موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

اسيد بن حضير فقال له : اذهب في نفر من أصحابك حتّى تنظر ما أقدم أشجع؟

فخرج اسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه حتّى وقف عليهم فقال لهم : ما أقدمكم؟

فقام إليه مسعود بن رخيلة فسلّم على اسيد وقال : جئنا لنوادع محمّدا.

فرجع اسيد إلى رسول الله فأخبره ، فقال رسول الله : خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم. ثمّ قال : نعم الشيء الهدية قبل الحاجة ، ثمّ قدّم أمامه بعشرة أحمال من التمر. ثمّ أتاهم فقال لهم : يا معشر أشجع ما أقدمكم؟

قالوا : قربت دارنا منك ، وليس في قومنا أقلّ عددا منّا فضقنا بحربك لقرب دارنا منك ، وضقنا بحرب قومنا لقلّتنا فيهم ، فجئنا لنوادعك.

فقبل النبيّ ذلك منهم ووادعهم ، فأقاموا يومهم ، ثمّ رجعوا إلى بلادهم (١).

غارة الفزاري وردّها (٢) :

اجتمع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من خمس الجمال الغنائم أو صفاياها عشرون ناقة لقحت فكانت حوامل ذوات ألبان يقال لها : اللقاح ، كانت ترعى في الغابة قرب المدينة على طريق الشام (٣) ، وكان الراعي يرجع بلبنها أصيل كلّ يوم عند المغرب.

وروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن ابان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام : أن أبا ذر الغفاري استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرعى لقاحه ، وسمّى الموضع : مزينة قال : أفتأذن لي أن أخرج أنا وابن أخي الى مزينة فنكون بها؟

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٤٦ ، ١٤٧.

(٢) أشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١ باسم ذي قرد.

(٣) على بريد من المدينة ـ التنبيه والإشراف : ٢١٨.

٥٦١

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أخشى أن يغير عليك خيل من العرب فيقتل ابن أخيك فتأتيني شعثا فتقوم بين يدي متّكئا على عصاك فتقول : قتل ابن أخي واخذ السرح.

فقال ابو ذر : يا رسول الله بل لا يكون إلّا خيرا إن شاء الله.

فأذن له رسول الله. فخرج هو وابن اخيه وامرأته.

فلم يلبث هناك إلّا يسيرا حتى غارت خيل بني فزارة فيها عيينة بن حصن ، فأخذت السرح ، وقتل ابن اخيه ، وأخذت امرأته من بني غفار ... وطعنوه طعنة جائفة (١).

وروى الواقدي مثل ذلك وأضاف : وكان أبو ذرّ بعد ذلك يقول : عجبا لي! إنّ رسول الله كان يقول : لكأنّي بك وأنا ألحّ عليه ، فكان والله على ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله إنّا لفي منزلنا ولقاح رسول الله قد روّحت وعطّنت وحلبت عند العتمة ونمنا ، وفي الليل (ليلة الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ست) (٢) أحدق بنا عيينة بن حصن الفزاري في أربعين فارسا وقاموا على رءوسنا وصاحوا بنا ، وقتلوا ابني ونجت امرأته وثلاثة آخرون ، واشتغلوا عنّي بإطلاق عقل اللقاح فتنحّيت عنهم ، ثمّ صاحوا باللقاح فكان آخر العهد بها.

وفي خبر «روضة الكافي» : وأقبل ابو ذر يشتد حتى وقف بين يدي رسول الله فاعتمد على عصاه وقال : صدق الله ورسوله : أخذ السرح وقتل ابن أخي وقمت بين يديك على عصاي : فصاح رسول الله في المسلمين فخرجوا في الطلب فقتلوا نفرا من المشركين وردّوا السرح (٣).

وقال الواقدي : وكان سلمة بن الأكوع يقول : خرجت في الغداة اريد لقاح

__________________

(١) روضة الكافي : ١١٠ ح ٩٦ ط النجف الأشرف.

(٢) المغازي ٢ : ٥٣٧.

(٣) روضة الكافي : ١١٠ ح ٩٦ ط النجف الأشرف.

٥٦٢

رسول الله في الغابة لآتيه بلبنها ، وكانت إبل عبد الرحمن بن عوف دون إبل النبيّ ، فيها غلام لعبد الرحمن فلقيته فأخبرني أنّ عيينة بن حصن قد أغار في أربعين فارسا على لقاح رسول الله.

فرجعت بفرسي إلى المدينة حتّى أشرفت على ثنية الوداع (١) فصرخت بأعلى صوتي ثلاثا : يا صباحاه! (٢) وبلغ رسول الله صياح بن الاكوع ، فصرخ بالمدينة : الفزع الفزع (٣) ثمّ طلع رسول الله مقنّعا في الحديد ووقف ، فكان أوّل من أقبل إليه المقداد بن عمرو عليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه ، فعقد له رسول الله لواء في رمحه وقال له : امض حتّى تلحقك الخيول ونحن على أثرك.

