موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

ابن عازب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وكلّهم أبناء خمس عشرة سنة (١).

قال : وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب مع المسلمين ... ثمّ غلبته عيناه فرقد على شفير الخندق حتى أخذ سلاحه سيفه وقوسه وترسه عمارة بن حزم وهو مع المسلمين الذين يطيفون بالخندق يحرسونه وتركوا زيدا نائما ، ففزع وقد فقد سلاحه ، حتى بلغ ذلك رسول الله ، فدعا زيدا فقال له : يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك؟! ثمّ قال : من له علم بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمارة بن حزم : أنا يا رسول الله وهو عندي. فقال : فردّه عليه. ثمّ نهى النبيّ أن يروّع مسلم أو يؤخذ متاعه جادّا أو لاعبا (٢).

وصول الأحزاب :

قال القمي في تفسيره : وفرغ رسول الله من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام ، وقدمت قريش وكنانة وسليم وهلال فنزلوا الزغابة ... ووادي العقيق (٣) وفي عددهم قال : فوافوا في عشرة آلاف (٤).

وقال الطبرسي في تفسيره : وأقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف والغابة (٥) في عشرة آلاف منهم وممّن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة. وأقبلت

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٤٥٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٧٩ وكذلك في الواقدي ٢ : ٤٤٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٧٦ و ١٧٧.

(٥) الجرف : على ثلاثة أميال (٥ كم) من المدينة نحو الشام. والغابة من المدينة نحو جبل سلع قبله بثمانية أميال (١٥ كم) وهو أبعد عن الخندق بكثير ، فالصحيح ما مرّ عن القمي : الزغابة كما في الواقدي ٢ : ٤٤٤ وكما في الروض الانف للسهيلي وبهامش السيرة ٣ : ٢٣٠ عنه.

٤٨١

غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتّى نزلوا إلى جانب احد (١).

وهم المعنيّون بقوله ـ سبحانه ـ في سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) قال الطوسي في «التبيان» : يعني يوم الأحزاب وهو يوم الخندق ، حيث اجتمعت العرب على قتال النبيّ ، قريش وغطفان وبنو قريظة وتظافروا على ذلك ... (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) وهم عيينة بن حصن في أهل نجد (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وهم أبو سفيان في قريش ، وواجهتم قريظة (٢).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : «إذ جاءوكم من فوقكم» أي من فوق الوادي من قبل المشرق : قريظة والنضير وغطفان «ومن أسفل منكم» أي من قبل المغرب من ناحية مكّة : أبو سفيان في قريش ومن تبعه (٣).

وقال الواقدي : كان جميع القوم الذين وافوا الخندق عساكر ثلاثة ، وعناج (٤) الأمر إلى أبي سفيان. فنزلت قريش في أحابيشها ومن ضوى إليها من العرب برومة ووادي العقيق (٥) ونزلت غطفان بالزغابة إلى جانب احد.

وكان الناس قد حصدوا قبل قدومهم بشهر فقدموا وليس في الوادي زرع ، بل كانت المدينة حين قدموا جديبة. فجعلت قريش تسرّح ركابها في وادي العقيق وليس هناك شيء للخيل إلّا ما حملوه من علف الذرّة. وسرّحت غطفان

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٥٣٥ ، والعبارة كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق ٣ : ٢٣٠ و ٢٣١. وقال المازندراني في المناقب ١ : ١٩٧. فكانوا ثمانية عشر ألف رجل. وقال المسعودي في التنبيه والإشراف : ٢١٦ فكان عدّة الجميع أربعة وعشرين ألفا.

(٢) التبيان ٨ : ٣٢٠.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٣٢.

(٤) مرّ معناها في الصفحة ٤٦٩ الهامش ٤.

(٥) أرض بالمدينة بين الجرف وزغابة ـ معجم البلدان ٤ : ٣٣٦.

٤٨٢

إبلها في الجرف إلى الغابة في أثلها وطرفائها وعضاهها والأتبان ، فكادت ابلهم تهلك من الهزال (١).

رسول الله والمسلمون :

قال الطبرسي : وخرج رسول الله والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم. وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الحصون (٢).

وروى الواقدي قال : نزل رسول الله دبر سلع فجعله خلف ظهره والخندق أمامه فكان عسكره هناك ، وضرب قبّة من أدم عند المسجد الأعلى بأصل الجبل ، وكان يعقب بين نسائه : عائشة وأمّ سلمة وزينب بنت جحش ، وسائر نسائه في حصن بني حارثة (٣).

