موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

قالوا : ما هنّ؟ قال : نبايع هذا الرجل ونصدّقه ، فو الله لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل ، وأنّه الذي تجدونه في كتابكم ؛ فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم.

فقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره!

قال : فإذا أبيتم عليّ هذه فهلمّوا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثمّ نخرج إلى محمّد رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمّنا ، حتّى يحكم الله بيننا وبين محمّد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا يهمّنا ، وإن نظهر لنجدنّ النساء والأبناء!

فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين؟! فما خير في العيش بعدهم!

قال : فإذا أبيتم عليّ هذه فإنّ الليلة ليلة السبت ، وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها ، فانزلوا فلعلّنا نصيب منهم غرّة!

فقالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ؟!

فقال لهم : ما بات رجل منكم منذ ولدته امّه ليلة واحدة من الدهر حازما! (١).

مشورة أبي لبابة وخيانته :

نقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن الكلبي عن الزهري : أنّ رسول الله لمّا أبى إلّا أن ينزلوا على حكمه ... قالوا : أرسل إلينا أبا لبابة. وكان ماله وعياله

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٥٥٢. ونقله ابن إسحاق بلفظه بلا إسناد ٣ : ٢٤٦. ونقله الواقدي عن محمّد بن مسلمة أكثر تفصيلا ٢ : ٥٠١ و ٥٠٢.

٥٢١

وولده عندهم فكان مناصحا لهم (١).

ونقل القمي الخبر في تفسيره فقال : فقال رسول الله : يا أبا لبابة ، ائت حلفاءك ومواليك. فأتاهم ، فقالوا له : يا أبا لبابة ، ما ترى؟ ننزل على حكم محمّد؟ فقال : انزلوا واعلموا أنّ حكمه فيكم الذبح ـ بالإشارة إلى حلقه ـ! ثمّ ندم على ذلك فقال : خنت الله ورسوله! ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله ، ومرّ إلى المسجد وشدّ في عنقه حبلا ثمّ شدّه إلى الأسطوانة التي تسمّى «اسطوانة التوبة» وقال : لا أحلّه حتّى أموت أو يتوب الله عليّ!

فبلغ ذلك رسول الله فقال : أما لو أتانا لاستغفرنا الله له ، فأمّا إذا قصد إلى ربّه فالله أولى به (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٨٢٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٠٣. وروى الواقدي في المغازي ٢ : ٥٠٦ بسنده عن السائب ابن أبي لبابة عن أبيه قال : لمّا أرسل بنو قريظة إلى رسول الله يسألونه أن يرسلني إليهم ، دعاني رسول الله فقال : اذهب إلى حلفائك ، فإنّهم أرسلوا إليك من بين الأوس.

قال : فدخلت عليهم فأسرعوا إلي وقالوا :

يا أبا لبابة ، نحن مواليك دون الناس كلّهم.

وقام كعب بن أسد فقال : أبا بشير ، قد علمت ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يوم الحدائق وبعاث وكلّ حرب كنتم فيها ، وقد اشتدّ علينا الحصار وهلكنا ، ومحمّد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه ، ولو زال عنّا لحقنا بأرض الشام أو خيبر ولم نكثر عليه جمعا أبدا ... ثمّ قال كعب : فما ترى؟ فإنّا قد اخترناك على غيرك؟ إنّ محمّدا قد أبى إلّا أن ننزل على حكمه ، أفننزل؟

قال أبو لبابة : فقلت نعم فانزلوا. وأومأت إلى حلقي أنّه الذبح.

ثمّ نزلت والناس ينتظرون رجوعي إليهم ... وندمت واسترجعت وبكيت وأخذت من وراء الحصن طريقا آخر حتّى جئت إلى المسجد فارتبطت إلى الأسطوانة المخلّقة (المخلّقة :

٥٢٢

وفي ليلة نزول بني قريظة على حكم رسول الله قام فيهم رجل يدعى عمرو بن سعدى ، فروى الواقدي أنّه قال لهم :

يا معشر اليهود ، إنّكم قد حالفتم محمّدا على ما حالفتموه عليه : أن لا تنصروا عليه أحدا من عدوّه ، وأن تنصروه على من دهمه ، فنقضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه ، فلم أدخل فيه ولم اشرككم في غدركم. فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهوديّة واعطوا الجزية (١) وو الله ما أدري يقبلها أم لا؟

فقالوا له : نحن لا نقرّ للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به ، القتل خير من ذلك!

فقال لهم : فإنّي بريء منكم.

