موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

وبعد إسلام بقيّة القوم جاء الحارث ابو جويريّة إلى النبيّ عليه‌السلام فقال : يا رسول الله إن ابنتي لا تسبى ؛ إنّها امرأة كريمة. قال : اذهب فخيّرها. قال : قد أحسنت وأجملت. وجاء إليها أبوها فقال لها : يا بنيّة لا تفضحي قومك! فقالت له : اخترت الله ورسوله! فقال لها أبوها : فعل الله بك وفعل!

وأعتقها رسول الله ، وجعلها في جملة أزواجه (١) فلمّا بلغ الناس أنّ رسول الله تزوّج جويريّة بنت الحارث قالوا : أصهار رسول الله! فأرسلوا ما كان في أيديهم منهم (٢).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١١٩. وقال الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١. فجاء أبوها إلى النبيّ بفداء ابنته فسأله النبيّ عليه‌السلام عن جملين كان قد خبّأهما في شعب كذا. فقال الرجل : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك لرسول الله ، والله ما عرفهما أحد سواي! ثمّ قال : يا رسول الله ، إنّ ابنتي لا تسبى إنّها امرأة كريمة ...

(٢) إعلام الورى ١ : ١٩٧ وتمامه : فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ، وهو لفظ الواقدي رواية عن عائشة ٢ : ٤١١ ولكن صدر الرواية تخالف ما نقلناه عن المفيد في الإرشاد ، وما ذكره الطبرسي في إعلام الورى ، والحلبي في المناقب ، فقد روى الواقدي بسنده عن عائشة قالت : بينا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عندي ونحن على الماء (المريسيع) إذ دخلت عليه جويريّة ... فقالت : يا رسول الله ، إنّي امرأة مسلمة أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأنا جويريّة بنت الحارث ابن أبي ضرار سيّد قومه ، أصابنا من الأمر ما قد علمت ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شمّاس وابن عمّ له ، فتخلّصني من ابن عمّه بنخلات له بالمدينة ، ثمّ كاتبني على ما لا طاقة لي به ولا يدان ، وما أكرهني على ذلك ، إلّا أنّي رجوتك ـ صلّى الله عليك ـ فأعنّي في مكاتبتي!

قالت عائشة : وكانت جويريّة جارية حلوة لا يكاد يراها أحد إلّا ذهبت بنفسه ... فكرهت دخولها على النبيّ وعرفت أنّه سيرى منها مثل الذي رأيت!

٥٨١

وروى عنها الطبرسي في «إعلام الورى» قالت : أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن على المريسيع ، فكنت أسمع أبي يقول : أتانا ما لا قبل لنا به! وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة.

فلمّا أسلمت وتزوّجني رسول الله ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى ، فعرفت أنّه رعب من الله ـ عزوجل ـ يلقيه في قلوب المشركين (١).

__________________

ـ فقال رسول الله : أو خير من ذلك؟

فقالت : ما هو يا رسول الله؟

قال : اؤدّي عنك كتابتك وأتزوّجك؟!

قالت : نعم يا رسول الله قد فعلت!

فأرسل رسول الله إلى ثابت فطلبها منه وأدّى ما كان عليها من كتابتها وأعتقها وتزوّجها. وخرج الخبر إلى الناس ورجال بني المصطلق قد اقتسموا وملكوا ، ووطىء نساؤهم ، فقالوا : أصهار النبيّ! فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي ، فأعتق مائة أهل بيت بتزويج رسول الله إيّاها ، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.

ثمّ روى بسنده عن مولاة جويريّة عنها قالت : إنّ أبي افتداني من ثابت بن قيس بن شمّاس بما كانت تفتدى به المرأة من السبي ، ثمّ خطبني رسول الله إلى أبي فأنكحني إيّاه. وإنّ رسول الله هو الذي سمّاها جويريّة وكان اسمها برّة.

وروى عنها ـ أيضا ـ قالت : رأيت قبل قدوم النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ بثلاث ليال : كأنّ القمر يسير من يثرب حتّى وقع في حجري ، فكرهت أن اخبرها أحدا من الناس حتّى قدم رسول الله ، فلمّا سبينا رجوت الرؤيا ، فلمّا أعتقني وتزوّجني ما كلّمته في قومي ... وما شعرت إلّا بجارية من بنات عمّي تخبرني أنّ المسلمين هم أرسلوهم. فحمدت الله ـ عزوجل ـ ٢ : ٤١١ و ٤١٢ وسيأتي التفصيل عن سبايا بني المصطلق.

(١) إعلام الورى ١ : ١٩٧ وهو لفظ الواقدي بسنده عن مولاة جويرية ٢ : ٤٠٨ و ٤٠٩.

٥٨٢

وممّا وقع في أثناء القتال : أنّ رجلا من بني عمرو بن عوف من الأنصار أو هشام بن صبابة أو هاشم بن صبابة ـ كما في الواقدي ـ تلقّى في ريح شديدة وعجاج رجلا آخر من الأنصار يقال له أوس ، فظنّ أنّه من المشركين ، فحمل عليه فقتله ، فعلم بعد أنّه مسلم. فأمر رسول الله أن تخرج ديته (١).

