موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

المسلمين ما أصابهم وصعد النبيّ الجبل وجاء أبو سفيان وقال : يا محمّد ، يوم لنا ويوم لكم ، فقال رسول الله : أجيبوه. فقال المسلمون : لا سواء ، لا سواء ، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان : عزّى لنا ولا عزّى لكم! فقال النبيّ : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان : أعل هبل ، قال النبيّ : قولوا له : الله أعلى وأجلّ. فقال أبو سفيان : موعدنا وموعدكم بدر الصفراء (١).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : نادى أبو سفيان : أحيّ ابن أبي كبشة؟

فقال عليّ عليه‌السلام : أي والذي بعثه بالحقّ وإنّه ليسمع كلامك.

فقال أبو سفيان : إنّ ابن قميئة أخبرني أنّه قتل محمّدا ، وأنت أبرّ عندي وأصدق.

ثمّ قال : إنّه قد كانت في قتلاكم مثلة ، وو الله ما أمرت ولا نهيت.

ثمّ قال : إنّ ميعادنا بيننا وبينكم موسم بدر في قابل ، هذا الشهر.

فقال رسول الله لعليّ : قل : نعم. فقال له عليّ : نعم. فولّى إلى أصحابه وقال لهم : اتّخذوا الليل جملا وانصرفوا (٢).

__________________

(١) التبيان ٣ : ٣١٤ ، وعنه في مجمع البيان ٣ : ١٦٠. وفيهما : بدر الصغرى ، وفي الواقدي ١ : ٢٩٧ : بدر الصفراء ، وهو الصحيح ، لأنها إنّما وصفت بالصغرى بعد وقوعها.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٨١. وقال ابن إسحاق : ثمّ إنّ أبا سفيان بن حرب حين أراد الانصراف أشرف من على الجبل ثمّ صرخ بأعلى صوته فقال : أنعمت فعال (أي أنعمت فعلك فارتفع بنفسك يخاطب نفسه) إنّ الحرب سجال ، يوم بيوم ، أعل هبل (أي : أظهر دينك) ، سيرة ابن هشام ٣ : ٩٩.

فقال رسول الله : قم يا عمر فأجبه فقل : الله أعلى وأجلّ ، لا سواء ، قتلانا في الجنّة

٣٢١

__________________

ـ وقتلاكم في النار. فلمّا أجاب عمر أبا سفيان ، قال له أبو سفيان : هلمّ إليّ يا عمر.

فقال رسول الله لعمر : ائته فانظر ما شأنه؟ فذهب إليه.

فقال له أبو سفيان : انشدك الله يا عمر أقتلنا محمّدا؟

قال عمر : اللهم لا ، وإنّه ليسمع كلامك الآن.

فقال أبو سفيان : أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ.

ثمّ قال أبو سفيان : إنّه قد كان في قتلاكم مثل ، والله ما رضيت وما سخطت ، وما نهيت وما أمرت. ثمّ نادى : إنّ موعدكم بدر ، للعام القابل.

فقال رسول الله لرجل من أصحابه : قل : نعم ، هو بيننا وبينكم موعد. ٣ : ٩٩ و ١٠٠.

وقال الواقدي : وتوجّه رسول الله يريد أصحابه في الشعب ...

ويقال : إنّه كان يتوكّأ على طلحة بن عبيد الله ، وكان قد جرح ، فما صلّى الظهر إلّا جالسا. فقال له طلحة : يا رسول الله ، إنّ بي قوّة ، فحمله حتى انتهى إلى الصخرة على طريق احد إلى شعب الجزّارين ، ثمّ حمله حتى ارتفع عليها لم يتعدّاها إلى غيرها ، فمضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه (من دون أن يحمله طلحة).

ويقال : إنّه لمّا طلع في النفر الأربعة عشر الذين ثبتوا معه ـ سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار ـ فلمّا نظر المسلمون إلى من مع رسول الله ظنّوا أنّهم من المشركين فجعلوا يولّون في الشعب ، فلمّا جعلوا يولّون في الجبل جعل رسول الله يتبسّم إلى أبي بكر وهو إلى جنبه وقال له : ألح إليهم ، فجعل أبو بكر يلوّح لهم ولا يرجعون ، حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه وصعد على الجبل فجعل يصيح ويلوّح لهم ، فوقفوا حتى لحقوا بهم. قال : وطلع رسول الله على أصحابه في الشعب بين السعدين : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يتكفّأ في الدرع.

وروى عن كعب بن مالك المازني قال : كنت ـ وأنا في الشعب ـ أوّل من عرف رسول الله

٣٢٢

__________________

ـ وعليه المغفر ، فجعلت أصيح ، هذا رسول الله حيّا سويّا. فجعل رسول الله يومي إليّ بيده على فيه : أن اسكت. ثمّ دعا بلأمتي ـ وكانت صفراء ـ فنزع لأمته ولبسها. ١ : ٢٩٤.

وانتهى رسول الله إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاع (متفرّقون) يذكرون مقتل من قتل منهم ويذكرون ما جاءهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ١ : ٢٩٣.

فروى عن رافع بن خديج قال : كنت إلى جنب أبي مسعود الأنصاري وهو يذكر من قتل من قومه ويسأل عنهم فيخبر برجال منهم ، منهم : سعد بن الربيع وخارجة بن زهير ، وهو يسترجع ويترحّم عليهم. وبعضهم يسأل بعضا عن حميمه فهم يخبر بعضهم بعضا.

قال أبو أسيد الساعدي : لقد رأيت أنفسنا وإنّا لسلم لمن أرادنا لما بنا من الحزن! فالقي علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الجحف (التروس من جلود).

