موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل (١).

وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

وإنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو اثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم (٢).

ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. ولا ينصر كافرا على مؤمن.

وإنّ ذمّة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.

وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإنّ سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله

__________________

(١) المفرح ، والمفدح : المثقل بالدين ، والكثير العيال.

(٢) دسيعة ظلم : ظلما عظيما ، أو ما ينال من الظلم.

٦١

الّا على سواء وعدل بينهم (١).

«وإنّ كل غازية معنا يعقب بعضها بعضا ، بالمعروف والقسط بين المسلمين.

وإنّه لا تجار حرمة إلّا باذن أهلها.

وإنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمّه وأبيه» (٢).

وإنّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله (٣).

وإنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدي وأقومه.

وإنّه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن.

وإنّه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بيّنة فانه قود به ، إلّا أن يرضى وليّ المقتول ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلّا قيام عليه (٤).

وإنّه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر : أن ينصر محدثا أو أن يؤويه. وإن من نصره أو آواه فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردّه إلى الله عزوجل وإلى محمد.

وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين :

وإنّ يهود بني عوف امة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٧ ، ١٤٨.

(٢) هذا المقطع هو ما روي في الكافي والتهذيب ، وقد ذكرها ابن اسحاق متفرقة.

(٣) يبيء ويبوء بمعنى واحد : يرجع ، والمعنى أنهم يتساوون ويتناوبون في الغزو في سبيل الله.

(٤) العبط : الباطل ، اعتبطه : قتله باطلا أي بلا حق.

٦٢

مواليهم وأنفسهم ، إلّا من ظلم وأثم ، فانه لا يوتغ الّا نفسه وأهل بيته (١).

وإنّ ليهود بني النجّار مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلّا من ظلم وأثم فانه لا يوتغ الّا نفسه وأهل بيته. وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

وإن بطانة يهود كأنفسهم.

وإنه لا يخرج منهم أحد الّا باذن محمد.

وإنه لا ينحجز عن ثار جرح (٢).

وإنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته ، الّا من ظلم.

وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم.

وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

وإنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ ، دون الإثم.

وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه.

__________________

(١) يوتغ : يهلك.

(٢) أي لا ينحجز جرح عن ثار ، أي لا يترك ثار جرح ، أي لا يترك قصاص جراحة ، أي يؤخذ بالقصاص ولو كان جرحا فضلا عن القتل.

٦٣

وإنّ النصر للمظلوم.

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

وإنّه لا تجار حرمة الّا باذن أهلها.

وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فانّ مردّه الى الله عزوجل والى محمد رسول الله ، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها.

وإنّ بينهم النصر على من دهم يثرب.

وإذا دعوا الى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فانهم يصالحونه ويلبسونه.

وانهم (اليهود) اذا دعوا الى مثل ذلك فانّه لهم على المؤمنين الّا من حارب في الدين. على كل اناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم.

وإنّ يهود الأوس ـ مواليهم وأنفسهم ـ على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض. من أهل هذه الصحيفة.

لا يكسب كاسب الّا على نفسه.

وإنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم.

وإنّه من خرج (من المدينة) آمن ومن قعد آمن ، الّا من ظلم أو أثم.

وإنّ الله جار لمن برّ واتّقى ، ومحمد رسول الله (١).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٧ ـ ١٥٠ ومصادر اخرى ذكرها المحقق الأحمدي في كتابه القيم :

٦٤

نقل المحقق الأحمديّ هذه المعاهدة في كتابه القيّم «مكاتيب الرسول» ثم علق عليها يقول : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان سيد الحكماء قبل أن يكون سيد الأنبياء ، فقد آتاه رشده من قبل أن يؤتيه الكتاب ، وكفى لذلك شاهدا هذه المعاهدة الخالدة الباقية ما بقي الدهر ، قليل لفظها غزير معناها. فعلى القرّاء الكرام التدبّر في شروطها ونتائجها ، فارجعوا النظر وفكروا في تفاصيلها (١).

ونحن نفهم من مفهومها ومنطوقها : أن العرب يومئذ ومنهم الخزرج والأوس واليهود منهم بالمدينة كانوا اذا تحاربوا فأسر بعضهم بعضا ، كانت تجتمع كل طائفة فتفتدي الأسير منها ، واذا تقاتلوا فقتل بعضهم بعضا كانت تجتمع كل طائفة فتؤدي العقل أي دية القتيل الى أهله.

