موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

قتل سابّ النبيّ (فاسقة بني خطمة):

ونقل الطبرسي عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : لمّا غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد وثبت فاسقة من بني خطمة يقال لها العصماء أم المنذر تمشي في مجالس الأوس والخزرج وتقول شعرا تحرّض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولم يكن يومئذ في بني خطمة مسلم إلّا واحد يقال له : عمير بن عديّ.

فلمّا رجع رسول الله (من حمراء الأسد) غدا إليها عمير فقتلها ، ثمّ أتى رسول الله فقال له : إنّي قتلت أمّ المنذر لما قالته من هجو؟ فضرب رسول الله على كتفه وقال : هذا رجل نصر الله ورسوله بالغيب! أما إنّه لا ينتطح فيها عنزان!

قال عمير بن عديّ : فأصبحت فمررت ببنيها وهم يدفنونها فلم يعرض

__________________

ـ الأنصاري له : ارجع يستغفر لك رسول الله! قال : والله ما أبتغي أن يستغفر لي! ٣ : ١١١.

وقال الواقدي : قالوا : لمّا رجع رسول الله من (بدر) إلى المدينة جلس على المنبر يوم الجمعة ، فقام ابن ابيّ فقال : هذا رسول الله بين اظهركم قد أكرمكم الله به فانصروه وأطيعوه! فكان له هذا المقام يقومه كلّ جمعة ، وكان شرفا له لا يريد تركه. فلمّا كان يوم احد وصنع ما صنع وقام ليفعل ذلك ، قام إليه المسلمون فقالوا له : اجلس يا عدوّ الله! وقام إليه أبو أيّوب وعبادة بن الصامت ، فأخذ أبو أيّوب بلحيته وجعل عبادة يدفع في رقبته ويقولان له : لست أهلا لهذا المقام حتى أرسلاه! فخرج يتخطّى رقاب الناس ويقول : قمت لأشدّ أمره فكأنّما قلت هجرا.

فلقيه معوّذ بن عفراء الأنصاري فقال له : ارجع فيستغفر لك رسول الله!

فقال : والله ما أبغي يستغفر لي! أخرجني محمّد من مربد سهل وسهيل!

هذا ، وابنه (عبد الله الجريح يوم احد) جالس في الناس ما يشدّ الطرف إليه!

ونزلت فيه الآيات من سورة «المنافقون» ١ : ٣١٨ و ٣١٩.

٣٦١

لي أحد منهم (١).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٥ وعليه فيكون مقتلها ليلة السبت مساء يوم الجمعة يوم رجوع الرسول من حمراء الأسد ، وعبر الواقدي عن هذه العمليّة لعمير بن عديّ بأنّها سريّة وقال : كان قتلها لمرجع النبيّ من بدر لخمس ليال بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا. أي في السنة الثانية. وكذلك ذكرها الكازروني في «المنتقى» قال : وفي هذه السنة كانت سريّة عمير بن عديّ بن خرشة إلى عصماء بنت مروان اليهودي. ونقله المجلسي (بحار الأنوار ٢٠ : ٧). وإخباره للرسول صبيحة يوم السبت بعد الصلاة حيث قال : غدا إليها فقتلها. وكان دفنها كذلك صبيحة السبت حيث قال : فأصبحت فمررت ببنيها وهم يدفنونها.

ووافقت في أكثر ذلك رواية الواقدي ، وقال : كانت تقول شعرا تحرّض على النبيّ وتؤذيه وتعيب الإسلام ، فبلغ قولها ذلك إلى عمير بن عدي الخطمي ، ورسول الله يومئذ ببدر ، فقال عمير : اللهم إنّ لك عليّ نذرا لئن رددت رسول الله إلى المدينة لأقتلنها (ويلاحظ أنّ صيغة النذر شرعيّة).