وقام منهم أسد بن عبيد ـ ومعه ابنا أخيه اسيد وثعلبة ابنا سعية ـ فقال لهم :

يا معشر بني قريظة ، والله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله وأنّ صفته عندنا ، حدّثنا بها علماؤنا وعلماء بني النضير. هذا أوّلهم ـ وأشار إلى حييّ بن أخطب وكان قد دخل حصن بني قريظة بعد رجوع قريش ـ مع جبير بن الهيّبان أصدق الناس عندنا ، فهو قد خبّرنا بصفته عند موته!

فقالوا له : لا نفارق التوراة.

__________________

ـ المطلاة بالخلوق : نوع من العطر العربيّ قديما).

وبلغ رسول الله ذهابي وما صنعت فقال : دعوه حتّى يحدث الله فيه ما يشاء ، لو كان جاءني استغفرت له ، فأمّا إذ لم يأتني وذهب فدعوه! (مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٦ و ٥٠٧).

(١) هذا أوّل ذكر للجزية في صدر الإسلام من دون سبق قرآن أو سنّة فيها. وأصلها باليونانية : گزيت بمعنى الضريبة على الرءوس.

٥٢٣

فلمّا رأى هؤلاء النفر إباء قومهم نزلوا في تلك الليلة فأسلم هؤلاء الثلاثة وأمّا عمرو بن سعدى ففرّ على وجهه فلم يدر أين ذهب (١).

نزولهم على الحكم :

قال القمي في تفسيره : وبقوا أيّاما ، حتّى جزعوا جزعا شديدا وبكت النساء والصبيان ... فلمّا اشتدّ عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمر بالرجال فكتّفوا وكانوا سبعمائة ، وأمر بالنساء فعزلن (٢).

وقام الأوس إلى رسول الله فقالوا : يا رسول الله حلفاؤنا وموالينا من دون الناس ، نصرونا على الخزرج في المواطن كلّها ، وقد وهبت لعبد الله بن ابيّ سبعمائة دارع وثلاثمائة حاسر في صحيفة واحدة ، ولسنا نحن بأقلّ من عبد الله بن ابيّ!

فلمّا أكثروا على رسول الله قال لهم : أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم؟!

فقالوا : بلى ، فمن هو؟ قال : سعد بن معاذ. قالوا : قد رضينا بحكمه.

فأتوا به في محفّة ، واجتمعت الأوس حوله يقولون له :

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٣ و ٥٠٤. واختصر خبرهما ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٤٩.

(٢) وقال الواقدي : أمر رسول الله بأسرهم وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة ، فكتّفوا رباطا ونحّوا ناحية. وأخرجوا النساء والذريّة من الحصون فكانوا ناحية. واستعمل رسول الله عليهم عبد الله بن سلام. وأمر رسول الله بجمع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة (السلاح) والأثاث والثياب.

فروى أنّهم وجدوا فيها ألفي رمح ، وألفا وخمسمائة سيف ، والفا وخمسمائة ترس وجحفة (من جلود) وثلاثمائة درع. وأخرجوا أثاثا كثيرا وآنية كثيرة ، وجرارا من خمر وسكر ، فأراقوها ولم يخمّسوها (وخمّسوا ما عداها) وجمالا وماشية ـ مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٩ و ٥١٠.

٥٢٤

يا أبا عمرو ، اتّق الله وأحسن في حلفائك ومواليك ، فقد نصرونا ببعاث والحدائق والمواطن كلّها.

فلمّا أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم!

فقال الأوس : وا قوماه! ذهبت ـ والله ـ بنو قريظة! وبكت النساء والصبيان حول سعد ، فلمّا سكتوا قال لهم :

يا معشر يهود! أرضيتم بحكمي فيكم؟

فقالوا : بلى قد رضينا بحكمك ، وقد رجونا نصفك ومعروفك وحسن نظرك!

فأعاد عليهم القول ، فقالوا : بلى يا أبا عمرو!

فالتفت إلى رسول الله إجلالا له فقال :

ما ترى بأبي أنت وامّي يا رسول الله؟

قال : احكم فيهم يا سعد ؛ فقد رضيت بحكمك فيهم (١).

فروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الصادق عليه‌السلام قال : فحكم فيهم بقتل الرجال ، وسبي الذراري والنساء ، وقسمة الأموال ، وأن يجعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار.

فقال رسول الله : قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (السماوات) (٢). قال القمي : وساقوا الاسارى إلى المدينة. وكان يقول : اسقوهم العذب وأطعموهم الطيّب وأحسنوا إلى اُساراهم ...

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٠ و ١٩١. ونحوه في السيرة ٣ : ٢٤٩ ـ ٢٥١. وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٠ ـ ٥١٢ أكثر تفصيلا.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٩٦ وعنه المازندراني في مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٠.

٥٢٥

وأمر رسول الله باخدود فحفرت بالبقيع .. فقتلهم رسول الله في ثلاثة أيام بالغداة والعشيّ .. وكان يأمر باخراج رجل رجل ، فكان يضرب عنقه (١).