السبايا والغنائم :

وأمر رسول الله بالأسرى والذرية فكتّفوا وجعلوا ناحية ، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب. وأمر بما وجد في رحالهم من المتاع والسلاح فجمع ، وعمد إلى النعم والشياه فسيقت ، واستعمل عليهما (المتاع والنعم) مولاه شقران. ثمّ أخرج رسول الله الخمس من جميع المغنم ، واستعمل على مقسم الخمس وسهام المسلمين محميّة بن جزء الزّبيدي فكان يليه.

قال : قالوا : فاقتسم السبي وفرّق ، فصار في أيدي الرجال ، وقسّم المتاع والنعم والشياه ، فعدلت الجزور بعشر من الغنم ... وأسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهم ، وللراجل سهم. وكانت الإبل ألفي بعير ، وخمسة آلاف شاة ، والسبي مائتي أهل بيت (٢) فاعتق مائة أهل بيت منهم بتزويج رسول الله بجويريّة بنت زعيمهم الحارث (٣).

__________________

(١) المغازي ٢ : ٤٠٨ وتمامه : فقدم أخوه مقيس على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر له بالدّية فقبضها ، ثمّ عدا على قاتل أخيه فقتله ثمّ خرج مرتدّا إلى قريش ونظم شعرا في ذلك ، فأهدر رسول الله دمه يوم فتح مكّة فقتل فيها. وعكس ابن هشام فجعل هشام بن صبابة هو المقتول ولم يذكر اسم القاتل ٣ : ٣٠٢ وذكر تتمّة الخبر ٣ : ٣٠٥ و ٣٠٦.

(٢) المغازي ٢ : ٤١٠.

(٣) المغازي ٢ : ٤١١ وقد مرّ الخبر عنه.

٥٨٣

وضمنهم من منّ عليه رسول الله بغير فداء ، ومنهم من صار في أيدي الرجال ، فافتديت المرأة بستّ نياق ، وقدموا المدينة ببعض السبي فقدم عليهم أهلهم فافتدوهم ، فلم تبق امرأة من بني المصطلق إلّا رجعت إلى قومها (١).

وكان أبو سعيد الخدري يقول : قدمت علينا وفودهم فافتدوا النساء والذرّية ورجعوا بهم إلى بلادهم ، وخيّر بعضهنّ أن تقيم عند من صارت في سهمه فأبين إلّا الرجوع (٢) إلّا ما كان من جويرية بنت زعيمهم الحارث بن أبي ضرار فإنّها لمّا خيّرها رسول الله أبت الرجوع مع أبيها.

ووطىء النساء ـ كما في خبر الواقدي عن عائشة ـ ولكن لم تحمل أيّ منهنّ من المسلمين لعزلهم عنهنّ ، كما في خبر الواقدي بسنده عن أبي سعيد الخدري ـ أيضا ـ قال : أصبنا في غزوة بني المصطلق سبايا منهم ، وأحببنا فداءهنّ ، ولكن اشتدّت علينا الغربة فسألنا رسول الله عن العزل فقال : ما عليكم أن لا تفعلوا (٣)؟ أي ما يمنعكم عن ذلك؟ وقال رجل من اليهود لمّا علم بالعزل : تلك الموؤدة الصغرى! قال : فجئت رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فأخبرته ذلك فقال : كذبت اليهود! كذبت اليهود! (٤)

__________________

(١) المغازي ٢ : ٤١٢ عن ابن أبي سبرة عن عمارة بن غزيّة. قال الواقدي : ويقال : جعل صداقها عتق أربعين من قومها. وعليه فمن منّ عليه النبيّ منهم أربعون ، وستّون منهم منّ عليهم سائر المسلمين وبقي منهم مائة أهل بيت افتدوا ، كلّ امرأة بستّ نياق ، كما مرّ الخبر عنه.

(٢) المغازي ٢ : ٤١٣.

(٣) المغازي ٢ : ٤١٣ ويلاحظ عليه عدم التصريح بمدة استبراء أرحامهنّ؟

(٤) المغازي ٢ : ٤١٣.

٥٨٤

وفي طريق الرجوع :

قال القمي : لما رجع رسول الله من غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ـ في سنة خمس من الهجرة ـ نزل على بئر ، وكان الماء فيها قليلا ، فاجتمعوا على البئر ، فتعلق دلو سيّار بن أنس (١) ـ حليف الأنصار ـ بدلو جهجاه بن سعيد الغفاري ـ وكان اجيرا لعمر بن الخطاب ـ فقال سيّار : دلوي ، وقال جهجاه : دلوي وضرب بيده على وجه سيّار ، فسال منه الدم ، فنادى سيار بالخزرج! ونادى جهجاه بقريش! وثارت الفتنة ، وسمع عبد الله بن ابي (بن سلول الخزرجي) النداء فسأل : ما هذا؟ فأخبروه الخبر.

فغضب غضبا شديدا وقال : إنّي لأذل العرب! قد كنت كارها لهذا المسير ما ظننت أن أبقى الى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير!

