موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

كبيرا ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله بما ذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فنزلت الآية (١).

وطبيعيّ أن لا علاقة لهذا السؤال والجواب بوقائع بدر اللهم الا أن نعطف النظر الى الآية ما قبل عشر آيات ، وهي : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) وما روي عن أبي أيوب الأنصاري سببا لنزولها ، اذ كان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وأشرافهم (٣) ولم يكن ممن حضر بدرا ، وحضر بدرا ابناه معاذ وخلّاد ، وضرب معاذ رجل أبي جهل فقطعها ، فضرب عكرمة بن أبي جهل على يد معاذ فقطعها (٤) فلعلّ أباه عمرا سأل النبيّ عن الصدقة شكرا على حياة ابنه معاذ وكفّارة عن عدم حضوره هو في بدر فاجيب.

وتعود الآية التالية على موضوع القتال فتقول : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٥) والآية تقرير لعمل الرسول لا ابتداء تشريع للقتال.

ثم تنتقل الآيتان التاليتان الى الاجابة على السؤال عن القتال في الشهر الحرام حيث وقع ذلك قبل بدر في سرية النخلة في آخر يوم من شهر رجب ، فتقول : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٥٤٧.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٩٥.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٦٨.

(٥) البقرة : ٢١٦.

١٨١

اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

قال القمي في تفسيره : كان سبب نزولها .. أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث السرايا الى الطرقات التي تدخل مكة تتعرض لعير قريش ، حتى بعث عبد الله بن جحش في نفر من أصحابه الى نخلة. وساق الخبر الى أن قال : وأخذوا العير بما فيها وساقوها الى المدينة ... فعزلوا العير وما كان عليها ولم ينالوا منها شيئا.

وكتبت قريش الى رسول الله : انك استحللت الشهر الحرام وسفكت فيه الدم وأخذت المال! وكثر القول في هذا.

وجاء أصحاب رسول الله فقالوا : يا رسول الله أيحلّ القتل في الشهر الحرام؟

فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ...)(٢).

وقال الطبرسي في «اعلام الورى» : واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله ـ وكان ذلك قبل بدر بشهرين (ونصف) ـ فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام. وأوقف الأسيرين والعير ولم يأخذ منها شيئا.

وقالت قريش : استحلّ محمد الشهر الحرام ...

__________________

(١) البقرة : ٢١٧ و ٢١٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ٧١ و ٧٢ وكأنّما يلتفت القميّ الى ان تقرير الشهر الحرام قد مرّ في الآية : ١٩٤ ، أي قبل اكثر من عشر آيات ، فيقول : ثم انزلت : «الشهر الحرام بالشهر الحرام».

١٨٢

واسقط في أيدي القوم وظنّوا أنهم قد هلكوا ..

فأنزل الله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ..).

فلما نزل ذلك أخذ رسول الله المال وفداء الأسيرين (١).

أما في تفسيره «مجمع البيان» فقد نقل القول عن المفسّرين الى أن قال :

فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبيّ فقالوا : أيحلّ القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله هذه الآية وانما سألوا ذلك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام (٢) وعليه فالسائل هو وفد مشركي قريش من مكة ، وقبله نقله الطوسي في «التبيان» عن الحسن البصري (٣) فلعله هو الوفد الذي وفد عليه لفداء أسراء بدر بعد بدر ، وهم أربعة عشر رجلا ، وفدوا عليه بعد رجوعه من بدر بأربعة أيام أو خمسة ، أي في شهر رمضان قبل انقضائه. وهذا هو المنسجم مع الترتيب الطبيعيّ للآيات.

وروى الواقدي بسنده عن أبي بردة بن نيار قال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقّف غنائم أهل نخلة ومضى الى بدر ، فلما رجع من بدر ... قالوا : ونزل القرآن وفيه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) قسّمها مع غنائم أهل بدر واعطى كل قوم حقّهم قالوا : وكان فداؤهم أربعين أوقيّة لكل واحد ، والاوقيّة أربعون درهما.

وروى بسنده عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : كان لأهل الجاهلية المرباع (أي ربع الغنيمة للرئيس) فلما رجع عبد الله بن جحش من نخلة خمّس ما غنم للنبيّ ، فكان أول خمس خمّس في الإسلام ، ثم نزل بعد : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٦٧.