واختصر المفيد في «الإرشاد» فقال :

أقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محاصرا لبني قريظة خمسا وعشرين ليلة حتّى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ.

فحكم فيهم سعد : بقتل الرجال ، وسبي الذراري والنساء ، وقسمة الأموال.

فقال النبيّ له : يا سعد ، لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

وأمر النبيّ بإنزال الرجال وكانوا تسعمائة رجل ، فجيء بهم إلى المدينة ... وحبسوا في دور بني النجّار (٢).

وخرج رسول الله إلى موضع السوق ـ اليوم ـ فخندق فيه خنادق. وأمر بهم أن يخرجوا. وتقدّم إلى أمير المؤمنين أن يضرب أعناقهم في الخنادق (٣).

مقتل كعب بن أسد :

قال القمي في تفسيره : فأخرج كعب بن أسد مجموعة يداه إلى عنقه ، وكان جميلا وسيما ، فلمّا نظر إليه رسول الله قال له :

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩١.

(٢) وقال الواقدي : فأمر بالسبي فسيقوا إلى دار اسامة بن زيد ، والنساء والذريّة إلى دار ابنه الحارث ، وأمر بأحمال التمر فنثرت عليهم. وأمر بالسلاح والأثاث والمتاع والثياب فحمل إلى دار بنت الحارث ، وتركوا الإبل والغنم هناك ترعى في الشجر.

ثمّ غدا رسول الله إلى السوق فأمر أن تحفر فيه خدود ما بين أحجار الزيت إلى موضع دار أبي جهم العدوي.

(٣) الإرشاد ١ : ١١١ ، وعددهم هنا تسعمائة ، وسيأتي أنهم كانوا سبعمائة. بل أربعمئة وخمسين : ٥٣٠.

٥٢٦

يا كعب ، أما نفعتك وصيّة ابن خراش الحبر الذكي الذي قدم عليكم من الشام فقال :

«تركت الخمر والخمور ، وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبيّ يبعث ، مخرجه بمكّة ومهاجرته في هذه البحيرة ، يجتزئ بالكسيرات والتميرات ، ويركب الحمار العاري (١) في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى منكم ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر»!

فقال كعب : قد كان ذلك يا محمّد! ولو لا أنّ اليهود يعيّروني أنّي جزعت عند القتل لآمنت بك وصدّقتك ، ولكنّي على دين اليهود ، عليه أحيى وعليه أموت!

فقال رسول الله : قدّموه فاضربوا عنقه. فضربت عنقه (٢).

ثمّ قدّم حيي بن أخطب فقال له رسول الله :

يا فاسق ، كيف رأيت صنع الله بك؟!

فقال : والله ـ يا محمّد ـ ما ألوم نفسي في عداوتك ، ولقد قلقلت كلّ مقلقل وجهدت كلّ الجهد ، ولكن من يخذل الله يخذل (٣).

وزاد المفيد في «الإرشاد» : ثمّ أقبل على الناس فقال :

أيّها الناس ، إنّه لا بدّ من أمر الله ، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل!

ثمّ اقيم بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يقول : قتلة شريفة بيد شريف!

فقال له أمير المؤمنين : إنّ خيار الناس يقتلون شرارهم ، وشرارهم يقتلون

__________________

(١) نذكّر بما سبق عن القمي : أنّ النبيّ دنا من حصن بني قريظة على حمار.

(٢) وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٦ مختصرا.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩١ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٣ و ٥١٤ مختصرا.

٥٢٧

خيارهم ، فالويل لمن قتله الأخيار الأشراف ، والسعادة لمن قتله الأراذل الكفّار!

فقال حييّ : صدقت! لا تسلبني حلّتي.

قال علي عليه‌السلام : هو أهون عليّ من ذلك.

فقال : سترتني! سترك الله! ثمّ مدّ عنقه فضربه علي ولم يسلبه حلّته.

ثمّ قال لمن جاء به : ما كان يقول حييّ وهو يقاد إلى الموت؟

قال : كان يقول :

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه

ولكنّه من يخذل الله يخذل

لجاهد حتى بلّغ النفس جهدها

وحاول يبغي العزّ كلّ مقلقل (١)

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

لقد كان ذا جدّ وجدّ بكفره

فقيد إلينا في المجامع يعتل

فقلّدته بالسيف ضربة محفظ (٢)

فصار إلى قعر الجحيم يكبّل

فذاك مآب الكافرين ، ومن يطع

لأمر إله الخلق في الخلد ينزل

وقد كان النبيّ أتاهم قبل مباينتهم له يوما يناظرهم ، فأرسلت عليه امرأة منهم حجرا ، فعرفها ، فأمر اليوم بقتلها فقتلت من بين سائر النساء (٣).

