موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا. فاغتمّ من ذلك رسول الله غمّا شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر في آفاق السماء ينتظر أمر الله تبارك وتعالى في ذلك ، فلما أصبح وحضرت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى بهم (من) الظهر ركعتين ، نزل جبرئيل عليه‌السلام فأخذ بعضديه فحوّله الى الكعبة فصلى ركعتين الى الكعبة وأنزل عليه قوله سبحانه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ* وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(١).

قال القمي : فقالت اليهود والسفهاء من الناس : ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟! فنزل قوله سبحانه : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ

__________________

(١) البقرة : ١٤٤ ـ ١٥٢.

١٦١

قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

قال القمي : صلى رسول الله الى بيت المقدس بمكة ثلاثة عشر سنة ، وبعد مهاجرته الى المدينة سبعة أشهر ، ثم حوّل الله القبلة الى البيت الحرام (٢).

هذا ما قاله القمي في تفسيره ، ولكنّ الطبرسي رواه عنه في «مجمع البيان» باسناده عن الصادق عليه‌السلام (٣) واختصر الخبر في «إعلام الورى» قال : قال علي بن ابراهيم : وكان رسول الله يصلي الى بيت المقدس مدة مقامه بمكة ، وبعد هجرته حتى أتى سبعة أشهر ، فلما أتى له سبعة أشهر عيرته اليهود وقالوا له : أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا ، ونحن أقدم منك في الصلاة. فاغتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك ، وأحبّ أن يحوّل الله قبلته الى الكعبة ، فخرج رسول الله في جوف الليل ونظر الى آفاق السماء ينتظر أمر الله. وخرج في ذلك اليوم الى مسجد بني سالم الذي جمّع فيه أول جمعة كانت بالمدينة ، وصلّى بهم الظهر هناك ، بركعتين الى بيت

__________________

(١) البقرة : ١٤٢ و ١٤٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٦٣ ويقول القمي : إن قوله تعالى : «قد نرى تقلب وجهك في السماء» نزل أولا ، ثم نزل : «سيقول السفهاء من الناس» فهذه الآية متقدمة على تلك في الجمع. ونقله الطوسي عن قوم قالوا به (التبيان ١ : ١٣) وهذا انما يلزم فيما لو كان تحويل القبلة بالآيات ، وردّه يستلزم القول بأن تحويل القبلة لم يكن بالآيات بل كان بعمل جبرئيل وتحوّل الرسول ، فقال سفهاء اليهود : ما ولّاهم؟! فنزلت الآيات كلها دعما لعمل الرسول.

(٣) مجمع البيان ١ : ٤١٣.

١٦٢

المقدس وركعتين الى الكعبة ، ونزل عليه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(١).

وقال الصدوق ابن بابويه القمي في «من لا يحضره الفقيه» : صلى رسول الله الى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة بمكة ، وتسعة عشر شهرا بالمدينة ، ثم عيّرته اليهود فقالوا له : انك تابع لقبلتنا ، فاغتمّ لذلك غمّا شديدا ، فلما كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء.

فلما أصبح صلّى الغداة ، فلما صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل عليه‌السلام فقال له : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ثم أخذ بيد النبيّ فحوّل وجهه الى الكعبة ، وحوّل من خلفه وجوههم ، حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال. فكان أول صلاته الى بيت المقدس وآخرها الى الكعبة.

وبلغ الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو الكعبة ، وكان أول صلاتهم الى بيت المقدس وآخرها الى الكعبة ، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.

فقال المسلمون : صلاتنا الى بيت المقدس تضيع يا رسول الله؟

فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) يعني : صلاتكم الى بيت المقدس.

ثم قال الصدوق : وقد اخرجت الخبر في ذلك على وجهه في

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٦٢. وأما تأريخه الحدث بسبعة أشهر بعد الهجرة يصحّ فيما لو قدّرنا ذلك بعد السنة الاولى للهجرة ، فيكون المجموع تسعة عشر شهرا وينسجم مع ما جاء في الخبر الأول : بعد بدر ، ومع الخبر الثاني : تسعة عشر شهرا.

١٦٣

«كتاب النبوة» (١).