قال المقداد : فخرجت وأنا أسأل الله الشهادة ، حتّى أدركت اخريات العدو وقد أعيا فرس لهم فنزل عنه صاحبه وارتدف خلف أحدهم ، وتأخر الفرس عنهم ، فأخذت الفرس وربطت في عنقه قطعة وتر وخلّيته ، وأدركت منهم رجلا يدعى مسعدة فطعنته برمح فيه اللواء فزلّ الرمح وأعجزني هربا ، ونصبت لوائي ليراه أصحابي فلحقني أبو قتادة على فرس له ، ثمّ استحثّ فرسه فتقدّم عليّ حتّى غاب عنّي ثمّ لحقته فإذا هو قد قتل مسعدة وسجّاه ببرده.

__________________

(١) سيأتي في خبر خيبر البحث في ثنية الوداع هل كانت قبل خيبر في السنة السابعة؟ تسمّى بذلك أم لا؟ وأثبت بعضهم للمدينة ثنتين : شمالية وهي على طريق الشام وهي التي عُرفت بهذا الاسم في خروجهم إلى خيبر ، والاخرى جنوبية على يمين طريق قُباء الطالع إلى قُباء قبل المسجد بكيلومتر واحد ، وهي معلم بارز للعيان ، وعليها ما زال قلعة من العهد التُركي. كما في كتاب : المساجد والاماكن الاثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمن خويلد الحجازي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٦ : ٢٦٨.

(٢) المغازي ٢ : ٥٣٩.

(٣) ابن هشام ٣ : ٢٩٤.

٥٦٣

وقال سلمة : ولحقت القوم فجعلت أرميهم بالنبل وأقول : خذها وأنا ابن الأكوع! وما زلت اكافحهم وأقول : قفوا قليلا يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار ، حتّى انتهيت بهم إلى ذي قرد (١).

ثمّ كان أوّل فارس وقف على رسول الله بعد المقداد من الأنصار : عبّاد بن بشر الأشهلي ، ثمّ سعد بن زيد الأشهلي (٢).

فروى الواقدي عنه قال : أتانا الصريخ يوم السرح وأنا في بني عبد الأشهل ، فلبست درعي وأخذت سلاحي واستويت على فرسي ، فانتهيت إلى رسول الله وعليه الدرع والمغفر لا أرى إلّا عينيه ، والخيل تعدو باتّجاه القناة ، فالتفت إليّ رسول الله فقال : يا سعد قد استعملتك على الخيل فامض حتّى ألحقك إن شاء الله ، فلحقت بالمقداد بن عمرو ومعاذ بن ماعص ، وأبو قتادة في أثرهم ، ونظرت إلى ابن الأكوع يسبق الخيل يرشقهم بالنبل ، ولحقنا بهم ، فتناوشنا ساعة ، وحملت على حبيب بن عيينة بالسيف فقطعت منكبه الأيسر فخلّى العنان وأسرع فرسه فوقع لوجهه وداسه فرسه فقتله. وكان شعارنا : أمت أمت (٣) وقد أعطاه رسول الله رايته العقاب (٤).

وقال : قالوا : وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف ، فجاءت الأمداد ، فلم تزل الخيل والرجال تأتي على أقدامهم والإبل يتعقّبون الخيل والبغال والحمير ، حتّى انتهوا إلى النبيّ بذي قرد ، فاستنقذوا عشر لقائح ، وذهب القوم بالعشر الباقي (٥).

__________________

(١) نحو يوم من المدينة إلى غطفان.

(٢) ابن هشام ٣ : ٢٩٤ و ٢٩٥.

(٣) المغازي ٢ : ٥٤٥ و ٥٤٦.

(٤) المغازي ٢ : ٥٤٢.

(٥) المغازي ٢ : ٥٤٢.

٥٦٤

قال سلمة بن عمرو الأكوع : لحقنا رسول الله والخيول عشاء ، فقلت : يا رسول الله ، إنّ القوم عطاش وليس لهم ماء دون كذا وكذا ، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بأيديهم من السّرح وأخذت بأعناق القوم. فقال : ملكت فاسجح (١) ، إنّهم الآن في غطفان (٢).

وأقام رسول الله بذي قرد (٣) تلك الليلة ونهارها يتلقى الأخبار ، وكانوا خمسمائة إلى سبعمائة ، وقسم في كلّ مائة منهم جزورا ينحرونها ، وصلّى بهم صلاة الخوف.

وكان قد أقام في المدينة سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسونها خمس ليال حتّى رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهو الذي بعث إليه بعشرة جزائر محمّلة بالتمور مسيّرة لهم ، مع ابنه قيس بن سعد ، فقال له رسول الله : يا قيس بعثك أبوك فارسا وقوّى المجاهدين وحرس المدينة من العدو ، اللهم ارحم سعدا وآل سعد. ثمّ قال : نعم المرء سعد بن عبادة! فقال بعض الخزرج : يا رسول الله ، هو سيّدنا وابن سيّدنا ، وإنّ أهل هذا البيت كانوا يطعمون في المحل ويحملون الكلّ ويقرون الضيف ويعطون في النائبة ويحملون عن العشيرة. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهليّة إذا فقهوا في الدين (٤).

وروى ابن إسحاق عن الحسن بن أبي الحسن البصري : أنّ رسول الله رجع قافلا إلى المدينة فأقبلت امرأة الغفاري (أبي ذر أو ابنه) على ناقة من نوق رسول الله نجت عليها ، فأخبرته خبرها ثمّ قالت : يا رسول الله ، إنّي قد نذرت لله أن أنحرها إن نجّاني الله عليها؟ فتبسّم رسول الله ثمّ قال لها : بئس ما جزيتها أن حملك الله

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٤١.