وقال أبو اليسر : لقد رأيت نفسي يومئذ في أربعة عشر رجلا من قومي إلى جنب رسول الله وقد أصابنا النعاس (أَمَنَةً مِنْهُ) ، ما منهم رجل إلّا يغطّ غطيطا ، حتى تناطح الجحف ، ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به ، وتثلّم.

وقال أبو طلحة : القي علينا النعاس ، حتى سقط سيفي من يدي ، وإنّما أصاب أهل الإيمان واليقين ، ولم يصب أهل النفاق والشكّ ، فكانوا يتكلّمون بما في أنفسهم.

وقال الزبير بن العوّام : غشينا النعاس ... فسمعت معتّب بن قشير ـ وأنا كالحالم ـ يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. ١ : ٢٩٦. وفيه نزلت الآية ١٥٤ من سورة آل عمران : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا ...).

فبينا هم على ذلك إذ ردّ الله كتائب المشركين فإذا عدوّهم قد علوا فوقهم ، ليذهب الله

٣٢٣

قريش إلى أين؟

قال القمي في تفسيره : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من رجل يأتينا بخبر القوم؟

فلم يجبه أحد : فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا آتيك بخبرهم. قال : اذهب ، فإن ركبوا الخيل وجنّبوا الإبل فهم يريدون المدينة ، والله لإن أرادوا المدينة لا يأذن الله فيهم. وإن كانوا ركبوا الإبل وجنّبوا الخيل فإنّهم يريدون مكّة.

فمضى أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما به من ألم الجراحات ، حتى كان قريبا من القوم فرآهم قد ركبوا الإبل وجنّبوا الخيل. فرجع أمير المؤمنين إلى رسول الله

__________________

ـ بذلك الحزن عنهم ، فنسوا ما كانوا يذكرون. ١ : ٢٩٥.

قالوا : وأقبل أبو سفيان يسير على فرس له انثى حوّاء (أي حمراء سوداء) فنادى بأعلى صوته : أعل هبل! ثمّ صاح : أين ابن أبي كبشة؟ ... يوم بيوم بدر ، ألا إنّ الأيّام دول ، وإنّ الحرب سجال ، وحنظلة بحنظلة (حنظلة بن أبي عامر بحنظلة بن أبي سفيان).

فقال عمر : يا رسول الله ، اجيبه؟ قال : أجبه ... فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار! قال أبو سفيان : إنّكم لتقولون ذلك ، لقد خبنا إذن وخسرنا. ثمّ قال : قم إليّ يا بن الخطّاب اكلّمك. فقام عمر إليه ، فقال أبو سفيان : انشدك بدينك هل قتلنا محمّدا؟

قال عمر : اللهم لا ، وإنّه ليسمع كلامك الآن. قال : أنت أصدق عندي من ابن قميئة. لأنّه أخبرهم أنّه قتل محمّدا.

ثمّ رفع أبو سفيان صوته قال : إنّكم واجدون في قتلاكم عيثا ومثلا ، ألا إنّ ذلك لم يكن عن رأي سراتنا ، أما إذا كان ذلك فلم نكرهه! ثمّ نادى : ألا إنّ موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول! فوقف عمر وقفة ينتظر ما يقول رسول الله ، فقال رسول الله : قل : نعم ، فقال عمر : نعم. فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل. ١ : ٢٩٦ و ٢٩٧.

بينما مرّ عن ابن إسحاق : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لرجل من أصحابه : قل : نعم. ولم يقل : عمر.

٣٢٤

فأخبره ، فقال رسول الله : أرادوا مكّة (١).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : ثمّ دعا رسول الله عليّا عليهما‌السلام فقال له : أتبعهم فانظر إلى أين يريدون ، فإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدون المدينة ، وإن كانوا ركبوا الإبل وساقوا الخيل فهم متوجّهون إلى مكّة ـ وقيل : إنّه بعث لذلك سعد بن أبي وقّاص ـ فرجع فقال : رأيت خيولهم تضرب بأذنابها مجنوبة مدبرة ، ورأيت القوم قد تحملوا سايرين. فطابت أنفس المسلمين بذهاب العدو (٢).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٤.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٨١. وقال ابن إسحاق : ثمّ دعا رسول الله عليّ بن أبي طالب فقال له : اخرج في آثار القوم فانظر ما ذا يصنعون وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثمّ لأناجزنهم.

قال علي عليه‌السلام : فخرجت في آثارهم أنظر ما ذا يصنعون. فجنّبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجّهوا إلى مكّة. ٣ : ١٠٠.

وقال الواقدي : وأشفق رسول الله والمسلمون واشتدّت شفقتهم من أن يغيروا على المدينة فتهلك الذراري والنساء!

فقال رسول الله ـ لسعد بن أبي وقّاص ـ : ائتنا بخبر القوم ، فإن ركبوا الإبل وجنّبوا الخيل فهو الظّعن ، وإن ركبوا الخيل وجنّبوا الإبل فهي الغارة على المدينة والذي نفسي بيده لئن ساروا إليها لأسيرنّ إليهم ثمّ لاناجزنهم. ١ : ٢٩٨. وروى بسنده عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : فإن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك ولا تفتّ في أعضاد المسلمين! فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل ، فرجع فما ملك نفسه أن جعل يصيح سرورا بانصرافهم. ١ : ٢٩٩. وهذا إن صحّ عن الباقر عليه‌السلام فإنّما يدلّ على أنّ الرسول بعث سعدا وعليّا فبدا ما بينهما من تفاوت في حكمة التصرّف والعمل.