ثم اقبل على اصحابه وقال : هذا عملكم! أنزلتموهم منازلكم ، وواسيتموهم بأموالكم ، ووقيتموهم بأنفسكم ، وأبرزتم نحوركم للقتل ، فأرمل نساؤكم ، وايتم صبيانكم. ولو اخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثم قال : لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ!

وكان ذلك في وقت الهاجرة ، وكان رسول الله في ظل شجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والانصار. وكان زيد بن أرقم غلاما قد راهق (وقد سمع كلام ابن ابي) فجاء فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما قال عبد الله بن ابي.

فقال رسول الله : يا غلام لعلّك وهمت؟! قال : لا والله ما وهمت.

__________________

(١) يتكرر اسم سيّار في الخبر عدّة مرات ، وهنا : أنس بن سيار! بينما سيأتي عن ابن إسحاق أنّ اسمه سنان بن وبر الجهني حليف بني عمرو بن عوف من الخزرج.

٥٨٥

فقال : لعلّك غضبت عليه؟! قال : لا ، ما غضبت عليه.

قال : فلعلّه سفه عليك؟! فقال : لا ، والله.

فقال رسول الله لمولاه شقران : أحدج (أي : اجعل الحدج على الجمل) فأحدج راحلته ، فركب رسول الله وارتحل ، وتسامع الناس بذلك فارتحلوا.

ولحقه سعد بن عبادة فقال : السّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال : وعليك السّلام. فقال : ما كنت لترحل في هذا الوقت؟! فقال : أولا سمعت قولا قال صاحبكم؟! قالوا : وأيّ صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال : عبد الله ابن ابي زعم ان رجع الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ!

فقال : يا رسول الله ، فأنت وأصحابك الأعزّ وهو وأصحابه الأذلّ! وسار رسول الله ذلك اليوم كلّه ، ولم ينزلوا إلّا للصلاة ، ثم سار ليله.

وروى بسنده عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال : سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومه وليلته ومن الغد حتّى ارتفع الضحى ، وإنّما أراد رسول الله أن يكفّ الناس عن الكلام ... ثم نزل ونزل الناس فرموا بأنفسهم نياما.

قال القمي : وأقبلت الخزرج على عبد الله بن ابي يعذلونه ، فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئا من ذلك! فقالوا له : فقم بنا الى رسول الله حتى نعتذر إليه ، فلوى عنقه!

ثم جاء الى النبي فحلف أنّه ليشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، وأنّه لم يقل ذلك وأنّ زيدا قد كذب عليه. وقبل منه رسول الله ذلك القول.

فأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يقولون له : كذبت على سيدنا عبد الله؟! ويشتمونه ، وزيد يقول : اللهم إنّك لتعلم أنّي لم اكذب على عبد الله بن ابي.

وارتحل رسول الله ... فما سار إلّا قليلا حتى أخذ رسول الله ما كان يأخذه من الشدّة عند نزول الوحي عليه ، فثقل حتى كادت ناقته تبرك من ثقل الوحي. ثم سري عن رسول الله وهو يسلت العرق عن جبهته. ثم دنا الى رحل زيد بن أرقم

٥٨٦

فأخذ باذنه وقال : يا غلام صدق قولك ، ووعى قلبك ، وأنزل الله فيما قلت قرآنا.

فلما نزل جمع اصحابه حوله فقرأ عليهم السورة : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ* وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُ مْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ* سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ* هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ* يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(١) ففضح الله عبد الله بن ابي.

وقال أبان البجلي : وأتى ولد عبد الله بن ابي الى رسول الله فقال :

يا رسول الله ، إن كنت عزمت على قتله فمرني اكون أنا الذي أحمل إليك رأسه! فو الله لقد علمت الاوس والخزرج أني أبرّهم ولدا بوالد ، فاني اخاف ان تأمر غيري فيقتله فلا تطيب نفسي ان انظر الى قاتل عبد الله فأقتل مؤمنا بكافر فادخل النار!

فقال رسول الله : بل نحسن صحابته ـ لك ـ ما دام معنا (٢).

__________________

(١) المنافقون : ١ ـ ٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٧٠.

٥٨٧

وقال ابن اسحاق : وردت واردة الناس على الماء ... وازدحم عليه جهجاه ابن سعيد الغفاري أجير عمر بن الخطاب مع سنان بن وبر (أو تميم) الجهني حليف الخزرج ، واقتتلا ، فصرخ الجهني : يا معشر الانصار! وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن ابي بن سلول وقال :

أو قد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما عدنا وجلابيب قريش الا كما قال الاول : يسمّن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل! ثم اقبل على حضره من قومه ـ ومنهم زيد بن ارقم وهو غلام حدث ـ فقال :

هذا ما فعلتم بأنفسكم! احللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم اموالكم ، اما والله لو امسكتم عنهم بايديكم لتحولوا الى غير داركم!

فمشى زيد بن ارقم الى رسول الله فأخبره الخبر. وكان عنده عمر بن الخطاب فقال : مر عبّاد بن بشر فليقتله! فقال له رسول الله : يا عمر! فكيف اذا تحدث الناس : أن محمدا يقتل اصحابه! لا ، ولكن أذن بالرحيل في ساعة لا يرتحل فيها.