نقض بني قريظة :

قال القمي في تفسيره : كان بنو قريظة في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ، فلمّا أقبلت قريش ونزلت العقيق جاء حييّ بن أخطب في جوف الليل إلى حصنهم ودقّ باب الحصن ، فلمّا سمع كعب بن أسد قرع الباب قال لأهله : هذا أخوك قد شأم قومه وجاء الآن يشأمنا ويهلكنا ويأمرنا بنقض العهد

__________________

(١) الواقدي ٢ : ٤٤٤.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٥٣٥ والعبارة في ابن هشام ٣ : ٢٣١. وقد روى الكليني في فروع الكافي عن شهر بن حوشب أنّه روى للحجّاج عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : شهد رسول الله الخندق في تسعمائة ١ : ٣٤٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٤٥٤.

٤٨٣

بيننا وبين محمّد ، وقد وفى لنا محمّد وأحسن جوارنا. ثمّ نزل إليه من غرفته وقال له : من أنت؟ قال : حييّ بن أخطب قد جئتك بعزّ الدهر! قال كعب : بل جئتني بذلّ الدهر! قال : يا كعب ، هذه قريش في قادتها وسادتها قد نزلوا بالعقيق مع حلفائهم من كنانة ، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها قد نزلت الزغابة ، وهذه سليم وغيرهم قد نزلوا حصن بني ذبيان ، ولا يفلت محمّد وأصحابه من هذا الجمع أبدا! فافتح الباب وانقض العهد الذي بينك وبين محمّد!

فقال كعب : لست بفاتح لك! ارجع من حيث جئت!

فقال حييّ : ما يمنعك من فتح الباب إلّا جشيشتك (١) التي في التنور تخاف أن أشركك فيها ، فافتح ، فإنّك آمن من ذلك!

فقال له كعب : لعنك الله ، قد دخلت عليّ من باب ضيّق. افتحوا له ، ففتحوا له الباب ، فقال : يا كعب ، انقض العهد الذي بينك وبين محمّد ولا تردّ رأيي ، فإنّ محمّدا لا يفلت من هذا الجمع أبدا ، فإن فاتك هذا الوقت فلا تدرك مثله أبدا!

ثمّ اجتمع إليه كلّ من كان في الحصن من رؤسائهم مثل غزّال بن شموأل ، وباشي بن قيس ، ورفاعة بن زيد ، والزّبير بن باطا. فقال لهم كعب : ما ترون؟

قالوا : أنت سيّدنا والمطاع فينا وأنت صاحب عهدنا ، فإن نقضت نقضنا وإن أقمت أقمنا معك ، وإن خرجت خرجنا معك.

وكان الزّبير بن باطا شيخا مجرّبا كبيرا قد ذهب بصره فقال : قد قرأت التوراة التي أنزلها الله في سفرنا بأنه يبعث نبيّا في آخر الزمان ، يكون مخرجه بمكّة ومهاجرته بالمدينة إلى البحيرة ، يركب الحمار العاري ويلبس الشملة ، ويجتزئ بالكسيرات والتميرات ، وهو الضحوك القتّال ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقاه يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر.

__________________

(١) الجشيش : طعام يصنع من الشعير الجريش أو البر المطحون خشنا.

٤٨٤

فإن كان هذا هو فلا يهولنّه هؤلاء وجمعهم ، ولو ناوته هذه الجبال الرواسي لغلبها!

فقال حييّ : ليس هذا ذلك ، ذلك النبيّ من بني إسرائيل وهذا من العرب من ولد إسماعيل ، ولا يكون بنو إسرائيل أتباعا لولد إسماعيل أبدا! لأنّ الله قد فضّلهم على الناس جميعا وجعل فيهم النبوّة والملك ، وقد عهد إلينا موسى : أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وليس مع محمّد آية ، وإنّما جمعهم جمعا وسحرهم ويريد أن يغلبهم بذلك.

فلم يزل يقلبهم عن رأيهم حتّى أجابوه : فقال لهم : أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمّد ، فأخرجوه ، فأخذه حييّ بن أخطب ومزّقه وقال : لقد وقع الأمر ، فتجهّزوا وتهيّأوا للقتال.

ورجع حييّ بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش فأخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففرحت قريش بذلك (١).