والخبر على وجهه في المسجد بالمدينة الذي بلغ أهله الخبر وقد صلوا من العصر ركعتين :

هو ما أخرجه شاذان بن جبرئيل القمي في رسالة «ازاحة العلة في معرفة القبلة» بسنده عن أحدهما عليهما‌السلام قال : ان بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلوا ركعتين الى بيت المقدس ، فقيل لهم : ان نبيّكم حرف الى الكعبة. فتحوّل النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين الى الكعبة ، فصلّوا صلاة واحدة الى قبلتين ، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين (٢).

وكذلك الخبر على وجهه في قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) فقد روى العياشيّ في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : لما حرف الله نبيّه عن بيت المقدس قال المسلمون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي الى بيت المقدس ما حالنا فيها؟ وحال من مضى من موتانا وهم كانوا يصلون الى بيت المقدس؟ فأنزل الله الآية (٣).

وروى الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس وقتادة والربيع قالوا : لما حوّلت القبلة قال ناس : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الاولى؟ وكيف من مات من اخواننا قبل ذلك؟ فأنزل الله الآيات (٤).

__________________

(١) كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٤ ، ٢٧٦ ط طهران. فعلم أن النصّ كان تلخيص خبر.

(٢) ازاحة العلة : ٢ ، وعنها في التهذيب ٢ : ٤٣ ح ١٣٨ ، ورواه في التبيان ٢ : ١١ وعن ابن عباس أيضا ، وعنه في مجمع البيان ١ : ٤١٧.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٦٣.

(٤) التبيان ٢ : ١١ وعنه في مجمع البيان ١ : ٤١٧.

١٦٤

وروى الطبرسي في «الاحتجاج» عن العسكري عليه‌السلام قال : لما كان هوى أهل مكة في الكعبة أراد الله أن يبيّن متّبعي محمد ممن خالفه باتباع القبلة التي كرهها هو ومحمد يأمر بها. ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه الى الكعبة ليبيّن من يوافق محمدا فيما يكرهه. قال : ذلك في قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا ...)(١).

آيات أخرى من سورة البقرة :

مرّ أن بني العفراء كانوا قد عقدوا مجلس عزاء على أبنائهم الشهداء عوف ومعوّذ ، وأن سودة زوج النبي كانت قد حضرت مأتمهم ذلك اذ دخل رسول الله المدينة راجعا من بدر.

وقد مرّ آنفا أنّ تحويل القبلة من المقدس الى الكعبة كان بعد بدر ، ونزلت بشأنه آيات هي لعلّها العشرة من الآية ١٤٢ الى الآية ١٥٢ من سورة البقرة آخرها قوله سبحانه : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

ولم أجد فيما بأيدينا شأن نزول خاص للآية التالية ، ولكنّي استظهر أنها نزلت بشأن شهداء بدر ، قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢) أما قوله سبحانه : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٤٥ ، ٤٦.

(٢) البقرة : ١٥٣.

١٦٥

وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١) فقد نقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن ابن عباس أنها نزلت في قتلى بدر ، كانوا يقولون : مات فلان فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقد قتل يومئذ من المسلمين أربعة عشر رجلا : ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار (٢) وعليه فهذا اول بيان بهذه الفكرة : فكرة حياة الشهداء ، مع أول عدد من الشهداء في أول غزوة مصيريّة بينهم وبين مشركي مكة عاصمة الشرك والوثنية ولعلهم لذلك سمّوا شهداء أي هم شهود حضور.

أما الآية التالية : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(٣).

فقد روى العيّاشي في تفسيره عن بعض أصحابنا قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام قلت : أليس الله يقول : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)؟

قال : إن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام (عن الصفا والمروة) في عمرة القضاء؟ فتشاغل رجل من أصحابه حتى اعيدت الأصنام ، فجاؤوا الى رسول الله وقيل له : إن فلانا لم يطف وقد اعيدت الأصنام؟ فأنزل الله الآية (٤).

ونقل القمي معناه وقال : فلما كان عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة (٥)

__________________

(١) البقرة : ١٥٤ ـ ١٥٧.

(٢) مجمع البيان ١ : ٤٣٣.

(٣) البقرة : ١٥٨.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٧٠ ورواه الطبرسي في مجمع البيان ١ : ٤٤٠ وأشار إليه قبله الطوسي في التبيان ٢ : ٤٤.

(٥) تفسير القمي ١ : ٦٤.

١٦٦

وعليه فالآية في غير محلّها من حيث ترتيب النزول في السورة.