قال عمير : فلمّا رجع رسول الله من بدر جئتها في جوف الليل حتى دخلت عليها في بيتها وحولها نفر من ولدها نيام ، فجسستها بيدي فوجدت صبيّا ترضعه فنحّيته عنها ، ثم وضعت سيفي في صدرها حتى أنفذته من ظهرها. ثمّ خرجت حتى صلّيت الصبح مع النبيّ بالمدينة ، فلمّا انصرف النبيّ نظر إليّ فقال : أقتلت بنت مروان؟

قلت : نعم ، بأبي أنت وامّي يا رسول الله ، فهل عليّ في ذلك شيء يا رسول الله؟

قال : لا ، لا ينتطح فيها عنزان! (فذهب مثلا) ثمّ التفت النبيّ إلى من حوله فقال :

إذا احببتم أن تنظروا الى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عديّ!

فقال عمر بن الخطّاب : انظروا إلى هذا الأعمى الذي تشدّد في طاعة الله!

فقال النبيّ : لا تقل الأعمى ولكنّه البصير.

فلمّا رجع عمير من عند النبيّ وجد بنيها في جماعة يدفنونها ، فلمّا رأوه مقبلا من المدينة

٣٦٢

__________________

ـ أقبلوا إليه فقالوا له : يا عمير ، أنت الذي قتلها؟! قال : نعم! فكيدوني جميعا ثمّ لا تنظرون ، فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم!

فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة.

ومن شعرها :

ل فباست بني مالك والنبيت

وعوف ، وباست بني الخزرج

أطعتم أتاويّ من غيركم

فلا من مراد ولا مذحج

ترجّونه بعد قتل الرءوس

كما يرتجى مرق المنضج

والأتاوي : الغريب. وقولها هذا يقتضي أن يكون بعد مقتل الكثير منهم في احد لا في بدر.

فقال حسّان يقبّح فعلها ويحسّن فعل ابن عديّ :

بني وائل وبني واقف

وخطمة ، دون بني الخزرج

متى ما دعت اختكم ـ ويحها ـ

بعولتها ، والمنايا تجي

فهزّت فتى ماجدا عرقه

كريم المداخل والمخرج

فضرّجها من نجيع الدما

قبيل الصباح ، ولم يحرج

فأوردك الله برد الجنا

جذلان في نعمة المولج

مغازي الواقدي ١ : ١٧٢ ـ ١٧٤. هذا عن يوم السبت بعد مرجعه من حمراء الأسد.

وفي يوم الأحد بعده كان ما جاء في خبر «فروع الكافي» عن الصادق عليه‌السلام بشأن أمّ كلثوم بنت رسول الله ، قال : فرجع عثمان من عند النبيّ فقال لامرأته : إنّك أرسلت إلى أبيك فأعلمتيه بمكان عمّي (المغيرة بن أبي العاص أخي عفّان بن أبي العاص) فحلفت له بالله ما فعلت فلم يصدّقها ، فأخذ خشبة القتب فضربها ضربا مبرحا!

٣٦٣

__________________

ـ فأرسلت إلى أبيها تشكو ذلك وتخبره بما صنع. فأرسل إليها : إنّي لأستحي للمرأة أن لا تزال تجرّ ذيولها تشكو زوجها! وقال : أقني حياءك ، فما أقبح بالمرأة ذات حسب ودين في كلّ يوم تشكو زوجها! فأرسلت إليه مرّات ، كلّ ذلك يقول لها ذلك! فلمّا كان في الرابعة أرسلت إليه ؛ أن قد قتلني! فلمّا كان ذلك دعا عليّا عليه‌السلام وقال له : خذ السيف واشتمل عليه ، ثمّ ائت بنت ابن عمّك فخذ بيدها ، فمن حال بينك وبينها فاضربه بالسيف! فدخل عليّ عليها فأخذ بيدها وجاء بها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا نظرت إليه رفعت صوتها بالبكاء! فاستعبر رسول الله وبكى وأدخلها منزله ، فكشفت عن ظهرها فأرته ظهرها! فلمّا أن رأى ما بظهرها قال ـ ثلاث مرّات ـ ما له قتلك؟! قتله الله!