واصطفى من نسائهم امرأة هي عمرة بنت خنافة (٤).

__________________

(١) في سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٢ : نسب البيتين إلى جبل بن جوّال الثعلبي والمقلقل : المذهب في الأرض ، أي في كلّ وجه ـ أساس البلاغة : ٧٨٨.

(٢) أحفظه أي : أغضبه ، محفظ أي : مغضب.

(٣) وقال ابن هشام : هي التي طرحت الرحا على خلّاد بن سويد فقتلته. وكذلك في مغازي الواقدي ٢ : ٥١٦ و ٥١٧ أكثر تفصيلا.

(٤) الإرشاد ١ : ١١٢ ، ١١٣. وفي السيرة ٣ : ٧٥٦ : ريحانة بنت عمرو بن خنافة وعرض رسول الله عليها الإسلام فأبت إلّا اليهوديّة! فوجد لذلك في نفسه وعزلها. فبينا هو مع

٥٢٨

واستمرّ قتلهم في الصباح وقرب المساء من ثلاثة أيّام (١) ، ولم يقتلهم في

__________________

ـ أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه ... فإذا هو ثعلبة بن سعية اليهودي الذي أسلم جاءه فقال : يا رسول الله ، قد أسلمت ريحانة ، فسرّه ذلك من أمرها ، فعرض عليها أن يتزوّجها فقالت : بل تتركني في ملكك فهو أخفّ عليّ وعليك! فتركها فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه.

وروى الواقدي في المغازي ٢ : ٥٢٠ بالإسناد عن أيّوب بن بشير المعاوي قال :

أرسل بها رسول الله إلى بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس (إحدى خالاته من بني النجّار) فكانت عندها حتى حاضت وطهرت ، فجاءت أمّ المنذر فأخبرته فجاءها النبيّ في منزل أمّ المنذر فقال لها : إن أحببت اعتقك وأتزوّجك فعلت ، وإن أحببت أن تكوني بالملك فعلت؟ قالت : يا رسول الله ، إنّه أخفّ عليك وعليّ أن أكون في ملكك. فكانت في ملكه حتّى مات عنها.

ونقل عن الزهري قوله : إنّها كانت تحتجب في أهلها وتقول : لا يراني أحد بعد رسول الله.

ثمّ قال : وكانت قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله متزوّجة برجل يدعى الحكم. وعليه فلم تكن بكرا.

وقال اليعقوبي ١ : ٥٢ : اصطفى رسول الله منهم ستّ عشرة جارية فقسمها على فقراء هاشم ، وأخذ لنفسه منهنّ واحدة يقال لها : ريحانة.

(١) بينما روى الواقدي عن عائشة قالت : قتل بنو قريظة يومهم حتّى الليل على شعل السعف!

وروى عن ابن كعب القرظي قال : قتلوا إلى أن غاب الشفق ، ثمّ ردّ عليهم التراب في الخندق. وكان من شكّ فيه منهم أن يكون بلغ نظر إلى مؤتزره ، فإن كان أنبت قتل وإن كان لم ينبت طرح في السبي وروى مثله الطوسي في الأمالي : ٣٩٠ ح ٨٥٧.

فروى عن ابن حزم أنّهم كانوا ستمائة ، وعن ابن المنكدر أنّهم كانوا ما بين ستمائة إلى

٥٢٩

حرّ الظهر ، وكان يقول : أحسنوا إلى اساراهم أطعموهم الطيّب واسقوهم العذب (١).

ونقل الطبرسي في تفسيره عن عروة قال : زعموا أنّهم كانوا ستمائة مقاتل ، فقيل إنّما قتل منهم أربعمائة وخمسون رجلا ، وسبى سبعمائة وخمسين (٢).

شفاعتان مقبولتان :

روى ابن إسحاق بالإسناد عن عبد الله بن صعصعة من بني النجّار قال : كانت أمّ المنذر سلمى بنت قيس من بني النجّار من خالات رسول الله ، قد بايعته بيعة النساء وصلّت معه القبلتين ، وكان لها معرفة ببعض بني قريظة ، فلاذ بها منهم غلام قد بلغ يدعى رفاعة بن سموأل. فقالت لرسول الله :

يا نبيّ الله ، بأبي أنت وامّي ، هب لي رفاعة فإنّه قد زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل ... فوهبه لها. فبقي حيّا من بينهم (٣).

وكان بنو قريظة حلفاء الأوس على الخزرج ، فنصروهم عليهم يوم بعاث ، فظفر منهم الزبير بن باطا بثابت بن قيس بن شماس من الخزرج أسيرا ، فروى ابن

__________________

ـ سبعمائة ، وعن ابن عبّاس أنّهم كانوا سبعمائة وخمسين.