ولكن روى الطبرسي في «مجمع البيان» خبرا آخر عن الصادق عليه‌السلام أيضا قال : كان المسلمون يرون أن الصفا والمروة مما ابتدع أهل الجاهلية ، فأنزل الله هذه الآية (١) وقد مرّ أن بعض المسلمين كانوا يحجون أو يعتمرون قبل عمرة القضاء ومنهم سعد بن النعمان بن أكّال الأنصاري بعد بدر ، الذي حبسه أبو سفيان رهينة لابنه الأسير عمرو بن أبي سفيان حتى أطلقه المسلمون بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. كما اعتمر قبله قبل بدر سعد بن معاذ أيضا (٢).

فلعلّ هذا الظنّ من المسلمين كان اذ ذاك ، فنزلت الآية في سياق آيات سورة البقرة بعد بدر لتدفع ذلك الوهم لديهم.

وكما أن الآية السابقة غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة (٣) كذلك هي غير متحدة السياق مع ما بعدها ، فهي في الذين يكتمون الهدى والبيّنات من كتاب الله السابق ، وهو التوراة حسب ابتلاء المسلمين بهم في المدينة : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٤).

وروى ابن اسحاق بسنده الى ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل ، وسعد ابن معاذ ، وخارجة بن زيد نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٤٤٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٥.

(٣) الميزان ١ : ٣٨٨.

(٤) البقرة : ١٥٩ ، ١٦٠ الى ١٦٩ او اكثر.

١٦٧

فكتموهم اياه وأبوا أن يخبروهم عنه فأنزل الله تعالى فيهم الآيات (١).

وروى الطوسي عنه أيضا : انهم اليهود مثل كعب بن الأشرف ، وكعب بن اسيد ، وابن صوريا ، وزيد بن تابوه ، الذين كتموا أمر محمد ونبوته وهم يجدونه مكتوبا في التوراة. او علماء النصارى وهم يجدونه مكتوبا في الانجيل مبيّنا فيهما (٢) والآيات متّسقة الى الآية ١٦٩.

والآية : ١٧٠ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الى الآية ١٧٧ متّسقة السياق موصولة في المعنى.

وروى ابن اسحاق بسنده عن ابن عباس : انّ رسول الله دعا اليهود من أهل الكتاب الى الاسلام ورغّبهم فيه وحذّرهم عذاب الله ونقمته ، فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا أعلم وخيرا منّا. فأنزل الله في ذلك : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ..)(٣).

بل إن الآية ١٧٧ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ...) وما نقله الطوسي في «التبيان» قال : قيل : لما حوّلت القبلة وكثر الخوض في ذلك ، فصار كأنه لا يراعى بطاعة الله الّا التوجه للصلاة ، أنزل الله تعالى هذه الآية ، وبين فيها : أن البرّ ما ذكره فيها. ودلّت على أن الصلاة انما يحتاج إليها لما فيها من المصلحة الدينية ، وأنه إنما يأمر بها لما في علمه أنها تدعو الى

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٠٠.

(٢) التبيان ٢ : ٤٦ وعنه في مجمع البيان ١ : ٤٤١.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٠٠ ورواه عن ابن عباس الطوسي في التبيان ٢ : ٧٦. وعنه في مجمع البيان ١ : ٤٦١.

١٦٨

الصلاح وتصرف عن الفساد ، وإن ذلك يختلف بحسب الأزمان والأوقات (١).

ونقل الطبرسي عن قتادة أنها نزلت في اليهود ، وعن أبي القاسم البلخي : أن القبلة لما حوّلت وكثر الخوض في نسخ القبلة السابقة واكثر اليهود ذكرها كأنه لا يراعى بطاعة الله الا التوجه للصلاة أنزل الله هذه الآية (٢).

فالآية وهذا الشأن في النزول يدلّان أو يشيران الى اتحاد سياق الآيات من الآية الاولى في القبلة : ١٤٢ حتى هذه الآية ، ولا مانع من ذلك مع سبق الأسباب المذكورة.

وهنا آيتان في القصاص : ١٧٨ و ١٧٩. ثم ثلاث آيات في الوصية : ١٨٠ ـ ١٨٢ لم أجد بشأنها سببا خاصا للنزول.

