « اجتنب عن الخمر » يشمل الأفراد الثلاثة : المعلوم تفصيلاً ، وإجمالاً ، والمصداق الواقعي المشكوك في الظاهر ، لكن دلّ الدليل على وجوب الاجتناب في الصورة الثالثة ، بقي القسمان تحته ، وإلى ذلك يشير شيخنا الأعظم بقوله : بوجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنه ، فقال :

أمّا ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ، فانّ قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين ، ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلاً ، وأمّا عدم المانع فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموماً أو خصوصاً بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أُمور.

إذا عرفت مقتضى الدليل الاجتهادي فلنبحث في وقوع الترخيص في أحد الطرفين أو كليهما في الشرع.

١. الترخيص بالاستصحاب

ذهب الشيخ الأعظم إلى عدم شمول أدلّة الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي ، وإلا تلزم مناقضة صدرها مع ذيلها ، وقال في توضيحه ما هذا لفظه : إنّ العلم الإجمالي بانتقاض أحد الضدين يوجب خروجها عن مدلول لا تنقض ، لأنّ

٤٧٣

قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ، ولكن تنقضه بيقين مثله » ، يدل على حرمة النقض بالشك ، ووجوب النقض باليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ، لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المراد من اليقين في الجملة الثانية هو اليقين التفصيلي دون الأعم منه ومن الإجمالي ، وذلك لأنّ المتبادر من حرمة نقض اليقين إلا بيقين آخر مثله (٢) ، هو كون اليقين الثاني ناقضاً للأوّل ورافعاً له من رأس واليقين الإجمالي بورود النجس في أحد الإناءين ليس كذلك ، أي ليس ناقضاً لليقين السابق من رأس ، وذلك لأنّ اليقين السابق عبارة عن اليقين بطهارة كلّ من الإناءين ، ولا ينقض إلابيقين مثله ، وهو اليقين بنجاسة كلا الطرفين ، لا اليقين بنجاسة واحد لا بعينه.

وإن شئت قلت : المراد هو رفع اليقين السابق من أصله ، ولا يرفع اليقينُ الإجمالي ، اليقينَ السابق ، غاية الأمر يحدده بأحد الإناءين ويضيقه. وهو غير مفاد الذيل.

نعم يمكن أن يقال بانصراف أدلّة الاستصحاب عن أطراف العلم الإجمالي ، والترخيص ثبوتاً وإن كان ممكناً ، لكن ليس كلّ ممكن واقعاً ، ومدلولاً للرواية ، بل ترخيص الأطراف بعضاً أو كلاّ ً يحتاج إلى دليل صريح كما في الحلال المختلط كالربا ، والزكاة المختلطة بالحرام.

وبعبارة أُخرى : أنّ الترخيص في أطرافه يتلقاه العرف ، ترخيصاً في المعصية وإن لم يكن في الواقع كذلك ولذلك لا تسكن نفسه إلا بدليل صريح كما سيوافيك.

__________________

١. الفرائد : ٤٢٩ ، ط رحمة اللّه ، مبحث تعارض الاستصحابين.

٢. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١ ، وفي التهذيب : ١ / ١٧٤ ، لفظة « مثله ».

٤٧٤

٢. الترخيص بالبراءة العقلية

وهل يجوز التمسّك بالبراءة العقلية والترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي؟ الظاهر لا ، لأنّها مركّبة من صغرى وكبرى ، فيقال : هذا المورد لم يرد فيه بيان ، وكلّ مورد لم يرد فيه بيان فالعقاب قبيح ، فينتج هذا المورد العقاب فيه قبيح ، ولكن الصغرى منتفية ، للعلم الوجداني أو قيام البيّنة على وجود الخمر في البين ، ومع عدم الصغرى كيف يستدل بالكبرى المجرّدة عنها؟

٣. الترخيص بالبراءة الشرعية

إنّ ما يستدل به على البراءة الشرعية على قسمين ، قسم منه ظاهر في الشبهة البدئية ولا يتبادر منه العموم. وقسم منه ربما يستظهر منه العموم والشمول لأطراف العلم الإجمالي.

أمّا الأوّل فهي عبارة عن الأحاديث التالية :

١. حديث الرفع : « رفع عن أُمّتي تسعة ... وما لا يعلمون ».

٢. حديث الحجب : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ».

