موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

فقال لهم عبد الله : اتّقوا الله ، فان رسول الله قد تقدم إلينا أن لا نبرح!

فلم يقبلوا منه وأقبل ينسلّ رجل فرجل حتى أخلوا مركزهم ، وبقي عبد الله ابن جبير في اثني عشر رجلا (١).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١١٢ وقال الواقدي كان ضرار بن الخطّاب الفهري يحدث عن وقعة احد يقول : لما التقينا ما أقمنا لهم شيئا حتى هزمونا فانكشفنا مولّين ، فقلت في نفسي : هذه أشد من وقعة بدر وجعلت أقول لخالد بن الوليد : كرّ على القوم! فجعل يقول : وترى وجها نكرّ فيه؟ حتى نظرت الى الجبل ـ الذي عليه الرماة ـ خاليا ، فقلت : أبا سليمان ، انظر وراءك! فعطف عنان فرسه ، فكرّ وكررنا معه ، فانتهينا الى الجبل فلم نجد عليه أحدا له بال ، وجدنا نفيرا فأصبناهم ، ثم دخلنا العسكر والقوم غارّون ينتهبون العسكر فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه ووضعنا السيوف فيهم حيث شئنا ١ : ٢٨٣.

وقال الواقدي : وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد احدا ، قال كل واحد منهم : والله اني لأنظر الى هند وصواحبها منهزمات ما دون أخذهن شيء لمن أراد ذلك. وكلما كان خالد يأتي من قبل ميسرة النبيّ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ ليجوز حتى يأتي من قبل السفح كان يردّه الرماة ، وفعل ذلك مرارا وفعلوا.

وانهزم المشركون وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أبعدوهم عن معسكرهم وأخذوا ينتهبونه ، فقال بعض الرماة لبعض : لم تقيمون هاهنا في غير شيء؟ قد هزم الله العدوّ ، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم ، فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم! وأجابهم بعضهم : ألم تعلموا أن رسول الله قال لكم : احموا ظهورنا ولا تبرحوا من مكانكم ، وان رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا؟! فقال الآخرون : لم يرد رسول الله هذا وقد أذلّ الله المشركين وهزمهم ، فادخلوا المعسكر فانتهبوا مع اخوانكم!

فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله وأن لا يخالفوا أمر رسول الله. فعصوه وانطلقوا حتى لم يبق منهم مع أميرهم عبد الله بن جبير إلّا

٢٨١

وانحطّ خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير وقد فرّ أصحابه وبقي في نفر قليل ، فقتلوهم على باب الشعب ، واستعقبوا المسلمين فوضعوا فيهم السيف (١).

__________________

ـ نفير ما يبلغون العشرة.

ثم روى عن نسطاس مولى صفوان بن أميّة قال : دنا القوم بعضهم من بعض واقتتلوا ساعة ، ثم اذا أصحابنا منهزمون ، ودخل أصحاب محمد عسكرنا ، فاحدقوا بنا وأسرونا وانتهبوا العسكر .. وضيعت الثغور التي كان بها الرماة وجاءوا الى النهب ، فأنا أنظر إليهم متأبّطين قسيهم وجعابهم كل رجل منهم في يديه أو في حضنه شيء قد أخذه ١ : ٢٣١.

ثم روى عن رافع بن خديج قال : لما انصرف الرماة الا من بقي ، نظر خالد بن الوليد الى خلأ الجبل وقلة أهله ، فكرّ بالخيل ، وتبعه عكرمة في الخيل ، فانطلقا الى بقية الرماة فحملوا عليهم ، فراموا القوم حتى اصيبوا ، ورامى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله ، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر ، ثم كسر جفن سيفه فقاتلهم حتى قتل (قتله عكرمة ١ : ٣٠١ ، ٣٠٢).

وكان ابو بردة بن نيار وجعال بن سراقة آخر من انصرف من الجبل بعد مقتل عبد الله ابن جبير ١ : ٢٣٢.

قال نسطاس : فدخلت خيلنا على قوم غارّين آمنين ، فوضعوا فيهم السيوف فقتلوا فيهم قتلا ذريعا ، وتفرق المسلمون في كل وجه وتركوا ما انتهبوا واخلوا العسكر ، وخلّوا أسرانا. واسترجعنا متاعنا وما فقدنا منه شيئا ، حتى الذهب وجدناه في المعركة ١ : ٢٣١.

(١) تفسير القمي ١ : ١١٣ وروى المفيد في الارشاد ١ : ٨١ : بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : فانهزم القوم ، واكب المسلمون على الغنائم. ولما رأى أصحاب الشعب الناس يغنمون قالوا : يذهب هؤلاء بالغنائم ونبقى نحن؟! فقالوا لعبد الله الذي كان رئيسا عليهم : نريد أن نغنم كما غنم الناس ، فقال : إن رسول الله أمرني أن لا أبرح من موضعي هذا! فقالوا له : انه أمرك بهذا وهو لا يدري أن الأمر يبلغ الى ما ترى! ومالوا الى الغنائم وتركوه ، ولم يبرح هو من موضعه ، فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله ، ثم جاء من ظهر رسول الله يريده.

٢٨٢

ونظرت قريش في هزيمتها الى الراية قد رفعت ، فلاذوا بها.

هزيمة المسلمين :

وانهزم أصحاب رسول الله هزيمة قبيحة ، وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كلّ وجه.

فلما رأى رسول الله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إنّي أنا رسول الله ، فإلى أين تفرّون عن الله وعن رسوله (١).