٣٢٥

تفقّد الجرحى والقتلى :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : وطابت أنفس المسلمين بذهاب العدوّ فانتشروا يتتبّعون قتلاهم ، فلم يجدوا قتيلا إلّا وقد مثّلوا به إلّا حنظلة بن أبي عامر ، كان أبوه مع المشركين فترك له. ووجدوا حمزة وقد شقّ بطنه وجدع أنفه وقطعت أذناه واخذ كبده (١).

وقال الواقدي : قال رسول الله : من له علم بذكوان بن عبد القيس؟ فقال عليّ عليه‌السلام : أنا ـ يا رسول الله ـ رأيت فارسا يركض في أثره حتى لحقه وهو يقول : لا نجوت إن نجوت! فحمل عليه بفرسه ، وذكوان راجل ، فضربه وهو يقول : خذها وأنا ابن علاج! فأهويت إليه وهو فارس ، فضربت رجله بالسيف حتّى قطعتها عن نصف الفخذ ثمّ طرحته من فرسه فذففت عليه ، وإذا هو أبو الحكم بن الأخنس بن شريق بن علاج الثقفي (٢).

وقال القمي في تفسيره : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من له علم بسعد بن الربيع؟ فقال رجل : أنا أطلبه. فأشار رسول الله إلى موضع فقال : اطلبه هناك ، فإنّي قد رأيته في ذلك الموضع قد شرعت حوله اثنا عشر رمحا (٣).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨١ ، ١٨٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٨٣ ، وروى المفيد في الإرشاد ١ : ٨٨ بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : وبارز عليّ عليه‌السلام الحكم (أبا الحكم) بن الأخنس فضربه فقطع رجله من نصف الفخذ فهلك.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٢٢. هذا وقد روى الواقدي عن ضرار بن الخطّاب الفهري قال : لمّا كررنا مع خالد بن الوليد وانتهينا إلى الجبل وأقحمنا الخيل عليهم تطايروا في كلّ وجه

٣٢٦

وروى الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال : بعثني رسول الله في طلب سعد بن الربيع وقال لي : إذا رأيته فاقرأه منّي السّلام وقل له : كيف تجدك؟

فجعلت أطلبه بين القتلى حتى وجدته بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم ، فقلت له : إنّ رسول الله يقرأ عليك السّلام ويقول لك : كيف تجدك؟ فقال : سلّم على رسول الله ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن وصل إلى رسول الله وفيكم شغر يطرف! وفاضت نفسه (١) فجئت إلى رسول الله فأخبرته ، فقال : رحم الله سعدا نصرنا حيّا وأوصى بنا ميتا (٢).

__________________

ـ وهربوا حتى أنّي جعلت أطلب الأكابر من الأوس والخزرج لأقتلهم بأحبّتي في بدر فلا أرى أحدا ... وما كان حلب ناقة حتى تداعت الأنصار بينها فأقبلوا وخالطونا راجلين ونحن فرسان ، فصبروا لنا وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي وترجّلت ولقيت من رجل منهم الموت الناقع وعانقني فما فارقني حتى أخذته الرماح من كلّ ناحية فوقع ١ : ٢٨٣. فيبدو أنّه هو سعد بن الربيع ، ولذلك افتقده الرسول.

(١) بحار الأنوار ٢٠ : ٧٤ و ٧٥. عن معاني الأخبار : ١٠٢. وروى الخبر ابن إسحاق في سيرته ٣ : ١٠٠ عن محمّد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني من بني النجّار (عن أبيه عن جدّه) قال : وفزع الناس لقتلاهم فقال رسول الله : من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار : أنا أنظر لك ـ يا رسول الله ـ ما فعل سعد. ٣ : ١٠٠.

وقال الواقدي : وقالوا : وقال رسول الله : من يأتيني بخبر سعد بن الربيع؟ فإنّي قد رأيته وقد شرع فيه اثنا عشر سنانا ، وأشار بيده إلى ناحية من الوادي. قال : فخرج محمّد ابن مسلمة ، ويقال : أبيّ بن كعب ، فخرج نحو تلك الناحية قال ... ١ : ١٠٠.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٢٣. وقال الواقدي : فاستقبل رسول الله القبلة رافعا يديه يقول : اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راض. ١ : ٢٩٣.

٣٢٧

مصرع حمزة :

ثمّ قال رسول الله : من له علم بعمّي حمزة؟ فقال الحارث بن الصمّة : أنا أعرف موضعه. فجاء حتى وقف على حمزة فكره أن يرجع إلى رسول الله فيخبره.

فقال رسول الله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : يا عليّ ، اطلب عمّك. فجاء عليّ عليه‌السلام فوقف على حمزة فكره أن يرجع إليه.

فجاء رسول الله حتى وقف عليه (١).

فروى العيّاشي في تفسيره عن الحسين بن حمزة عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا رأى رسول الله ما صنع بحمزة بن عبد المطّلب قال : اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان على ما أرى. ثمّ قال : لئن ظفرت لامثلنّ ولأمثلنّ. فأنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٢).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٣ ، وفيه الحارث بن سميّة مصحّفا.