وكان ذلك يوم الأحد ، وبات عثمان ملتحفا بجاريتها! فمكثت الاثنين والثلاثاء ، وماتت في اليوم الرابع. فلمّا حضر أن يخرج بها (الخروج بها) أمر رسول الله فاطمة عليها‌السلام فخرجت ومعها نساء المؤمنين. وخرج عثمان يشيّع جنازتها! فلمّا نظر إليه النبيّ قال : من أطاف البارحة بأهله أو بفتاته فلا يتبعنّ جنازتها. أو قال : من ألمّ بجاريته الليلة فلا يشهد جنازتها. قال ذلك ثلاثا ، فلم ينصرف ، فقال في الرابعة : لينصرفنّ ، أو لاسميّن باسمه! أو : ليقومن أو لاسمين باسمه واسم أبيه! فأقبل عثمان متوكئا على (مهين) مولى له ممسكا ببطنه فقال : يا رسول الله إنّي أشتكي بطني فإن رأيت أن تأذن لي أن أنصرف؟! فقال : انصرف!

وخرجت فاطمة ونساء المؤمنين والمهاجرين فصلّين على الجنازة ـ الخرائج والجرائح ١ : ٩٤ ـ ٩٦. وفروع الكافي ٣ : ٢٥١. وفي التهذيب ٣ : ٣٣٣. ويخلو الخبران عن اسمها ولكنّها أمّ كلثوم التي تزوّجها عثمان بعد وفاة اختها السابقة رقيّة. ولم يسمّها المجلسي ولكنّه أورد الخبرين ضمن أخبار رقيّة ، وليست هي.

وقد تعرّض العلّامة الأميني لأخبار زواج عثمان برقيّة وأمّ كلثوم ووفاتهما ومتع النبيّ إيّاه من تشييعها أو النزول في قبرها لدفنها ، من أرادها فليراجعها بعنوان : الخليفة في ليلة وفاة

٣٦٤

__________________

ـ أمّ كلثوم. بدأه بخبر البخاري بسنده عن أنس بن مالك قال : شهدنا بنت رسول الله ورسول الله جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان ، ثمّ قال : هل فيكم أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري : أنا ، قال : فانزل في قبرها. قال : فنزل في قبرها فقبرها.

وقد جاء الخبر في لفظ أحمد : أنّها رقيّة ، وعقّبه السهيلي قال : هو وهم بلا شكّ. الروض الانف ٢ : ١٠٧ ـ الغدير ٨ : ٢٣١ ـ ٢٣٤.

وروى خبر أنس بن مالك ، الدولابي في الذريّة الطاهرة : ٨٨ برقم ٧٧ في أخبار أمّ كلثوم ، ثمّ روى بسنده عن فاطمة الخزاعيّة عن أسماء بنت عميس قالت : أنا غسلت أمّ كلثوم مع صفيّة بنت عبد المطّلب. وفيه ما في خبر حضور أسماء بنت عميس في زفاف الزهراء عليها‌السلام.

ثمّ روى بسنده عن أم عطيّة قالت : توفيت (إحدى بنات النبيّ) فقال : اغسلنها ثلاثا ... واغسلنها بالسدر ، واجعلن في الآخرة شيئا من كافور ، فإذا فرغتنّ فاذنّني. فلمّا فرغنا آذنّاه ، فطرح إلينا حقوا فقال : أشعرنها إيّاه.

وروى بسنده عن ليلى بنت قانف الثقفيّة قالت : كنت فيمن غسل أمّ كلثوم بنت رسول الله عند وفاتها ، ورسول الله جالس على الباب معه كفنها يناولناه ثوبا ثوبا ، فكان أوّل ما أعطانا رسول الله الحقا (الحقوة : معقد الإزار) ثمّ الدرع ، ثمّ الخمار ، ثمّ الملحفة ، ثمّ ادرجت بعد في الثوب الآخر. وروى أنّه جلس على حفرتها عليّ والفضل واسامة بن زيد ، ولكنّه نقل عن محمّد بن عمر (؟) قال : ماتت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شعبان في سنة تسع؟! الذريّة الطاهرة : ٨٧ برقم ٧٦ ، ولعلّ التسع محرّف عن الأربع ، وشعبان عن شوّال.