__________________

ـ وقال الطبرسي في إعلام الورى ١ : ١٧٧ : وكانت الهزيمة على المشركين وحسّهم المسلمون بالسيوف حسّا. فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة! ظهر أصحابكم فما ذا تنتظرون؟! فقال عبد الله : أنسيتم قول رسول الله؟! أما أنا فلا أبرح موقفي الذي عهد إليّ فيه رسول الله ما عهد. فتركوا أمره وعصوه بعد ما رأوا ما يحبّون من الغنائم وأقبلوا عليها.

فخرج كمين المشركين عليهم خالد بن الوليد فانتهى الى عبد الله بن جبير فقتله ، ثم أتى الناس من أدبارهم ، فوضع السلاح فيهم فانهزموا : ٨١ (وقال الواقدي ١ : ٣٠٢ قتله عكرمة).

وروى ابن اسحاق عن يحيى بن عبّاد ، عن أبيه عبّاد بن عبد الله ، عن أبيه عبد الله بن الزبير ، عن ابيه الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني انظر الى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، واذا بالرماة مالوا الى العسكر (للغنيمة) وخلّوا ظهورنا للخيل فاتينا من خلفنا ـ ابن هشام ٣ : ٨٢ ولا يذكر من أتاهم من خلفهم؟! بل لا يذكر خالد بن الوليد في احد الا أنه كان على ميمنة خيل قريش ٣ : ٧٠. اللهم الا أن يكون من حذف ابن هشام لقوله في مقدمته بأنه يحذف ما يشنع ويسوء بعض الناس ذكره ١ : ٤.

(١) تفسير القمّي ١ : ١١٤.

٢٨٣

موقف علي عليه‌السلام وسائر الصحابة :

قال القمّي : وحمل عليّ عليه‌السلام كفّا من الحصى فرمى به في وجوههم ثمّ قال : شاهت الوجوه وقطّت ولطّت (أي قطعت وشقّت وضربت) إلى أين تفرّون؟! إلى النار؟! فلم يرجعوا ، فكرّ عليهم ثانية وبيده صحيفة يقطر منها الموت فقال لهم : بايعتم ثمّ نكثتم؟! فو الله لأنتم أولى بالقتل ممّن قتل! وكأنّ عينيه قدحان مملوءان دماء أو زيتان يتوقّدان نارا!

ولم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أمير المؤمنين وأبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ، وكلّما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم أمير المؤمنين فيدفعهم عن رسول الله ويقتل فيهم حتى انقطع سيفه (١).

فلمّا انقطع سيف أمير المؤمنين عليه‌السلام جاء إلى رسول الله ، فقال : يا رسول الله إنّ الرجل يقاتل بالسلاح ، وقد انقطع سيفي! فدفع إليه رسول الله سيفه «ذا الفقار» وقال : قاتل بهذا.

فلم يكن يحمل على رسول الله أحد إلّا يستقبله أمير المؤمنين عليه‌السلام فإذا رأوه رجعوا.

وانحاز رسول الله إلى ناحية احد فوقف ، وكان القتال من وجه واحد ، وقد انهزم أصحابه ، فلم يزل أمير المؤمنين عليه‌السلام يقاتلهم حتى أصابه في وجهه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة.

وسمعوا مناديا ينادي من السماء : «لا سيف إلّا ذو الفقار ، ولا فتى إلّا علي».

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١١٥.

٢٨٤

ونزل جبرئيل على رسول الله وقال : هذه والله المواساة يا محمّد!

فقال رسول الله : لأنّي منه وهو منّي!

فقال جبرئيل : وأنا منكما (١).

قال : ولم يبق مع رسول الله إلّا أبو دجانة سماك بن خرشة وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

موقف نسيبة الخزرجية :

وبقيت معه نسيبة بنت كعب المازنيّة ، وكانت تخرج مع رسول الله في غزواته تداوي الجرحى ، وكان ابنها معها ، فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه وقالت : يا بني إلى أين تفرّ عن الله وعن رسوله؟! فردّته!

فحمل عليه رجل يقتله فأخذت سيف ابنها وحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته!

فقال رسول الله : بارك الله عليك يا نسيبة! وكانت تقي رسول الله بصدرها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة.

__________________

(١) تفسير القمّي : ١١٦ ، ومثله روضة الكافي عن الصادق عليه‌السلام : ٣٢٠ ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ١٠٧ و ١٠٨ ، وفي علل الشرائع عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي عن الصادق عليه‌السلام أيضا ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ٧٠ و ٧١ ، وفي الخصال ٢ : ٥٥٦ عن علي عليه‌السلام ، وفي عيون أخبار الرضا ١ : ٨٥ عن الكاظم عليه‌السلام ، وفي تفسير فرات الكوفي عن حذيفة بن اليمان : ٢٤ ـ ٢٦ ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ١٠٣ ـ ١٠٥ ، وعن ابن عبّاس : ٢٢ ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ١١٣ ، وشرح الأخبار للقاضي النعمان ٣ : ٢٨٦ برقم : ٢٨٠ عن أبي رافع ، وشرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٢٥٠ عن أمالي محمّد بن حبيب ، وقال : رواه جماعة من المحدّثين ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي ابن إسحاق ورأيت بعضها خاليا عنه!

٢٨٥

ونظر رسول الله إلى رجل من المهاجرين وقد ألقى ترسه خلف ظهره وهو ينهزم ، فناداه : يا صاحب الترس ألق ترسك ومرّ إلى النار! فرمى بترسه ، فقال رسول الله : يا نسيبة خذي الترس. فأخذت الترس. وكانت تقاتل المشركين ، فقال رسول الله : لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان وفلان!