فلمّا أصبحن نساء بني قريظة وعلمن بقتل رجالهن صحن وشققن الجيوب ونشرن الشعور وضربن الخدود على رجالهن ـ المغازي ٢ : ٥١٧ و ٥١٨.

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٢ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٤ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تجمعوا عليهم حرّ الشمس وحرّ السلاح ، أحسنوا إسارهم وقيّلوهم واسقوهم حتّى يبردوا فتقتلوا من بقي.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٥٥٣.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٥ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٤ و ٥١٥.

٥٣٠

إسحاق عن الزهري عن بعض ولد الزّبير : أنّه جزّ ناصية ثابت وخلّى سبيله منّا عليه.

وكان الزّبير يوم بني قريظة شيخا كبيرا أسيرا فأراد ثابت أن يردّ عليه منّته عليه في الجاهليّة ، فأتى النبيّ فقال :

يا رسول الله ، إنّه قد كانت للزبير عليّ منّة ، وقد أحببت أن أجزيه بها ، فهب لي دمه.

فقال رسول الله : هو لك.

فأتاه فقال له : إنّ رسول الله قد وهب لي دمك ، فهو لك.

قال الزبير : شيخ كبير لا أهل له ولا ولد ، فما يصنع بالحياة؟!

فأتى ثابت إلى رسول الله فقال له :

بأبي أنت وامّي ، يا رسول الله ، هب لي امرأته وولده ، قال : هم لك.

فأتاه فقال له : قد وهب لي رسول الله أهلك وولدك ، فهم لك.

قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم؟! فما بقاؤهم على ذلك؟!

فأتى ثابت إلى رسول الله فقال له : يا رسول الله ماله؟ قال : هو لك.

فأتاه ثابت فقال له : قد أعطاني رسول الله مالك ، فهو لك.

قال : أي ثابت ، ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحيّ ، كعب بن أسد؟ قال : قتل.

قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حييّ بن أخطب؟ قال : قتل.

قال : فما فعل مقدّمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزّال بن سموأل؟ قال : قتل.

قال : فما فعل الحيّان بنو كعب بن قريظة وبنو عمرو بن قريظة؟ قال : قتلوا.

٥٣١

قال : يا ثابت ، فإنّي أسألك بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم ، فو الله ما في العيش خير بعد هؤلاء! فقدّمه ثابت فضرب عنقه (١).

ونقل الواقدي الخبر ولكنّه قال : قال الزبير : يا ثابت قدّمني فاقتلني. فقال ثابت : ما كنت لأقتلك. فقال الزبير : ما كنت ابالي من قتلني! ولكن يا ثابت ، انظر إلى امرأتي وولدي فإنّهم جزعوا من الموت فاطلب إلى صاحبك أن يطلقهم ويردّ إليهم أموالهم.

فأدناه ثابت إلى الزبير بن العوّام فقدّمه فضرب عنقه.

ثمّ طلب ثابت من رسول الله في أهل الزبير وولده وماله.

فترك رسول الله أهله من السباء ، وردّ على ولده الأموال من النخل والإبل والرثة ، إلّا الحلقة (السلاح) ، فكانوا مع آل ثابت بن قيس بن شماس (٢).

تقسيم الغنائم وبيعها :

قال الطبرسي في «مجمع البيان» : ثمّ قسّم رسول الله نساءهم وأبناءهم وأموالهم على المسلمين ، وبعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاري ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا (٣).

وزاد ابن إسحاق : ثمّ إنّ رسول الله أخرج الخمس من أموال بني قريظة وقسّم ما سواه على المسلمين ، فكان للفارس ثلاثة أسهم : سهمان للفرس وسهم للفارس ، وسهم للراجل (٤).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٢٠.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٥٣. ونحوه في السيرة.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٥ و ٢٥٦.

٥٣٢

وزاد الواقدي : أنّ المسلمين كانوا ثلاثة آلاف والخيل فيهم ستّة وثلاثون فرسا ، فكانت الأسهم على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما : للفرس سهمان ولصاحبه سهم.

وروى : أنّها جزّئت خمسة أجزاء فأخرج خمسه قبل بيع المغنم فأخذ خمسه ، فكان يهب ويخدم من أراد ويعتق منه ، وكذلك صنع بما أصاب من أثاثهم فقسمها قبل أن تباع ، وكذلك عزل خمس النخل.

والذي قسم المغنم بين المسلمين محميّة بن جزء الزّبيدي.

وروى : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يومئذ : لا يفرّق بين الام وولدها حتّى يبلغوا.

فقيل : يا رسول الله ، وما بلوغهم؟

قال : تحيض الجارية ، ويحتلم الغلام.

فكانت الام تباع مع ولدها الصغار ، ويفرّق بين الام والبنت إذا بلغت ، وكذا بين الاختين إذا بلغتا ... فإذا كان الولد صغيرا لا أمّ له لم يبع إلّا من المسلمين.