وقال الواقدي : سمعت الأصبغ بن عبد العزيز قال : وجعل رسول الله يقول : ما فعل عمّي؟ ما فعل عمّي حمزة؟ فخرج الحارث بن الصمّة فأبطأ ، فخرج عليّ بن أبي طالب وهو يرتجز ويقول :

يا ربّ إنّ الحارث بن الصمّة

كان رفيقا وبنا ذا ذمّه

قد ضلّ في مهامه مهمّة

يلتمس الجنّة فيما يمّه

حتى انتهى إلى الحارث ووجد حمزة مقتولا. (فرجع) فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فخرج النبيّ يمشي حتى وقف عليه فقال : ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا الموقف! ١ : ٢٨٩. وابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٧٤ و ١٧٥ نقل الشعر أبياتا ثلاثة.

(٢) النحل : ١٢٦.

٣٢٨

فقال رسول الله : أصبر ، أصبر (١).

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢٧٤ و ٢٧٥. ونقل الطوسي في التبيان ٦ : ٤٤ عن الشعبي وقتادة وعطاء (عن ابن عبّاس) أنّ المشركين لمّا مثّلوا بقتلى احد من المسلمين قال المسلمون : إذا أظهرنا الله عليهم لنمثّلنّ بهم أعظم ممّا مثّلوا بنا. ونقله الطبرسي في مجمع البيان ٧ : ٦٠٥ وقال في إعلام الورى : ٨٤ : فلمّا انتهى إليه رسول الله خنقته العبرة وقال : لامثلنّ بسبعين من قريش ، فأنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل أصبر. واختصره في المناقب ١ : ١٩٣.

وقال القمي في تفسير الآية : ذلك أنّ المشركين يوم احد مثّلوا بأصحاب النبيّ الذين استشهدوا ، منهم حمزة ، فقال المسلمون : أما والله لئن أولانا الله عليهم لنمثّلنّ بأخيارهم ، فذلك قول الله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ...) ١ : ٣٩٢. وفي حرب احد قال : فجاء رسول الله حتى وقف عليه ، فلمّا رأى ما فعل به بكى ثمّ قال : والله ما وقفت موقفا قطّ أغيظ عليّ من هذا المكان ، لئن أمكنني الله من قريش لامثّلنّ بسبعين رجلا منهم! فنزل عليه جبرئيل فقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ...) فقال رسول الله : بل أصبر. ثمّ قال القمي : فهذه الآية في سورة النحل : (١٢٦) وكان يجب أن تكون في هذه السورة (آل عمران) التي فيها أخبار احد ١ : ١٢٣.

هذا ، والآية من سورة النحل التي تحمل رقم السبعين في السور المكيّة والتي هي تزيد على الثمانين ، فهي من السور النازلة قبل الهجرة بأكثر من عشرة. وفي سبب نزول الآية نقل الطوسي القول الأوّل الذي نقلناه ، والثاني : عن إبراهيم وابن سيرين ومجاهد (عن ابن عبّاس أيضا) قال : إنّه في كل ظالم يغصب ونحوه ، فإنّما يجازى بمثل ما عمل (اقتصاصا) ٦ : ٤٤١. ونقله الطبرسي في مجمع البيان وقال : قال الحسن : نزلت الآية قبل أن يؤمر النبيّ بقتال المشركين ، على العموم ٧ : ٦٠٥. ونقل ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٢ نزول الآية في مقتل حمزة بسنده عن ابن عبّاس ومحمّد بن كعب القرظي. وقال الواقدي : ورأى رسول الله مثلا شديدا فأحزنه فقال : لئن ظفرت بقريش لامثّلنّ بثلاثين منهم! فنزلت هذه

٣٢٩

قال القمي : فألقى رسول الله على حمزة بردة كانت عليه ، فكانت إذا مدّها على رأسه بدت رجلاه ، وإذا مدّها على رجليه بدا رأسه ، فمدّها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش.

وأمر رسول الله أن يجمعوا القتلى فصلّى عليهم (مع حمزة) وكبّر على حمزة سبعين تكبيرة. ودفنهم في مضاجعهم (١).

__________________

ـ الآية ... فعفا رسول الله فلم يمثّل بأحد ١ : ٢٩٠. ولعلّ جبرئيل نزل بالآية مذكّرا بها لا إنزالا.

(١) وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٢ بسنده عن ابن عبّاس قال : أمر رسول الله بحمزة فسجّي ببردة ، ثمّ صلّى عليه فكبّر سبع تكبيرات ، ثمّ اتي بالقتلى (واحدا واحدا) يوضعون إلى جانب حمزة فكان يصلّي عليه وعليهم (في كلّ مرّة) حتى صلّى عليه اثنتين وسبعين صلاة ٣ : ١٠٢.

وروى عن الزهري عن العذري قال : إنّ رسول الله أشرف على القتلى يوم احد فقال : أنا شهيد على هؤلاء أنّه ما من جريح يجرح في الله إلّا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه ، اللون لون دم والريح ريح مسك.

ورواه كذلك عن عمّه موسى بن يسار عن أبي هريرة ٣ : ١٠٤ وكأنّه كان في مقام الاكتفاء بدمائهم عن غسلهم ، فقد روى الخبر الواقدي قال : ولم يغسّل رسول الله الشهداء يومئذ (ممّا يوهم غسلهم قبل ذلك) وقال : لفّوهم بدمائهم وجراحهم فإنّه ليس أحد يجرح في سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة لون جرحه لون الدم وريحه ريح المسك. ثمّ قال : ضعوهم فأنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة.

قال : وكان حمزة أوّل من جيء به إلى النبيّ فصلّى عليه رسول الله ... ثمّ جمع إليه الشهداء فكان كلّما أتي بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلّى عليه وعلى الشهيد حتى صلّى عليه سبعين مرّة ، لأنّ الشهداء سبعون. ويقال : كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلّي

٣٣٠

__________________

ـ عليهم وترفع التسعة ويترك حمزة مكانه ويؤتى بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلّي عليه وعليهم ، فعل ذلك سبع مرّات.