(٢) ابن هشام ٣ : ٢٩٧.

(٣) أشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١.

(٤) المغازي ٢ : ٥٤٧.

٥٦٥

عليها ونجّاك بها ثمّ تنحرينها؟! إنّه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين ، وإنّما هي ناقة من إبلي. فارجعي إلى أهلك على بركة الله (١).

وروى الواقدي بسنده : أنّ رجلا يدعى عيينة عثر في بعض أطراف المدينة على ناقة من نوق النبيّ فجاء بها إليه وقال له : يا رسول الله أهديت لك هذه اللّقحة! فتبسّم النبيّ وقبضها منه ثمّ أمر له بثلاث أواق من فضّة ، ومع ذلك عرف في وجهه عدم الرضا ، فلمّا صلّى الظهر صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ الرجل ليهدي لي الناقة من إبلي أعرفها كما أعرف بعض أهلي ثمّ أثيبه عليها فيظلّ يتسخّط عليّ ، ولقد هممت أن لا أقبل هديّة إلّا من قرشيّ أو أنصاري.

وكان أبو هريرة يروي الخبر فيزيد فيه : أو ثقفي أو دوسي! (٢)

حرب بني محارب :

روى الواقدي : أجدبت بلاد بني ثعلبة وأنمار ومحارب فصاروا إلى تغلمين من أراضي المراض ، ثمّ أجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة ببطن هيقا ، وبلغ ذلك رسول الله فبعث أبا عبيدة بن الجرّاح في أربعين رجلا من المسلمين بعد صلاة المغرب في ربيع الآخر سنة ستّ ، فباتوا يمشون ليلتهم حتّى وافوا ذي القصّة (٣) مع الصبح فأغاروا عليهم فأخذوا رجلا منهم وهرب الباقون في الجبال ، فاستاقوا النعم وغنموا المتاع فقدموا به المدينة ، وأسلم الرجل فتركه رسول الله ، وخمّس رسول الله

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٢٩٧ و ٢٩٨ ومغازي الواقدي ٢ : ٥٤٨ وفيه : امرأة أبي ذر ، مع ذكره لآخر الخبر : ارجعي إلى أهلك. وهذا إنّما يناسب امرأة ذرّ بن أبي ذرّ المقتول هنا ، ولو كانت امرأة أبي ذر لناسب أن يقول لها : الحقي بزوجك. وقد مرّ في خبر الكليني أنّ امرأة أبي ذر اخذت.

(٢) المغازي ٢ : ٥٤٨ و ٥٤٩ وهذه من زيادات أبي هريرة.

(٣) نحو عشرين ميلا من المدينة على طريق الربذة إلى العراق ـ التنبيه والإشراف : ٢١٩.

٥٦٦

الغنيمة وقسّمها عليهم (١).

ثمّ بعث عليهم محمّد بن مسلمة في عشرة ، فورد ذي القصّة ليلا ، فكمن القوم حتّى نام المسلمون فأحدق بهم مائة رجل من بني ثعلبة وعوال ، فتراموا بالنبال ساعة من الليل ، ثمّ حمل الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم ، ووقع محمّد بن مسلمة جريحا لا يتحرّك ، فجرّدوهم ثيابهم وانطلقوا (٢).

فمرّ رجل على القتلى فاسترجع وسمعه محمّد فتحرّك له محمّد بن مسلمة فعرض عليه الماء والطعام ثمّ حمله إلى المدينة. فبعث النبيّ إلى ذلك الموضع (من ذي القصّة) أبا عبيدة بن الجرّاح مع الأربعين رجلا فلم يجدهم ووجد لهم نعما فاستاقها راجعا إلى المدينة (٣).

صلاة الاستسقاء :

مرّ في خبر تفسير القمي عن بني ضمرة وأشجع : أنّ بلادهم كانت قد أجدبت في هذه السنة السادسة شهر ربيع الأوّل. ومرّ آنفا في خبر الواقدي : أنّه قد أجدب بلاد بني أنمار وثعلبة ومحارب في شهر ربيع الآخر سنة ست.

وقد روى الكازروني في «المنتقى» في حوادث هذه السنة السادسة ، عن الزهري عن أنس بن مالك قال : أتى المسلمون رسول الله فقالوا :

يا رسول الله قحط المطر ، ويبس الشجر ، وهلكت المواشي وأسنّت الناس ، فاستسق لنا ربّك.

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٥٢ وأشار إليها في إعلام الورى ١ : ١٩٠ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠١.

(٢) وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١ و ٢٠٢.

(٣) المغازي ٢ : ٥٥١ ، وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١.

٥٦٧

فقال : إذا كان يوم ـ كذا وكذا ـ فاخرجوا ، وأخرجوا معكم بصدقات.

فلمّا كان ذلك اليوم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والناس معه ـ يمشي وعليه السكينة والوقار ، حتّى أتوا المصلّى ، فتقدّم النبيّ فصلّى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ، في الاولى بفاتحة الكتاب والأعلى ، وفي الثانية بفاتحة الكتاب والغاشية.