وقيل : إنّ السبي لمّا قسّم جعل الشابات منهن على حدة والعجائز على حدة ... وباع طائفة منهما لعثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف ، فخيّر عبد الرحمن عثمان ، فأخذ عثمان العجائز ... فربح عثمان مالا كثيرا ، لما كان يوجد عند العجائز من المال دون الشواب.

وبعث طائفة منهم إلى الشام مع سعد بن عبادة يبيعهم ويشتري بهم خيلا وسلاحا. وبعث طائفة اخرى إلى نجد.

وروى عن محمّد بن مسلمة قال : كان حقّي وحقّ فرسي من السبي والأرض والأثاث خمسة وأربعون دينارا ، فاشتريت بها يومئذ من السبي امرأة ومعها ابناها. وغيري مثلي.

٥٣٣

وروى عن أسلم بن نجرة الساعدي : أنّ أبا الشحم اليهودي اشترى امرأتين مع كلّ منهما ثلاثة أطفال بنين وبنات بمائة وخمسين دينارا.

وروى : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أسهم لخلّاد بن سويد الذي قتل تحت الحصن بالحجر ، ولأبي سنان بن محصن الذي مات في المقاتلين. وشهد بني قريظة خمس نساء فلم يسهم لهن ولكنّه أعطاهن شيئا (١).

ما نزل فيها من القرآن :

مرّ في حرب الأحزاب ذكر آيات الأحزاب من الآية ٩ إلى ٢٥ من سورة الأحزاب ، وقال القمي فيها : نزلت في قصّة الأحزاب من قريش والعرب الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وفي الآيتين ٢٦ و ٢٧ قال :

ونزل في بني قريظة : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٣).

وهذا يقتضي نزول السورة بعد بني قريظة في السنة الخامسة.

والآيات السبع التوالي ٢٨ ـ ٣٤ تخاطب أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدءا بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) وقد قال المفسرون بشأنها ومنهم القمي :

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٢١ ـ ٥٢٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٧٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٨٩ و ١٩٢.

٥٣٤

كان سبب نزولها : أنه لما رجع رسول الله من غزاة خيبر (١) وخيبر كانت في أوائل السابعة.

بل قالوا : إن أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله كنّ يومئذ تسعا وعدّوا منهنّ زينب بنت جحش ـ تزوّجها في أواخر الخامسة ـ وجويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق ـ في السادسة ـ وصفية بنت حييّ بن أخطب ـ في أوائل السابعة ـ وميمونة بنت الحارث الهلالية ـ آخر الثامنة ـ (٢).

وهذا يقتضي نزول السورة أو هذه الآيات منها في أواخر الثامنة بعد زواجه بميمونة بنت الحارث الهلالية في عمرة القضاء في آخر الثامنة.

والآية ٣٣ منها فيها قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وهو ما استفاضت الأخبار بنزوله في بيت أمّ سلمة في من اشتمل عليهم كساء النبيّ : هو وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (٣) وليس في خبر من أخباره ـ على كثرتها واختلاف ألفاظها ـ أنّ الحسن عليه‌السلام أو الحسين عليهما‌السلام كان رضيعا أو طفلا محمولا ، بل يبدو منها أنّهما كانا يافعين يمشيان ويدركان ظاهرا ، فلم يكن النزول في السنة الخامسة.

وعليه فأنا اؤجّل ذكر هاتين الحادثتين : تخيير النبيّ أزواجه ، ونزول آية التطهير الى أواخر السنة الثامنة ، وفيما قبل ذلك أذكر خبر «تفسير القمي» في تخيير أزواج النبيّ بعد خيبر ، لنصّه على ذلك.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٢.

(٢) التبيان ٨ : ٣٣٦ ومجمع البيان ٨ : ٥٥٤ ، ٥٥٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩٣ وفرات الكوفي : ٣٣١ ـ ٣٤٠ والتبيان ٨ : ٣٣٩ ـ ٣٤١ ومجمع البيان ٨ : ٥٥٩ ، ٥٦٠.

٥٣٥

شهادة سعد بن معاذ :

في «مجمع البيان» للطبرسي : قالوا : فلمّا انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ ، فردّه رسول الله إلى الخيمة التي ضربت عليه في المسجد.

وروى عن جابر بن عبد الله قال : جاء جبرئيل إلى رسول الله فقال له :

من هذا العبد الصالح الذي مات ففتحت له أبواب السماء وتحرّك له العرش؟! فخرج رسول الله فإذا سعد بن معاذ قد قبض (١).

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٥٥٣. وقال الواقدي : ودخل عليه رسول الله يعوده في نفر من أصحابه ، فجلس رسول الله عند رأسه وجعل رأسه في حجره ثمّ قال : اللهم إنّ سعدا قد جاهد في سبيلك وصدّق رسولك وقضى الذي عليه ، فاقبض روحه بخير ما تقبض فيه أرواح الخلق.