وعلى أيّ حال ، فالأخبار هذه تحتوي على تأريخ الأغسال الثلاثة للميّت وقطع الأكفان للنسوان.

٣٦٥

موقف اليهود والمنافقين :

ولو كانت عصماء يهوديّة فهي من مفردات ما قال الواقدي : وأظهرت اليهود القول السيئ فقالوا : ما محمّد إلّا طالب ملك ، اصيب في أصحابه واصيب في بدنه! وما اصيب هكذا نبيّ قطّ!

وجعل المنافقون يقولون لأصحاب رسول الله : لو كان من قتل منكم عندنا ما ماتوا وما قتلوا (١) فيخذلون بذلك عن رسول الله أصحابه ويأمرونهم بالتفرّق عنه.

قال : حتى سمع ذلك عمر بن الخطّاب في أماكن ، فمشى إلى رسول الله يستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين!

فقال رسول الله : يا عمر ؛ إنّ الله مظهر دينه ومعزّ نبيّه ، ولليهود ذمّة فلا أقتلهم.

فقال عمر : فهؤلاء المنافقون يا رسول الله؟!

فقال رسول الله : أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟

قال : بلى يا رسول الله ولكنهم إنّما يفعلون ذلك تعوّذا من السيف ، فقد بان لهم أمرهم وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة.

فقال رسول الله : نهيت عن قتل من قال : لا إله إلّا الله وإنّ محمّدا رسول الله. يا بن الخطّاب إنّ قريشا لن ينالوا منّا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن (٢).

__________________

(١) وقال الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) آل عمران : ١٥٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣١٧ و ٣١٨ وكأنّه بهذا أراد أن يستدرك ما فاته من قوله في عمير بن

٣٦٦

قصاص الحارث بالمجذّر :

قال ابن هشام : كان المجذّر بن ذياد قتل سويد بن الصامت في بعض الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج ، فلمّا كان يوم احد طلب الحارث بن سويد غرة المجذّر بن ذياد ليقتله بأبيه فقتله (١).

قال : فبينا رسول الله في نفر من أصحابه إذ خرج الحارث بن سويد من بعض حوائط المدينة ، فأمر رسول الله عثمان بن عفّان ـ أو بعض الأنصار ـ فضرب عنقه (٢).

__________________

ـ عديّ وردّ الرسول فيه عليه ، فيجبر بهذا كسره بذلك ، ولعلّه يدرك كذلك فضل ما وسم به الرسول عمل ابن عدي. بل وفي هذا أيضا ردّت عليه الآيات إذ قالت : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، وإذا كان المشيرون والمشاورون هؤلاء فليس لهم العزم بل (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ، آل عمران : ١٥٩ ، وقال الواقدي : أمره أن يشاورهم في الحرب وحده ، وكان لا يشاور أحدا إلّا في الحرب ـ مغازي الواقدي ١ : ٣٢٤.

(١) ابن هشام ٢ : ٦٧.

(٢) ابن هشام ٣ : ٩٥. ونقل الواقدي تفصيل قصّة قتل المجذّر بن ذياد لسويد بن الصامت قال : جاء حضير الكتائب إلى أبي لبابة بن عبد المنذر وخوّات بن جبير وسويد بن الصامت فقال لهم : تزوروني فأنحر لكم وأسقيكم وتقيمون أيّاما. فقالوا : نأتيك يوم كذا وكذا.