فلمّا قضى صلاته استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه ـ تفاؤلا لانقلاب القحط إلى الخصب ـ ثمّ جثا على ركبتيه ورفع يديه ثمّ قال : «الله أكبر ، اللهم اسقنا وأغثنا غيثا مغيثا ، وحيا ربيعا ، وجدى طبقا غدقا مغدقا عاما ، هنيئا مريئا مريعا ، وابلا شاملا ، مسبلا مجلجلا ، دائما دررا ، نافعا غير ضار ، عاجلا غير رائث ، غيثا اللهم تحيي به البلاد ، وتغيث به العباد ، وتجعله بلاغا للحاضر منّا والباد ، اللهم أنزل في ارضنا زينتها ، وأنزل علينا سكينتها. اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا تحيي به بلدة ميتا ، واسقه ممّا خلقت أنعاما واناسيّ كثيرا».

قال أنس : فما برحنا حتّى أقبلت قزع من السحاب فالتأم بعضها إلى بعض ثمّ مطرت عليهم سبعة أيّام ولياليهن لا تقلع عن المدينة.

فأتاه المسلمون ـ وهو على المنبر ـ فقالوا : يا رسول الله ، قد غرقت الأرض وتهدّمت البيوت ، وانقطعت السبل ، فادع الله ـ تعالى ـ أن يصرفها عنّا.

فضحك رسول الله حتّى بدت نواجذه ، ثمّ رفع يديه فقال : «اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على رءوس الظراب ومنابت الشجر وبطون الأودية وظهور الآكام».

فتصدّعت قطع السحاب عن المدينة حتّى كانت في مثل الفسطاط عليها ، تمطر على مراعيها ولا تمطر فيها.

قالوا : فلمّا صارت المدينة في مثل الفسطاط ضحك رسول الله حتّى بدت نواجذه ثمّ قال : لله أبو طالب ، لو كان حيّا قرّت عيناه ، من الذي ينشد قوله؟

٥٦٨

فقام علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله كأنّك أردت قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله نبزي محمّدا

ولمّا نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتّى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله : أجل (١).

مصادرة قافلة تجارة قريش :

كان رسول الله يحاول محاصرة قريش اقتصاديّا قبل أن يحاصرها عسكريّا ، واقتصاصا من أموالها لما استلبوا وصادروا من أموال المسلمين المهاجرين. فكانت وقعة بدر ردّا على محاولته ذلك للمرّة الاولى.

وقد نقلنا برواية ابن إسحاق : أنّ قريشا حين كان من وقعة بدر ما كان خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام ، فاستأجروا فرات بن حيان من بني بكر بن وائل يدلّهم على طريق العراق إلى الشام. فبعث رسول الله عليهم زيد بن حارثة فلقيهم في القردة ماء من مياه نجد ، فأصاب العير وفيها فضّة كثيرة لأبي سفيان ـ وأعجزه الرجال ـ فقدم بها على رسول الله (٢).

وبعد غزوة الغابة ـ فيما روى الواقدي ـ بلغه أنّ عيرا لقريش أقبلت من الشام ، فبعث زيد بن حارثة ـ أيضا ـ في مائة وسبعين راكبا ، فأخذوها ، وفيها يومئذ فضّة كثيرة لصفوان بن اميّة الجمحي وذلك في جمادى الاولى سنة ست (٣) في

__________________

(١) عنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ : ٥٣ و ٥٤.

(٣) المغازي ٢ : ٥٥٣.

٥٦٩

العيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام (١).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : فيها اخذت أموال أبي العاص بن الربيع وفيها بضائع لقريش ، وقدموا بها على رسول الله ، فقسّمه بينهم. وأفلت أبو العاص ولكنّه أتى المدينة فاستجار بزينب بنت رسول الله (زوجته) وسألها أن تطلب من رسول الله أن يردّ عليه ماله وما كان معه من أموال الناس.

فدعا رسول الله السريّة وقال لهم : إنّ هذا الرجل (أبو العاص بن الربيع) منّا بحيث قد علمتم ، فإن رأيتم أن تردّوا عليه فافعلوا.

فردّوا عليه ما أصابوا منه. فخرج (٢).

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٣٣٨ ، بينها وذي المروة ليلة ، وبينها والمدينة أربع ليال ـ الطبقات ٢ : ٦٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٠٣ وتمامه : وقدم مكّة وردّ على الناس بضائعهم ثمّ قال لهم : أما والله ما منعني أن اسلم قبل أن اقدم عليكم إلّا توقّيا أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بأموالكم ، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله. وأشار إليه الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢.

وروى الواقدي الخبر بتفصيل جاء فيه : أنّه دخل على زينب بنت رسول الله (امرأته) سحرا فاستجارها فأجارته ، فلمّا صلّى رسول الله الفجر قامت زينب على بابها (الملاصق للمسجد) فنادت بأعلى صوتها فقالت : إنّي قد أجرت أبا العاص!

وسمعها رسول الله فنادى : أيّها الناس ، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا : نعم. فقال : فو الذي نفسي بيده ما علمت بشيء ممّا كان حتّى سمعت الذي سمعتم ، والمؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم ، وقد أجرنا من أجارت. ثمّ انصرف إلى منزله.