(٢) التبيان ٢ : ٢٠٤.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٨.

١٨٣

مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...)(١).

وروى ابن اسحاق عن الزهري عن عروة قال : أما عثمان بن عبد الله الذي استؤسر فافتدي فلحق بمكة حتى مات بها كافرا ، وأما الحكم بن كيسان الذي استؤسر هو أيضا فقد أسلم وحسن اسلامه وأقام عند رسول الله حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا (٢).

وروى الواقدي بسنده عن كريمة ابنة المقداد بن عمرو عن أبيها المقداد قال : أنا أسرت الحكم بن كيسان .. فقدمنا به على رسول الله ، فجعل رسول الله يدعوه الى الاسلام وأطال كلامه. فقال عمر بن الخطاب : تكلّم هذا يا رسول الله؟ والله لا يسلم هذا آخر الأبد! دعني أضرب عنقه ويقدم الى أمه الهاوية! فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقبل على عمر حتى أسلم الحكم.

وروى عن الزهري قال : قال الحكم : وما الاسلام؟ قال : تعبد الله وحده لا شريك له ، وتشهد أنّ محمدا عبده ورسوله. قال : قد أسلمت.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٧ ، ١٨ وانما يعني ذلك نزول آية الخمس في سورة الأنفال بعد تخميس ابن جحش لغنيمة نخلة وقبل ذلك اذ قال : وقسمها مع غنائم بدر. لا بد أن نفترض فيه مسامحة في التعبير ، اذ نصّ الواقدي ١ : ١٠٠ وقبله ابن اسحاق ٢ : ٢٩٧ على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قسم غنائم بدر في مضيق شعب سير بالصفراء في منصرفه من بدر الى المدينة وقبل أن يصلها ، ونصّا أيضا أن ذلك كان بعد نزول سورة الأنفال الواقدي ١ : ١٣١ وابن هشام ٢ : ٣٢٢ وطبيعي أن تقسيمه لغنيمة نخلة انما كان بعد رجوعه من بدر ووصوله الى المدينة من دون أن يكون قد حملها معه الى بدر ليكون قد قسمها مع غنائم بدر في شعب سير. وعليه فقد نزلت سورة الأنفال حين الاقفال من بدر فقسم غنائمها في شعب سير ، ثم وصل المدينة ونزلت الآيات من سورة البقرة : «يسألونك عن الشهر الحرام» فقسّم غنيمة نخلة.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥٥.

١٨٤

فالتفت النبيّ الى أصحابه فقال : لو أطعتكم فيه آنفا فقتلته دخل النار!.

فأسلم ، وحسن اسلامه ، وجاهد في الله حتى قتل شهيدا يوم بئر معونة (١).

والآيتان التاليتان قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢).

قال الطبرسي في «مجمع البيان» : آيتان في الكوفي ، وآية واحدة فيما عداه ، عدّ الكوفي «تتفكّرون» آية ، وتركها غيره (٣).

وقد التزم بعض المفسّرين بذكر وجه انتظام الآيات في السورة ، بل والسور في المصحف ، والطبرسي من هؤلاء كما في تفسيره وفي مقدمته : ثم اقدّم في كل آية ذكر الاختلاف في القراءات ، ثم ذكر انتظام الآيات (٤) وقد ذكر وجها لاتصال الآيات السابقة بما قبلها ، أمّا في هاتين الآيتين فكأنّه استبدل عن ذلك بذكر سبب النزول فقال : نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر فانها مذهبة للعقل مسلبة للمال. فنزلت الآية (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٥ بتصرف يسير.

(٢) البقرة : ٢١٩ و ٢٢٠.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٥٥.

(٤) مجمع البيان ١ : ٧٧.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٥٥٧.

١٨٥

وقد روى الكليني في «الكافي» عن علي بن يقطين قال : سأل المهدي (العبّاسيّ) أبا الحسن (الكاظم) عليه‌السلام عن الخمر : هل هي محرمة في كتاب الله عزوجل؟ فان الناس انما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها!

فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : بل هي محرمة.