فلمّا كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزورا فأقاموا عنده ثلاثة أيّام حتى تغيّر اللحم فقالوا : نرجع إلى أهلنا. وكان سويد شيخا كبيرا وكان حضير قد سقاهم خمرا فخرج أبو

٣٦٧

__________________

ـ لبابة وخوّات يحملان سويدا من الثمل حتى كانوا قريبا من بني غصينة تجاه بني سالم ، فجلس سويد يبول وهو سكران ، فبصر به انسان من الخزرج ، فذهب إلى المجذّر بن ذياد وقال له : هذا سويد ثمل أعزل لا سلاح معه (وكان سويد قد قتل معاذ بن عفراء) فخرج المجذّر مصلتا سيفه ، فلمّا رآه أبو لبابة وخوّات وهما أعزلان لا سلاح معهما فانصرفا سريعين ، وثبت سويد لا حراك به ، فوقف عليه المجذّر وقال : قد أمكن الله منك! فقال : ما تريد منّي؟ قال : أقتلك ، فقتله ، فكان قتله هو الذي هيّج وقعة بعاث.

فلمّا قدم رسول الله المدينة أسلم المجذّر والحارث بن سويد وشهدا بدرا ، وجعل الحارث يطلب مجذّرا ليقتله بأبيه فلم يقدر عليه يومئذ.

فلمّا كان يوم احد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه.

ونظر إليه خبيب بن يساف فجاء إلى النبيّ فأخبره.

ولمّا رجع الرسول من حمراء الأسد أتاه جبرئيل عليه‌السلام فأخبره : أنّ الحارث بن سويد قتل مجذّرا غيلة وأمره بقتله.

وكان رسول الله يأتي قباء كلّ سبت واثنين ، وركب إليه في اليوم الذي أخبره جبرئيل ـ وكان يوما حارّا لا يذهب فيه إلى قباء ـ فلمّا دخل رسول الله مسجد قباء صلّى فيه ، وسمعت الأنصار فجاءت تسلّم عليه ، فجلس رسول الله يتحدّث ويتصفّح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورّسة (أي مصبوغة بالورس وهو نبات أصفر كان يصبغ به) ، فلمّا رآه رسول الله دعا عويم بن ساعدة فقال له : قدّم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذّر بن ذياد فإنّه قتله يوم احد.

فأخذه عويم ، فقال الحارث : دعني اكلّم رسول الله. ونهض رسول الله يريد أن يركب ودعا بحماره ، فجعل الحارث يقول : قد والله قتلته يا رسول الله ، والله ما كان قتلي إيّاه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه ، ولكنّه حميّة الشيطان وأمر وكلت فيه إلى نفسي ، وإنّي

٣٦٨

أحكام الإرث وسورة النساء :

روى الواقدي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لمّا قتل سعد بن الربيع باحد ... جاء أخو سعد بن الربيع فأخذ ميراثه ، وكان لسعد ابنتان وكانت امرأته حاملا ، وكان المسلمون يتوارثون على ما كان في الجاهليّة ولم تنزل الفرائض.

وكانت امرأة سعد امرأة حازمة ، فدعت رسول الله وطبخت لحما وخبزا ، وكانت بموضع الأسواق.

فبينا نحن جلوس عند النبيّ ونحن نذكر وقعة احد ومن قتل من المسلمين ، إذ قال لنا رسول الله : قوموا بنا ، فقمنا معه ونحن عشرون رجلا ـ بينما أعدّت طعاما بقدر ما يأكل رجل واحد أو اثنان ـ حتى انتهينا إلى الأسواق ... فنجدها قد رشّت ما بين نخلتين أو نخيل صغار وطرحت خصفة (١) بلا بساط ولا وسادة ، فجلسنا.

وعاد رسول الله يحدّثنا عن سعد بن الربيع ويترحّم عليه ويقول : لقد رأيت الأسنّة شرعت إليه يومئذ حتّى قتل. وسمعن النسوة فبكين ، ودمعت عينا

__________________

ـ أتوب إلى الله وإلى رسوله ممّا عملت ، واخرج ديته ، وأصوم شهرين متتابعين واعتق رقبة واطعم ستين مسكينا (ممّا يدلّ على تشريع هذه من قبل) وجعل يمسك بركاب رسول الله ، وكان بنو المجذّر حضورا لا يقولون شيئا ولا يقول لهم رسول الله شيئا ، حتى إذا استوعب الحارث كلامه فقال لعويم : قدّمه يا عويم فاضرب عنقه. وركب رسول الله.