فدخلت عليه ابنته زينب فسألته أن يردّ إلى أبي العاص ما اخذ منه من المال. فقبل بذلك رسول الله ، وأمرها : أن لا يقربها ، فإنّها لا تحلّ له ما دام مشركا. ـ

ثمّ كلّم رسول الله أصحابه في ذلك ، فقبلوا ، وأدّوا إليه كلّ شيء حتّى المطهرة والحبل.

٥٧٠

سريّة إلى بني ثعلبة :

روى الواقدي : أنّ رسول الله بعث زيد بن حارثة في جمادى الآخرة سنة ست إلى بني ثعلبة في الطّرف (١) في خمسة عشر رجلا ، فخاف الأعراب أن يكون رسول الله قد سار إليهم فهربوا ، فلم يكن قتال ، وأصاب شياها ونعما فانحدر زيد بعشرين بعيرا منها إلى المدينة ، فخرجوا في طلبه فأعجزهم حتّى أصبح بالمدينة (٢).

غزوة دومة الجندل (٣) :

روى الواقدي : أنّ رسول الله دعا عبد الرحمن بن عوف الزهري (في شعبان

__________________

فرجع أبو العاص إلى مكّة وأدّى إلى كلّ ذي حقّ حقّه ، ثمّ قال لهم : يا معشر قريش ، هل بقي لأحد منكم شيء؟ قالوا : لا والله. قال : فإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، لقد أسلمت بالمدينة ، وما منعني أن اقيم بالمدينة إلّا أن خشيت أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بالذي لكم معي.

ثمّ رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فردّ عليه زينب بذلك النكاح ٢ : ٥٥٣.

(١) هو ماء على ستّ وثلاثين ميلا من المدينة دون النخيل قرب المراض ـ الطبقات ٢ : ٦٣. وأشار ابن إسحاق إلى الغزوة بلا تأريخ فقال : وغزوة زيد بن حارثة الطرف من ناحية نخل من طريق العراق ٤ : ٢٦٥. وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٣٠١.

(٢) المغازي ٢ : ٥٥٥ ، وأشار إليها ابن إسحاق في السيرة ٤ : ٢٦٥.

(٣) تابعة لمدينة دمشق الشام بينهما خمس عشرة ليلة ، كما في معجم البلدان ، وكان أهلها نصارى من كلب.

٥٧١

سنة ستّ) فقال له : تجهّز فإنّي باعثك في سريّة من يومك هذا أو من غد إن شاء الله. ثمّ أمره رسول الله أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام. ومضى أصحابه في السحر فعسكروا بالجرف ، وهم سبعمائة رجل.

وصلّى رسول الله صلاة الصبح وإذا عبد الرحمن بن عوف في ناس من المهاجرين ، وهو متوشّح سيفا وقد لفّ على رأسه عمامة ، فقال له رسول الله : ما خلّفك عن أصحابك؟ فقال : يا رسول الله أحببت أن يكون آخر عهدي بك وعليّ ثياب سفري. فدعاه النبيّ فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده ثمّ عمّمه بعمامة سوداء فأرخى منها ذيلها بين كتفيه وقال : هكذا فاعتم يا بن عوف. ثمّ قال له : اغز باسم الله وفي سبيل الله ، فقاتل من كفر بالله ، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليدا. ثمّ التفت إلى الناس فقال :

أيّها الناس ، اتّقوا خمسا قبل أن يحلّ بكم :

ما نقص مكيال قوم إلّا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات لعلّهم يرجعون!

وما نكث قوم عهدهم إلّا سلّط الله عليهم عدوّهم!

وما منع قوم الزكاة إلّا أمسك الله عليهم قطر السماء ، ولو لا البهائم لم يسقوا!

وما ظهرت الفاحشة في قوم إلّا سلّط الله عليهم الطاعون!

وما حكم قوم بغير آي القرآن إلّا ألبسهم الله شيعا وأذاق الله بعضهم بأس بعض!

ثمّ خرج عبد الرحمن حتّى لحق بأصحابه فسار بهم حتّى قدم دومة الجندل ، وهم نصارى من كلب ورئيسهم الأصبغ بن عمرو الكلبي ، فدعاه وقومه للإسلام ، فأبوا أن يعطونه إلّا السيف ، فمكث بها ثلاثة أيّام يدعوهم إلى الإسلام ، فلمّا كان

__________________

(١) سيأتي أن الزكاة انما وجبت في آخر السنة التاسعة ولأول العاشرة ، اللهم إلّا أن يراد بها هنا الصدقات المطلقة المندوبة لا خصوص الزكاة الواجبة.

٥٧٢

اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي وأقام على إعطاء الجزية عن قومه (١). فكتب عبد الرحمن إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره بذلك ، وبعث بذلك رجلا من جهينة يقال له : رافع بن مكيث ، وكتب معه يخبر النبيّ أنّه قد أراد أن يتزوّج منهم. فكتب إليه النبيّ أن يتزوّج تماضر بنت الأصبغ ، فتزوّجها عبد الرحمن ، ثمّ رجع بها إلى المدينة (٢).