فلما استقل رسول الله راحلته وسار لقيه اسيد بن حضير فسلّم عليه بالنبوة ثم قال : يا نبي الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها! فقال له رسول الله : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال : وأي صاحب يا رسول الله؟ قال : عبد الله بن ابي. قال : وما قال؟ قال : زعم أنه ان رجع الى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل! قال : فأنت يا رسول الله ـ والله ـ تخرجه منها ان شئت ، وهو ـ والله ـ الذليل وأنت العزيز. ثم قال : يا رسول الله ارفق به! فو الله لقد جاءنا الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ، فانه يرى أنك قد استلبته ملكا!

وحين بلغ ابن ابي ان زيد بن ارقم قد بلّغ النبيّ ما سمعه منه ، مشى الى رسول الله فحلف بالله : ما قلت ما قال ولا تكلمت به! فحدب عليه ودافع عنه من حضر

٥٨٨

من الانصار قالوا : يا رسول الله ، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل!

ومشى رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى امسى ، وليلتهم حتى اصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى أذنت الشمس بالزوال فنزل بالناس ، فلما وجد الناس الارض وقعوا نياما ، وانما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن حديث ابن ابي.

واتى عبد الله بن عبد الله بن ابيّ فقال : يا رسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن ابيّ فيما بلغك عنه ، فان كنت لا بدّ فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه! فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي ، واني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن انظر الى قاتل عبد الله بن ابي يمشي في الناس فاقتله فاقتل مؤمنا بكافر فادخل النار!

فقال رسول الله : بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا.

ثم راح رسول الله بالناس حتى نزل على ماء يقال له بقعاء ... فهبّت ريح شديدة آذتهم ، فقال رسول الله : لا تخافوها ، فانما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار! فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد من عظماء يهود بني قينقاع ، وكان كهفا للمنافقين ، قد مات في ذلك اليوم.

ونزلت سورة المنافقون ... فأخذ رسول الله باذن زيد وقال : هذا الذي أوفى الله باذنه (١).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» مثله وزاد : لما هاجت الريح الشديدة قال مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة. قيل : من هو؟ قال : رفاعة. وضلت ناقة رسول الله ليلا ...

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥ ونحوه في مجمع البيان ٩ : ٤٤٢ ، ٤٤٣. ونقل مفصّل الاخبار الواقدي في المغازي ٢ : ٤١٥ ـ ٤٢٥.

٥٨٩

فقال رجل من المنافقين : كيف يزعم أنّه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته؟! الا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟!

فأتاه جبرئيل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة ، وأخبر رسول الله بذلك أصحابه قال : ما أزعم أني أعلم الغيب ، وما اعلمه ، ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب. فاذا هي كما قال ، فجاؤوا بها. وآمن ذلك المنافق (؟).

قال زيد بن أرقم : فلما وافى المدينة جلست في البيت لما بي من الهمّ والحياء! فنزلت سورة المنافقين في تصديقي وتكذيب عبد الله بن ابيّ. فأخذ رسول الله باذني وقال : يا غلام صدق فوك ووعت أذناك ووعى قلبك ، وقد أنزل الله فيما قلت قرآنا.

فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله قيل له : نزلت فيك أي شداد! فاذهب الى رسول الله يستغفر لك. فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت! وامرتموني ان اعطي زكاة مالي فقد اعطيت ، فما بقى الا ان اسجد لمحمد! (١).

ولم يلبث الا أياما قلائل حتى اشتكى ومات (٢).

ما تبقى من آيات الأحزاب :

مرّ في ما نزل من القرآن في أعقاب حرب الأحزاب وبني قريظة ، وزواج

__________________

(١) تمام الخبر : فنزل : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا ...) وهي الآية الخامسة ، وبعدها في الثامنة : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا ...) وهذا يعني أن السورة نزلت أولا اربع آيات ، ثم نزلت الى آخرها ، مما يبعد صحة الخبر هكذا.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٤٤٣ ، ٤٤٤. وموته في الخامسة في تأريخ الخميس ١ : ٤٧٣ وبعد المصطلق في الدر المنثور ٦ : ٢٢٦.

٥٩٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش ، تأجيل ما قيل من التبيين لوجه تنزيل الآيات ٥٠ ـ ٥٢ من سورة الأحزاب الى ما بعد حرب بني المصطلق ، والوجه في ذلك.

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١).

روى الطوسي في «التبيان» عن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله سبحانه : (... وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ...) أنها امرأة من بني اسد يقال لها : أمّ شريك (٢) ورواه الطبرسي وزاد : بنت جابر (٣) ورواه السيوطي في «الدر المنثور» ولكنه قال : الأزدية (٤).

وروى الكليني في «الكافي» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : جاءت امرأة من الانصار الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ، إن المرأة لا تخطب الزوج ، وأنا امرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد ، فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني!

فقال لها رسول الله : يا اخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا ، فقد نصرني رجالكم ورغبت فيّ نساؤكم.

فقالت لها حفصة : ما أقل حياءك وأجرأك وأنهمك للرجال!