وقدّمه عويم على باب المسجد فضرب عنقه ـ ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥.

وهو أوّل قصاص بين المسلمين قصّ خبره في السيرة.

(١) خصفة : حصير من الخوص.

٣٦٩

رسول الله وما نهاهنّ ... ثمّ قال : يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة. فنظرنا من خلال السعف فإذا عليّ عليه‌السلام قد طلع ، فقمنا فبشّرناه بالجنّة فسلّم ثمّ جلس. ثمّ اتي بالطعام ، بقدر ما يأكل رجل واحد أو اثنان ، فوضع رسول الله يده فيه وقال : كلوا باسم الله ، فأكلنا منها حتّى نهلنا وما أرانا حرّكنا منه شيئا. ثمّ جاءوا برطب قليل في طبق فقال رسول الله : بسم الله كلوا. قال : فأكلنا حتّى نهلنا وإنّي لأرى في الطبق نحوا ممّا اتي به.

ودخلت الظهر فصلّى بنا رسول الله ولم يمسّ ماء (كان غداؤهم قبل الصلاة ولم يكن ناقضا للوضوء) ثمّ رجع إلى مجلسه فتحدّث.

ثمّ جاءت العصر فاتي ببقيّة الطعام ... ثمّ قام النبيّ فصلّى العصر ولم يمسّ ماء.

ثمّ جاءت امرأة سعد فقالت : يا رسول الله ، إنّ سعد بن الربيع قتل باحد ، فجاء أخوه فأخذ ما ترك ، وترك ابنتين لا مال لهما ، وإنّما ينكح النساء على المال يا رسول الله!

فقال رسول الله : اللهم أحسن الخلافة على تركته. ثمّ قال : لم ينزل عليّ في ذلك شيء ، عودي إليّ إذا رجعت.

فلمّا رجع رسول الله إلى بيته جلس على بابه وجلسنا معه ، فأخذ رسول الله برحاء الوحي ثمّ سرّي عنه والعرق يتحدّر عن جبينه مثل الجمان. فقال : عليّ بامرأة سعد.

فخرج أبو سعود عقبة بن عمرو حتى جاء بها. فقال لها : أين عمّ ولدك؟ قالت : في منزله يا رسول الله. فبعث رجلا يعدو إليه فأتى به من بني الحارث بن الخزرج وهو متعب. فقال له رسول الله ، ادفع إلى بنات أخيك ثلثي ما ترك أخوك ، وادفع إلى زوجة أخيك الثمن ، وشأنك وسائر ما بيدك. فكبّرت امرأة سعد

٣٧٠

تكبيرة سمعها أهل المسجد (١).

ولم يذكر الخبر اسم المرأة ولا اسم عمّ بناتها ولا بناتها ، وروى السيوطي في «الدرّ المنثور» بأسناده عن عكرمة (عن ابن عباس) ما يحتمل الانطباق على هذا المورد ، قال :

نزلت في أمّ كلثوم أو أم كحلة وابنته كحلة ، وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار ، كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها ، فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته (كحلة أو كلثوم أو كليهما) فلم نورّث من ماله؟!

فقال عمّ ولدها : يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تنكئ عدوا ولا تكتسب! فنزلت (٢).

فمن المحتمل القريب أن يكون سويد مصحفا عن سعد بن الربيع وأن ثعلبة ابن أوس كان كلالته ، ولا سيما أنّ الآية الثانية عشرة تتكلم عن إرث الزوج والزوجة مع الأولاد وبدونها ومع الكلالة والأخ.

وهذا يقتضي نزول أوائل سورة النساء حتّى الآية الرابعة عشرة بهذه المناسبة.

وقد روى الطبرسي في «مجمع البيان» عن السدّي قال : مات عبد الرحمن ابن ثابت الأنصاري أخو حسان بن ثابت الشاعر ، وترك امرأة وخمسة إخوان ، فجاءت الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئا ، فشكت ذلك إلى رسول الله فأنزل الله آية المواريث (٣).