سريّة عليّ عليه‌السلام إلى فدك :

روى الواقدي : أنّ بني سعد كانوا بفدك (وهي قرية بينها وبين المدينة ستّ ليال قريبة من خيبر) وقد بلغ رسول الله أنّ لهم جمعا لإمداد يهود خيبر (٣) فبعث إليهم عليّا عليه‌السلام في مائة رجل في شعبان سنة ستّ ، فسار الليل وكمن النهار حتّى انتهى إلى الهمج (ماء قرب فدك بينها وبين خيبر) فأصابوا رجلا منهم فأخذوه ، فقال له عليّ عليه‌السلام : هل لك علم بما وراءك من جمع بني سعد؟ قال : لا علم لي به ، فشدّوا عليه ، فأقرّ أنّه عين لهم بعثوه إلى خيبر يعرض على يهود خيبر نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم. فقالوا له : فأين القوم؟ قال : تركتهم وقد تجمّع منهم مائتا رجل ورأسهم وبر بن عليم. قالوا : فسر بنا حتّى تدلّنا. قال : على أن تؤمّنوني! قالوا : إن دللتنا عليهم وعلى سرحهم آمنّاك وإلّا فلا أمان لك!

__________________

(١) أصلها باليونانية : گزيت ، بمعنى الضريبة عن الرءوس. وهذا أول مرّة تذكر في التأريخ الاسلامي ، ولم ترد في القرآن الكريم إلّا في سورة التوبة : ٢٩ وهي حسب المعروف آخر سورة نزلت ، وعليه فتشريعها بالسنّة.

(٢) المغازي ٢ : ٥٦١. وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢.

(٣) ولعلّهم كانوا قد أعدّوا له بعد بني قريظة.

٥٧٣

فخرج بهم وأوفى بهم على فدافد وآكام حتّى ساء ظنّهم به ، ثمّ أفضى بهم إلى سهول فإذا شياه كثيرة ونعم فقال : هذه شياههم ونعمهم ، فأرسلوني. قالوا : لا حتّى نأمن الطلب ، ثمّ أغاروا فغنموا النعم والشياه وهرب راعيها فأنذر أهله وحذّرهم فتفرّقوا وهربوا ، وانتهى المسلمون إلى محلّهم فلم يروا أحدا ، فأرسلوا الرجل. فمكث علي عليه‌السلام ثلاثا ، ثمّ عزل خمس الغنائم ، وصفى للنبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ لقوحا ، وقسّم سائر الغنائم ، وكانت خمسمائة بعير وألفي شاة (١).

غزوة ذات السلاسل (٢) :

روى الشيخ المفيد عن أصحاب السير : أنّه كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا ذات يوم إذ جاءه أعرابي فجثا بين يديه ثمّ قال : إنّي جئتك لأنصحك! قال : وما نصيحتك؟

قال : قوم من العرب قد عملوا على أن يبيّتوك بالمدينة (٣) فقد اجتمع بنو سليم بوادي الرمل عند الحرّة على أن يبيّتوك (٤).

فأمر أمير المؤمنين عليه‌السلام أن ينادي بالصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّ هذا عدوّ الله وعدوّكم قد اقبل إليكم يزعم انّه يبيّتكم في المدينة ، فمن للوادي؟ [وادي الرمل].

فقام رجل من المهاجرين (؟) فقال : أنا له يا رسول الله. فناوله اللواء ، وضمّ

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٦٢. وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢.

(٢) وتسمّى غزوة وادي الرمل ، ذكرها الشيخ المفيد في الإرشاد ١ : ١١٤ ـ ١١٧ بعد بني قريظة وقبل المصطلق. وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢ في حوادث السنة السادسة.

(٣) الإرشاد ١ : ١١٤.

(٤) المناقب ١ : ٢٠٢.

٥٧٤

إليه سبعمائة رجل وقال له : امض على اسم الله. فمضى. فوافى القوم ضحوة فقالوا له : من الرجل؟ قال : أنا رسول لرسول الله ، فإمّا أن تقولوا : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، أو لأضربنّكم بالسيف! فقالوا له : ارجع إلى صاحبك فإنّا في جمع لا تقوم له. فرجع الرجل وأخبر رسول الله بذلك!

فقام النبيّ وقال : من للوادي؟ فقام رجل آخر من المهاجرين (؟) فقال : أنا له يا رسول الله؟ فدفع إليه الراية ومضى. ثمّ عاد بمثل ما عاد به صاحبه الأوّل.

فقال رسول الله : أين عليّ بن أبي طالب؟ فقام أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : أنا ذا يا رسول الله. قال : امض إلى الوادي. قال : نعم.

ثمّ مضى إلى منزله ، وكانت له عصابة لا يتعصّب بها إلّا إذا بعثه النبيّ في وجه شديد ، فأخذ يلتمسها ، فقالت له فاطمة : أين بعثك أبي؟ قال : إلى وادي الرمل ، فبكت إشفاقا عليه ، وفي تلك الحال دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لها : ما لك تبكين؟ أتخافين أن يقتل بعلك؟ كلّا إن شاء الله. فقال له عليّ عليه‌السلام : لا تنفس (١) عليّ بالجنّة يا رسول الله.

ثمّ خرج ، ومعه لواء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمضى حتّى وافى القوم بسحر ، فأقام حتّى أصبح ، فصلّى بأصحابه الغداة ، ثمّ صفّهم ، ثمّ أقبل على العدوّ واتّكأ على سيفه وقال لهم : يا هؤلاء ، أنا رسول رسول الله إليكم : أن تقولوا لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وإلّا ضربتكم بالسيف!