تبيّن الخبر :

وبلغ رسول الله ، ذلك فغمّه غمّا شديدا وفزع أصحابه ، فقال رسول الله لسعد بن معاذ واسيد بن حضير (٢) ـ وكانا من الأوس وكانت بنو قريظة حلفاء الأوس ـ : ائتيا بني قريظة فانظروا ما صنعوا؟ فإن كانوا نقضوا العهد فلا تعلما أحدا بذلك إذا رجعتما إليّ ، وقولا : عضل والقارّة.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٧٩ ـ ١٨١. ومجمع البيان ٨ : ٥٣٥ و ٥٣٦ وهي فيه عبارة ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣١ و ٢٣٢. والواقدي عن ابن كعب القرظي أكثر تفصيلا ٢ : ٤٥٤ ـ ٤٥٧.

(٢) ذكرهما الواقدي ٢ : ٤٥٨ وزاد سعد بن عبادة ، ثمّ روى رواية اخرى فيها إضافة. خوّات ابن جبير وعبد الله بن رواحة ثمّ قال : والأوّل أثبت عندنا. والثانية هي رواية ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٢.

٤٨٥

وذلك أنّه كانت عضل والقارة قبيلتين من العرب دخلتا في الإسلام ثمّ غدرتا ، فكان إذا غدر أحد ضرب بهما المثل فقيل : عضل والقارّة.

فجاء سعد بن معاذ واسيد بن حضير إلى باب الحصن ، فأشرف عليهما كعب من الحصن فشتم سعدا وشتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!

قال له سعد : إنّما أنت ثعلب في جحر! لتولينّ قريش ، وليحاصرنك رسول الله ولينزلنّك على الصغر والقماع ، وليضربنّ عنقك!

ثمّ رجعا إلى رسول الله فقالا : عضل والقارّة.

فقال رسول الله : لعناء! (١).

أو قال : الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين.

تبيّن النفاق :

وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف ، وأتاهم العدوّ من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ، وظهر النفاق من بعض المنافقين :

حتى قال معتّب بن قشير من بني عمرو بن عوف : كان محمّد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! (٢).

وحتى قال أوس بن قيظيّ من بني حارثة : يا رسول الله ، إنّ بيوتنا عورة

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٨١. وقريب منه في ابن هشام ٣ : ٢٣٢ والواقدي ٢ : ٤٥٨ أكثر تفصيلا.

(٢) ومع ذلك قال ابن هشام : قال بعض أهل العلم : لم يكن معتّب من المنافقين! واحتجّ بأنّه كان من أهل بدر! ورواه الواقدي عن ابن كعب القرظي ٢ : ٤٥٩ و ٤٦٠.

٤٨٦

للعدو فإنّها خارجة عن المدينة ، فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا (١).

فكانوا كما قال الله تعالى في سورة الأحزاب : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً* وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً* وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً* قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً* قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً* يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً* وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً* مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً* لِيَجْزِيَ اللهُ

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٢٣٣. والواقدي ٢ : ٤٦٣ أكثر تفصيلا.

٤٨٧

الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)(١).

توهين للمشركين واختبار للمسلمين :

قال القاضي النعمان المصري : ولمّا صار المسلمون إلى حيث وصفهم الله ـ عزوجل ـ في كتابه بقوله : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)(٢) ولما رآه النبيّ من جزع المسلمين وفساد المنافقين وما تخوّفه من أن يكون المكروه ... أرسل إلى عيينة بن حصن فبذل له ثلث ثمرة المدينة في ذلك العام على أن يرجع عنه بغطفان ... ولم ينعقد بين رسول الله وبين عيينة بن حصن في ذلك عقد (٣).

وقال المفيد في «الإرشاد» : بعث إلى عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف المرّي ، وهما قائدا غطفان ، يدعوهم إلى صلحه والكفّ عنه والرجوع بقومهما عن حربه ، على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة.

واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فيما بعث به إلى عيينة والحارث.

فقالا : يا رسول الله : إن كان هذا الأمر لا بدّ لنا من العمل به لأنّ الله أمرك فيه بما صنعت والوحي جاءك ، فافعل ما بدا لك ، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان

__________________

(١) الأحزاب : ١٠ ـ ٢٥.

(٢) الأحزاب : ١٠ ـ ١٢.

(٣) شرح الأخبار ١ : ٢٩٣.

٤٨٨

لنا فيه رأي؟

فقال ـ عليه وآله السّلام ـ : لم يأتني وحي ، ولكنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وجاءوكم من كلّ جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.