فقال : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عزوجل يا أبا الحسن؟

فقال : قول الله تعالى : (... إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...)(١) فأما الاثم فهي الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

فقال المهدي : يا علي بن يقطين ، هذه فتوى هاشمية.

فقلت له : صدقت يا أمير المؤمنين ، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت. فو الله ما صبر المهدي أن قال لي : صدقت يا رافضي! (٢).

وقد نقل الطوسي في «التبيان» هذا المعنى عن العامة منهم الحسن البصري قال : هذه الآية تدل على تحريم الخمر ، لأنّه ذكر أن فيها إثما ، وقد حرّم الله الاثم بقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) على أنه قد وصفها بأنّ فيها اثما كبيرا ، والكبير يحرم بلا خلاف (٣).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : قال الحسن : في الآية تحريم الخمر من وجهين : احدهما : قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فانه اذا زادت مضرة الشيء على منفعته اقتضى العقل الامتناع عنه.

__________________

(١) الاعراف : ٣٣.

(٢) فروع الكافي ٦ : ٤٦ ، الحديث الأوّل.

(٣) التبيان ٢ : ٢١٣.

١٨٦

والثاني : أنه بيّن أنّ فيهما الإثم ، وقد حرّم في آية اخرى الإثم فقال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ)(١).

ولا ارتباط بين هذا السؤال والجواب وبين بدر وما تلاها.

أمّا المقطع الآخر من الآية : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ)؟

وقد سبقت الآية المماثلة : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ)؟ قبل أربع آيات ، واختلف الجواب : فهناك (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) وهنا : (قُلِ الْعَفْوَ) وقد مرّ هناك أنّ السائل كان عمرو بن الجموح ، وقد مرّ هناك احتمال أن يكون الباعث على السؤال الآية التي تسبقها بعشر آيات : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) وهنا يكرّر الطبرسي : أنّ السائل عمرو بن الجموح ، ويصرّح بأنّه : سأل عن النفقة في الجهاد (٣) فلعلّه قد تكرّر السؤال مرة اخرى عن حدّ الانفاق فاجيب (قُلِ الْعَفْوَ).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : العفو : ما فضل عن قوت السنة.

وروى عن الصادق عليه‌السلام قال : العفو هاهنا : الوسط (٤).

وروى العياشي في تفسيره عنه عليه‌السلام أربع روايات بذلك عن يوسف ، وأبي بصير ، وعبد الرحمن ، وجميل بن درّاج ، وتلا قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وقال : هذه هي الوسط (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٥٥٨.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٥٨.

(٤) التبيان ٢ : ٢١٤. وعنه في مجمع البيان ٢ : ٥٥٨.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٠٦.

١٨٧

أمّا الآية التالية : (... وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) فهي مناسبة مع توالي وقعة بدر وسقوط شهداء فيها وبقاء يتامى لهم بين المسلمين لأوّل مرة ، فيسألون عن تكليفهم بالنسبة إليهم. فاجيبوا بأنهم اخوانهم فليخالطوهم وليصلحوا أمرهم وشأنهم.

زكاة الفطرة وعيد الفطر :

وكأنه لما تكرّر السؤال عن الانفاق لما حصل المسلمون على ما يعتدّ به من المال من غنائم بدر وفداء الاسراء ، ناسب أن يأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باخراج زكاة الفطر في هذه السنة ، كما قال المسعودي (١). وخرج بالناس الى المصلّى في العيد ولم يخرج قبل ذلك ، وذبح في المصلّى شاة أو شاتين بيده ، ووضعت العنزة ـ وهي الرمح الصغيرة ـ بين يديه ، كما قال اليعقوبي (٢).

وروى الواقدي في العنزة عن الزبير بن العوّام قال : كانت في يدي يوم بدر عنزة ، اذ لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص على فرس وعليه لامة كاملة لا يرى منه الا عيناه ، فطعنت بالعنزة في عينه ، فوقع ، فوطأت برجلي على خدّه حتى أخرجت العنزة من حدقته فأخرجت حدقته. فأخذ رسول الله العنزة فكانت تحمل بين يديه (٣).