فقالوا له : ارجع كما رجع صاحباك!

قال : أنا أرجع؟! لا والله حتّى تسلموا ، أو أضربكم بسيفي هذا ، وأنا علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب. فلمّا عرفه القوم اضطربوا ، وثمّ اجترؤوا على مواقعته ،

__________________

(١) أي : لا تبخل.

٥٧٥

فقتل منهم ستة أو سبعة ثمّ انهزموا ، فحاز المسلمون غنائمهم وانصرفوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فروى عن أمّ سلمة قالت : كان نبيّ الله عليه‌السلام قائلا في بيتي إذ انتبه فزعا من منامه ، فقلت له : الله جارك. قال : صدقت ، الله جاري. لكن هذا جبرئيل عليه‌السلام يخبرني أنّ عليّا قادم. ثمّ خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليّا عليه‌السلام ، فقام المسلمون له صفّين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلمّا بصر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ترجّل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبّلهما ، فقال له عليه‌السلام : اركب فإنّ الله ورسوله عنك راضيان. فبكى أمير المؤمنين عليه‌السلام فرحا. وانصرف إلى منزله.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض من كان معه في الجيش : كيف رأيتم أميركم؟

قالوا : لم ننكر منه شيئا إلّا أنّه لم يؤم بنا في صلاة إلّا قرأ بنا فيها ب (قل هو الله أحد).

فقال النبيّ : سأسأله عن ذلك.

فلمّا جاءه قال له : لم لم تقرأ بهم في فرائضك إلّا بسورة الإخلاص؟

فقال : يا رسول الله ، أحببتها.

فقال له النبيّ عليه‌السلام : فإنّ الله قد أحبّك كما أحببتها. ثمّ قال له : يا عليّ لو لا أنّني اشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملإ منهم إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك! (١).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١١٦ ـ ١١٧ ثمّ قال : ذكر كثير من أصحاب السيرة : أنّ في هذه الغزاة نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) إلى آخرها. كما في تفسير القمي ٢ : ٤٣٤. ومجمع البيان

٥٧٦

غزوة بني المصطلق (١) :

روى الواقدي : أنّ بني المصطلق من خزاعة كانوا ينزلون بناحية الفرع ، وبدأ الركبان يأتون من ناحيتهم فيخبرون رسول الله أنّ الحارث بن أبي ضرار رأس المصطلق وسيّدهم قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب فدعاهم إلى حرب رسول الله.

__________________

ـ ٢ : ٨٠٢ و ٨٠٣ عن الصادق عليه‌السلام. ورواه الحلبي في المناقب ٣ : ١٤٠ بإسناد أبي الفتح الحفّار وأبي القاسم الوكيل. هذا ، وقد اشتهر أن سورة العاديات مكية وقد سبق في تفسيرها ما يناسب مكيّتها. ونقل عن مقاتل والزجاج ووكيع والثوري والسدّي وأبي صالح عن ابن عبّاس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنفذ أبا بكر في سبعمائة رجل فهزموهم وقتلوا من المسلمين جمعا كثيرا ، ورجع عمر منهزما أيضا ، فقال عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول الله فبعثه فرجع منهزما ، وفي رواية : أنه أنفذ خالدا فعاد كذلك. وهذا يعني أنّ ذلك لم يكن في سنة ست بل بعد سنة ثمان. هذا ، وقد أشار إليه من قبل في حوادث السنة السادسة ١ : ٢٠٢.

(١) من قبائل خزاعة ، وكان محلّهم يسمّى المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل بينه وبين الفرع نحو يوم. وفاء الوفاء ٢ : ٣٧٣. وقد اختلف الخبر عن تأريخ هذه الغزوة ، ففي مغازي الواقدي ١ : ٤٠٤ : في سنة خمس خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الإثنين لليلتين خلتا من شعبان ، وقدم المدينة لهلال رمضان ، وفي سيرة ابن هشام ٣٢ : ٣٠٢ : في شعبان سنة ست. والقمي في تفسيره ٢ : ٣٦٨ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠١ بنيا على الأوّل ، وذكرهما الطبرسي في إعلام الورى ١ : ١٩٦ ورجّحنا الأخير لبعض القرائن ، منها أنّ عليّا عليه‌السلام هنا فارس ، فلو كانت ...

٥٧٧

فلمّا بلغ ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ بعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك ، فاستأذن النبيّ أن يقول ما شاء فأذن له. فخرج حتّى ورد ماءهم فوجد قوما مغرورين قد جمعوا الجموع. فقالوا له : من الرجل؟ قال : رجل منكم ، قدمت لمّا بلغني عن جمعكم لهذا الرجل ، فأسير في قومي ومن أطاعني ، فتكون يدنا واحدة حتّى نستأصله. فقال له الحارث : فنحن على ذلك فعجّل علينا. فقال بريدة : اركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي ومن أطاعني. فركب ...

ورجع إلى رسول الله فأخبره خبر القوم.