قال : وكان ابن عبّاس وجابر بن عبد الله وطلحة بن عبيد الله يقولون : صلّى رسول الله على قتلى احد وقال : أنا شهيد على هؤلاء. فقال أبو بكر : ألسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا! قال : بلى ، ولكنّ هؤلاء لم يأكلوا من اجورهم شيئا ، ولا أدري ما تحدثون بعدي! فبكى أبو بكر وقال : إنّا لكائنون بعدك! ١ : ٣٠٩ ، ٣١٠.

ونقل ابن إسحاق ـ أيضا ـ عن آل عبد الله بن جحش ، وهو ابن اميمة بنت عبد المطّلب أخت حمزة ، فحمزة خاله ، قالوا : إنّ رسول الله دفنه مع حمزة في قبره. وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر الواحد.

ثمّ روى عن بني سلمة قالوا : إنّ رسول الله حين أمر بدفن القتلى قال : انظروا إلى عمرو ابن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام (أبي جابر بن عبد الله) فاجعلوهما في قبر واحد فإنّهما كانا متصافيين في الدنيا ٣ : ١٠٣ و ١٠٤.

وقال الواقدي في عبد الله بن جحش : دفن هو وحمزة في قبر واحد ١ : ٢٩١.

وقال : قال جابر (بن عبد الله الأنصاري) : كان أبي (عبد الله بن عمرو بن حرام) أوّل قتيل قتل يوم احد من المسلمين ، قتله سفيان بن عبد شمس السّلمي فصلّى عليه رسول الله قبل الهزيمة ١ : ٢٦٦.

وقال أبو طلحة : كان عمرو بن الجموح في الرعيل الأوّل حين ثاب المسلمون (بعد الهزيمة) ولكأنّى انظر إلى ضلعه (عوج في رجله خلقة) وهو يقول : أنا والله مشتاق إلى الجنّة ، وابنه يعدو في أثره ، فقاتلا حتى قتلا جميعا ١ : ٢٦٥.

فوجد (هو وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر) وقد مثل بهما كلّ المثل قد قطعت أعضاؤهما حتى لا يعرف أبدانهما ، فقال النبيّ : ادفنوا هذين المتحابّين في الدنيا في قبر

٣٣١

__________________

ـ واحد ، وكان عبد الله بن عمرو رجلا أحمر أصلع ، وكان عمرو بن الجموح طويلا.

فلمّا أراد معاوية أن يجري عين كظامة (قناة من احد إلى المدينة) نادى مناديه : من كان له قتيل باحد فليشهد. فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم طرايا يتثنون ، وأصابت المسحاة رجلا منهم فانبعث دما! وكلّما حفروا التراب فاح عليهم المسك ١ : ٢٦٨ وحفر عنهما وعليهما نمرتان (شملتان). وكانت يد عبد الله على جرح وجهه فاميطت يده فانبعث الدم فردّت إلى مكانها فسكن الدم ، وما تغيّر من حاله قليل ولا كثير ، كأنّه نائم وبين ذلك وبين دفنه ست وأربعون سنة ١ : ٢٦٧ وكانت القناة تمرّ على قبرهما فحوّل إلى مكان آخر ١ : ٢٦٨.

قال الواقدي : قال رسول الله للمسلمين يومئذ : احفروا وأوسعوا وأحسنوا ، وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر وقدّموا أكثرهم قرآنا. فكان المسلمون يقدّمون في القبر أكثرهم قرآنا.

وكان ممّن يعرف أنّه دفن في قبر واحد : خارجة بن زيد وسعد بن الربيع ، والنعمان بن مالك وعبدة بن الحسحاس في قبر واحد ١ : ٣١٠.

وقال : وقد كان رسول الله يزورهم في كلّ حول ، فإذا صار بفم الشعب رفع صوته ، يقول : السّلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار!

ومرّ رسول الله على مصعب بن عمير فوقف عليه وقرأ : (... رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : ٢٣) ثمّ قال لأصحابه : أشهد أنّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، فاتوهم وزوروهم وسلّموا عليهم ، والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردّوا عليه.

وكان يقول : ليت أنّي غودرت مع أصحاب الجبل (شهداء احد).

وكانت أمّ سلمة زوج النبيّ تذهب فتسلّم عليهم في كلّ شهر فتظلّ يومها عندهم ،

٣٣٢

وخرجت فاطمة بنت رسول الله تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله (١).

فنقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال : لمّا انتهت فاطمة وصفيّة إلى رسول الله ونظرتا إليه (ونظر إليهما) قال لعليّ : أمّا عمّتي فاحبسها عنّي ، وأمّا فاطمة فدعها.

فلمّا دنت فاطمة من رسول الله ورأته قد شجّ في وجهه وادمي فوه إدماء ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه رسول الله (٢). وقال القمي : وقعدت بين يديه فكان إذا بكى رسول الله بكت لبكائه وإذا

__________________

ـ فجاءت يوما ومعها غلامها نبهان فلم يسلّم ، فقالت له : يا لكع (لئيم) ألا تسلّم عليهم؟! والله لا يسلّم عليهم أحد إلّا ردّوا إلى يوم القيامة!

وكانت فاطمة بنت رسول الله تأتيهم بين اليومين والثلاثة فتبكي عندهم وتدعو.