وروى في «الجعفريات» بسنده عن الصادق عن علي عليهما‌السلام قال : كانت

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢٠٦.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٤٦.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٨٥ بهامشه عن نوادر ثعلب : ١٢٦ قال : كان الامام اذا صلّى جعلها بين يديه ووقف دونها ، فتكون على ناحية منه ، فسمّيت العنزة من قولهم : اعتنز الرجل ، اذا تنحّى.

١٨٨

لرسول الله عنزة في أسفلها عكاز يخرجها في العيدين يصلي إليها ويتوكّأ عليها (١).

بينما روى بسنده عن علي عليه‌السلام أيضا قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يخرج السلاح الى العيدين ، الا أن يكون عدوا حاضرا (٢) ولا منافاة بينهما ووجه الجمع ظاهر.

وفسّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا اليوم ما جاء في آيات الصيام : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فقد روى الكليني في «اصول الكافي» عن الريان بن الصلت وياسر خادم الرضا عليه‌السلام أنّ المأمون العباسيّ لمّا حضر العيد سأل الرضا عليه‌السلام أن يصلّي العيد ويخطب ، فاستعفاه الرضا عليه‌السلام وقال : إن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله وأمير المؤمنين عليهما‌السلام. فقال المأمون : اخرج كيف شئت. فلما طلعت الشمس قام فاغتسل ، وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن القى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفيه .. ثم أخذ بيده عكازا ثم خرج ... فلما مشى ... كبّر أربع تكبيرات قال : الله اكبر ، الله أكبر ، الله اكبر ، الله اكبر على ما هدانا ، والله أكبر على ما أولانا (٣).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : أما إنّ في الفطر تكبيرا ، ولكنّه مسنون. قلت : كيف أقول؟ قال : تقول : الله اكبر الله اكبر الله اكبر ، لا إله الا الله والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد ، الله اكبر على ما هدانا. ثم قال : وهو قول الله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ)(٤).

__________________

(١) الجعفريات : ١٨٤ وفي من لا يحضره الفقيه مثله خبران ١ : ٥٠٩ ط طهران.

(٢) الجعفريات : ٣٨. وفي فروع الكافي ٣ : ٤٦١ الحديث ٦ والتهذيب ١ : ٢٩٢ مثله خبران.

(٣) اصول الكافي ، باب مولد الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٨٩ ط طهران.

(٤) فروع الكافي ٤ : ١٦٦ ح ١ ورواه العياشي في تفسيره ١ : ٨٢ والصدوق في الفقيه ٢ : ١٦٧ ط طهران والخصال ٢ : ٦٠٩ والطوسي في التهذيب ٣ : ١٣٨ ح ٣١١.

١٨٩

غزوة بني سليم :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : ولم يقم رسول الله بالمدينة لما رجع إليها من بدر الا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم ، حتى بلغ ماء من مياههم يقال له : الكدر (١) ، فأقام عليه ثلاث ليال ولم يلق كيدا فرجع الى المدينة (٢).

واختصر الخبر ابن شهرآشوب في «مناقب آل أبي طالب» (٣) وأظن أن الطبرسي نقله عن نص ابن اسحاق في السيرة (٤) ، ولم يعين فيها يوم خروجه ، ولكن الطبري بعد نقله لنص ابن اسحاق نقل عن بعضهم قال : خرج من المدينة يوم الجمعة غرّة شوال أي يوم عيد الفطر بعد ما ارتفعت الشمس من السنة الثانية للهجرة (٥).

ونقل الطبري عن بعضهم قال : لم يلق النبي كيدا في غزوة الكدر وساق الرّعاء والنعم فغنم وسلم ، وكان قدومه منها لعشر خلون من شوّال (٦).

سرية بني سليم :

قال : ويوم الأحد ولعشر ليال مضين من شوال بعث غالب بن عبد الله الليثي في سرية الى بني سليم وغطفان ، فقتلوا فيهم وقتل منهم ثلاثة

__________________

(١) قرارة الكدر على ثمانية برد من المدينة الى جهة مكة ـ الطبقات ٢ : ١٢.

(٢) اعلام الورى ١ : ١٧٢.

(٣) المناقب ١ : ١٩٠.

(٤) ابن هشام ٣ : ٤٦.

(٥) الطبري ٢ : ٤٨٢.

(٦) الطبري ٢ : ٤٨٣.