وفي رواية أبي الجارود في «تفسير القمي» عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال :

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٢٩ ـ ٣٣١.

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٢٢.

(٣) مجمع البيان ٣ : ٢٤.

٣٧١

إنّ أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الصبيّ الصغير ولا الجارية من ميراث آبائهم شيئا ، وكانوا لا يعطون الميراث إلّا لمن يقاتل ، وكانوا يرون ذلك في دينهم حسنا! فلما أنزل الله المواريث وجدوا من ذلك وجدا شديدا ، فقالوا : انطلقوا إلى رسول الله فنذكّره ذلك لعلّه يدعه أو يغيره!

فأتوه فقالوا : يا رسول الله ، للجارية نصف ما ترك أبوها وأخوها ويعطى الصبيّ الصغير الميراث وليس أحد منهما يركب الفرس ولا يحوز الغنيمة ولا يقاتل العدو؟!

فقال رسول الله : بذلك أمرت (١).

***

أما سورة آل عمران قبلها ، فهي ثالث سورة مدنية نزلت بعد الأنفال ، وآياتها مائتان ، قال ابن اسحاق عنها : مما أنزل الله في يوم احد من القرآن ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومهم ذلك ومعاتبة من عاتب منهم (٢). وروى الواقدي في «المغازي» مسندا : أنّ المسور بن مخرمة قال لعبد الرحمن بن عوف : حدثنا عن احد. فقال : يا بن أخي عدّ بعد العشرين ومائة من آل عمران فكأنك قد حضرتنا : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ)(٣). وكذلك بدأ ابن اسحاق ، وختم الستين آية بالآية المائة والثمانين : (... وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٤). وإن لم يعيّنوا تأريخ نزولها متى؟

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٥٤. وروى السيوطي قريبا منه في الدر المنثور ٢ : ١٢٣. كما في الميزان ٥ : ١٠٤.

(٢) ابن هشام ٣ : ١١٢.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣١٩.

(٤) ابن هشام ٣ : ١٢٨ واسترسل الواقدي إلى آخر السورة استطرادا ـ ١ : ٣٢٩.

٣٧٢

ولكنّ المفسّرين وأرباب علوم القرآن ذكروا فيما بين آل عمران والنساء سورتي الأحزاب والممتحنة (١) ، فلعلّ النساء نزلت بعد احد وحمراء الأسد بفاصل لا بتوالي.

هل جرح علي عليه‌السلام؟!

روى ابن شهرآشوب في «المناقب» عن «الخصائص العلوية» : عن علي عليه‌السلام قال : أصابني يوم احد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن ، فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمّة (الشعر) طيب الريح ، فأخذ بضبعي (عضدي) فأقامني ثمّ قال : أقبل عليهم فإنّك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان!

قال علي عليه‌السلام : فأتيت النبيّ فأخبرته فقال : يا عليّ ، أقرّ الله عينك ، ذاك جبرئيل. ونقل عن ابن الفياض (القاضي النعمان) في «شرح الأخبار» بسنده عن سعيد بن المسيب ، مختصر الخبر (٢) ، وليس في «شرح الأخبار» المطبوع.

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن أبان البجلي الكوفي عن الباقر عليه‌السلام قال : أصاب عليا عليه‌السلام يوم احد ستون جراحة ، فأمر النبيّ أمّ سليم وأمّ عطية أن تداوياه ، فقالتا : إنّا لا نعالج منه مكانا إلّا انفتق مكان آخر وقد خفنا عليه. فدخل عليه رسول الله والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة ، فجعل يمسحه بيده ويقول : إنّ رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر! وكان الجرح الذي يمسحه رسول الله بيده يلتئم ، فقال علي عليه‌السلام : الحمد لله إذ لم أفرّ ولم أولّ الدبر. فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن وهما : قوله (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) من الرزق في

__________________

(١) التمهيد ١ : ١٠٦ ثمّ لا ريب أن الاحزاب لم تنزل مرّة واحدة بل في طول سنين ، وكذلك الممتحنة ، كما يأتي.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٤٠.