فقال سعد بن معاذ : قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعرف الله ولا نعبده ، ونحن لا نطعمهم من ثمرنا إلّا قرى أو بيعا ، والآن حين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا به وأعزّنا بك ، نعطيهم أموالنا؟! ما بنا إلى هذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلّا السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم!

فقال رسول الله : الآن قد عرفت ما عندكم ، فكونوا على ما أنتم عليه ، فإنّ الله تعالى لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتّى ينجّز له ما وعده.

ثمّ قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسلمين يدعوهم إلى جهاد العدو ، ويشجّعهم ويعدهم النصر من الله تعالى (١).

مبارزة عمرو لعليّ عليه‌السلام :

قال القاضي النعمان المصري : وجعل المشركون ينظرون إلى الخندق فيتهيّبون القدوم عليه ولم يكونوا قبل ذلك رأوا مثله ، فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم وخيلهم ورجلهم ، ويدعون المسلمين : ألا هلمّ للقتال والمبارزة.

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٩٥ ، ٩٦ ، وهي ألفاظ ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٤ ، عن الزهري ، من دون جواب رسول الله الأخير. وفي المغازي للواقدي ٢ : ٤٧٧ عن الزهري عن سعيد بن المسيّب بتفصيل أكثر ، وفي أوّله : حصر رسول الله وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كلّ امرئ منهم الكرب ... فبيناهم على ذلك الحال إذ أرسل رسول الله إلى عيينة بن حصن ، وإلى الحارث بن عوف ...

٤٨٩

والمسلمون قد عسكروا في الخندق وأمرهم رسول الله فأظهروا العدّة ولبسوا السلاح ووقفوا في مواقفهم ولزموا مواضعهم ، فلا يجيبون أحدا من المشركين ولا يردّون عليهم شيئا.

وأقاموا على ذلك شهرا لم يكن بينهم قتال إلّا نضح بالنبل ورمي بالحجارة من وراء الخندق (١) فلمّا طال ذلك بهم ونفدت أزوادهم اجتمعوا وندبوا من ينتدب منهم إلى اقتحام الخندق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فانتدب لذلك منهم (رجال أبطال) وكان أشدّ من فيهم وأنجدهم عمرو ابن عبد ودّ (٢) يعرف له ذلك جميعهم ، وكان قد شهد بدرا مع المشركين وأثخن جراحة ونجا بنفسه فيمن نجا ، ولم يشهد احدا ، فأراد أن يبين بنفسه وأنّه من أبطال قريش ، فتعلّم بعلامة ليشهر نفسه.

وجاء القوم إلى الخندق فمشوا حوله حتى أتوا إلى موضع ضيّق منه فأقحموا خيلهم فيه فدخلوا ، ووقف الجميع من وراء الخندق ينتظرون ما يكون منهم ، وثبت الناس في معسكرهم حسبما أمرهم الرسول به ، ولما تداخلهم من الخوف وما عاينوه من الجموع (٣).

وقال القمي في تفسيره : وافى عمرو بن عبد ودّ وهبيرة بن وهب ، وضرار

__________________

(١) وفي إعلام الورى ١ : ١٩٢ : وأقبلت الأحزاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهال المسلمون أمرهم ، فنزلوا ناحية من الخندق وأقاموا بمكانهم بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلّا الرمي بالنبل والحصى. وكذلك في مجمع البيان ٨ : ٥٣٦ عن أصحاب السير.

(٢) ودّ : اسم صنم بني عامر عشيرة عمرو ، وجاء اسمه في سورة نوح : (وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً ...) نوح : ٢٣.

(٣) شرح الأخبار ١ : ٢٩٢ و ٢٩٣ وقريب منه في مجمع البيان ٨ : ٥٣٧ عن أصحاب السير. وانفرد اليعقوبي ١ : ٥١ : أنّ البراز كان في اليوم الخامس.

٤٩٠

ابن الخطّاب (١) إلى الخندق ، فصاحوا بخيلهم حتّى طفروا الخندق إلى جانب رسول الله. وركز عمرو بن عبد ودّ رمحه في الأرض وأقبل يجول حوله ويرتجز ويقول :

ولقد بححت من النداء

بجمعكم : هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجاع

مواقف القرن المناجز

إنّي كذلك ، لم أزل

متسرّعا نحو الهزاهز

إنّ الشجاعة ـ في الفتى

 ـ والجود من خير الغرائز

فقال رسول الله : من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد ، فقام إليه أمير المؤمنين وقال : أنا له يا رسول الله. فقال : يا علي ، هذا عمرو بن عبد ودّ فارس يليل (٢).