__________________

(١) الأحزاب : ٥٠.

(٢) التبيان ٨ : ٣٥٢ ، وقد مرّ ذكرها في السنة الثالثة للهجرة في الصفحة : ٢٤٤ من كتابنا ولكنّ الأرجح وقوع هذه القضية في السنة السادسة.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٧١.

(٤) كما في الميزان ١٦ : ٣٤١.

٥٩١

فقال رسول الله : كفّي عنها يا حفصة فانها خير منك ، رغبت في رسول الله ولمتها وعبتها!

ثم قال للمرأة : انصرفي رحمك الله ، فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيّ وتعرضك لمحبتي وسروري ، وسيأتيك أمري ان شاء الله.

فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (... وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ...) فأحل الله ـ عزوجل ـ هبة المرأة نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يحل ذلك لغيره (١).

وفي تفسير القمي قال : كان سبب نزولها : أن امرأة من الأنصار أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد تهيأت وتزيّنت ، فقالت له : يا رسول الله ، هل لك فيّ حاجة؟ فقد وهبت نفسي لك!

فقالت عائشة : قبّحك الله! ما أنهمك للرجال؟!

فقال لها رسول الله : يا عائشة ، انها رغبت في رسول الله اذ زهدتنّ فيه!

ثم قال للمرأة : رحمكم الله يا معاشر الأنصار ، نصرني رجالكم ورغبت فيّ نساؤكم ، ارجعي رحمك الله فإني انتظر أمر الله.

فأنزل الله : (... وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ...) فلا تحل الهبة الّا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وقال الطبرسي : قيل : انها لما وهبت نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت عائشة : ما بال النساء يبذلن انفسهنّ بلا مهر؟! فنزلت الآية.

فقالت عائشة : ما أرى الله إلّا يسارع في هواك!

فقال رسول الله : وإنّك لو اطعت الله سارع في هواك (٣).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ٥٦٨ ، الحديث ٥٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٩٥.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٥٧١ وفيه وفي التبيان عن الشعبي : أنها زينب بنت خزيمة الأنصاري

٥٩٢

والسورة التالية للاحزاب في النزول حسب الخبر المعتمد هي سورة الممتحنة (١) وهي قد نزلت في حاطب بن ابي بلتعة حيث كتب الى قريش في مكة أنّ النبي يريد غزوهم (٢) وهذا يعني أنها نزلت فيما بعد الحديبية وقبيل فتح مكة ، فالى هناك.

__________________

ـ أمّ المساكين. وعن ابن عباس : أنها ميمونة بنت الحارث كانت وهبت نفسها للنبيّ بلا مهر ـ مجمع البيان ٨ : ٣٥٠ ، وميمونة بنت الحارث هي الهلالية خالة ابن عباس نفسه ، والتي زوّجها النبي ابوه العباس في عمرة القضاء آخر السابعة ، وكانت بمهر فليست هي الواهبة نفسها للنبيّ بلا مهر ، وأظنه متزلفا به الى امراء بني العباس بأن خالتهم هي الواهبة نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله!

والآية التالية قوله سبحانه : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ...) في التبيان ٨ : ٣٥٤ ومجمع البيان ٩ : ٥٧٤ وذكروا فيمن أرجأ منهن : جويرية ثم صفية ثم أم حبيبة ثم ميمونة ، وهي الآنفة الذكر ، وهذا يقتضي إرجاء الخبر الى هناك ، ولا سيّما وقد ربط الطبرسي بين هذه الآية وآيتي التخيير ٢٨ و ٢٩ من السورة وذكر هذه الثلاث فيمن خيرهن ٩ : ٥٥٤ وقبله الطوسي في التبيان ٨ : ٣٣٥ ، ٣٣٦.

ونقل الطبرسي في الآية التالية ٥٢ في قوله ـ سبحانه ـ : (... وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ...) قال : قيل : إنّ التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها ـ مجمع البيان ٩ : ٥٧٥. فهذا يقتضي تأخير الآية أو الآيات الى ما بعد غزوة موتة في التاسعة. ولا اقل من تأخير أخبار هذه الآيات ولا سيّما آية التخيير الى ما بعد حرب خيبر ، كما في تفسير القمي ٢ : ١٩٢ ، فالى هناك.

(١) التمهيد ١ : ١٠٦.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦١.

٥٩٣

سريّة زيد الى بني بدر :

روى الواقدي بسنده (١) قال : كان رسول الله قد بعث زيد بن حارثة الى الشام في تجارة بضائع لأصحاب النبي ، ومعه ناس من أصحابه ، فلما كان بوادي القرى (بعد خيبر) أغار عليهم ناس من بني بدر من بني فزارة فضربوهم حتى ظنوا أن قد ماتوا ، وأخذوا ما معهم.