ونفهم أن الأنصار من الأوس كانوا أقل من الخزرج ، وأن الأنصار من الخزرج كانوا على طوائف : بني عوف ، وبني ساعدة ، وبني الحارث ، وبني جشم ، وبني النجّار ـ ومنهم آمنة بنت وهب أم الرسول فهم أخواله ـ وبني عمرو بن عوف ، وبني النبيت ، وبني الأوس.

ونفهم أن الأوس كان منهم يهود ، وأن الخزرج كذلك كان منهم يهود من طوائف : بني النجّار ، وبني عوف ، وبني الحارث ، وبني ساعدة ، وبني جشم وبني ثعلبة ومنهم بنو جفنة ، وبني الشطيبة.

ونفهم أن هذه المعاهدة تركت المهاجرين من قريش على ربعتهم أي

__________________

ـ مكاتيب الرسول ١ : ٢٤١ ومصادر اخرى ذكرها البروفيسور محمد حميد الله مستوفى في كتابه القيم : مجموعة الوثائق السياسية ، ونقلها الأحمدي ١ : ٢٤٢.

(١) مكاتيب الرسول ١ : ٢٦١ و ٢٦٣.

٦٥

حالتهم التي جاءهم الاسلام وهم عليها من فداء الاسراء وعقل القتلى أي ديتهم ، وكذلك تركت الأنصار من الأوس والخزرج واليهود منهم على ربعتهم أيضا ، لم تغيّر من ذلك شيئا.

ونفهم أن القود أي القصاص كان مقرّرا وأقرّته هذه المعاهدة ، إلّا أن يرضى وليّ المقتول ، إلّا أنّها استثنت قتل المؤمن قصاصا بكافر. وكذلك قررت المعاهدة قصاص الجراحة أيضا.

ونفهم أن البيّنة بمعنى الشهادة البيّنة كانت مفهومه وأقرّتها المعاهدة في القتل. وطبيعيّ بعد هذه المعاهدة أن البيّنة تقام عند النبيّ أو من أقرّه لذلك حاكما أو قل قاضيا ، أو من تراضى به الخصمان فترافعا إليه ، مع سكوت المعاهدة عن ذلك.

ونفهم أن الغزو والقتال في سبيل الله كانا قائمين ، وقررّت المعاهدة أنه اذا غزت جماعة غزوا فعليهم أن يعقب بعضهم بعضا في الغزو على العدل والتساوي ، فلا يسلم جمع من المؤمنين عن القتال في سبيل الله دون جمع آخرين (١).

وأنه يجوز أن يجير مؤمن ـ ولو من أدنى المؤمنين ـ كافرا. ولكن ليس له أن ينصر كافرا ـ ولو ولده ـ على مؤمن ، ولا أن ينصر محدثا ولا أن يؤويه.

أما الكفار المشركون في المدينة ومن حولها من الأعراب فلا يجوز لأحدهم أن يجير نفسا من مشركيّ قريش ولا مالا له ، فيحول دونه أو دون

__________________

(١) هذا هو الظاهر من هذه المعاهدة ، وإلّا فمن المستبعد جدّا أن تتحدث هذه المعاهدة عن ذلك من دون أن يكون قد بديء به والغريب أن ابن اسحاق ـ وتبعه ابن هشام ـ ذكر هذه المعاهدة قبل ذكر السرايا والغزو ، بل يبدو لي أن هذه المعاهدة كانت بعد عقد الاخوة بين المهاجرين أوّلا وبين المهاجرين والأنصار ثانيا ، وهذه في الرتبة الثالثة ، ولذلك جعلتها هنا بعد الاخوّة وبدء السرايا.

٦٦

ماله على مؤمن (١).

واشترطت المعاهدة على اليهود :

١ ـ أن اذا حارب أحد أهل هذه الصحيفة او دهم يثرب فعلى اليهود النصح والنصر بنفقتهم. على كلّ اناس حصتهم التي من جانبهم.

٢ ـ وأنّه اذا دعي المسلمون الى صلح فدعى المسلمون اليهود إليه كان عليهم أن يستجيبوا لذلك.

٣ ـ وأن لا يجيروا قريشا ولا من نصرها.

٤ ـ وأن لا يجيروا حرمة من غير قريش والمحاربين الّا بإذن أهلها.