١٩٠

وأخذوا النعم وانصرفوا بالغنيمة الى المدينة يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال (١).

وعن سبب الغزوة والسرية الى بني سليم وغطفان قال : بلغه اجتماعهم عليه (٢). اذ كان البدء بحصار بني قينقاع يوم السبت للنصف من شوال في قول الواقدي (٣) وعليه فمقدمات الغزوة وقعت في هذه الفترة (ثلاثة أيام) بين عودة الرسول من بني سليم وحصر بني قينقاع. وحيث يستمر حصارهم الى هلال ذي القعدة فقبل نقل خبرهم هناك خبران آخران مما وقع في شوال هذه السنة ، ولعل الخبر الأول يرتبط بالآيات التالية من سورة البقرة في :

تزويج المشركين والزواج بالمشركات :

قوله سبحانه : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٤) وقد رووا في شأن نزولها أخبارا مختلفة منها ما لا علاقة لها بأحداث ما بعد بدر ، كما :

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن مقاتل قال : بلغنا : أنها كانت أمة (لحذيفة بن اليمان) فأعتقها وتزوجها .. فطعن عليه ناس وقالوا : نكح أمة!

__________________

(١) الطبري ٢ : ٤٨٣.

(٢) الطبري ٢ : ٤٨٢.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٧٦.

(٤) البقرة : ٢٢١.

١٩١

فأنزل الله فيهم ذلك (١).

وروى الواحدي في «أسباب النزول» عن السدّي عن ابن عباس قال : إن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء ، وانه غضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره خبرها ، فسأله النبيّ : ما هي يا عبد الله؟ قال : تشهد أن لا إله الا الله وأنك رسول الله ، وتحسن الوضوء وتصلي وتصوم. فقال : يا عبد الله هذه مؤمنة. فقال عبد الله : فو الذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوّجنّها. ففعل. فطعن عليه ناس وقالوا : نكح أمة! فأنزل الله فيهم : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)(٢).

ومن الأخبار ما لعله يرتبط بما حدث بعد بدر : فقد قال الطبرسي في «مجمع البيان» : نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، بعثه رسول الله الى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين. وكان قويا شجاعا ، وكانت بينه وبين امرأة يقال لها عناق خلّة في الجاهلية ، فدعته الى نفسها فأبى. فقالت : هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال : حتى أستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلما رجع استأذن في التزويج بها ، فنزلت الآية (٣).

ونقله الطباطبائي في «الميزان» وقال : رواه السيوطي عن ابن عباس أيضا.

ثم قال : ولا تنافي بين هذه الروايات الواردة في أسباب النزول ، لجواز وقوع عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها (٤).

وأقول : ولا يبعد أن يكون مرثد بن أبي مرثد الغنويّ في ارسال رسول

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٥٦ ، ٢٥٧.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٦٥.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٦٠ ، وأسباب النزول للواحدي : ٦٥ ، ٦٦.

(٤) الميزان ٢ : ٢٠٦.

١٩٢

الله له الى مكة ، هو الرجل الآخر مع زيد بن حارثة ، حينما ـ كما ذكر ابن اسحاق ـ بعثهما رسول الله مع صهره أبي العاص بن الربيع لمّا خلّى سبيله الى مكة ، وقال لهما : كونا ببطن ياجج (١) حتى تمرّ بكما زينب ، فتصحباها حتى تأتياني بها. وذلك بعد بدر بشهر أو قريب منه.

ثم روى عن زينب : أنها لما فرغت من جهازها قدّم لها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته ، فخرج بها في هودج لها يقودها نهارا.

وتحدث بذلك رجال من قريش ، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى ، فكان أول من سبق إليها هبّار بن الأسود و (نافع بن عبد القيس) الفهري ، فروّعها هبّار بالرمح وهي في هودجها ، وكانت المرأة حاملا فلما ريعت طرحت ما في بطنها!

فبرك حموها كنانة بن الربيع وقال : والله لا يدنو منّي رجل الا وضعت فيه سهما!