ففتح سعد عينيه فقال : السّلام عليك يا رسول الله ، أشهد أنّك قد بلّغت رسالته.

فوضع رسول الله رأسه من حجره وقام ورجع إلى منزله ، فمكث ساعة من نهار أو أكثر من ساعة فمات.

ونزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله فقال له : يا محمّد ، من هذا الرجل الصالح الذي مات فيكم؟ فتحت له أبواب السماء ، واهتزّ له عرش الرحمن.

فقال رسول الله لجبرئيل : عهدي بسعد بن معاذ وهو يموت.

ثمّ خرج فزعا إلى خيمة كعيبة يجرّ ثوبه مسرعا ، فوجد سعدا قد مات (وفي السيرة ٣ : ٢٦٢).

ثمّ أمر رسول الله أن يغسّل ، فغسّله ابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ ، وابن عمّه اسيد ابن حضير ، وكان سلمة بن سلامة يصبّ الماء ، ورسول الله حاضر ، فغسّل بالماء الاولى ، والثانية بالماء والسدر ، والثالثة بالماء والكافور ، ثمّ كفّن في ثلاثة أثواب صحاريّة (من صحار في عمان) وأدرج فيها إدراجا. واتي بسرير كان عند آل سبط يحمل عليه الموتى فوضع على

٥٣٦

وروى الصدوق في «الأمالي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال :

__________________

ـ السرير ، ورأوا رسول الله يحمله بين عمودي سريره حين رفع من داره إلى أن أخرج ... وخرج الناس معه.

فلمّا برز إلى البقيع قال : خذوا في جهاز صاحبكم.

فروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : كنت أنا ممّن حفر له قبره عند دار عقيل ـ اليوم ـ وكان يفوح علينا المسك كلّما حفرنا قبره من تراب حتّى انتهينا إلى اللّحد ... وطلع علينا رسول الله وقد فرغنا من حفرته ووضعنا اللّبن والماء عند القبر ... فوضعه رسول الله عند قبره ثمّ صلّى عليه والناس قد ملأوا البقيع.

فروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : نزل في قبره أربعة نفر : ابن أخيه الحارث ابن أوس بن معاذ ، وابن عمّه اسيد بن حضير ، وأبو نائلة ، وسلمة بن سلامة. ورسول الله واقف على قدميه على قبره. فلمّا وضع في لحده تغيّر وجه رسول الله وسبّح ثلاثا ، فسبّح المسلمون ثلاثا حتّى ارتجّ البقيع ، ثمّ كبّر رسول الله ثلاثا ، فكبّر أصحابه ثلاثا حتّى ارتجّ البقيع بتكبيره.

فسئل رسول الله عن ذلك : يا رسول الله رأينا لوجهك تغيّرا وسبّحت ثلاثا؟!

قال : تضايق على صاحبكم قبره ، وضمّ ضمّة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد ، ثمّ فرّج الله عنه!

(رواه ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٦٣).

وروى عن المسور بن رفاعة قال : جاءت أمّ سعد تنظر إليه في اللّحد ، فردّها الناس ، فقال رسول الله : دعوها. فأقبلت حتّى نظرت إليه وهو في اللحد قبل أن يبنى عليه اللّبن والتراب فقالت : احتسبك عند الله!

وعزّاها رسول الله على قبره ، وجعل المسلمون يردّون تراب قبره ويسوّونه. وتنحّى رسول الله فجلس حتّى سوّي على قبره ورشّ على قبره الماء. ثمّ أقبل فوقف عليه فدعا له وانصرف. (مغازي الواقدي ٢ : ٥٢٥ ـ ٥٣١).

٥٣٧

اتي رسول الله فقيل له : سعد بن معاذ قد مات. فقام رسول الله وقام أصحابه معه فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب.

فلمّا حنّط وكفّن وحمل على سريره تبعه رسول الله بلا حذاء ولا رداء ، ثمّ كان يأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة حتّى انتهي به إلى القبر ، فنزل رسول الله حتّى لحّده وسوّى عليه اللّبن وجعل يقول : ناولوني حجرا ناولوني ترابا فيسدّ به ما بين اللّبن. فلمّا أن فرغ وحثا عليه التراب وسوّى قبره قال رسول الله : إنّي لأعلم أنّه سيبلى ويصل البلى إليه ولكنّ الله يحبّ عبدا إذا عمل عملا أحكمه!

فلمّا أن سوّى التربة عليه قالت أم سعد ـ من جانب ـ : يا سعد هنيئا لك الجنّة!

فقال رسول الله : يا أمّ سعد لا تجزمي على ربّك ، فإنّ سعدا قد أصابته ضمّة!