فرجع زيد وأصحابه الى المدينة ، فبعثه رسول الله في سريّة إليهم في رمضان سنة ست ، وقال لهم : سيروا الليل واكمنوا النهار. وعلم بهم بنو بدر فجعلوا لهم ناطورا على جبل مشرف لهم على وجه الطريق الذي يرون أنهم يأتون منه. فصمد لهم زيد بن حارثة في الليل حتى صبّحهم ثم اوعز الى أصحابه أن لا يفترقوا ، وقال لهم : اذا كبّرت فكبّروا. وأحاطوا بهم فكبّر وكبّروا ، وقتلوا منهم عبد الله بن مسعدة ، وابن اخيه قيس بن النعمان بن مسعدة ، ورجل آخر ، وقتلت امرأة منهم يقال لها أم قرفة قتلها قيس بن المحسّر ، وسبى ابنتها سلمة بن الاكوع ، فوهبها لرسول الله ، فوهبها رسول الله لحزن بن ابي وهب فتزوّجها (٢).

سريّة ابن رواحة الى خيبر :

روى الواقدي بسنده عن ابن عباس قال : لما قتل ابو رافع (سلام بن ابي الحقيق ، زعيم اليهود في خيبر (٣)) أمّروا عليهم اسير بن زارم. وكان شجاعا ،

__________________

(١) قال : عن عبد الله بن جعفر ، عن عبد الله بن الحسن ، بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو الحسن المثنى ، وأمه من بني فزارة والخبر عن بني فزارة.

(٢) المغازي ٢ : ٥٦٤ ، ٥٦٥.

(٣) مرّ خبره في حوادث ما بعد الخندق وبني قريظة ، كما ذكره ابن اسحاق ٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٨

٥٩٤

فقام فيهم فقال : إنه والله ما سار محمد الى أحد من اليهود الّا بعث احدا من أصحابه فأصاب منهم ما أراد ، ولكني اصنع ما لا يصنع اصحابي.

قالوا : وما عسيت ان تصنع ما لم يصنع أصحابك؟

قال : أسير في غطفان فأجمعهم ، ثم نسير الى محمد في عقر داره ، فانه لم يغز أحد في داره الا ادرك منه عدوّه بعض ما يريد.

قالوا : نعم ما رأيت. فسار في غطفان فجمعهم.

وقدم خارجة بن حسيل الأشجعي على رسول الله فاستخبره عمّا وراءه فقال : تركت اسير بن زارم يسير إليك في كتائب اليهود.

فروى عن عروة بن الزبير : أن النبي بعث عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر في شهر رمضان الى خيبر ليخبر عن حال اهلها وما يتكلمون به وما يريدون. فلما وصل الى خيبر فرّق أصحابه الثلاثة في ثلاثة من آطام خيبر : الشق ، والكتيبة ، والنطاة ، فأقاموا فيها ثلاثة أيام حتى وعوا ما سمعوه عن اسير وغيره ، ثم خرجوا بعد ثلاثة أيام فرجعوا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لليالي بقين من شهر رمضان ، فأخبروه بما رأوا وسمعوا.

وعن ابن عباس قال : فندب رسول الله الناس فانتدب له ثلاثون رجلا. فاستعمل عليهم عبد الله بن رواحة.

وقال عبد الله بن انيس : جئت فوجدت أصحابي يوجهون الى اسير بن زارم ، وسمعت النبي يقول : لا أرى اسير بن زارم. يعني ان اقتلوه وكنت فيهم ، فخرجنا حتى قدمنا خيبر ، فأرسلنا الى اسير : إنا آمنون حتى نأتيك فنعرض عليك ما جئنا له؟ قال : نعم ، ولي مثل ذلك منكم؟ قلنا : نعم.

__________________

وذكره الواقدي ١ : ٣٩١ على رأس ستة واربعين شهرا ، وقال : ٣٩٥ ، ويقال : كانت السرية في شهر رمضان سنة ست.

٥٩٥

فدخلنا عليه فقلنا : انّ رسول الله بعثنا إليك أن تخرج إليه فيستعملك على خيبر ، ويحسن إليك. فشاور اليهود في ذلك فقالوا له : ما كان محمد يستعمل رجلا من بني اسرائيل! قال : بلى ، وقد مللنا الحرب.

فخرج ومعه ثلاثون رجلا من اليهود. فسرنا حتى اذا كنّا بقرقرة ثبار (١) فأهوى بيده الى سيفي! ففطنت له فدفعت بعيري وقلت : أغدرا أي عدو الله؟ ثم دنوت منه مرة اخرى وتناومت لانظر ما يصنع؟ فتناول سيفي! فغمزت بعيري ونزلت عنه وسقت القوم حتى انفرد اسير فضربته بالسيف فقطعت فخذه وسقط عن بعيره ، ثم ملنا على أصحابه فقتلناهم الا واحدا منهم اعجزنا هربا ، ورجعنا الى رسول الله فاذا هو جالس في اصحابه مشرفين على الثنية (ثنية الوداع الى جهة الشام) فانتهينا إليه وحدثناه الخبر فقال : نجّاكم الله من القوم الظالمين (٢).

سرية الى بني ضبّة :

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي ... عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من بني ضبّة مرضى ، فقال لهم رسول الله : أقيموا عندي فاذا برأتم بعثتكم في سرية. فقالوا :

__________________

(١) موضع على ستة اميال من خيبر ـ وفاء الوفاء ٢ : ٢٧٣. وروى السمهودي الخبر عن موسى ابن عقبة ، وفاء الوفاء ٢ : ٣٦١.