٣. حديث السعة : « الناس في سعة مالا يعلمون ».

٤. حديث التعريف : « انّ اللّه يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ».

٥. حديث الإطلاق : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ».

أمّا عدم اختصاصها بالعلم التفصيلي ، فلأنّ المراد من العلم ، وهكذا البيان ، والتعريف في الحديث الرابع ، هو الحجّة ، وهي موجودة بصغراها وكبراها في مورد العلم الإجمالي.

٤٧٥

وأمّا الرواية الخامسة ، فالغاية حصلت حيث علم المكلّف بورود النهي ، وإن كان متعلّقه مردّداً بين المصداقين ; ولا دليل على تفسيره بالورود على الموضوع المشخص.

ثمّ إنّ هنا نكتة : وهي إنّا وإن أثبتنا إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بتقسيم الأحكام إلى قسمين ، لكن العرف يتلقى الترخيص فيه ، ترخيصاً في المعصية ، ولا يقتنع بتلك الإطلاقات ـ لو ثبت إطلاقها ـ بل يراها منصرفة عن مورده ، إلا أن يرد نصّ في المورد كما ورد في باب الربا ، وغيره.

وأمّا القسم الثاني الذي ربما يستظهر منه العموم والشمول لأطراف العلم الإجمالي فليس إلاحديثان :

١. « كلّ شيء لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه ». (١)

وجه الاستدلال : انّ في قوله : « بعينه » احتمالين :

أ. انّه تأكيد للفعل وقوله : « بعينه » بمعنى جزماً لا تخميناً ، فيكون معناه « أي حتى تعلم جزماً ، لا ظناً انّه حرام ». والغاية بهذا المعنى حاصلة في مورد العلم الإجماليّ.

ب. انّه تأكيد للضمير المنصوب في « انّه » وقوله : « بعينه » بمعنى « بشخصه » فيكون المعنى « أي حتى تعلم انّه بشخصه ، حرام في مقابل المردد ».

والأوّل خيرة السيد الأُستاذ قدس‌سره. والظاهر هو الثاني ، ويؤيده ما ورد في اشتراء إبل الصدقة المخلوطة مع الحرام ، روى أبو عبيدة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم ، قال : فقال : « ما الإبل إلا

__________________

١. الوسائل : ١٢ / ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٤٧٦

مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ». (١) ومثله غيره. (٢)

وعلى ضوء ما ذكرنا تصلح الرواية في بادئ الأمر للاستدلال في المقام.

يلاحظ عليه بوجهين :

أوّلاً : أنّه ليس حديثاً مستقلاً وإنّما هو جزء من رواية مسعدة بن صدقة وإن كان الظاهر من المحقّق الخراساني قدس‌سره انّه رواية مستقلة ، والأمثلة الواردة فيها كلّها من قبيل الشبهة البدئية ، والإمام عليه‌السلام طبَّقَ الضابطة عليها فقط وهذا دليل على اختصاصها بها.

وثانياً : أنّ الحلية في الأمثلة الواردة فيها ليست مستندة إلى الضابطة ، بل إلى قواعد أُخرى ، قال : « وهذا مثل الثوب يكون عليك وقد اشتريته وهو سرقة. والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خُدِعَ فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك » (٣) فالحلية في الثوب والعبد المشترى مستندة إلى قاعدة اليد ، وفي المعقودة ، إلى أصالة الصحّة في العقد ، أو استصحاب عدم تحقّق النسب والرضاع بينهما ؛ وهذا يورث الضعف في الاستدلال بالرواية ، إلا أن يكون الغرض هو الاستئناس.

ب. روى عبد اللّه بن سنان ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ». (٤)

وقد رواها المشايخ الثلاثة بسندهم إلى عبد اللّه بن سنان والسند صحيح.

وقد ذكرناها عند البحث عن أدلّة البراءة ، وذكرنا الاحتمالات الموجودة فيها ،

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥.

٢. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥ من أبواب الربا ، الحديث ٣.

٣. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٤. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٤٧٧

لكن الذي يمكن أن يقال إنّ إجمال الحديث يرتفع بالرواية الثانية وهي ....