وحمل ابن قميئة على رسول الله فقال : أروني محمّدا ، لا نجوت إن نجا محمّد! فضربه على حبل عاتقه ونادى : قتلت محمّدا واللات والعزّى!

وروي أنّ مغيرة بن العاص كان رجلا أعسر ، فحمل في طريقه إلى احد ثلاثة أحجار وقال : بهذه الأحجار أقتل محمّدا! فلمّا حضر القتال نظر إلى رسول الله وبيده السيف ، فرماه بحجر فأصاب به يد رسول الله فسقط السيف من يده ، ثمّ رماه بحجر آخر فأصاب جبهته فقال : قتلته واللات والعزّى! وقال رسول الله : اللهم حيّره (١).

مقام علي عليه‌السلام :

وروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن أبان بن عثمان بن الأحمر البجلي الكوفي ، عن نعمان الرازي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : انهزم الناس عن رسول الله فغضب غضبا شديدا .. ونظر فإذا عليّ إلى جنبه فقال له : ما لك لم تلحق (بهم)؟ فقال عليّ عليه‌السلام : يا رسول الله ، أكفرا بعد إسلام؟! إنّ لي بك اسوة. فقال : أمّا إذا لا (أي لا تنصرف) فاكفني هؤلاء. فحمل علي عليه‌السلام فضرب أوّل من لقي منهم.

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١١٥ ـ ١١٩ ، وتمامه : فلمّا انكشف الناس تحيّر فلحقه عمّار بن ياسر فقتله. وسلّط الله على ابن قميئة الشجر فكان يمرّ بالشجرة فتأخذ من لحمه! وظلّ كذلك حتى مات.

٢٨٦

فقال جبرئيل : إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد!

قال : إنّه منّي وأنا منه. قال جبرئيل : وأنا منكما (١). ورواه الطبرسي في «إعلام الورى» (٢).

وروى المفيد في «الإرشاد» بالإسناد إلى زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود (٣) قال : جاء خالد بن الوليد من خلف رسول الله يريده ، حتى نظر إليه وهو في قلّة من أصحابه ، فقال لمن معه : دونكم هذا الذي تطلبون فشأنكم به! فحملوا عليه حملة رجل واحد ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح ورميا بالنبال ورضخا بالحجارة.

وثبت أمير المؤمنين عليه‌السلام وأبو دجانة وسهل بن حنيف يدفعون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكثر عليهم المشركون واغمي على النبيّ ممّا ناله ، وفتح عينيه ونظر إلى عليّ عليه‌السلام فقال له : ما فعل الناس؟ قال : نقضوا العهد وولّوا الدبر (وقصده عدّة منهم فقال) : فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي. فحمل عليهم أمير المؤمنين فكشفهم ، ثم عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية اخرى فكرّ عليهم فكشفهم ، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه بيد كلّ واحد منهما سيفه يذبّ عنه (٤).

قال زيد بن وهب : فقلت لابن مسعود : انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبو دجانة وسهل بن حنيف؟! فقال :

__________________

(١) روضة الكافي : ١١٠ ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ١٠٧ ، ومرّ بعض مصادره الاخرى ، ومنها عن أبان عن الصادق عليه‌السلام في علل الشرائع ١ : ٧ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٧٠.

(٢) اعلام الورى ١ : ١٧٧ ، ١٧٨.

(٣) الارشاد ١ : ٨٠ ـ ٨٤.

(٤) الارشاد ١ : ٨٢.

٢٨٧

ولحقهم طلحة بن عبيد الله.

فقلت : وأين كان أبو بكر وعمر؟ قال : كانا ممّن تنحّى! (١)

قلت : وأين كان عثمان؟ قال : جاء بعد ثلاثة أيّام من الوقعة! فقال له رسول الله : لقد ذهبت فيها عريضة!

فقلت له : وأنت أين كنت؟ قال : كنت ممّن تنحّى.

فقلت : فمن حدّثك بهذا الحديث؟ قال : عاصم وسهل بن حنيف.

فقلت له : إنّ ثبوت عليّ في ذلك المقام لعجب!

فقال : وإن تعجب من ذلك فقد تعجّبت منه الملائكة ، أما علمت أنّ جبرئيل عليه‌السلام قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ!

قلت : فمن أين علم أنّ ذلك من جبرئيل عليه‌السلام؟ قال : سمع الناس صائحا يصيح في السماء بذلك ، فسألوا النبيّ عنه فقال : ذاك جبرئيل (٢).

ثمّ روى عن عكرمة مولى ابن عبّاس قال : سمعت عليّا يقول : لمّا انهزم الناس عن رسول الله يوم احد لحقني من الجزع عليه ما لم يلحقني قطّ ولم أملك نفسي ، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه ، فرجعت أطلبه فلم أره! فقلت (في نفسي) : ما كان رسول الله ليفرّ ، وما رأيته في القتلى ، وأظنّه رفع من بيننا إلى السماء! فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي : لاقاتلنّ به عنه حتى اقتل! وحملت على القوم فأفرجوا عنّي فإذا أنا برسول الله قد وقع على الأرض (فوقعت عليه فإذا به حيّ مغشيّ عليه) فقمت على رأسه ، فنظر إليّ فقال : ما صنع الناس يا علي؟ فقلت : كفروا يا رسول الله وولّوا الدبر من العدوّ وأسلموك! ونظر النبيّ إلى

__________________

(١) وكما في بحار الأنوار أيضا ٢٠ : ٧٠ و ٧١.