فقال عليّ عليه‌السلام : وأنا علي بن أبي طالب!

فقال رسول الله : ادن منّي. فدنا منه فعمّمه بيده ودفع إليه سيفه ذا الفقار وقال له : اذهب وقاتل بهذا.

ثمّ دعا له فقال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته (٣).

وذكر الكراجكي : أنّ النبيّ قال ثلاث مرّات : أيّكم يبرز إلى عمرو وأضمن له على الله الجنّة؟! وفي كلّ مرّة يقوم عليّ عليه‌السلام والقوم ناكسو رءوسهم. فاستدناه وعمّمه بيده ، فلمّا برز قال : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه.

وروى بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أنّ النبيّ قال يومئذ : اللهم إنّك أخذت مني

__________________

(١) وزاد في الإرشاد : عكرمة بن أبي جهل ومرداس الفهري : ١ : ٩٦ وهو جدّ ضرار بن الخطّاب.

(٢) يليل : اسم موضع هجم فيه عمرو على عير وهزم ألف خيّال منهم ، قرب بدر.

(٣) وروى الطبرسي عن الحاكم الحسكاني بسنده عن حذيفة : أن رسول الله ألبسه درعه ذات الفضول وعمّمه السحاب تسعة أكوار. مجمع البيان ٨ : ٥٣٧.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٨٣.

٤٩١

عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم احد. وهذا أخي عليّ بن أبي طالب (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ)(١).

وقال ابن شهرآشوب في «المناقب» : ودعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو جاث على ركبتيه باسط يديه باكية عيناه ينادي : يا صريخ المكروبين ، يا مجيب دعوة المضطرّين ، اكشف همّي وكربي ، فقد ترى حالي! (٢).

وقال القمي : فمرّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يهرول في مشيه وهو يقول :

لا تعجلنّ ، فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة ، والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن اقيم عليك نائحة الجنائز!

من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز! (٣)

فقال له عمرو : من أنت؟ قال : أنا عليّ بن أبي طالب ابن عمّ

__________________

(١) ورواه المعتزلي مرفوعا قال : إنّ رسول الله قال ذلك اليوم حين برز عليّ عليه‌السلام : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه!

وما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء داعيا ربّه قائلا : اللهم إنّك أخذت منّي عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم احد ، فاحفظ عليّ اليوم عليّا (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) شرح النهج ١٩ : ٦١ والآية من سورة الأنبياء : ٨٩.

ونقل الحديث السيد ابن طاوس في الطرائف عن الأوائل للعسكري ، كما في بحار الانوار ٣٩ : ١.

أمّا حديثه المسند المستفيض عنه فيه : ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ، فالظاهر أنّه كان بعد يوم الخندق يذكر يوم الخندق.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٨.

(٣) نقل الخبر والرجزين لعمرو ولعليّ عليه‌السلام الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٨ عن ابن إسحاق ، وليس في رواية ابن هشام.

٤٩٢

رسول الله وختنه.

فقال عمرو : والله إنّ أباك كان لي صديقا قديما ، وإنّي أكره أن أقتلك. ما آمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن أختطفك برمحي هذا فأتركك شائلا بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميّت!

فقال له عليّ عليه‌السلام : قد علم ابن عمّي أنّك إن قتلتني دخلت الجنّة وأنت في النار ، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنّة!

فقال عمرو : وكلتاهما لك يا عليّ؟ تلك إذا قسمة ضيزى!

فقال علي عليه‌السلام : دع هذا يا عمرو ، وإني سمعت منك وأنت متعلّق بأستار الكعبة تقول : لا يعرضنّ عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلّا أجبته إلى واحدة منها ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة. قال : هات يا عليّ.

قال : أحدها : أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله.

قال عمرو : نحّ عني هذه فاسأل الثانية.

فقال : أن ترجع وتردّ هذا الجيش عن رسول الله ، فإنّ يك صادقا فأنتم أعلى به عينا ، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره!

فقال : لا تتحدّث نساء قريش بذلك ، ولا تنشد الشعراء في أشعارها : أنّي جبنت ورجعت على عقبي من الحرب وخذلت قوما رأسوني عليهم.