ج. ما رواه عبد اللّه بن سنان ، عن عبد اللّه بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال لي : « لقد سألتني عن طعام يعجبني » ثمّ أعطى الغلام درهماً ، فقال : « يا غلام ابتع لنا جبناً » ثمّ دعا بالغذاء فتغذينا معه فأتى بالجبن فأكل وأكلنا ، فلما فرغنا من الغذاء ، قلت : ما تقول في الجبن؟ ـ إلى أن قال : ـ « سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه ». (١)

والفرق بين الروايتين هو انّ عبد اللّه بن سنان يروي الأُولى عن الإمام الصادق عليه‌السلام بلا واسطة ، ولكنّه يروي الثانية بواسطة عبد اللّه بن سليمان ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام فتعدّان روايتين لتعدد الإمام المروي عنه.

د. نعم ثمة رواية ثالثة رواها معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا ، قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّه لطعام يعجبني ، وسأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ». (٢)

والرواية الثالثة تتحد مع الرواية الثانية ، والظاهر انّ المراد من قوله فسأله رجل هو عبد اللّه بن سليمان.

هـ. ويظهر من روايـة رابعـة انّ عبد اللّه بن سنان كان في مجلس الإمام الصادق عليه‌السلام وسأله رجل عن الجبن ، وهل هو عبد اللّه بن سليمان لروايته عنه أيضاً سواء أكان المراد هو الصيرفي أو العامري فكأنّه سأل الإمامين عن الجبن ، أو غيرهما وهو أقرب إذ لا وجه لسؤال شخص واحد الإمامين عن موضوع واحد.

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١.

٢. المصدر نفسه ، الحديث ٧.

٤٧٨

روى البرقي في المحاسن عن عبد اللّه بن سنان : سأل رجل أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن الجبن : فقال : « إنّ أكله ليعجبني » ثمّ دعا به فأكله. (١)

فالمجموع من حيث المجموع يرفع الإبهام عن الرواية الأُولى ، وهي أنّ صناعة الجبن من الميتة أوجد مشكلة في عصر الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وقد حاولا إزالة الشكوك عن أذهان شيعتهم بجواز الانتفاع مالم يعرف الحرام بعينه.

وعلى ضوء ذلك يكون مورد الضابطة ، الشبهة المحصورة ، ويؤيد ذلك ما رواه أبو الجارود ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، واللّه إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، واللّه ما أظن كلّهم يُسمُّون هذه البربر وهذه السودان ». (٢)

وعلى ما ذكرنا يكون المراد من « شيء » في قوله : « كل شيء » هو الشيء المنتشر في الخارج ، المتكثّر أفراده ومصاديقه ، فمثله حلال إلى أن يعرف الحرام منه بشخصه.

وبهذا ثبت انّه لم يثبت أيّ ترخيص في أطراف العلم الإجمالي من الشبهة التحريمية. بقي هنا أمران :

الأوّل : انّ البحث في جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو إذا كان لدليل التحريم إطلاق يعمّ الصورتين التفصيلية والإجمالية وأمّا إذا لم يك للدليل إطلاق فلا موضوع للبحث ، فيجري الأصل بلا معارض ، وعندئذ يطرح في مورد البحث السؤال التالي :

__________________

١. المصدر نفسه ، الباب ٦١ برقم ٣.

٢. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

٤٧٩

إذا ثبت للدليل إطلاق فكيف يمكن تقييد الدليل الاجتهادي بالأصل العملي؟ وهل هذا عمل بالأصل مع وجود الدليل الاجتهادي؟

يلاحظ عليه : أنّ التقييد بدليل الأصل لا بنفسه ومايدلّ على الأصل دليل اجتهادي مثل ما دلّ على حرمة الخمر في كلتا الصورتين ، فقوله : « لا تنقض اليقين بالشك » دليل اجتهادي ثبتت به حجية الأصل ، فلو ثبت ترخيص في ناحية المعلوم بالإجمال فإنّما يثبت بدليل اجتهادي لا بالأصل العملي.

الثاني : انّ العلم الإجمالي في التدريجيات كالعلم الإجمالي في الدفعيات ، فلا فرق عند العقل بين العلم بربوية أحد البيعين الحاضرين أو بربوية البيع الحاضر أو البيع الآخر في المستقبل. ولا تضرّاستقبالية الفعل مع كون الحكم فعليّاً لا إنشائياً.

هذا كلّه حول الشبهة المحصورة من التحريمية. وأمّا حكم الشبهة التحريمية غير المحصورة فيأتي الكلام عنه في ضمن التنبيهات.

٤٨٠