٥ ـ وأنهم اذا اختلفوا في شيء فمردّه الى محمد رسول الله.

واشترطت المعاهدة لهم :

١ ـ أنّ من تبعنا من اليهود فان له اسوة بغيره من المسلمين وله النصر على المسلمين بنفقتهم ولا يتناصر عليه.

٢ ـ وأنّ لهم أن يجيروا غير قريش والمحاربين بشرط أن يكون الجوار بإذن أهل الداخل في الجوار.

٣ ـ وأن لهم أن يصالحوا غير قريش والمحاربين ولهم ذلك على المؤمنين.

وتوكيدا للأمن بين المسلمين واليهود حرّم الرسول في المعاهدة جوف يثرب على أهل الصحيفة لصالحهم.

وبذلك أمن المسلمون ـ حسب المعاهدة ـ على أموالهم وذراريهم ودورهم وزروعهم ، من أن يتّحد اليهود مع المشركين عليهم. وبه وجدوا مجالا لقتال

__________________

(١) وهذا يعني انهم كفّار حربيون لا أمان لهم من مثلهم ، إلّا من مؤمن. وهذا يقتضي الاذن في القتال أيضا.

٦٧

المشركين ولنشر الدين.

وتحريم النبيّ لمدينة «يثرب» إما ضمن هذه المعاهدة أو مستقلا كان مكتوبا في أديم خولاني عند رافع بن خديج جابه به مروان بن الحكم لمّا ذكر حرمة مكة (١). ولا يذكر ابن اسحاق سنده الى المعاهدة ، فلعلّه اكتتبها من رافع بن خديج هذا.

ونلاحظ أن اسم المدينة «يثرب» في هذه المعاهدة على ما كان عليه لم يغيّر ، وهذا يتّفق مع ما سبق عن أبي قتادة الأنصاري وسهل بن سعد الساعدي : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قدم من غزوة تبوك قال : هذه طيبة أسكننيها ربّي (٢) هذا ، وأما بين الاسمين :

يثرب أو المدينة؟

فقد روى ابن اسحاق بسنده عن عروة بن الزبير عن عائشة ـ وهذا يعني أن ذلك كان بعد قدومها المدينة وزواجها بالرسول ـ قالت : قدم رسول الله المدينة وهي أوبأ أرض الله من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، منهم أبي ابو بكر ومولياه : عامر بن فهيرة وبلال ، وكان ذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فدخلت عليهم أعودهم ، فدنوت من أبي فقلت : كيف تجدك يا أبت؟ قال :

كلّ امرئ مصبّح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

فقلت في نفسي : والله ما يدري أبي ما يقول من شدة الوعك وألم المرض.

ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت له : كيف تجدك يا عامر؟ قال :

__________________

(١) كما في مسند أحمد ٤ : ١٤١.

(٢) تاريخ المدينة لابن شبّة ١ : ١٦٣ ، ١٦٤.

٦٨

لقد وجدت الموت قبل ذوقه

إنّ الجبان حتفه من فوقه

فقلت في نفسي : والله ما يدري عامر ما يقول. وسمعت بلالا يقول :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بفخّ وحولي إذخر وجليل؟!

فرجعت وقلت لرسول الله : انهم ليهذون وما يعقلون من شدّة الحمّى ، وذكرت له ما سمعته منهم ، فقال : «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكة أو أشد ، وبارك لنا في مدّها وصاعها ، وانقل وباءها الى مهيعة (١) فصرف الله تعالى ذلك عنهم. وكأنّه استبدل بهذه المناسبة اسمها من يثرب ـ بمعنى المتقطّع أو الموبوء ـ الى المدينة ، تفاؤلا باستبعاد الوباء والحمّى عنها ، كما ابعد عنها اسمها المتضمّن لذلك المعنى المكروه.