وأتى أبو سفيان في جمع من قريش فقال له : أيها الرجل ، كفّ عنّا نبلك حتى نكلّمك. فكفّ. فأقبل ابو سفيان حتى وقف عليه فقال : إنك لم تصب ، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية ، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد! فاذا خرجت بابنته من بين أظهرنا ، إليه علانية على رءوس الناس يظن الناس أن ذلك عن ذلّ أصابنا من مصيبتنا التي كانت ، وأن ذلك منّا ضعف ووهن. ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة وما لنا في ذلك من ثأر ، ولكن ارجع بالمرأة حتى اذا هدأت الأصوات وتحدّث الناس أن قد رددناها ، فسلّها سرّا

__________________

(١) يأجج : اسم لمكانين : على ثمانية أميال من مكة ، وأقرب منه على موضع مسجد الشجرة بينه وبين مسجد التنعيم ميلان ٣ كم تقريبا. ومسجد التنعيم اليوم متصل بمكة.

١٩٣

وألحقها بأبيها.

فقبل كنانة وفعل ذلك. فأقامت ليالي حتى اذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها الى زيد بن حارثة وصاحبه ، فقدما بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وعليه ، فالآية اذ نزلت كان تأييدا لما فعل الرسول من الفصل بين ابنته المسلمة وزوجها المشرك.

ومن آيات الاحكام التي لها ارتباط تام بما بعد بدر وشهادة الشهداء الأربعة عشر فيها : آية عدة المتوفّى عنها زوجها أو الشهيد ، وفيها آيتان هما الآية ٢٣٤ و ٢٤٠. وقبلهما وبينهما آيات احكام هي وأسباب نزولها من تاريخ صدر الاسلام ، فلا بأس بالامام بها.

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن أنس بن مالك قال : كان اليهود اذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجتمعوا معها في البيوت. وروى عن السدّي ومقاتل قال : فسأل ثابت بن الدحداحة الأنصاري (٢) فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٨ ـ ٣١٠. وذكر السهيلي في «الروض الانف» في شرح هذا الموضع من السيرة : أن هبارا نخس بها الراحلة فسقطت على صخرة وهي حامل ، فهلك جنينها ، ولم تزل تهريق الدماء. ماتت بالمدينة بعد اسلام بعلها أبي العاص بن الربيع. ولذلك روى ابن اسحاق عن أبي هريرة قال : بعث رسول الله بسريّة أنا فيها وقال لنا : ان ظفرتم بهبّار بن الأسود أو نافع بن عبد القيس الفهري فاقتلوهما ـ سيرة ابن هشام ٢ : ٣١٢.

(٢) هو الذي صاح يوم احد : يا معشر الأنصار ان كان محمد قد قتل فان الله حي لا يموت فقاتلوا عن دينكم فالله ناصركم. فنصره نفر من الأنصار. فوقفت له كتيبة خالد بن الوليد

١٩٤

فِي الْمَحِيضِ) ، فقال رسول الله : جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء الا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا الا خالفنا فيه (١).

وروى الطوسي عن الحسن والربيع وقتادة قالوا : إنما سألوا عن المحيض لأنهم كانوا على تجنّب امور من : مواكلة الحائض ومشاربتها ، حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد. فاستعلموا : أواجب هو أم لا (٢).

ونقله عنه الطبرسي في «مجمع البيان» وبيّن : أنهم كانوا في الجاهلية يتجنّبون ذلك (٣) فان كان فقد تأثروا في ذلك واقتبسوه من أهل الكتاب واليهود خصوصا.

والآية أمرت باعتزالهنّ : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ولكنها فسّرت الاعتزال : (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) وحددت ذلك بأجله : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ثم شرعت التطهير منه (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) أو قاربوهنّ ، جوازا ، اذ هو أمر عقيب الحظر ، ولتكن المقاربة (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) باجتنابه ، وهو الفرج (٤).

فلو كان المسلم يقاربها ولا يعتزلها فهو الآن يشعر وكأنه كان عاصيا مذنبا ، ولو كان يعتزلها اكثر من اللازم كاليهود فكذلك أيضا ، فقال الله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) ثم علّل الاعتزال حتى التطهير بقوله سبحانه : (وَيُحِبُ

__________________

ـ وحمل عليه خالد فطعنه بالرمح فقتله شهيدا ـ مغازي الواقدي ١ : ٢٨١ وهذا يليق به أن يكون متقيا يسأل عن ذلك.