(٢) الارشاد ١ : ٨٣ ـ ٨٥.

٢٨٨

كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي : ردّ عنّي هذه الكتيبة يا عليّ. فحملت عليها أضربها بسيفي يمينا وشمالا حتى ولّوا الأدبار. فقال لي : يا علي ، أما تسمع مديحك في السماء؟ إنّ ملكا يقال له رضوان ينادي : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ! فبكيت سرورا وحمدت الله ـ سبحانه وتعالى ـ على نعمته (١).

ثمّ روى بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا انهزم الناس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم احد وثبت أمير المؤمنين عليه‌السلام قال له النبيّ : مالك لا تذهب مع القوم؟ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أذهب وأدعك يا رسول الله؟! والله لا برحت حتى اقتل أو ينجز الله لك ما وعدك من النصر!

فقال له النبيّ : أبشر يا عليّ ، فإنّ الله منجز وعده ، ولن ينالوا منّا مثلها أبدا.

ثمّ نظر إلى كتيبة قد أقبلت إليه ، فقال له : احمل على هذه يا عليّ. فحمل أمير المؤمنين عليه‌السلام عليها فقتل منها هشام بن أميّة المخزومي وانهزم القوم.

ثمّ أقبلت كتيبة اخرى فقال له النبيّ : احمل على هذه. فحمل عليها فقتل منها عمرو بن عبد الله الجمحي وانهزمت أيضا.

ثمّ أقبلت كتيبة اخرى فقال له النبيّ : احمل على هذه ، فحمل عليها فقتل منها بشر بن مالك العامري وانهزمت الكتيبة (٢).

وأقبل أميّة بن أبي حذيفة (المخزومي) وهو يقول : يوم بيوم بدر ، فعرض له رجل من المسلمين فقتله اميّة. فصمد له علي بن أبي طالب فضربه بالسيف على هامته فنشب في بيضة مغفره ، وضرب اميّة بسيفه فاتّقاها أمير المؤمنين عليه‌السلام بدرقته فنشب فيها ، ونزع عليّ عليه‌السلام سيفه من مغفر اميّة ، وخلص اميّة سيفه من

__________________

(١) الارشاد ١ : ٨٦ ، ٨٧.

(٢) الإرشاد ١ : ٨٩.

٢٨٩

درقة عليّ أيضا ثمّ تناوشا ، فنظر عليّ إلى فتق تحت إبط اميّة فضربه بالسيف فقتله وانصرف عنه (١).

ولم يعد بعدها أحد منهم ، وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وروى عن عمران بن حصين قال : لمّا تفرّق الناس عن رسول الله في يوم احد ، جاء عليّ عليه‌السلام متقلّدا سيفه حتى قام بين يديه ، فرفع رسول الله رأسه إليه فقال له : ما بالك لم تفر مع الناس؟! فقال : يا رسول الله ، أرجع كافرا بعد إسلامي؟! فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم ، ثمّ أشار إلى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم ، ثمّ أشار إلى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم.

فجاء جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله : لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه! فقال رسول الله : وما يمنعه من هذا وهو منّي وأنا منه! فقال جبرئيل : يا رسول الله وأنا منكما (٣).

وروى الطبرسي في «اعلام الورى» خبر أبان بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام ثمّ قال : وثاب إلى رسول الله جماعة من أصحابه.

وأقبل ابيّ بن خلف (الجمحي) وهو دارع على فرس له وهو يقول : هذا ابن أبي كبشة! لا نجوت إن نجوت! ورسول الله بين سهل بن حنيف والحارث بن الصمّة يعتمد عليهما ، فحمل عليه ، فوقاه مصعب بن عمير بنفسه فطعن مصعبا فقتله (٤) فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنزة كانت في يد سهل بن حنيف فطعن به ابيّا في

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٨٨.

(٢) الإرشاد ١ : ٨٩.

(٣) الإرشاد ١ : ٨٥ ، ومرّ بعض مصادره الاخرى.

(٤) وقال ابن إسحاق : وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله حتى قتله ابن قميئة الليثي وهو

٢٩٠

__________________

ـ يحسبه رسول الله ، فرجع يقول : قتلت محمّدا! ولمّا قتل مصعب بن عمير أعطى النبيّ اللواء عليّ بن أبي طالب. وقاتل عليّ بن أبي طالب ورجال من المسلمين ٣ : ٧٧ ، هذه الجملة غير الكاملة هو كلّ ما عن ابن إسحاق في سيرة ابن هشام من موقف عليّ عليه‌السلام ، اللهم إلّا ما أضافه ابن هشام هنا من ذكر مبارزته لأبي سعد بن طلحة ، ثمّ نقل عن ابن إسحاق أنّ سعد ابن أبي وقّاص قتله ٣ : ٧٨ ، ويروي عن الزبير قوله : اتينا من خلفنا فانكفأنا وانكفأ القوم علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم ٣ : ٨٢ ، ولا يذكر من أصاب أصحاب الألوية؟!

وقال ابن إسحاق : وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدوّ حتى خلص إلى رسول الله حتى ارتثّ بالحجارة ووقع لجانبه فاصيبت رباعيّته وشجّ وجهه ، وجرحت شفته.

ثمّ روى ابن هشام : عن أبي سعيد الخدري : أنّ الذي جرح شفته السفلى وكسر رباعيته السفلى اليمنى هو عتبة بن أبي وقّاص الزهري أخو سعد ، والذي شجّه في جبهته عبد الله بن شهاب الزهري ، والذي جرح وجنته هو ابن قمئة حتى دخلت حلقتا المغفر في وجنته.

ووقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر (الراهب الفاسق) ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله ورفعه طلحة بن عبيد الله التيمي حتى استوى قائما ٣ : ٨٥.

بينما روى ابن إسحاق بسنده عن سعد بن معاذ : أنّ رسول الله لمّا غشيه القوم نادى : من يشر لنا نفسه؟ فقام إليه زياد بن السكن ـ أو عمارة بن يزيد بن السكن ـ ومعه خمسة نفر من الأنصار فقاتلوا رجلا رجلا دون رسول الله حتى قتلوا دونه ، ثم فاءت إليه فئة من المسلمين فدفعوهم عنه.

ثمّ روى عن سعيد بن زيد الأنصاري : عن أم سعد بنت سعد بن الربيع عن أمّ عمارة نسيبة بنت كعب المازنية : أنها لما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله ، وباشرت القتال

٢٩١

__________________

ـ وذبت عنه بالسيف ورمت عنه بالقوس ، وأقبل ابن قمئة ينادي : دلّوني على محمد! فلا نجوت إن نجا ، فاعترضت له هي ومصعب بن عمير واناس ممن ثبت مع رسول الله ، فضربها على عاتقها ضربة غائرة.

قال : ورمى دونه سعد بن أبي وقاص ، وترس دونه بنفسه أبو دجانة فكان يقع النبل في ظهره وهو منحن على رسول الله حتى كثر فيه النبل.

ثم روى عن القاسم بن عبد الرحمن من بني النجار قال : كان عمر بن الخطاب وطلحة ابن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم (مستسلمين للأمر الواقع) فانتهى إليهم أنس بن النضر ، ـ عم أنس بن مالك ـ فقال لهم : ما يجلسكم؟ قالوا : قتل رسول الله! قال : فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! ثمّ استقبل القوم فقاتل حتى قتل ووجد به يومئذ سبعون ضربة حتى ما عرفته إلّا اخته ببنانه.

ثم روى عن ابن شهاب الزهري وعن كعب بن مالك : أنّه أوّل من عرف رسول الله بعد الهزيمة ، قال : عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول الله! فأشار إليّ رسول الله : أن أنصت!

قال : فلما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب ، معه أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، والحارث بن الصمّة ، ورهط من المسلمين ٣ : ٨٧ و ٨٨.

نعم ، هذا ما يذكره ابن اسحاق عن موقف علي عليه‌السلام وساير الصحابة ، ولا يذكر نداء المنادي ، فاستدركه ابن هشام عن ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم احد : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ ٣ : ١٠٦.

ولم يروه الواقدي أيضا. فاستدركه عليه ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي بروايته عن

٢٩٢

__________________

ـ أمالي محمد بن حبيب ، وأبي عمرو غلام ثعلب اللغويّ الزاهد : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما فرّ معظم أصحابه عنه يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين وقصدته كتيبة من بني كنافة فيها بنو سفيان بن عويف وهم : خالد بن سفيان ، وأبو الشعثاء بن سفيان ، وأبو الحمراء بن سفيان ، وغراب بن سفيان.

فقال رسول الله : يا عليّ ، اكفني هذه الكتيبة ، وهي تقارب خمسين فارسا ، فحمل عليها وهو راجل فما زال يضربها بالسيف فتفترق عنه ثم تتجمع عليه مرارا حتى قتل بني سفيان الأربعة وتمام العشرة ممن لا يعرف ، فقال جبرئيل عليه‌السلام لرسول الله : يا محمّد ، إنّ هذه المواساة ولقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى : فقال رسول الله : وما يمنعه وهو مني وأنا منه! فقال جبرئيل عليه‌السلام : وأنا منكما. وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مرارا : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي. فسئل رسول الله عنه فقال : هذا جبرئيل. ثم قال : وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين ، ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحاق ورأيت بعضها خاليا عنه!

وسألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة ؛ عن هذا الخبر فقال : خبر صحيح. فقلت : فما بال الصحاح لم تشتمل عليه؟ قال : أو كلما كان صحيحا اشتملت عليه كتب الصحاح؟! كم قد أهمل جامعو الصحاح من الأخبار الصحيحة! ١٤ : ٢٥٠ و ٢٥١. ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٢٨ و ١٢٩.

والواقدي لم ينقل هذا لعلي عليه‌السلام ، ولكنه نقل لسعد بن أبي وقاص ما يضاهيه عن ابنته عائشة عنه قال : لقد رأيتني ارمي بالسهم يومئذ فيردّه علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه ، فبعد ذلك ظننت انه ملك ١ : ٢٣٤ فهلّا سأل عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وكأنّ حفيده ابراهيم بن سعد رأى أن عمته عائشة ادّعت عن أبيها سعد تأييد الملك له دون رسول الله ، فجبر ذلك بآخر رواه عنه أيضا قال : لقد رأيت رجلين عليهما ثياب بيض

٢٩٣

__________________

ـ أحدهما عن يمين رسول الله والآخر عن يساره ، يقاتلان أشدّ القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ١ : ٢٣٤.

بينما روى الواقدي أيضا بسنده عن عبيد بن عمير قال : لم تقاتل الملائكة يوم احد ، ولما رجعت قريش من احد جعلوا يقولون : لم نر الخيل البلق ولا الرجال الذين كنا نراهم في بدر.

وبالغ عكرمة (عن ابن عباس) وعمر بن الحكم اذ قال : لم يمد رسول الله يوم احد بملك واحد.

وذكر روايتين عن مجاهد (عن ابن عباس) قال في احداهما : لم تقاتل الملائكة إلّا يوم بدر ، واعتنت الاخرى بدقة اكثر فقالت : حضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل.