ثم تأتي أربع آيات ١٨٣ ـ ١٨٦ في صيام شهر رمضان والدّعاء ، لا يذكر بشأنها سوى أنها نزلت لصيام شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة ، ولا نجد تحديدا لنزولها قبل شهر رمضان أو قبل سفر الرسول فيه للتعرّض لعير قريش ، ولا نجد تصريحا بأن تشريع صيام شهر رمضان كان بها لا بسنة الرسول. وحيث نجدها في المصحف بعد آيات تحويل القبلة ، وقد مرّت النصوص المصرّحة بكون ذلك بعد بدر ، فلا مانع من أن يكون صيام شهر رمضان شرّع بسنة الرسول قبل نزول الآيات ، وكذلك افطار الصيام في الأسفار بعد حدّ الترخّص كما مر ، وبعد رجوع الرسول من بدر وتحويل القبلة ونزول الآيات ، نزلت معها آيات الصيام.

أو نزلت مع ما يذكر من شأن نزول للأخيرة من آيات الصيام الخمس : ١٨٧ : ففي تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : كانوا من قبل أن تنزل هذه

__________________

(١) التبيان ٢ : ٩٥.

(٢) مجمع البيان ١ : ٤٧٥.

١٦٩

الآية اذا نام أحدهم حرم عليه الطعام ، وكان خوّات بن جبير مع رسول الله في الخندق وهو صائم ، فأمسى على ذلك ، فرجع الى أهله فقال : هل عندكم طعام؟ فقالوا : لا تنم حتى نصنع لك طعامك. فاتّكأ فنام. فقالوا : قد فعلت؟ قال : نعم ، فبات على ذلك وأصبح ، فغدا الى الخندق ، فجعل يغشى عليه. فمرّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما رأى الذي به سأله فأخبره كيف كان أمره. فنزلت الآية (١).

ورواه القمي في تفسيره عن أبيه ابراهيم بن هاشم مرفوعا عن الصادق عليه‌السلام قال : كان النكاح والاكل محرّمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان (كذا) وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له : خوّات بن جبير الأنصاري أخو عبد الله بن جبير : شيخا كبيرا ضعيفا ، وكان صائما ، فأبطأت أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر ، فلما انتبه قال لأهله : قد حرّم الله عليّ الاكل في هذه الليلة. فلما أصبح حضر حفر الخندق ، فاغمي عليه ، فرآه رسول الله فرقّ له ، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان ، فأنزل الله عزوجل : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ..)(٢).

والخبران يذكران أنّ ابن جبير كأنه كان مجبورا على الصيام وهو في حفر الخندق مع رسول الله ، والخندق قيل : كان في شوال أو ذي القعدة من السنة الخامسة! (٣) وليس في شهر رمضان فلما ذا الصوم مع ذلك وبتلك الكلفة على من لا يطيقه وهو في غير شهر رمضان ، ولا في رجب أو شعبان كي يحتمل أن كان عليه واجب مضيّق ، فلما ذا هذا التضييق؟ ولم لم يأمره الرسول بالافطار إذ رقّ له؟

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٨٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٦٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ٦٦.

١٧٠

أما ما نقله الطوسي في «التبيان» فهو سليم عن كل هذا ، ومنسجم مع اوائل تشريع صيام شهر رمضان : قال : قيل : إن هذه الآية نزلت في شأن أبي قيس بن حرمة كان يعمل في أرض له ، فاراد الاكل ، فقالت امرأته : نصلح لك شيئا ، فغلبته عيناه ، ثم قدمت إليه الطعام فلم يأكل ، فلما أصبح لاقى جهدا ، فأخبر رسول الله بذلك ، فنزلت الآية.

ثم قال : وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام حديث أبي قيس ، سواء (١).

وروي : أن عمر أراد أن يواقع زوجته ليلا ، فقالت : اني نمت. فظنّ أنها تعتلّ عليه فوقع عليها ، ثم أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك من الغد ، فنزلت الآية فيهما (٢).

ورواه الطبرسي عن السدّي عن ابن عباس : جاء الى رسول الله فقال : يا رسول الله ، عملت في النخل نهاري أجمع حتى اذا أمسيت أتيت أهلي لتطعمني ، فأبطأت ، فنمت ، فأيقظوني وقد حرم عليّ الأكل واصبحت وقد جهدني الصوم؟

فقال عمر : يا رسول الله ، أعتذر إليك من مثله : رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء ، فأتيت امرأتي.