رأس المنافقين :

ولعلّ ممن أصابته هذه الحمّى من أصحاب رسول الله من غير المهاجرين سعد بن عبادة ، وقد مرّ خبر عروة عن عائشة أنها عادت أباها ومولييه ولم يرو عنها عيادة النبيّ لهم ، ولكنه روى عن اسامة بن زيد عيادة الرسول لسعد بن عبادة قال : ركب رسول الله الى سعد بن عبادة يعوده من شكوى أصابته ، على حمار مخطوم بخطام من الليف فوقه قطيفة فدكيّة ، فركبه وأردفني خلفه. فمرّ في طريقه الى سعد على عبد الله بن أبيّ ابن سلول وهو في ظلّ وحوله رجال من قومه منهم عبد الله بن رواحة في رجال من المسلمين ، فلما رآه رسول الله كره أن يتجاوزه ولا ينزل إليه. فنزل وجلس قليلا. ثم تلا القرآن ودعا الى الله عزوجل وذكر الله وحذّر وبشر وأنذر ، وابن أبيّ ساكت لا يتكلم ، حتى اذا فرغ

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٣٨ ، ٢٣٩. والمهيعة : الطريق الواسع.

٦٩

رسول الله من مقالته ، قال : يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا ـ إن كان حقّا ـ! فاجلس في بيتك! فمن جاءك له فحدّثه ايّاه ، ومن لم ياتك فلا تغشه به ، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه!.

فقال عبد الله بن رواحة : بلى فاغشنا به وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا! فهو والله مما نحب ومما اكرمنا الله به وهدانا له! فقال عبد الله بن أبيّ :

متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل

تذلّ ويصرعك الذين تصارع

فقام رسول الله حتى دخل على سعد بن عبادة وفي وجهه الغضب.

فقال سعد : والله ـ يا رسول الله ـ إنّي لأرى في وجهك شيئا ، لكأنّك سمعت شيئا تكرهه؟!

قال : أجل. ثم أخبره بما قال ابن أبيّ.

فقال سعد : يا رسول الله أرفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإنّا لننظم له الخرز لنتوّجه ، فو الله إنّه ليرى أن قد سلبته ملكا (١).

وروى ابن اسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة : أن رسول الله لما قدم المدينة كان عبد الله بن أبيّ بن سلول العوفي لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان. وإذ كان معه من الأوس رجل مثله شريفا مطاعا في قومه هو أبو حنظلة عبد عمرو بن صيفيّ ، واذ كان هذا مع ابن ابيّ لذلك اجتمعت عليه الأوس والخزرج لم تجتمع على رجل من أحد الفريقين غيره قبله ولا بعده ، فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملّكوه عليهم.

وبينما هم على ذلك إذ جاءهم الله تعالى برسوله فانصرف قومه عنه الى الاسلام ، فكان يرى أن رسول الله قد استلبه ملكا فضغن عليه ، ولكنّه لما رأى

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٣٦ ، ٢٣٧ بتصرف.

٧٠

أن قومه دخلوا في الاسلام مصرّين عليه دخل هو فيه كارها مصرّا على الضغن والنفاق.

وأما أبو حنظلة ـ غسيل الملائكة ـ المعروف بأبي عامر فانه لما رأى أن قومه الأوس اجتمعوا على الاسلام ، أتى رسول الله ـ كما حدّث جعفر بن عبد الله ـ فقال له :

ما هذا الدين الذي جئت به؟

قال : جئت بالحنيفية دين ابراهيم.

وكان ابو حنظلة قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح حتى كان يقال له الراهب فقال : فأنا عليها!

قال رسول الله : انك لست عليها.

قال : بلى! وانك يا محمد قد أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها!

قال رسول الله : ما فعلت ، ولكنّي جئت بها بيضاء نقيّة.

قال : الكاذب منّا أماته الله طريدا غريبا وحيدا ، يعرّض برسول الله.

قال رسول الله : أجل من كذب فعل الله به ذلك.

فقام وانصرف.

ثم خرج من المدينة مع بضعة عشر رجلا من قومه من المدينة الى مكة (١). وقد عدّ ابن اسحاق عددا من منافقي الأوس والخزرج :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٣٤ ، ٢٣٥ وتمام الخبر : فلما افتتح رسول الله مكة خرج الى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ولم يلحقه من جاء معه من قومه ولكن لحقه رجلان من الطائف : كنانة بن عبد ياليل الثقفي وعلقمة بن علاثة بن كلاب ، فمات أبو حنظلة بالشام طريدا غريبا وحيدا عن قومه كما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٧١

منافقو الأوس والخزرج :

فمن الأوس : زويّ بن الحارث ، وجلاس بن سويد بن الصامت ، واخوه الحارث بن سويد ، وبجاد بن عثمان ، ونبتل بن الحارث وعبد الله بن نبتل ، وابو حبيبة بن الأزعر ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتّب بن قشير ، وعبّاد بن حنيف ـ أخو سهل بن حنيف ـ وعمرو بن خذام ، ويخزج ، وجارية بني عامر ، وابناه زيد ومجمّع ، ووديعة بن ثابت ، وخذام بن خالد ، وبشر ورافع ابنا زيد. ومربع بن قيظي ، واخوه أوس بن قيظي ، وحاطب بن أميّة ، وبشير بن ابيرق ، وحليفه قزمان ، ويتهم معهم الضحاك بن ثابت. خمسة وعشرون رجلا.