وفصّلت رواية عن أبي هريرة قال : كان الله وعدهم لو صبروا أن يمدّهم ، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ ١ : ٢٣٥ ـ فلا منافاة أن تكون الملائكة قد أمدت عليا عليه‌السلام الصابر المجاهد ببعض ما يساعده من القول ، والفعل عمليا بالأخذ بالساعد.

ثم روى بسنده عن عبد الله بن معاذ قال : انكشف المسلمون ذلك اليوم فما لهم لواء قائم ولا فئة ولا جمع ، وإن كتائب المشركين لتحوسهم مقبلة ومدبرة في الوادي يلتقون ويفترقون ما يرون أحدا من الناس يردهم. فاتبعت رسول الله فانظر إليه وهو يقصد أصحابه وما معه إلّا نفير من المهاجرين والأنصار وانطلقوا به إلى الجبل ١ : ٢٣٨.

ثم روى بسنده عن المقداد بن عمرو قال : هزم المشركون الهزيمة الاولى ثم كرّوا على المسلمين فأتوا من خلفهم فتفرّق الناس. واقتتلوا باختلاط الصفوف ، ونادى المشركون بشعارهم : يا للعزى يا لهبل ، فأوجعوا والله فينا قتلا ذريعا ، ونالوا من رسول الله ما نالوا.

ولا والذي بعثه بالحق ما رأيت رسول الله زال شبرا واحدا ، انه لفي وجه العدو وتثوب إليه طائفة من أصحابه مرة وتتفرق عنه مرة ، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر

٢٩٤

__________________

ـ حتى تحاجزوا.

وبايعه يومئذ ثمانية على الموت : ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار : علي والزبير وطلحة. وأبو دجانة والحارث بن الصمة ، والحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف. فلم يقتل منهم أحد.

وقالوا : ثبت رسول الله في أربعة عشر رجلا ، وسمّوهم ، فأضافوا إلى هؤلاء ستة.

وقالوا : ثبت بين يديه ثلاثون رجلا ، ولم يسمّوهم ١ : ٢٤٠.

وقالوا : كان مالك بن زهير الجشمي وحبان بن العرقة متسترين بصخرة يرميان المسلمين قد أضعفوا المسلمين بالرمي ١ : ٢٤٢ ورمى مالك بسهم يريد رسول الله فاتقاه طلحة فأصاب خنصره فشل اصبعه ١ : ٢٥٤ ، فبينا هم على ذلك إذ أبصر سعد ابن أبي وقاص مالك بن زهير وقد أطلع رأسه من وراء الصخرة يرمي ، فرماه سعد فأصاب عينه حتى خرج من قفاه فنزا ثم سقط فمات ١ : ٢٤٢.

وكانت أم ايمن جاءت تسقي الجرحى فرماها حبّان بن العرقة بسهم فأصاب ذيلها فقلبها وانكشف عنها ، فاستغرق حبّان ضحكا ، فشق ذلك على رسول الله ، فدفع الى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له وقال : إرم ، فرماه ، فوقع السهم في ثغرة نحر حبّان فوقع وبدت عورته ، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ١ : ٢٤١.

ولكن في ١ : ٢٧٧ يقول : ولما صاح ابليس : إن محمدا قد قتل. تفرّق الناس فمنهم من ورد المدينة ... وكان ممن ولّى فلان وفلان. ولقيتهم أم أيمن تحثي في وجوههم التراب وتقول : هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك ثم توجهت هي ونسوة معها إلى احد. وعليه فلا يستقيم قوله السابق : كانت تسقي الجرحى. وبينهما تهافت ظاهر ، والظاهر أنّ الثاني هو الراجح الصحيح وفيه ما يكذّب الأول. ويبدو لي أن في أخبار مغازي الواقدي تأكيدا خاصا على دور سعد بن أبي وقاص الزهري ، ولعلها من أخبار الزهري أو بعض بني زهرة.

٢٩٥

جريبان درعه ، فاعتنق فرسه ، فانتهى إلى عسكره وهو يخور خوار الثور! فقال له أبو سفيان : ويلك ما أجزعك ، إنما هو خدش ليس بشيء! فقال ابيّ : ويلك يا ابن حرب ، أتدري من طعنني؟ إنما طعنني محمد ، وهو قال لي بمكة : إني سأقتلك ، فعلمت أنه قاتلي! والله لو أن ما بي بجميع أهل الحجاز لقضى عليهم ، ثم مات.

ونقل الطبرسي عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الصباح

__________________

ـ قال : وكان أبو طلحة يوم احد قد نثر كنانته بين يدي النبيّ وكان راميا صيّتا ، وكان في كنانته خمسون سهما ، فلم يزل يرمي بها سهما سهما ، فكان النبيّ قد يأخذ العود من الأرض فيقول : إرم يا أبا طلحة فيرمي بها سهما جيدا ١ : ٢٤٣.

ورمي يومئذ أبو رهم الغفاري بسهم فوقع في نحره فجاء إلى رسول الله ، فبصق عليه فبرأ فكان أبو رهم يسمى المنحور ١ : ٢٤٣.

واصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته ، فأخذها رسول الله فردّها فأبصرت وعادت كما كانت ١ : ٢٤٢.