وقام رجال فاعترفوا بمثل الذي سمعوا. فنزلت الآية (٣).

وإذ قال الله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فلعل ذلك استدعى بعضهم ليسأل عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها (٤) وحيث كان

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٣٧ و ١٣٨.

(٢) التبيان ٢ : ١٣٧.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٠٣.

(٤) التبيان ٢ : ١٤١.

١٧١

بعضهم قد يحجّون أو يعتمرون كما فعل في تلك الفترة سعد بن النعمان بن اكّال كما مرّ ، وكان قوم في الجاهلية اذا أحرموا ـ أو رجعوا من الحج ـ ينقبون في ظهر بيوتهم نقبا يدخلون منه ويخرجون (١) ، ولا يدخلون بيوتهم من أبوابها ، نزل قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢).

واذا كان تأليف الآيات ضمن كل سورة وفق ترتيب نزولها ، فتكتب واحدة تلو الاخرى تدريجيا حسب النزول حتى تنزل بسملة اخرى فيعرف أن السورة قد انتهت وابتدأت سورة اخرى ، حسب ما رواه العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : وانما كان يعرف انقضاء سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداء للاخرى (٣) وكما رواه اليعقوبي في تاريخه عن ابن عباس قال :

كان يعرف فصل ما بين السورة والسورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم فيعلمون أن الاولى قد انقضت وابتدئ بسورة اخرى (٤).

... فالآيات التالية في القتال نزلت في أجواء ما بعد بدر ، وبعد سريّة النخلة في آخر يوم من شهر رجب الحرام : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٤٢. وعنه في مجمع البيان ٢ : ٥٠٩. وفي وجه السؤال عن الهلال نقل : أن معاذ بن جبل قال : يا رسول الله ، إن اليهود يكثرون مسائلتنا عن الأهلة فنزل.

(٢) البقرة : ١٨٩.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٩.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤ والحاكم في المستدرك ١ : ٢٣١ وانظر التمهيد ١ : ٢١٢ وبحوث في تاريخ القرآن وعلومه : ١٠٤ ـ ١٠٨.

١٧٢

أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ* الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١).

فالآيات أمرت بالقتال في سبيل الله ، ولكنّها نهت عن الاعتداء وعن القتال عند المسجد الحرام (أو الحرم) (٢) الا دفاعا ، وعن القتال في الشهر الحرام الا قصاصا.

وكأنّ بعض الأنصار قال لبعضهم سرّا دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعزّ الاسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيّه يردّ عليهم ما قالوه : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٣) قال ابو أيوب الأنصاري : فكانت التهلكة : الاقامة في الأموال واصلاحها وتركنا الغزو (٤).

ثم تعود الآيات التالية الى فهرسة بعض احكام الحج في ثماني آيات من الآية : ١٩٦ الى الآية : ٢٠٣. ولم أجد فيما بأيدينا سببا خاصا لنزولها ، فهي عود على الآية : ١٨٩ بمناسبة اعتمار بعض المسلمين من الأنصار مثل سعد بن النعمان بن

__________________

(١) البقرة : ١٩٠ ـ ١٩٤.

(٢) روى الطوسي عن عطا عن ابن عباس قال : إن المسجد الحرام : الحرم كله ـ التبيان ٢ : ٢٠٨.

(٣) البقرة : ١٩٥.

(٤) السيد ابن طاوس في مقدمة الملهوف على قتلى الطفوف ، والسيد الطباطبائي في الميزان ٢ : ٧٣ عن الدر المنثور.

١٧٣

اكّال كما مرّ ، أضف الى ذلك أن وقوع القتال في سرية النخلة في آخر شهر رجب الحرام من جانب المسلمين. واستتباعه لاثارة غزوة بدر من جانب المشركين ، استتبع أن قالت قريش : استحلّ محمد الشهر الحرام (١) وقاتل أهل البلد الحرام ولا سيما بجوار الحرم في النخلة ، وكأنه لا يعتدّ بالبلد الحرام ولا بالشهر الحرام. فاستدعى ذلك وبمناسبة السؤال عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها : أن تعنى هذه الآيات بالحج والعمرة وأحكامها ، ردا على ما قالوه وأشاعوه على الاسلام والمسلمين.

ونسخت الآيات : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها)(٢)(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ)(٣) حيث كانت قريش تقول : نحن أولى الناس بالبيت! وكانوا لا يفيضون الا من المزدلفة. فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفة كما عن الصادق عليه‌السلام (٤).