ومن الخزرج : رافع بن وديعة ، وزيد بن عمرو ، وعمرو بن قيس وكان صاحب آلهة في الجاهلية ، وقيس بن عمرو بن سهل ، والجدّ بن قيس ، ووديعة ، ومالك بن أبي قوقل ، وسويد ، وداعس ، وهم رهط عبد الله بن أبيّ بن سلول (١) وهؤلاء عشرة ، فهم أقل من الأوس وكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزءون بدينهم. فاجتمع يوما ناس منهم في المسجد ، ورآهم رسول الله قد لصق بعضهم ببعض يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم. فأمر رسول الله من حضره من أصحابه باخراجهم من المسجد إخراجا عنيفا.

وكانوا ستة ، اربعة من بني النجار من الخزرج (رهط النبيّ) هم : عمرو بن قيس ، ورافع بن وديعة ، وزيد بن عمرو ، وقيس بن عمرو بن سهل ، وواحد من

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٦ ـ ١٧٣ ، وذكر لكثير منهم أحداثهم ، ولكنّها تتعلق بغير هذا الموضع من التاريخ فأجّلناها الى مواضعها في السيرة.

٧٢

الأوس هو زويّ بن الحارث. وآخر لم يذكر من أيّهم : الحارث بن عمرو (ويرجح أنه من الخزرج).

فأما زويّ بن الحارث ، فقد قام إليه رجل من اخوانه الأوس فأفّف له وقال له : غلب عليك الشيطان وأمره ، وأخرجه من المسجد اخراجا عنيفا.

وأما الحارث بن عمرو فقد قام إليه عبد الله بن الحارث الخزرجي الخدري من رهط أبي سعيد الخدري ، فأخذ بجمة الرجل فسحبه بها سحبا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ، وقال له : لا تقربنّ مسجد رسول الله فانك نجس.

وقام الى الأربعة من بني النجّار ثلاثة منهم هم : مسعود بن أوس ، وعمارة ابن حزم ، وخالد بن يزيد أبو أيوب الأنصاري.

فقام أبو أيوب الى عمرو بن قيس ـ وهو صاحب آلهتهم في الجاهلية ـ فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه وهو يقول : أتخرجني ـ يا أبا أيوب ـ من مربد بني ثعلبة!

ثم أقبل ابو أيوب الى رافع بن وديعة فلطم وجهه ثم لبّبه بردائه اجتذبه جذبا شديدا حتى أخرجه من المسجد وهو يقول له : افّ لك منافقا خبيثا ، أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله.

وقام عمارة بن حزم الى زيد بن عمرو ، وكانت له لحية طويلة ، فأخذ عمارة بلحية زيد فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ، ثم جمع يديه فدفعه في صدره دفعة خرّ منها الى الأرض ، وهو يقول له : أبعدك الله يا منافق! فما أعدّ الله لك من العذاب أشدّ من ذلك ، فلا تقربنّ مسجد رسول الله.

وقام أبو محمد مسعود بن أوس الى قيس بن عمرو بن سهل ، وكان غلاما

٧٣

شابا ، فجعل ابو محمد يدفع في قفاه حتى أخرجه من المسجد (١).

المنافقون من اليهود :

قال ابن اسحاق : وممن أظهر الاسلام وهو منافق من أحبار اليهود من بني قينقاع : سعد بن حنيف ، وزيد بن اللصيت ، ونعمان بن أوفى ، وأخوه عثمان بن أوفى ، ورافع بن حريملة ، ورفاعة بن زيد ، وسلسلة بن برهام ، وكنانة بن صوريا (٢).