وعدّ من الزائرين : سلمة بن سلامة ، ومحمّد بن مسلمة وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة وأبا بكر وعمر وعثمان وسعد بن أبي وقّاص ومعاوية ١ : ٣١٣ و ٣١٤.

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٣ و ١٢٤.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٧٩. وقال ابن إسحاق : وبلغني أنّ صفيّة بنت عبد المطّلب أقبلت لتنظر إليه (حمزة) ـ وكان أخاها لأبيها وامّها ـ فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوّام : القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها. فقال لها : يا امّه ، إنّ رسول الله يأمرك أن ترجعي. قالت : ولم؟ وقد بلغني أن قد مثّل بأخي ، وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان في ذلك ، لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله!

فلمّا جاء الزبير إلى رسول الله فأخبره بذلك قال : خلّ سبيلها. فأتته فنظرت إليه فصلّت واسترجعت واستغفرت له ٣ : ١٠٢ و ١٠٣.

٣٣٣

انتحب انتحبت (١).

__________________

ـ وحدّث الواقدي عن صفيّة قالت : عرفت انكشاف أصحاب رسول الله .. فخرجت والسيف في يدي حتى إذا كنت في بني حارثة أدركت نسوة من الأنصار ومعهنّ أم أيمن ، فعدونا حتى انتهينا إلى رسول الله وأصحابه أوزاع (متفرّقون) فأوّل من لقيت عليا ابن أخي ، فقال : ارجعي يا عمّة ، فإنّ في الناس تكشّفا. فقلت : ورسول الله؟ فقال : صالح بحمد الله. قلت : ادللني عليه حتى أراه ، فأشار لي إليه إشارة خفيّة من المشركين ، فانتهيت إليه وبه الجراحة.

ولمّا وقف النبيّ على حمزة وحفر له طلعت صفيّة ، فقال رسول الله للزبير : يا زبير أغن عنّي امّك. فقال الزبير لامّه : يا امّه ، إن في الناس تكشّفا (فارجعي) فقالت : ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله ، فلمّا رأت رسول الله قالت : يا رسول الله أين ابن أمي حمزة؟ قال رسول الله : هو في الناس! قالت : لا أرجع حتى أنظر إليه. فجعل الزبير يوطّدها إلى الأرض حتى دفن حمزة ١ : ٢٨٨ و ٢٨٩.

وقال : فيقال : قال رسول الله : دعوها (فجاءت) حتى جلست عند (النبيّ على قبر حمزة) فجعلت تبكي ويبكي رسول الله ، وتنشج وينشج رسول الله ، وفاطمة ابنته تبكي فيبكي رسول الله ، ويقول : لن اصاب بمثل حمزة أبدا!

ثمّ قال لهما رسول الله : أبشرا ، فقد أتاني جبرئيل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع : حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله ١ : ٢٩٠ وابن هشام ٣ : ١٠٢ هذا الحديث الأخير فقط.

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٤. وقال الواقدي : قالوا : وخرجت فاطمة في نساء ... كنّ يحملن الطعام والشراب على ظهورهنّ ويسقين الجرحى ويداوينهم ، وهنّ أربع عشرة امرأة منهنّ فاطمة بنت رسول الله ... وأمّ سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها ، وحمنة بنت جحش (بنت اميمة ابنة عبد المطّلب اخت حمزة) تسقي العطشى وتداوي

٣٣٤

__________________

ـ الجرحى ، وأم أيمن تسقي الجرحى.

ورأت فاطمة الذي بوجه رسول الله فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، ورسول الله يقول : اشتدّ غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله! وقال علي عليه‌السلام لفاطمة : أمسكي هذا السيف غير ذميم ، وذهب يأتي بماء من المهراس (اسم لنقر كبار وصغار يجتمع فيها ماء المطر في أقصى شعب احد ، كما في وفاء الوفاء ٢ : ٧٩ عن المبرّد) فأتى بماء في مجنّته (الترس) فمضمض منه فاه ليغسل به الدم من فيه ، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها ، وعليّ يصبّ عليها الماء بالمجن (الترس) ... وجعل النبيّ يقول : لن ينالوا منّا مثلها حتى تستلموا الركن!

ولمّا رأت فاطمة أنّ الدم لا يرقأ أخذت قطعة حصير ـ أو صوفة ـ فأحرقته حتى صار رمادا ثمّ ألصقته بالجرح فاستمسك الدم ١ : ٢٤٩ و ٢٥٠.

ولكنّ المفيد في الإرشاد قال : لمّا انصرف النبيّ إلى المدينة استقبلته فاطمة عليها‌السلام ولحقه أمير المؤمنين وقد خضّب الدم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار فناوله فاطمة وقال لها : خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم ... وقال رسول الله : خذيه يا فاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش. الإرشاد ١ : ٨٩ ، ٩٠.

اللهم إلّا أن تكون قد حضرت احدا مع النساء ثمّ رجعت قبل انصراف المسلمين فاستقبلتهم.

وقد قال الواقدي قبل ذلك : وكان سالم مولى أبي حذيفة (ابن المغيرة المخزومي) يغسل الدم عن وجه رسول الله وهو يقول : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله ١ : ٢٤٥.

وكأنّ الرواة رأوا مولى أبي حذيفة أولى برسول الله من ابنته فاطمة عليها‌السلام!

هذا بالإضافة إلى ما رووه أنّه قال لعليّ عليه‌السلام : إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت والحارث بن الصمّة وسهل بن حنيف وسيف أبي دجانة غير مذموم ١ :

٣٣٥

وقال القمي : ومرّ رجل من الأنصار بعمرو بن وقش فرآه صريعا بين القتلى (المسلمين) وكان قد تأخّر إسلامه ، فقال له : يا عمرو ، أنت على دينك الأوّل؟ فقال : معاذ الله ، والله إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، ثمّ مات.