وفي خبر آخر عنه عليه‌السلام أيضا قال : كانت قريش في الجاهلية تفيض من المزدلفة وتقول : نحن أولى بالبيت من الناس! فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفة (٥).

وفي آخر : إن أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ، ويقف سائر الناس بعرفة (٦).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٦٧.

(٢) البقرة : ١٨٩.

(٣) البقرة : ١٩٩.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

١٧٤

وفي آخر : إن قريشا كانت تفيض من جمع (المزدلفة) وربيعة ومضر من عرفات (١).

وفي آخر : إن ابراهيم عليه‌السلام أخرج اسماعيل الى الموقف (بعرفات) فأفاضا منه ، وكان الناس يفيضون منه. فلما كثرت قريش قالوا : لا نفيض من حيث أفاض الناس! فكانوا يفيضون من المزدلفة ، ومنعوا الناس أن يفيضوا معهم ، الا من عرفات. فلما بعث الله محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمره أن يفيض من حيث أفاض الناس (٢).

والخرافة الثالثة المردودة : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ...)(٣) حيث روى العياشي في تفسيره عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيوب ، عن العلاء الحضرمي ، عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن قول الله : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قال : كان الرجال في الجاهلية اذا قاموا بمنى بعد النحر يفتخرون بآبائهم يقولون : أبي الذي حمل الديات والذي قاتل كذا وكذا ، وكانوا يحلفون بآبائهم : لا وأبي لا وأبي (٤).

ومن هنا تبدأ آيات ثلاث تصف بعض الناس ممن تأخذه العزّة بالاثم فهو من المفسدين في الأرض وشديد الخصومة على الدنيا ولكنّه شديد القول في ذمّها ، فهو منافق في ذلك : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٣) البقرة : ٢٠٠.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٩٨ بالتلفيق بين خبرين هما واحد سندا.

١٧٥

بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)(١).

وقد نقل الطوسي في «التبيان» عن السدّي : أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة (٢) وكان يظهر الرغبة في دين النبيّ ويبطن خلاف ذلك (٣).

ويتبادر الى الذهن من هذا أنه كان من منافقي المسلمين بالمدينة ، بينما الرجل كان معدودا في رجال قريش من مكة يوم خروجهم لحرب بدر ، حتى فتح مكة ، فلم يكن من منافقي المدينة يومئذ. ولعله لذلك نقل عن قوم غير السدّي منهم ابن عباس والحسن البصري : أن المعنيّ بهذه الآية كل منافق ومراء (٤) ونقله الطبرسيّ في «مجمع البيان» وأضاف : وهو المرويّ عن الصادق عليه‌السلام (٥).

ثم تنفرد الآية : ٢٠٧ في وصف بعض عباد الله ممّن باعوا أنفسهم لله طلبا لرضاه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) وقال القمي : ومعنى يشري نفسه أي : يبذل نفسه ، وذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام (٦).

وروى العياشي في تفسيره عن ابن عباس قال : شرى عليّ نفسه اذ لبس ثوب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونام مكانه ، فكان المشركون يرون رسول الله ... وجعل يرمى بالحجارة كما كان يرمى رسول الله وهو يتضوّر (٧) ورواه الطبرسي عن

__________________

(١) البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

(٢) التبيان ٢ : ١٧٨ و ١٨١.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٣٤.

(٤) التبيان ٢ : ١٧٧ و ١٨١.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٥٣٤ ولعله يعني ما في تفسير القمي ١ : ٧١.

(٦) تفسير القمي ١ : ٧١.

(٧) تفسير العياشي ١ : ١٠١.

١٧٦

السدّي عن ابن عباس (١).

وروى العياشي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام قال : انها انزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث بذل نفسه لله ولرسوله ليلة اضطجع على فراش رسول الله لما طلبته قريش (٢).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام أيضا قال : نزلت في علي حيث بات على فراش رسول الله لما أرادت قريش قتله ، حتى خرج رسول الله وفات المشركين أغراضهم (٣).

وعليه وعلى القول بالترتيب الطبيعيّ للآيات ، فالآيات هذه نزلت بعد بدر تذكّر باختلاف الناس في مراتب الايمان والتفاني فيه ، ومنهم المثل الأعلى عليّ عليه‌السلام.