(١) الدر المنثور ١ : ٢٥٨.

(٢) التبيان ٢ : ٢١٩ ، ٢٢٠.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٦٢.

(٤) التبيان ٢ : ٢٢٢ عن الربيع ومجاهد وقتادة عن ابن عباس.

١٩٥

الْمُتَطَهِّرِينَ)(١) الطالبين للنظافة عن الحيض والاغتسال منه ومن كل حدث وخبث ، ومنه التطهير من الغائط ، فالآية تشمله باطلاقها ، وقد طبّقها عليه الرسول :

فقد روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : كانوا يستنجون بثلاثة أحجار ، لأنهم كانوا يأكلون البسر وكانوا يبعرون بعرا ، فأكل رجل من الأنصار الدّباء (القرع) فلان بطنه فاستنجى بالماء ... (ثم أتى النبيّ وقال) : يا رسول الله ، اني والله ما حملني على الاستنجاء بالماء الا أني أكلت طعاما فلان بطني ، فلم تغن عني الحجارة شيئا فاستنجيت بالماء.

فقال رسول الله : فكنت أول من صنع ذا ... فان الله قد أنزل فيك الآية : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٢) بمعنى التطبيق لا النزول الخاص.

وعن جريان السنة به روى الكليني في «الكافي» عنه عليه‌السلام أيضا قال : كان الناس يستنجون بالأحجار والكرسف (القطن) ثم احدث الوضوء (اي التطهير بالماء) وهو خلق كريم ، فأمر به رسول الله وصنعه (٣).

عليه فالآية اشارت الى التطهير بالماء من الحيض ، وسنّ الرسول الكريم الغسل منه ، والتطهير من الغائط. ولعل مع تشريع الحيض والغسل منه كان وضع

__________________

(١) وقارن بالميزان ٢ : ٢١٢.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٠٩ ، ١١٠ ورواه الصدوق في الفقيه ، وقال الطباطبائي في الميزان ٢ : ٢١٦ : والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، وفي بعضها : أن أول من استنجى بالماء البراء بن عازب والفيض في الوافي نقل الخبر عن الفقيه وقال : يقال : إن هذا الرجل كان البراء بن مبرور الأنصاري. وأقول : الصحيح هو البراء بن عازب لا ابن مبرور ، فان ابن مبرور كان قد توفي قبيل هجرة الرسول فصلى على قبره كما مرّ.

(٣) فروع الكافي ٣ : ١٨ ، الحديث ١٣.

١٩٦

الصلاة والصيام عن الحائض مع قضاء الصيام.

وكما كان اليهود مبتدعين باعتزال الحائض اكثر من اللازم ، كذلك كانوا مبتدعين بالمضايقة في كيفية إتيان النساء.

فقد روى العياشي في تفسيره عن الصادق والرضا عليهما‌السلام قالا : إن اليهود كانت تقول : اذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول! فأنزل الله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) يعني من خلف أو قدام ، خلافا لقول اليهود ، ولم يعن في أدبارهن (١) وهو بذلك يردّ على ما ورد في صدر الخبر ، حيث نقل له معمّر بن خلّاد عن أهل المدينة أنهم كانوا لا يرون بأسا في اتيان النساء في أعجازهن. ويبدو أنهم أخذوا ذلك من فقيههم مالك بن أنس :

فقد نقل السيوطي في «الدر المنثور» عن أبي سليمان الجوزجاني قال : سألت مالك بن أنس عن وطء الحلائل في الدبر ، قال : الساعة غسلت رأسي عنه.

واستند مالك في ذلك الى ما أسنده عن نافع القارئ قال : قال لي ابن عمر : أمسك عليّ المصحف يا نافع. فأمسكت وقرأ حتى أتى على قوله سبحانه : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال لي : يا نافع تدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت : لا ، قال : نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله الآية. قلت له : من دبرها في قبلها. قال : لا ، إلا في دبرها. ولذلك كان ابن عباس يأخذ ذلك على ابن عمر :

ففيه عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهم ، إنما كان هذا الحيّ من الأنصار ـ وهم أهل وثن ـ مع هذا الحيّ من يهود وهم أهل

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١١١.