فسأل رجل رسول الله ، يا رسول الله إن عمرو بن وقش قد أسلم ، فهو شهيد؟

فقال : إي والله إنّه لشهيد ، وما رجل لم يصلّ لله ركعة دخل الجنّة غيره! (١).

__________________

ـ ٢٤٩ وذلك من أخلاق الرسول الكريم بعيد جدّ البعد أن يهوّن من شأن عليّ وسيفه ذي الفقار في ذلك اليوم!

(١) تفسير القمي ١ : ١١٧. وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٩٥ عن محمود بن أسد قال : كان (عمرو بن ثابت بن وقش) يأبى الاسلام على قومه ، فلما كان يوم خرج رسول الله إلى احد بدا له في الاسلام فأسلم ودخل في عرض الناس وقاتل حتى أثبتته الجراحة. فبينا رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به ، فقالوا : ما جاء به؟ وسألوه فقالوا : ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك؟ أم رغبة في الاسلام؟ قال : بل رغبة في الاسلام ، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني : ثم لم يلبث أن مات في أيديهم.

فذكروه لرسول الله فقال : إنّه لمن أهل الجنة ٣ : ٩٥.

وقال الواقدي : وجد في القتلى جريحا فدنوا منه وهو في آخر رمق فقالوا : ما جاء بك يا عمرو؟ قال : آمنت بالله ورسوله ثم أخذت سيفي وحضرت ، ومات في أيديهم. فقال رسول الله : انه لمن أهل الجنة ١ : ٢٦٢ وقتله ضرار بن الخطاب وأخوه سلمة بن ثابت قتله أبو سفيان بن حرب ورفاعة بن وقش قتله خالد بن الوليد ١ : ٣٠١. وقد ذكرنا عمرو بن ثابت وأباه ثابت بن وقش مع الملتحقين ببدر ورأينا ذكره هنا مع المستشهدين.

٣٣٦

قال ابن إسحاق : وكان ممن قتل يوم احد ، مخيريق (اليهودي) من بني ثعلبة بن فطيون ... (أسلم) وغدا إلى رسول الله فقاتل معه حتى قتل ، فبلغنا أن رسول الله قال : مخيريق خير يهود (١).

وبعض النفل :

روى الواقدي بسنده عن عمر بن الحكم قال : ما بقي شيء مع أحد من أصحاب رسول الله الذين أغاروا على النهب فأخذوا ما أخذوا من الذهب ، إلّا رجلين :

أحدهما : عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، والآخر : عباد بن بشر ، فانهما أتيا رسول الله باحد ، فجاء عباد بصرّة فيها ثلاثة عشر مثقالا كان قد ألقاها في جيب قميصه وفوقها الدرع قد حزم وسطه ، وجاء عاصم بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون دينارا فشدّها على حقويه من تحت ثيابه. فنفّلهما رسول الله ولم يخمّسه (٢).

بعض النساء المفجوعات :

روى القمي في تفسيره قال : واستقبلته حمنة (٣) بنت جحش ، فقال لها

__________________

(١) وكان قد قال لقومه : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أنّ (محمدا نبيّ) وأنّ نصره عليكم لحقّ ... وأخذ عدّته وسيفه وقال لهم : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ـ ٣ : ٩٤. وقال الواقدي : يضعها حيث أراه الله. فهي عامة صدقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ١ : ٢٦٣. وقد ذكرناه مع الملتحقين ببدر ورأينا ذكره هنا مع المستشهدين.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٣) في الأصل المطبوع : زينب ، وهي اخت حمنة ، وكانت زوج النبيّ ولم تكن زوج مصعب ،

٣٣٧

رسول الله : احتسبي. فقالت : من يا رسول الله؟ قال : أخاك (عبد الله بن جحش) قالت : إنا لله وانا إليه راجعون ، هنيئا له الشهادة. ثم قال لها : احتسبي. قالت : من يا رسول الله؟ قال : حمزة بن عبد المطلب (خالك) قالت : إنا لله وإنّا إليه راجعون ، هنيئا له الشهادة. ثم قال لها : احتسبي. قالت : من يا رسول الله؟ قال : زوجك مصعب بن عمير. قالت : وا حزناه!

فقيل لها : لم قلت ذلك في زوجك (دون سواه)؟

قالت : ذكرت يتم ولده.

وقال رسول الله : إنّ للزوج عند المرأة لحدّا ما لأحد مثله! (١).

__________________

ـ وأما زوج مصعب فهي اختها حمنة ، كما في ابن هشام ٣ : ١٠٤. والواقدي ١ : ٢٩١ وتزوجها بعد مصعب طلحة بن عبيد الله التيمي كما في الواقدي ١ : ٢٩٢.

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٤. وقال ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٤ ذكر لي : أن حمنة بنت جحش استقبلت رسول الله لما انصرف راجعا الى المدينة ، فلما لقيها الناس نعوا إليها أخاها عبد الله بن جحش ، فاسترجعت واستغفرت له. ثم نعوا لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له. ثم نعوا لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت!

فلما رأى رسول الله تثبّتها عند ذكر أخيها وخالها وصياحها على زوجها قال : إن زوج المرأة منها لبمكان! ـ ٣ : ١٠٣.