وعلى القول بالترتيب الطبيعيّ للآيات ، فالآيات هذه نزلت بعد بدر ، بعد ما زلّ بعض المؤمنين فاتّبعوا خطوات الشيطان فتنازعوا في الغنائم والأسرى ، ولم يستسلموا لله ولرسوله مطلقا ، بعد ما جاءتهم البيّنات بنزول الملائكة مددا لهم! فهل هم أيضا ينتظرون ما كان المشركون ينتظرون : أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام؟! (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٤).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٥٣٥.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٠١.

(٣) التبيان ٢ : ١٨٣.

(٤) البقرة : ٢٠٨ ـ ٢١٠.

١٧٧

ثم تذكرهم الآية التالية بمصير بني اسرائيل إذ لم يقدّروا نعمة الله عليهم : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١).

ثم عرّجت الآية التالية على مقارنة بين حال المؤمنين ورءوس المشركين : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢).

فعن مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يسخرون من ضعفاء المؤمنين.

وعن عطاء : نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع ، سخروا من فقراء المهاجرين.

وعن ابن عباس : نزلت الآية في أبي جهل وغيره من رؤساء قريش حيث بسطت لهم الدنيا فكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين فقراء مثل عبد الله بن مسعود (٣).

وعلى الترتيب الطبيعيّ للآيات فالمناسب هو الأخير من النقول الثلاث ، ولا ننسى أن ابن مسعود هو الذي سعد في بدر بأن صعد على صدر أبي جهل فكان فوق صدره يفري نحره!.

والآية التالية انتقلت تذكّر بأن هذا الاختلاف في الحق قديم قدم البشر منذ عهد نوح وآدم عليهما‌السلام : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ

__________________

(١) البقرة : ٢١١.

(٢) البقرة : ٢١٢.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٤٠ ، ٥٤١.

١٧٨

وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١).

روى العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : لما انقرض آدم وصالح ذرّيته بقي شيث وصيّه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذرّيته ، ذلك أن قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل. فسار فيهم بالتّقيّة والكتمان ، فازدادوا كلّ يوم ضلالا ، حتى لم يبق على الأرض معهم الا من هو سلف ... فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل.

قلت : أفضلّالا كانوا قبل النبيّين؟ أم على هدى؟

قال : لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع ابراهيم يقول : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٢) أي ناسيا للميثاق (٣).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : كانوا قبل نوح امة واحدة على فطرة الله ، لا مهتدين ولا ضلّالا ، فبعث الله النبيّين (٤).

__________________

(١) البقرة : ٢١٣.

(٢) الانعام : ٧٧.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٠٤ ، ١٠٥ وانتقل الامام عليه‌السلام هنا الى التذكير باستمرار الامامة امتدادا للنبوة فقال : ولو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا : قد فرغ من الأمر. وكذبوا إنما (هو) شيء يحكم به الله في كل عام .. فيحكم الله بما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك. وقرأ : «فيها يفرق كل أمر حكيم».

(٤) التبيان ٢ : ١٩٥ وعنه في مجمع البيان ٢ : ٥٤٣.

١٧٩

والآية التالية عادت تذكّر المؤمنين بحالهم قبل هذا النصر في بدر : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(١).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن عطاء قال : نزلت في المهاجرين من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، إذ تركوا ديارهم وأموالهم ومسّهم الضرّ (٢).

أمّا ما نقله الطوسي في «التبيان» عن السدّي وقتادة : أنّها نزلت في يوم الخندق (٣) فلا ينسجم مع الترتيب الطبيعيّ للآيات ، إلّا أن لا نتقيّد بذلك.

وقد قال العلّامة الطباطبائي في «الميزان» : إنّ هذه الآيات إلى آخر هذه الآية ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض (٤).

وإذا كانت الآيات إلى آخر الآية السابقة ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض ، فالظاهر أنّ الآية التالية منفردة ليست في السياق ولا ترتبط بما قبلها ولا بما بعدها ، إذ هي تبدأ بقوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) والجواب : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٥).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخا

__________________

(١) البقرة : ٢١٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٥٤٦.

(٣) التبيان ٢ : ١٩٨ وعنه في مجمع البيان ٢ : ٥٤٦.

(٤) الميزان ٢ : ١٥٨.

(٥) البقرة : ٢١٥.

١٨٠