فلمّا رجع رسول الله ورجع الناس قالوا له : يا رسول الله ، لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد ، إنّك تبعت جنازته بلا حذاء ولا رداء؟!

فقال : إنّ الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسّيت بها!

قالوا : وكنت تأخذ يمنة السرير ويسرته؟!

فقال : كانت يدي بيد جبرئيل عليه‌السلام آخذ حيث يأخذ!

فقالوا : أمرت بغسله وصلّيت على جنازته ولحّدته في قبره ثمّ قلت : إنّ سعدا قد أصابته ضمّة!

فقال : نعم ، إنّه كان في خلقه سوء مع أهله (١).

__________________

(١) أمالي الصدوق وأمالي الطوسي : ٤٢٧ ح ٩٥٥ وعنهما في بحار الأنوار ٢٢ : ١٠٧ و ١٠٨.

٥٣٨

توبة أبي لبابة :

قال القمي في تفسيره : كان أبو لبابة بن عبد المنذر يصوم النهار ، وإنّما يأكل بالليل ما يمسك به رمقه ممّا كانت تأتيه به ابنته ، وتحلّه عند قضاء الحاجة.

وذات ليلة كان رسول الله في بيت أمّ سلمة إذ نزلت توبته ، فقال رسول الله لام سلمة : يا أمّ سلمة ، قد تاب الله على أبي لبابة.

فقالت أمّ سلمة : أفأؤذنه بذلك؟ فأذن لها ، فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت :

يا أبا لبابة ، أبشر! لقد تاب الله عليك. فقال : الحمد لله. ووثبوا ليحلّوه فقال :

لا والله ، حتّى يحلّني رسول الله! فجاءه رسول الله فقال :

يا أبا لبابة ، قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من امّك يومك هذا لكفاك!

فقال : يا رسول الله ، أفأتصدّق بمالي كلّه؟ قال : لا ، قال : فبثلثيه؟ قال : لا. قال : فبثلثه؟ قال : نعم. فأنزل الله تعالى :

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١).

__________________

(١) التوبة : ١٠٢ ـ ١٠٤. والخبر في تفسير القمي ١ : ٣٠٣ ، ٣٠٤. وفي الآية ٢٧ من سورة الأنفال قال : نزلت هذه الآية مع الآية في سورة التوبة التي نزلت في أبي لبابة في غزوة بني

٥٣٩

سريّة أبي عتيك إلى خيبر :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : وبعث رسول الله عبد الله بن عتيك إلى خيبر ليغتال أبا رافع (سلام) بن أبي الحقيق (١).

__________________

ـ قريظة في سنة خمس من الهجرة وقد كتبت في هذه السورة مع أخبار بدر على رأس ستّة عشر شهرا من الهجرة ١ : ٢٧١. وقال الطوسي في التبيان ٥ : ٢٩٠. وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ونقله كذلك في مجمع البيان ٥ : ١٠١.

وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٤٨ بسنده عن أمّ سلمة قالت : فسمعت رسول الله في السحر وهو يضحك! فقلت : ممّ تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنّك. قال : تيب على أبي لبابة! قلت : أفلا أبشّره يا رسول الله؟ قال : بلى إن شئت ـ وكان ذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب ـ فقمت على باب حجرتي فقلت :

يا أبا لبابة ، أبشر ، فقد تاب الله عليك!

فثار الناس إليه ليطلقوه ، فقال : لا ـ والله ـ حتّى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده. فلمّا خرج رسول الله لصلاة الصبح أطلقه.

وبالإسناد تامّا رواه الواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٨.

وروى عن أمّ سلمة أيضا قالت : رأيت رسول الله يحلّ عنه رباطه ، وإن رسول الله ليرفع صوته ويكلّمه ويخبره بتوبته فما يدري كثيرا ممّا يقول ، من الجهد والضعف.

ثمّ قال : ويقال ... كان الرباط من شعر ولقد مكث خمس عشرة ليلة مربوطا ، فكان الرباط قد حزّ في ذراعيه ، فكان يداويهما دهرا بعد ذلك ، وبعد ما بريء كان ذلك بيّنا في ذراعيه.

وروى عن الزهري قال : إنّما ارتبط سبعا بين يوم وليلة ، عند الأسطوانة التي عند باب أمّ سلمة ، وكان ذلك في حرّ شديد ، وهو لا يأكل فيهن ولا يشرب ، حتّى إنّه ما كان يسمع الصوت من الجهد. هذا ، ومحاصرة بنى قريظة كانت بعد الخندق ، وهي كانت في برد شديد ، كما مرّ الخبر عنه في الصفحة : ٥٢٦ فما بعدها.

(١) إعلام الورى ١ : ١٩٦.

٥٤٠