(٢) المغازي ٢ : ٥٦٦ ـ ٥٦٨. وذكر ابن اسحاق مختصره في السيرة ٤ : ٢٦٦ والطبرسي في اعلام الورى ١ : ٢١١ بعد خيبر ، بلا تأريخ. ويصلح هذا ان يكون الباعث على حرب خيبر بفاصل أربعة أشهر وعشرا تقريبا. وسيأتي في أخبار خيبر البحث في ثنية الوداع هل كانت قبل خيبر أم لا؟ وهذه هي ثنية الوداع الشمالية ، وكانت معلماً بارزاً للعيان حتى اُزيلت لتوسعة ميدان ملتقى طريقي سلطانة وسيدالشهداء عليه السلام كما جاء في كتاب : المساجد والاماكن الاثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمن خويلد الحجازي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٦ : ٢٦٩.

٥٩٦

أخرجنا من المدينة. فبعث بهم الى ابل الصدقة يشربون من ... البانها ، فلما برأوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الابل [واستاقوها].

فبلغ الخبر رسول الله فبعث إليهم عليا عليه‌السلام [مع جمع ، وكانوا] في واد قد تحيّروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه ... فأسرهم وجاء بهم الى رسول الله ، فنزلت الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ...)(١) فاختار رسول الله القطع ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (٢).

وروى القاضي في «دعائم الاسلام» عنه عليه‌السلام عن جده أمير المؤمنين حكى ذلك الى أن قال : فأرسلني في طلبهم ، فلحقت بهم ... وهم في واد قد ولجوا فيه ليس يقدرون على الخروج منه ، فأخذتهم وجئت بهم الى رسول الله ، فتلى عليهم هذه الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ثم قال : القطع القطع ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (٣).

ونقل الطوسي في «التبيان» عن قتادة والسدّي وسعيد بن جبير وعن أنس ابن مالك : أن الآية نزلت في العرنيين والعكليين حين ارتدوا وأفسدوا في الارض ، فأخذهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (٤).

__________________

(١) المائدة : ٣٣. هذا ، والمعروف أنها آخر سورة نزلت من القرآن الكريم.

ولعله لهذا ذهب الضحاك عن ابن عباس الى أن الآية نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي موادعة فنقضوا العهد وأفسدوا في الارض ، فخيّر الله نبيه في ما ذكر في الآية. كما في التبيان ٣ : ٥٠٥ ، وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٩١. وعليه فلا يصدق ما يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمل اعينهم ثم نزلت الآية فنهى عن المثلة بعد ذلك بل يصحّ انّه كان ينهى عن المثلة قبل نزول الآية في أواخر عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) فروع الكافي ٧ : ٢٤٥ ، ح ١ ، ورواه العياشي في تفسيره ١ : ٣١٤ ، ح ٩٠.

(٣) دعائم الاسلام ٢ : ٤٧٦ ، ح ١٧١١.

(٤) التبيان ٣ : ٥٠٥.

٥٩٧

ونقله الطبرسي في «مجمع البيان» فقال : نزلت في العرنيين لما نزلوا المدينة للاسلام واستثقلوا هواءها فاصفرت ألوانهم فأمرهم النبي أن يخرجوا الى ابل الصدقة فيشربوا من ألبانها ... ففعلوا ذلك ، ثم مالوا الى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الابل وارتدوا عن الاسلام ، فأخذهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (١).

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٩١ ، ورواه الواحدي عن قتادة عن أنس : ١٥٨. وروى الخبر الواقدي عن يزيد بن رومان (عن أنس بن مالك) قال : قدم ثمانية نفر من عرينة على النبي فأسلموا (وأصابهم الوباء بالمدينة) فأمر بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى لقاحه بذي الجدر (ذو الجدر على ستة اميال من المدينة من ناحية قباء قريبا من عير ، الطبقات ٢ : ٦٧) فكانوا بها حتى صحوا وسمنوا ... ثم غدوا على اللقاح فاستاقوها ، فأدركهم يسار مولى رسول الله ومعه نفر فقاتلوهم ، فأخذوه فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات تحت شجرة وانطلقوا بالسرح.

واقبلت امرأة من بني عمرو بن عوف فرأت يسار ميتا تحت شجرة ، فرجعت الى قومها وخبّرتهم الخبر ، فخرجوا حتى جاءوا به الى قباء. واخبروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فبعث رسول الله في أثرهم عشرين فارسا واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهري (كذا) فخرجوا في طلبهم حتى ادركهم الليل بالحرّة ، فباتوا بها ؛ وأصبحوا لا يدرون أين يسلكون؟ فاذا هم بامرأة تحمل كتف بعير ، فقالوا لها : ما هذا معك؟ قالت : مررت بقوم قد نحروا بعيرا فاعطوني منه هذا. فقالوا : اين هم؟ قالت : هم بتلك القفار من الحرّة اذا وافيتم عليهم رأيتم دخانهم.

فساروا حتى أتوهم فأحاطوا بهم فاستأسروا بأجمعهم ، فربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة ، فوجدوا رسول الله بالغابة ، فخرجوا إليه ، حتى التقوا بمربط في مجمع ـ السيول من الزغابة ، فأمر بهم فقطعت ايديهم وارجلهم وسملت أعينهم وصلبوا هناك.