وباشر رسول الله الرمي بالنبل حتى انقطع وتره وبقيت في سية القوس قطعة منه تكون شبرا ، فأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له فقال : يا رسول الله لا يبلغ الوتر ، فقال : مدّه يبلغ. فمدّه حتى بلغ وطوى منه ليّتين أو ثلاثا على سية القوس ، ثم أخذ رسول الله قوسه فما زال يرمي القوم ، وأبو طلحة يترّس عنه ، حتى فنيت نبله وتكسرت سية قوسه ، وحتى صارت شظايا ، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده ١ : ٢٤٢.

وروى الواقدي ١ : ٢٣٦ خبر الزهري عن كعب بن مالك ، ثمّ روى بسنده عن محمّد بن مسلمة قال : أبصرت عيناي رسول الله وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه وهو يقول : إليّ يا فلان! إليّ يا فلان! أنا رسول الله! فما عرّج عليه واحد منهما ومضيا! ١ : ٢٣٧.

ثمّ روى بسنده عن خالد بن الوليد قال : حين انهزموا يوم احد رأيت عمر بن الخطّاب وهو متوجّه إلى الشعب وما معه أحد. فعرفته ونكبت عنه لئلّا يصمدوا له! ١ : ٢٣٧.

٢٩٦

ابن سيابة عن الصادق عليه‌السلام قال : ورمى رسول الله ابن قميئة بقذافة فأصاب كفّه حتى ندر السيف من يده ، فقال : أذلّك الله وأقمأك. ورماه عبد الله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه. وضربه عتبة بن أبي وقاص حتى أدمى فاه (١). قال :

__________________

(١) وقال الواقدي : ورمى عتبة بن أبي وقاص رسول الله بأربعة أحجار ؛ فكسر رباعيته اليمنى السفلى.

وكان أبو عامر الراهب الفاسق قد حفر حفرا للمسلمين كالخنادق ، وكان رسول الله واقفا لدى بعضها وهو لا يشعر به ، وأقبل ابن قميئة (الفهري) وهو يقول : دلّوني على محمد! فو الذي يحلف به لئن رأيته لأقتلنّه! وعرفه فقصده وعلاه بالسيف ، ورماه عتبة بن أبي وقاص في الحال التي جلّله ابن قميئة فيها بالسيف ، وكان ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فارسا وعليه درعان ، فوقع في الحفرة التي أمامه فجرحت ركبتاه.

فروى بسنده عن أبي بشير المازني قال : رأيت ابن قميئة علا رسول الله بالسيف فرأيته وقع على ركبتيه في حفرة أمامه حتى توارى ، فجعلت أصيح ، حتى رأيت الناس ثابوا إليه ، وانتهض رسول الله وعلي آخذ بيديه وطلحة يحمله من ورائه حتى استوى قائما ١ : ٢٤٤.

ثم روى بسنده عن كعب بن مالك : أن ابن ابيّ بن كعب كان قد اسر في بدر وافتداه أبوه ، فأقبل يوم احد يحمل على رسول الله ، فقتله النبي بطعنة بالحربة ١ : ٢٥٠ و ٢٥١.

ثم قال : وكان عثمان بن عبد الله المخزومي مأسورا في سرية بطن نخلة ، وافتدي ورجع إلى مكّة ، وأقبل يوم احد على فرس له أبلق يريد رسول الله وهو متوجه إلى الشعب ، ويصيح : لا نجوت ان نجوت! فوقف له رسول الله ، وعثر الفرس بعثمان في بعض تلك الحفر التي كان أبو عامر (الراهب الفاسق) قد حفرها ، فوقع الفرس لوجهه وخرج فعقره أصحاب رسول الله ، ومشى الحارث بن الصمّة إلى عثمان فتضاربا بالسيف ، حتى ضرب الحارث رجله فبرك ، فأجهز عليه. فقال النبيّ : الحمد لله الذي أحانه (أي أهلكه).

ورأى مصرعه عبيد بن حاجز العامري ، فأقبل يعدو حتى ضرب الحارث بن الصمّة على عاتقه فجرحه ، وأقبل أبو دجانة على عبيد فتناوشا ثمّ حمل عليه أبو دجانة فاحتضنه ثم

٢٩٧

__________________

ـ جلد به الأرض ثم ذبحه بسيفه ثم انصرف إلى رسول الله ١ : ٢٥٢ و ٢٥٣.

وأقبل رجل من بني عامر بن لؤي يجرّ رمحا له على فرس كميت أغر مدجّجا بالحديد يصيح : أنا أبو ذات الودع ، دلوني على محمد! فضرب طلحة بن عبيد الله عرقوب فرسه فانكسع الفرس ثم تناول برمحه عينه فوقع يخور بدمه كما يخور الثور. وضرب ضرار بن الخطاب الفهري طلحة بن عبيد الله على رأسه ضربتين إقبالا وإدبارا ، ونزف منهما الدم حتى غشي عليه. فروى عن أبي بكر قال : جئت إلى النبيّ يوم احد فقال لي : عليك بابن عمّك! فأتيت طلحة وقد نزف منه الدم حتى غشي عليه فجعلت أنضح على وجهه الماء حتى أفاق ١ : ٢٥٥.

إذن فلم يكن أبو بكر حاضرا لدى رسول الله وإلّا لما كان يغفل عن حال ابن عمّه طلحة ، وإنّما هو ابن عمّه لأنّهما تيميّان ، وليس ابن عمّه اللح.

ثمّ نقل عن عليّ عليه‌السلام قال : كنت يومئذ أذبهم في ناحية ، وأبو دجانة في ناحية يذبّ طائفة منهم ، وسعد بن أبي وقّاص يذب طائفة منهم ، وانفردت منهم في فرقة خشناء فيها عكرمة ابن أبي جهل فدخلت وسطها بالسيف فضربت به واشتملوا عليّ حتى أفضيت إلى آخرهم ، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت ، واستأخر الأجل ، ويقضي الله أمرا كان مفعولا وحتى فرج الله ذلك كله ١ : ٢٥٦.