وقال الواقدي : وأقبلت حمنة بنت جحش فقال لها رسول الله : يا حمن احتسبي! قالت : من يا رسول الله؟ قال : خالك حمزة ، قالت : إنا لله وإنّا إليه راجعون غفر الله له ورحمه ، هنيئا له الشهادة! ثم قال لها : احتسبي! قالت : من يا رسول الله؟ قال : أخوك. قالت : إنا لله وانا إليه راجعون ، غفر الله له ورحمه ، هنيئا له الجنة! ثم قال لها : احتسبي! قالت : من يا رسول الله؟ قال : بعلك مصعب بن عمير! قالت : وا حزناه! فقال لها رسول

٣٣٨

ونقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال :

ودنت امرأة من بني النجار قد قتل أبوها وأخوها وزوجها مع رسول الله ، دنت من رسول الله والمسلمون قيام على رأسه فقالت لرجل منهم : أحيّ رسول الله؟ قال : نعم ، قالت : استطيع أن أنظر إليه؟ قال : نعم ، فأوسعوا لها فدنت منه وقالت : كل مصيبة بعدك جلل! وانصرفت (١).

__________________

ـ الله : لم قلت هذا؟ قالت : يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني. فدعا رسول الله لولده أن يحسن عليهم الخلف. وقال : إنّ للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحد! ١ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٣ وروى ابن اسحاق في السيرة ٣ : ١٠٥ بسنده عن سعد بن أبي وقّاص قال : ان امرأة من بني دينار قد اصيب أبوها وأخوها وزوجها مع رسول الله باحد ، فلما نعوا لها قالت : فما فعل رسول الله؟ قالوا : يا أم (فلان) هو بحمد الله كما تحبّين. قالت : أرونيه أنظر إليه. فأشاروا إليه ، فلما رأته قالت له : كل مصيبة بعدك جلل ، تريد : صغيرة ـ ٣ : ١٠٥.

وقال الواقدي : إن السميراء (وفي شرح النهج ١٥ : ٣٧ : السمراء) بنت قيس من بني دينار اصيب ابناها (من زوجيها) : سليم بن الحارث والنعمان بن عبد عمرو ، أصيبا مع النبيّ باحد ، فلما خرجت ونعيا لها قالت : ما فعل رسول الله؟ قالوا : هو بحمد الله صالح على ما تحبّين. قالت : أرونيه انظر إليه. فأشاروا لها إليه ، فلما رأته قالت له : يا رسول الله ، كل مصيبة بعدك جلل.

ثمّ خرجت ببعير إلى أحد فحملت ابنيها الى المدينة ، فلقيتها عائشة فقالت لها : ما وراءك؟ قالت : أما رسول الله فبخير بحمد الله ، واتّخذ الله من المؤمنين شهداء! فقالت لها عائشة : فمن هؤلاء معك؟ قالت : ابناي ١ : ٢٩٢.

وقال : وكانت عائشة قد خرجت مع نسوة تستروح الخبر ، ولم يضرب الحجاب يومئذ ،

٣٣٩

__________________

ـ فلما هبطت من بني حارثة الى الوادي حتى اذا كانت بآخر الحرّة (أرض الحجارة السود) لقيت هند بنت عمرو بن حرام اخت عبد الله بن عمرو بن حرام وزوج عمرو بن الجموح ، وكانت تسوق بعيرا عليه أخوها عبد الله وزوجها عمرو وابنها خلّاد بن عمرو ، فقالت لها عائشة : عندك الخبر فما وراءك؟ فقالت هند : أما رسول الله فصالح ، وكل مصيبة بعده جلل واتخذ الله من المؤمنين شهداء. قالت : فمن هؤلاء؟ قالت : أخي وزوجي وابني خلّاد. قالت : فأين تذهبين بهم؟ قالت : الى المدينة أقبرهم فيها ... ثم قالت لبعيرها : حل حل ، تزجره. فبرك (ولم يتحرك) فزجرته اخرى فقام فوجّهته الى المدينة فبرك ، فوجّهته راجعة الى احد فأسرع! فرجعت الى النبيّ فأخبرته بذلك فقال رسول الله : إن الجمل مأمور .. يا هند ، ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل الى الساعة ينظرون أين يدفن! ثم مكث رسول الله حتى قبرهم ، ثم قال : يا هند ، ترافقوا في الجنة جميعا : عمرو بن الجموح وابنك خلاد وأخوك عبد الله. فقالت هند : يا رسول الله فادع الله عسى أن يجعلني معهم! ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

هذا وقد مرّ عنه أن عائشة خرجت مع أربع عشرة امرأة على ظهورهن قرب الماء يسقين الجرحى ، وعائشة على ظهرها قربة ١ : ٢٤٩ ، فيعلم من هذا أنهن كن متأخرات في ذلك ، ولعلهن خرجن بعد خروج ابنة خديجة الكبرى : فاطمة الزهراء وعمة النبيّ صفية بنت عبد المطلب وأم أيمن حاضنة النبيّ ، وكان خروجها حين وصل إلى المدينة المنهزمون فلقيتهم أمّ أيمن تحثي في وجوههم التراب وتقول لهم : هاك المغزل فاغزل به وهلمّ سيفك! ١ : ٢٧٨.

وأما مأمورية الجمل فلعله هو ما قاله ابن اسحاق في السيرة ٣ : ١٠٣ : أن رسول الله لما بلغه أن أناسا من المسلمين قد احتملوا قتلاهم الى المدينة نهى عن ذلك وقال : ادفنوهم حيث صرعوا ٣ : ١٠٣. ولعل السميراء مرقت بولديها الى المدينة قبل نهي الرسول عن

٣٤٠