ثم روي عن أبي هريرة (*) قال : لما قطع النبي أيدي أصحاب اللقاح وارجلهم وسمل اعينهم نزلت الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) فلم تسمل بعد ذلك عين.

٥٩٨

هجرة عقيل مسلماً :

قالوا : كانت قريش بعد هجرة المسلمين منهم تنهب المنقول من ماله وتهب غير المنقول منه لمن لم يسلم بعد من قبيلته ، فاعطت دور المسلمين المهاجرين إلى عقيل ، ولعلّه لغنى العباس ، فباعها عقيل. ولمّا اُسر مع العباس ببدر وفداه العباس عاد إلى مكّة ، ثمّ عاد إلى المدينة مسلماً مهاجراً قبل الحديبية ، فشهدها وما بعدها (١).

صلح الحديبية :

روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن الله ـ عزوجل ـ أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم أنه دخل بأصحابه المسجد الحرام مع الداخلين ، وطاف مع الطائفين وحلّق مع المحلّقين ، وكان ذلك أمرا له بذلك.

__________________

لكنه روى بعد هذا عن الامام الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن جده قال : لم يقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسانا. قط ولم يسمل عينا ولم يزد على قطع اليد والرجل. وروي عن الامام الباقر عن أبيه عن جده قال : ما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك بعثا الا نهاهم عن المثلة.

قال : ولما أقبل رسول الله من الزغابة الى المدينة وجلس في المسجد اذا اللقاح على باب المسجد ، ثم ردّها الى مكانها بذي الجدر فكانت هناك ، وكان يصله كل ليلة منها وطب (كيل) من لبن. وكانت خمس عشرة لقحة غزارا.

وقد أرّخ للسرية بشوال سنة ست. (المغازي ٢ : ٥٦٩ ـ ٥٧١).

هذا ، وقد مرّ حد السرقة ٢ : ٤٥٤ التنبيه إلى أن هذا الخبر فيه ذكر ابل الصدقة. وأخذ الصدقات انما بدأ في السنة التاسعة للهجرة ، ثمّ الآيتان في حدّهم من المائدة وهي الاخيرة نزولاً بعد حجة الوداع ، فالراجح أن القضية كانت يومئذ بعد رجوعهم من حجة الوداع.

(١) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة : ١٥٤.

٥٩٩

فأخبر أصحابه بذلك ، وأمرهم بالخروج ، فخرجوا (١).

فلما نزل ذا الحليفة (٢) ... وكان قد ساق رسول الله ستا وستين بدنة (٣) ،

__________________

(١) قال الواقدي : واغتسل رسول الله في بيته ولبس ثوبين من نسج حمار (بلدة بسلطنة عمان اليوم وقديما كانت من قرى اليمن ـ النهاية ٢ : ٢٥٣) ، وركب راحلته القصواء من عند بابه ... وخرج من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة ... واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم ... وكان قد أمر رسول الله بسر بن سفيان الكعبي أن يبتاع له بدنا ويبعث بها الى ذي الجدر ، فلما ـ حضر خروجه امر بها فجلبت الى المدينة ، ثم استعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي فأمره أن يقدمها الى ذي الحليفة. وخرج معه المسلمون وساق الهدي معه منهم أهل القوة عليه. وقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، لو حملنا السلاح معنا فان رأينا من القوم ريبا كنّا معدّين لهم!

فقال رسول الله : لست أحمل السلاح ، إنّما خرجت معتمرا. فقال عمر بن الخطاب : يا رسول تخشى علينا من ابي سفيان الله [الا] بن حرب وأصحابه ولم نأخذ للحرب عدّتها؟!

فقال رسول الله : ما أدري ؛ ولست أحب حمل السلاح معتمرا (المغازي ٢ : ٥٧٢ ـ ٥٧٣) وروى الكليني في روضة الكافي : ٢٦٦ ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام : خرج النبي في وقعة الحديبية في ذي القعدة ... ومعه خيل الانصار : الاوس والخزرج وكانوا ألفا وثمانمائة.

وقال الطبرسي : خرج في الشهر الحرام ذي القعدة في ناس كثير من أصحابه يريد العمرة ، وساق معه سبعين بدنة ـ اعلام الورى ١ : ٢٠٣.

وقال الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢ ، اعتمر في ألف ونيف رجل وسبعين بدنة.

وروى ابن اسحاق بسنده ٣ : ٣٢٢ ، عن المولد بن مخرمة قال : كان الناس معه سبعمائة رجل ، والهدي سبعين بدنة ، وكل بدنة عن عشرة. وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنا ألفا وأربعمائة رجلا.

(٢) في معاني الاخبار : ١٠٨ ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام : كان بينهما (المدينة وذي الحليفة) ستة أميال. وهو كذلك في معجم البلدان ٥ : ١٥٥.

(٣) في اعلام الورى ١ : ٢٠٣. سبعين بدنة وكذلك في قصص الأنبياء : ٣٤٦ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٢.

٦٠٠