قالوا : وكانت أمّ عمارة نسيبة بنت كعب الخزرجية امرأة غزية بن عمرو ، شهدت احدا هي وزوجها وابناها ، وخرجت من أول النهار معها قربة تسقي منه الجرحى ، فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا ، فجرحت اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف.

قالت : وأقبل ابن قميئة وقد ولّى الناس عن رسول الله يصيح : دلّوني على محمّد فلا نجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير واناس معه فكنت فيهم ، فضربني هذه الضربة ، وأشارت لام سعد بنت سعد بن الربيع فرأت على عاتق نسيبة جرحا أجوف له غور ، وسمع

٢٩٨

__________________

ـ الرسول يقول : لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان! وهو يراها تقاتل يومئذ أشدّ القتال ، وهي حاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا ١ : ٢٧٠. وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٢٦٦ وقال : من أمانة المحدّث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئا ، فما باله كتم اسم هذين الرجلين؟ ليت الراوي لم يكنّ هذه الكناية وكان يذكرهما باسمهما حتى لا تترامى الظنون إلى امور مشتبهة!! ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٣٣ ثم علق عليه تعليقا دقيقا فراجعه.

ثم روى عنها قالت : انكشف الناس عن رسول الله فما بقي إلّا نفير ما يتمّون عشرة! وأنا وابناي (عمارة وعبد الله) وزوجي (غزية بن عمرو) بين يديه نذبّ عنه ، والناس يمرون به منهزمين ، وأنا لا ترس معي ، ورأى رجلا مولّيا معه ترس فقال له : يا صاحب الترس ، ألق ترسك إلى من يقاتل! فألقى ترسه ، فأخذته فجعلت أترّس عن رسول الله به ، فأقبل رجل على فرس فضربني فترّست له فلم يصنع سيفه شيئا وولّى ، وضربت عرقوب فرسه فوقع على ظهره ، وصاح النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ لابني : يا ابن أم عماره ، امّك امّك! فعاونني عليه حتى أوردته الموت ١ : ٢٧٠.

ثم روى بسنده عن ابنها عبد الله بن زيد أن رجلا طويلا ضربه على عضده اليسرى ومضى عنه ، فجرح ولم يرقأ الدم وناداه الرسول : اعصب جرحك ، فاقبلت إليه أمه ومعها عصائب في حقويها قد اعدّتها للجراح ، فربطت جرحه ثم قالت له : انهض يا بني فضارب القوم ، والنبي واقف ينظر ، فقال لها : ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة!

وعاد الرجل الضارب فقال لها رسول الله : هذا ضارب ابنك! فاعترضت له فضربت ساقه فبرك ، فتبسّم رسول الله حتى بدت نواجذه! وعلوه بالسلاح حتى مات فقال لها النبيّ : الحمد لله الذي ظفّرك وأقرّ عينك من عدوّك وأراك ثأرك بعينك ١ : ١٧١.

ثم روى بسنده عنه أيضا قال : لما تفرق الناس عن النبيّ بقيت امّي تذبّ عنه ودنوت

٢٩٩

__________________

ـ منه لذلك ورميت بين يديه رجلا من المشركين بحجر وهو على فرس فأصبت عين الفرس ، فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه ، والنبيّ ينظر ويتبسّم ، ونظر إلى جرح بعاتق امّي فقال لي : اعصب جرحها ، بارك الله عليكم من أهل بيت ، مقام امّك خير من مقام فلان وفلان ومقامك لخير من مقام فلان وفلان ، رحمكم الله أهل البيت ، فقالت له أمي : ادع الله أن نرافقك في الجنة فقال : اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة ، فقالت : ما ابالي ما أصابني من الدنيا ١ : ٢٧٢ و ٢٧٣.

وروى عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله يوم احد يقول : ما التفتّ يمينا ولا شمالا إلّا وأرى نسيبة تقاتل دوني ١ : ٢٧١.

إذن فلم يكن عمر حاضرا إذ ذاك ، وإلّا لكان بامكانه أن يشهد لها بذلك شهادة مباشرة ، ولم يكن بحاجة إلى أن يروي ذلك عن النبيّ رواية وحكاية.

ثمّ روى أن وهب بن قابوس المزني لمّا جاءت الخيل من خلف المسلمين بقيادة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ، واختلطوا ، قاتل المزني اشد القتال .. فما زال كذلك وهم محدقون به حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه ومثل به أقبح المثلة .. فكان عمر ابن الخطّاب يقول : إنّ أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني ١ : ٢٧٥ هذا ولم يرو عنه طعنة برمح ولا ضربة بسيف ولا رمي بسهم ولا رشق بنبل ولا رضخ بحجر فكيف كان يتمنّى ذلك؟

ثم قال : وكان ممّن ولّى عمر وعثمان (في النسخة المطبوعة : فلان ، وفي أنساب الأشراف ١ : ٣٢٦ ، عن الواقدي : عثمان ، وفي شرح النهج لابن أبي الحديد ١٥ : ٢٤ ، عن الواقدي : عمر وعثمان) ثمّ عدّ سبعة سواهما.

ثم قال : ويقال : كان بين عبد الرحمن (بن عوف) وعثمان كلام ، فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه فقال له : اذهب إلى أخيك فبلّغه عنّي ما أقول لك ، قل : يقول لك

٣٠٠