فقال عليّ عليه‌السلام : فالثالثة : أن تنزل إليّ ، فإنّك راكب وأنا راجل ، حتى أنابذك!

فوثب عن فرسه وعرقبه ، وقال : هذه خصلة ما ظننت أنّ أحدا من العرب يسومني عليها (١).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٨٣ و ١٨٤. وعرقبه : ضرب عرقوب الفرس ، عقب أقدامه.

٤٩٣

وقال القاضي النعمان : لمّا نظر رسول الله إلى أنّ عمرو بن عبد ودّ وأصحابه قد اقتحموا الخندق على المسلمين ، وأنّ خيلهم جالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع (١) وأنّهم قربوا من مناخ رسول الله ، وتخوّف أن يمدّهم سائر المشركين فيقتحموا الخندق ، دعا عليّا عليه‌السلام وقال له : امض بمن خفّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه.

فمضى عليّ عليه‌السلام في نفر معه يريدون الثغرة ... وعطف عليهم عمرو بن عبد ودّ بمن كان معه حتى قربوا منهم.

فنادى عليّ عليه‌السلام عمرو بن عبد ودّ فأجابه ، فقال له عليّ عليه‌السلام : إنّه قد بلغني أنّك كنت عاهدت الله أن لا يدعوك أحد إلى إحدى خلّتين إلّا أجبت إلى إحداهما (٢).

وفي «الإرشاد» : فبرز إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له عمرو : ارجع ، يا ابن الأخ فما احبّ أن أقتلك ، فقال له أمير المؤمنين : قد كنت يا عمرو عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خصلتين إلّا اخترتها منه؟ قال : أجل فما ذاك؟ قال :

إنّي أدعوك إلى الله ورسوله والإسلام.

فقال عمرو : لا حاجة لي إلى ذلك.

قال عليّ عليه‌السلام : فإنّي أدعوك إلى النزال.

فقال عمرو : ارجع ، فقد كان بيني وبين أبيك خلّة ، وما احبّ أن أقتلك!

فقال عليّ عليه‌السلام : لكنّني والله احبّ أن أقتلك ما دمت أبيّا للحقّ!

__________________

(١) سلع : من جبال المدينة ، مر التعريف به في أوائل الغزوة.

(٢) شرح الأخبار ١ : ٢٩٤. وهي ألفاظ ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٥ و ٢٣٦.

٤٩٤

فحمي عمرو عند ذلك وقال : أتقتلني؟! ونزل عن فرسه فعقره وضرب وجهه حتى نفر ... وأقبل على عليّ عليه‌السلام مصلتا سيفه (١).

قال القاضي النعمان : فتجاولا ساعة ... ثمّ اختلفا بضربتين : فضرب عمرو عليّا على أمّ رأسه ـ وعليه البيضة ـ فقدّها وأثّر السيف في هامته. وضربه عليّ عليه‌السلام فوق طوق الدرع فرمى برأسه. وثارت لذلك عجاجة فما انكشفت إلّا وهم يرون عليّا عليه‌السلام يمسح سيفه على ثياب عمرو وقد خرّ صريعا.

ثمّ حمل هو وأصحابه على أصحاب عمرو فولّوا بين أيديهم هاربين من الثغرة التي اقتحموها ، وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه وهو منهزم في الخندق ، وانكشف المشركون عن الخندق ، وكبّر المسلمون وفرحوا وزال عنهم أكثر الخوف الذي كان بهم (٢).

وفي «الإرشاد» : فلمّا رأى عكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطّاب عمرا صريعا ولّوا بخيلهم منهزمين حتى اقتحموا الخندق لا يلوون على شيء ، وانصرف عليه‌السلام الى مقامه الأوّل (٣).

وفي تفسير القمي : قال له عليّ عليه‌السلام : يا عمرو أما كفاك أنّي بارزتك وأنت فارس العرب حتّى استعنت عليّ بظهير؟ فالتفت عمرو إلى خلفه ، فضربه أمير المؤمنين عليه‌السلام مسرعا على ساقيه فقطعهما جميعا.

وارتفعت بينهما عجاجة فقال المنافقون : قتل عليّ بن أبي طالب! ثمّ انكشفت العجاجة فإذا أمير المؤمنين عليه‌السلام على صدر عمرو قد أخذ بلحيته يريد

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٩٧ ، ٩٩ ، وهي ألفاظ ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٦.

(٢) شرح الأخبار ١ : ٢٩٦.