نزول سورة البقرة :

قال ابن اسحاق : بلغني أن صدر سورة البقرة الى المائة منها (٣). نزل في هؤلاء المنافقين من أحبار اليهود والأوس والخزرج.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٤)

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٧٥ ، ١٧٦ ويلاحظ أن الرسول بدأ برهطه من قبل أمه من بني النجار واستعان عليهم من قومهم ، وهي حكمة منسجمة مع العرف السائد يومئذ ، بل الى يومنا هذا.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٧٤ ، ١٧٥.

(٣) هي قوله سبحانه : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وبعدها قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) مما ظاهره وحدة السياق ، وقد نقل ابن اسحاق ما يقتضي ذلك كذلك أيضا ، بل استمر في سياق الآيات بشأن اليهود الى الآية المائة والسبعين. كما سيأتي ذلك. وروى في «فتح الباري» ٨ : ١٣٠ عن عائشة قالت : نزلت سورة البقرة وأنا عنده.

(٤) البقرة : ٥٨.

٧٤

يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) شكا. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي إنّما نريد الاصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب!

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ* وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) الذين يأمرونهم بتكذيب الحق وخلاف ما جاء به الرسول (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) على مثل ما أنتم عليه (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) نستهزئ بالقوم ونلعب بهم (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) اي الكفر بالايمان (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

ثم ضرب لهم مثلا فقال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) اي لما خرجوا من ظلمة الكفر بنور الحق أطفئوه بنفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون عليه (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) عن الخير فهم لا يصيبون نجاة ولا يرجعون الى خير ما داموا على ما هم عليه (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أي إنهم بالنظر الى ظلمة ما هم فيه من الكفر ، والحذر من القتل لما هم عليه ، كالذي هو في ظلمة المطر الصيّب يجعل أصابعه في اذنيه من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)

٧٥

لشدة ضوء الحق (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) اي كلّما عرفوا الحق تكلّموا به واذا ارتكسوا في الكفر قاموا متحيّرين (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) لما تركوا من الحق بعد معرفته (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ثم قال للفريقين من الكفار والمنافقين جميعا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) أي وحدّوا (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تضر ولا تنفع وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر. ثم رغّبهم وحذّرهم نقض الميثاق الذي أخذ عليهم (اليهود) لنبيّه ، وذكر لهم بدء خلقهم حين خلقهم وشأن أبيهم آدم عليه‌السلام وكيف صنع به حين خالف عن طاعته (١).

ويفهم من سياق الآيات أنّ هناك أسبابا لنزولها.

فمنها : ما يفهم من سياق الآية : ٢٦ : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) : أن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٧٧ ـ ١٨١.

٧٦

الذين كفروا وجهروا بالكفر أو نافقوا كانوا قد سمعوا الآية ٤١ من سورة العنكبوت المكيّة : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فقالوا : ما ذا أراد الله من ذكر هذا؟ (١) أو إن الله أجلّ من أن يضرب مثلا (٢) فردّ الله عليهم بهذه الآية من سورة البقرة.

ومنها : أن اليهود كانوا يزعمون جهلا أنهم إذا أقرّوا برسول الله لزمهم الاقرار ، والّا فانّ لهم الانكار ، ولذلك كانوا يتواصون بالانكار وأن لا يتحدثوا الى المسلمين بما فتح الله للمسلمين على اليهود برسول الله بعد أن كانوا هم (اليهود) يستفتحون به على غيرهم من العرب في يثرب. وكأنّهم اذا تحدّثوا الى المسلمين بذلك قامت الحجة عليهم بذلك ، وان لم يتحدثوا إليهم بذلك لم يكن علمهم بذلك حجة عليهم! فردّ الله عليهم بقوله سبحانه : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ* أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٣).

روى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : كان قوم من اليهود ليسوا بالمعاندين المتواطئين اذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا : لا تخبروهم بما (فتح الله عليكم) في

__________________

(١) التبيان ١ : ١١١ عن قتادة. وأرى أنّ إضافة الذّباب إلى العنكبوت من خطأ الرواة إذ أنّ الذباب في سورة الحج المدنية المتأخرة عن البقرة بكثير.

(٢) التبيان ١ : ١١١ عن ابن عباس وابن مسعود.

(٣) البقرة : ٧٦ و ٧٧ والخبر في سيرة ابن هشام ٢ : ١٨٥ بالمعنى.

٧٧

التوراة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجوكم به عند ربكم. فنزلت الآية (١).