١٩٧

كتاب ، وكان يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم. وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء الا على حرف ، فكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم. بينما كان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ويتلذّذون ، مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فانكرته عليه وقالت : إنما كنّا نؤتى على حرف ، فاصنع ذلك ، والا فاجتنبني! فسرى أمرهما حتى بلغ ذلك رسول الله فأنزل الله عزوجل : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد ورواه ابن داود في سننه.

كما روى السيوطي مختصره عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة ، بينما كانت قريش تشرح شرحا كثيرا. فتزوّج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت ، لا ، الا كما نفعل. فاخبر رسول الله بذلك فانزل : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي قائما وقاعدا ومضطجعا في صمام واحد (١) أي في مدخل واحد هو القبل دون الدبر.

ولذلك روى العياشي في تفسيره عن صفوان بن يحيى عن بعض أصحابنا قال : سألت أبا عبد الله الصادق عن قول الله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال : من قدّامها ومن خلفها في القبل.

وعن زرارة قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن قول الله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال : من قبل.

وعليه تحمل الرواية الاخرى عن زرارة أيضا عن الباقر عليه‌السلام قال : حيث

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٦١.

١٩٨

شاء. يعني من القبل (١).

وعن النظم والترتيب الطبيعيّ لنزول الآيات الأربع التالية من الآية ٢٢٤ حتى الآية ٢٢٧ قال الطبرسي في «مجمع البيان» : لما بيّن سبحانه أحوال النساء وما يحل منهنّ عقّبه بذكر الايلاء ، وهو : اليمين التي تحرّم الزوجة ، فابتدأ بذكر الأيمان أولا تأسيسا لحكم الايلاء فقال : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢) ثم بيّن سبحانه أقسام اليمين فقال : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٣) ثم بيّن تعالى حكم الايلاء لأنه من جملة الأيمان والأقسام ، وشريعة من شرائع الاسلام ، فقال : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٤) ثم بيّن سبحانه حكم الطلاق والمطلقات ومتعلقاتها في خمس عشرة آية من الآية ٢٢٨ حتى الآية ٢٤٢ ، فالاولى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...) في سبب نزولها في سنن أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طلّقت على عهد رسول الله ولم يكن للمطلّقة عدة ، فانزل حين طلّقت العدة للطلاق : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(٥).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١١١.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٥٦٦ ونقل أن عبد الله بن رواحة حلف أن لا يصلح بين اخته وزوجها ، فكان يقول : اني حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله ، فنزلت الآية. ولا يستقيم هذا مع الحكم الفقهي في المسألة فان عقد اليمين غير مشروط بالرجحان ، فهو مردود. ولعله لذلك لم يذكره الطوسي في التبيان ولا العلامة في الميزان.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٦٨.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٥٧٠.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ٢٨٥.

١٩٩

وما يتعلق منها صدقا وانطباقا على أزواج شهداء بدر هو ما يبيّن حكم عدة المتوفى عنها زوجها ، وقد نزل بهذا الشأن آيتان ، احداهما الآية : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١).

وقد نقل المرتضى عن تفسير النعماني بسنده عن علي عليه‌السلام قال : إنّ العدة كانت في الجاهلية على المرأة سنة كاملة ، كان اذا مات الرجل القت المرأة خلف ظهرها شيئا بعرة أو ما يجري مجراها وقالت : البعل أهون عليّ من هذه ، ولا اكتحل ولا أمتشط ولا أتطيّب ولا أتزوّج سنة. فكانوا لا يخرجونها من بيتها بل يجرون عليها من تركة زوجها سنة. فأنزل الله في أول الاسلام : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فلما قوي الاسلام أنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ...)(٢).

وقد روى العياشي في تفسيره عن ابي بصير قال : سألت ابا جعفر الباقر عليه‌السلام عن الآية : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) قال : هي منسوخة ، نسختها : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) قلت : وكيف كانت؟ قال : كان الرجل اذا مات انفق على امرأته من صلب المال حولا ثم اخرجت بلا ميراث ، ثم نسختها آية الربع والثمن ، فالمرأة

__________________

(١) البقرة : ٢٤٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٤٥٣.

٢٠٠