(٣) الإرشاد ١ : ٩٩.

٤٩٥

أن يذبحه ، فلم يضربه (ليذبحه) قال الحلبي : فوقع المنافقون في علي عليه‌السلام ، فرد عنه حذيفة بن اليمان ، فقال له النبي : مه يا حذيفة فانّ عليا سيذكر سبب وقفته (١).

وقال له عمرو : يا بن عم ؛ إن لي إليك حاجة : لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه. فقال علي عليه‌السلام : ذلك أهون شيء عليّ (٢).

ثم ذبحه وأخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم والرأس بيده وهو يقول :

أنا عليّ وابن عبد المطّلب

الموت خير للفتى من الهرب

فقال له رسول الله : يا عليّ ، ماكرته؟ (لان عمروا التفت الى خلفه فضرب عليّ ساقه).

قال : نعم ، يا رسول الله ، الحرب خديعة (٣).

قال الحلبي : فسأله النبي عن سبب وقفته؟

فقال : قد كان شتم أمي ، وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي! فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله (٤).

وروى عن محمد بن اسحاق قال : فقال له عمر : فهلّا سلبت درعه فانها تساوي ثلاثة آلاف وليس في العرب مثلها؟!

فقال : اني استحيت أن اكشف ابن عمّي (٥).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٨٥.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٥.

(٥) قال : وروي أنّه جاءت اُخت عمرو وورأته في سلبه فلم تحزن وقالت : إنّما قتله كريم مناقب آل ابي طالب ٢ : ١١٧ ، ١١٨ وقالت شعراً :

لو كان قاتل عمروٍ غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكنّ قاتله من لا يُلام به

أبوه قد كان يُدعى بيضة البلد

٤٩٦

قال القمي : وبعث رسول الله الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته.

وأمر رسول الله عمر بن الخطّاب أن يبارز ضرار بن الخطّاب ، فلمّا برز إليه ضرار انتزع له عمر سهما ، فقال ضرار : ويحك ـ يا ابن صهاك ـ أترميني في مبارزة؟! والله لئن رميتني لا تركت عدويّا بمكّة إلّا قتلته!

فانهزم عنه عمر ، ومرّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثمّ قال : احفظها يا عمر ، فإنّي آليت أن لا أقتل قرشيّا ما قدرت عليه (١).

وقال الكراجكي : صرعه أمير المؤمنين عليه‌السلام وجلس على صدره ، وهو يكبّر الله ويمجّده. فلمّا همّ أن يذبحه قال له عمرو :

يا عليّ ، قد جلست منّي مجلسا عظيما ، فإذا قتلتني فلا تسلبني حلّتي!

فقال عليه‌السلام : هي أهون عليّ من ذلك.

وذبحه ، وأتى برأسه وهو يتبختر في مشيته ، فقال عمر للنبيّ :

يا رسول الله ، ألا ترى إلى عليّ كيف يتبختر في مشيته؟!

فقال رسول الله : إنّها لمشية لا يمقتها الله في هذا المقام.

ثمّ تلقّاه النبيّ فمسح الغبار عن عينيه وقال له :

لو وزن اليوم عملك بعمل جميع أمّة محمّد لرجح عملك على عملهم ، وذلك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلّا وقد دخله ذلّ بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من المسلمين إلّا وقد دخله عزّ بقتل عمرو (٢).

__________________

(١) فكان عمر يحفظها له فلمّا ولي عمر ولّى ضرار ـ تفسير القمي ٢ : ١٨٥ ـ ، ويأتي عن مغازى الواقدي مثله ـ ٢ : ٤٧١ إلى ٥١٩.

(٢) كنز الفوائد : ١٣٨ ، كما في بحار الأنوار ٢٠ : ٢١٥ و ٢١٦ ، وما رواه هنا من قول النبيّ في

٤٩٧

رجز عليّ عليه‌السلام :

قال القاضي النعمان : انصرف عليّ عليه‌السلام إلى رسول الله وهو يقول :

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت ربّ محمّد بصواب

فصددت حين تركته متجدّلا

كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو انّني

كنت المصرّع بزّني أثوابي (١)

لا تحسبنّ الله خاذل دينه

ونبيّه ، يا معشر الأحزاب (٢)

ونقلها المفيد في «الإرشاد» وروى عن الكلبي أبياتا اخرى عن عليّ عليه‌السلام قال :

أعليّ تقتحم الفوارس هكذا

عنّي وعنها خبروا أصحابي

__________________

ـ قتل علي لعمرو ، هو ما جاء عنه فيما بعد في قولته الشهيرة : ضربة علي يوم الخندق أفضل من ـ أو تعدل ـ عبادة الثقلين.