فندب رسول الله الناس وأخبرهم خبر عدوّهم ، فأسرع الناس للخروج. وفيهم ثلاثون فارسا ، عشرة من المهاجرين : رسول الله وعليّ عليه‌السلام والمقداد والزبير وطلحة وأبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف. وعشرون من الأنصار منهم : أبيّ بن كعب واسيد بن حضير والحباب بن المنذر وسعد بن زيد وسعد بن معاذ ومعاذ بن جبل.

وخرج مع رسول الله بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة مثلها قطّ ، ليس لهم رغبة في الجهاد ، ولكن قرب السفر عليهم ، وأرادوا أن يصيبوا من عرض الدنيا.

وسلك رسول الله على الحلائق (١) فنزل بها. وفيها جاءه رجل من عبد القيس فسلّم على رسول الله ، فسأله : أين أهلك؟ قال : بالرّوحاء. قال : فأين تريد؟ قال : جئت لاؤمن بك وأشهد أنّ ما جئت به الحقّ واقاتل عدوّك. فقال رسول الله : الحمد لله الذي هداك للإسلام. فلمّا أسلم قال : يا رسول الله أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال : الصلاة في أوّل وقتها (٢).

__________________

(١) المغازي ٢ : ٤٠٥.

(٢) المغازي ٢ : ٤٠٦.

٥٧٨

وكان الرجل قد التقى يوم أمس بمسعود بن هنيدة مولى أبي تميم وقد أعتقه ، وكان أهله بموضع يعرف بالخذوات ، وقد رغب الناس حولهم في الإسلام وكثر ، قال : فتركت أهلي وجئت لاسلم على رسول الله ولقيت رسول الله في بقعاء (١). فقال له : يا رسول الله قد رأيتني أمس إذ لقيت رجلا من عبد القيس فدعوته إلى الإسلام فرغّبته فيه فأسلم. فقال له رسول الله : لإسلامه على يديك كان خيرا لك ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت. ثمّ قال له : كن معنا حتّى نلقى عدوّنا ، فإنّي أرجو أن ينفّلنا الله أموالهم وذراريّهم (٢).

وفي بقعاء صادفوا رجلا من المشركين فسألوه : ما وراءك؟ وأين الناس؟ فقال : لا علم لي بهم. فقال له عمر بن الخطّاب : لتصدقن أو لأضربن عنقك! فقال : أنا رجل من بني المصطلق ، تركت الحارث بن أبي ضرار قد جمع لكم الجموع وجلب إليه ناسا كثيرا ، وبعثني إليكم لآتيه بخبركم وهل تحرّكتم من المدينة.

فأتى عمر إلى رسول الله فأخبره الخبر فدعا به رسول الله ودعاه إلى الإسلام فقال :

لست بمتّبع دينكم حتّى أنظر ما يصنع قومي ، فإن دخلوا في دينكم كنت كأحدهم ، وإن ثبتوا على دينهم فأنا رجل منهم!

فقال عمر : يا رسول الله أضرب عنقه؟ فأذن له ، فضرب عنقه.

__________________

(١) موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة ـ وفاء الوفاء ٢ : ٢٦٤.

(٢) المغازي ٢ : ٤٠٩ وتمامه : فأعطاني رسول الله قطعة من الإبل وقطعة من غنم. فقلت : يا رسول الله كيف أقدر أن أسوق الإبل ومعي الغنم؟! اجعلها غنما كلّها أو إبلا كلّها. فتبسّم رسول الله وقال : أيّ ذلك أحبّ إليك؟ فقلت : تجعلها إبلا. قال : اعطه عشرا من الإبل. فاعطيتها.

٥٧٩

فذهب خبره إلى بني المصطلق فساء بذلك زعيمهم الحارث بن أبي ضرار ومن معه وخافوا خوفا شديدا ، وتفرّق عنه من كان قد اجتمع إليه من أفناء العرب حتّى ما بقي منهم أحد سوى بني المصطلق.

وفي المريسيع :

حتّى انتهى رسول الله إلى ماء المريسيع فنزله ، وضربت له قبّة من أدم. وقد اجتمع بنو المصطلق على الماء وأعدّوا وتهيّأوا للقتال. فصفّ رسول الله أصحابه ، ودفع راية المهاجرين ـ فيما قيل ـ إلى عمّار بن ياسر رضى الله عنه وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضى الله عنه.

فروى الواقدي عن ابن عمر : أنّ النبيّ أغار على بني المصطلق وهم غارّون ونعمهم تسقى على الماء.

ولكنّه روى بسنده عن زيد بن طلحة : أنّ رسول الله أمر عمر فنادى فيهم :

قولوا : لا إله إلّا الله ، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم! فأبوا. ورمى رجل منهم المسلمين فرماهم المسلمون بالنبل ساعة (١).

ثمّ أمر رسول الله أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد ، فما أفلت منهم إنسان ، قتل منهم عشرة واسر سائرهم (٢) فقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلين من القوم هما مالك وابنه ... وكان هو الذي سبى جويريّة بنت الحارث أمير القوم ، فجاء بها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاصطفاها النبيّ عليه‌السلام. واصاب رسول الله منهم سبيا كثيرا فقسمه في المسلمين.

__________________

(١) المغازي ٢ : ٤٠٤ ـ ٤٠٧.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٩٧ وهو لفظ الواقدي ٢ : ٤٠٧.

٥٨٠