وروى العيّاشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : كانت اليهود تجد في كتبها : أن مهاجر محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما بين أحد وعير (جبل بالمدينة) فخرجوا يطلبون الموضع ، فمرّوا بجبل يسمّى حدادا (وحوله فدك وخيبر وتيماء) فقالوا : حداد واحد سواء ، فتفرّقوا عنده فنزل بعضهم بفدك ، وبعضهم بخيبر ، وبعضهم بتيماء (على عشر مراحل من المدينة).

ثم مرّ أعرابي من قيس بالذين كانوا في تيماء فقال لهم : أمرّ بكم ما بين أحد وعير. فاستأجروا منه إبله ، فلما توسّط بهم أرض المدينة قال لهم : ذاك عير وهذا احد. فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له : قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة لنا في ابلك ، فاذهب حيث شئت.

ثم كتبوا الى اخوانهم الذين بفدك وخيبر : إنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا. فكتبوا (جوابا) إليهم : انا قد استقرت بنا الدار ، واتخذنا الأموال ، وما أقربنا منكم ، فاذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم.

ولما كثرت أموال هؤلاء بأرض المدينة وبلغ ذلك تبّع الحميري غزاهم ، فتحصّنوا منه ، فحاصرهم ، فكانوا يرقّون لضعفاء أصحاب تبّع فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير. فبلغ ذلك تبّع ، فرقّ لهم وأمّنهم ، فنزلوا إليه.

فخلّف فيهم الحيّين : الأوس والخزرج ، فلما كثروا كانوا يتناولون أموال اليهود فكانت اليهود تقول لهم : أما لو بعث محمد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا (٢).

__________________

(١) التبيان ١ : ٣١٦ ونقله في مجمع البيان ١ : ٢٨٦.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٤٩ ، ٥٠.

٧٨

وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام أيضا قال : كانت اليهود تقول للعرب قبل مجيء النبيّ : أيها العرب ، هذا أوان نبيّ يخرج بمكة وتكون هجرته الى هذه المدينة (يثرب) وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة ، يلبس الشملة ويجتزئ بالكسرة والتميرة ، ويركب الحمار العاري ، وهو الضحوك القتّال ، يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي بمن لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر ، وليقتلنّكم الله به يا معشر العرب قتل عاد!.

فلما بعث الله نبيّه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به كما قال الله (١).

ومنها : أن اليهود ـ كما مر ـ كانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع ، وهم حلفاء الخزرج ، وطائفتا النضير وقريظة وهم حلفاء الأوس. وكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل فريق حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم ، فاذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به ، يفتدي بنو قينقاع من كان من أسراهم في أيدي الأوس ، ويفتدي بنو النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج ، ويبطلون ما أصابوا من الدماء وما قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لاهل الشرك عليهم ، فأنبههم الله بذلك فقال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٣.

٧٩

وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١).

ثم كرّ القرآن الكريم على استفتاح اليهود على الكفار بالنبيّ المختار فقال :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) ... (فَباؤُا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٢).

وروى الطوسي في «التبيان» : عن ابن عباس قال : كان معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور قد قالا لليهود : اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ـ وتخبرونا بأنه مبعوث. فقال لهما سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاء بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فانزل الله ذلك (٣).

ومنها : ما في قوله سبحانه : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) فانّ السياق ـ قال العلامة الطباطبائي ـ : يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود ، وأنّهم تأبّوا واستنكفوا عن الايمان بما انزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلّلوه بأنهم عدوّ لجبريل النازل بالوحي إليه (٤).

__________________

(١) البقرة : ٨٤ ـ ٨٦ والخبر في التبيان ١ : ٣٣٦ ومجمع البيان ١ : ٣٠٣ عن عكرمة عن ابن عباس. وفي سيرة ابن هشام ٢ : ١٨٨.

(٢) البقرة : ٨٩ و ٩٠.

(٣) التبيان ١ : ٣٤٥ ومجمع البيان ١ : ٣١٠ وفي سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٦.

(٤) الميزان ١ : ٢٢٩ ، وروى الطوسي في «التبيان» وعنه الطبرسي في «مجمع البيان» عن ابن عباس وفي «الاحتجاج» عن العسكري عليه‌السلام : أن سبب نزول الآية هو أن ابن صوريا

٨٠