(١) بزّ : من أسماء الأصوات ، اسم لصوت تمزّق الثياب ، أي قطّعها ونزعها عنّي.

(٢) شرح الأخبار ١ : ٢٩٦ والإرشاد ١ : ٩٩ وابن إسحاق في السيرة ، وشكّك في صحّتها ابن هشام ٣ : ٢٣٦.

٤٩٨

اليوم تمنعني الفرار حفيظتي

ومصمّم في الرأس ليس بنابي

أرديت عمرا إذ طغى بمهنّد

صافي الحديد مجرّب قضّاب

فصددت حين تركته متجدّلا

كالجذع بين دكادك وروابي

ثمّ روى عن الحسن البصري قال : إنّ عليّا عليه‌السلام لمّا قتل عمرو بن عبد ودّ اجتزّ رأسه وحمله فألقاه بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس عليّ عليه‌السلام (١).

ثمّ روى عن ابن إسحاق ـ برواية يونس بن بكير ـ قال : لمّا قتل عليّ بن أبي طالب عمرا أقبل نحو رسول الله ووجهه يتهلّل ، فقال له عمر بن الخطّاب : هلّا سلبته يا عليّ درعه فإنّه ليس في العرب مثلها؟!

فقال عليه‌السلام : إنّي استحييت أن أكشف سوأة ابن عمّي (٢).

وقال رسول الله بعد قتله هؤلاء النفر : الآن نغزوهم ولا يغزونا (٣).

__________________

(١) ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٩.

(٢) ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٨ عن حذيفة بن اليمان بزيادة.

(٣) ثمّ روى عن المدائني قال : لمّا قتل علي بن أبي طالب عليه‌السلام عمرا نعي إلى اخته فقالت : من ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا : علي بن أبي طالب. فقالت : لم يعد موته إلّا على يد كفؤ كريم ، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه ، قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت منيّته على يد كفؤ كريم من قومه ، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر ، ثمّ قالت :

لو كان قاتل عمر غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد

٤٩٩

تواعد قريش وغطفان لليوم الثاني :

قال الواقدي : وهرب عكرمة وهبيرة فلحقا بأبي سفيان ... فلمّا رجعوا إلى أبي سفيان قال : هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء ، ارجعوا. فرجعت قريش إلى العقيق (معسكرها) ورجعت غطفان إلى (معسكرها) وتواعدوا يغدون جميعا (إلى الخندق) ولا يتخلّف منهم أحد.

فباتت قريش يعبّئون أصحابهم ، وباتت غطفان يعبّئون أصحابهم.

ووافوا رسول الله بالخندق قبل طلوع الشمس!

وعبّأ رسول الله أصحابه وحضّهم على القتال ووعدهم النصر إن صبروا.

والمشركون قد جعلوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم ، أخذوا بكلّ وجه من الخندق.

وروى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : فرّقوا كتائبهم وبعثوا إلى رسول الله كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد ، فقابلهم (١) يومه ذلك إلى أوائل الليل ، ما

__________________

لكنّ قاتل عمر لا يعاب به

من كان يدعى أبوه بيضة البلد

الإرشاد ١ : ١٠٤ ـ ١٠٨. وقول الرسول ـ السابق ـ رواه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٤١ عن سليمان بن صرد. وفي السيرة ٣ : ٢٦٦. وفي المغازي ٢ : ٤٧١ : ورجعوا هاربين وخرج في أثرهم الزبير بن العوّام وعمر بن الخطّاب ، فناوشوهم ساعة ، وحمل ضرار بن الخطّاب على عمر بن الخطّاب بالرمح ، حتّى إذا وجد عمر مسّ الرمح رفع عنه وقال : هذه نعمة مشكورة فاحفظها يا بن الخطّاب! إنّي كنت قد حلفت أن لا تمكنّني يداي من رجل من قريش أبدا. وانصرف ضرار راجعا إلى أبي سفيان وأصحابه عند الجبل ٢ : ٤٧١.

(١) في النصّ : فقاتلهم. ويبدو أنّ الصحيح ما أثبتناه ، إذ لم يكن في الخندق قتال إلّا قليلا.

٥٠٠