٣٧٣

الدنيا ، و (سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(١).

وروى قبله مختصر الخبر عن أنس بن مالك قال : اتي رسول الله بعلي عليه‌السلام وفيه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية ، فجعل رسول الله يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن (٢).

وروى الصدوق في «الخصال» بسنده عن الباقر عليه‌السلام أيضا فيما عدّ أمير المؤمنين عليه‌السلام على رأس اليهود من محنه في حياة الرسول وبعده قال : أما الرابعة يا أخا اليهود فانّ أهل مكة أقبلوا إلينا ـ إلى أن قال : ثم ضرب الله وجوه المشركين وقد جرحت بين يدي رسول الله نيّفا وسبعين جراحة ، منها هذه وهذه. ثم ألقى رداءه وأمرّ يده على جراحاته (٣).

وفي كتاب «الاختصاص» المنسوب إلى المفيد نقلا عن كتاب ابن دأب (معاصر موسى الهادي العباسي) قال : إنّه لما انصرف من احد كانت به ثمانون جراحة ، فشكت المرأتان (الممرّضتان) إلى رسول الله قالتا : يا رسول الله ، قد خشينا عليه كثرة الجراحات فإنّ الفتائل تدخل في موضع منها فتخرج من موضع آخر! فدخل عليه رسول الله عائدا وهو مثل المضغة على نطع! فلما رآه رسول الله بكى وقال : إنّ رجلا يصيبه هذا في الله لحقّ على الله أن يفعل به ويفعل! فبكى علي عليه‌السلام وقال : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي لم يرني أنّي ولّيت عنك ولا فررت ، فكيف حرمت الشهادة؟! فقال : إنّها من ورائك إن شاء الله (٤).

وقال القمي في تفسيره : فلم يزل أمير المؤمنين عليه‌السلام يقاتلهم حتى أصابه في

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٨٥٢. ونقله في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٩ و ١٢٠.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٨٤٣ و ٨٤٤. ونقله في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٩ عن تفسير القشيري.

(٣) الخصال ١ : ٣٦٧ و ٣٦٨. وفي الاختصاص : ١٦٤ عن الباقر عن محمّد بن الحنفية!

(٤) الاختصاص : ١٥٨.

٣٧٤

وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة ، فتحاموه (١).

وكأنّ الشيخ المفيد لم تفده هذه الأخبار إلّا اضطرابا في مضمونها فقال في «الإرشاد» :

ومن آيات الله الخارقة للعادة في أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه : لم يعهد لأحد من مبارزة الأقران ومنازلة الأبطال ما عرف له عليه‌السلام من كثرة ذلك على مرّ الزمان ، ثم انه لم يوجد في ممارسي الحروب إلّا من عرته بشرّ ونيل منه بجراح أو شين ، إلّا أمير المؤمنين فإنه لم ينله مع طول زمان حربه جراح من عدو ولا شين ، ولا وصل إليه أحد منهم بسوء ، حتى كان من أمره مع ابن ملجم على اغتياله إيّاه ما كان. وهذه اعجوبة أفرده الله بالآية فيها ، وخصّه بالعلم الباهر في معناها ، ودلّ بذلك على مكانه منه وتخصصه بكرامته التي بان بفضلها من كافة الأنام (٢).

خبر قريش في مكّة :

قال الواقدي : ولمّا انكشف المشركون باحد وانهزموا كان أول من قدم بخبرهم عبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة ، فكره أن يقدم مكة فقدم الطائف فأخبرهم : إنّ أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا وأنا أول من قدم عليكم.

ثمّ لما تراجع المشركون بعد فنالوا ما نالوا كان أول من أخبر قريشا بقتل أصحاب محمد وظفر قريش : وحشي. سار على راحلته أربعة أيام فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون (٣) فنادى بأعلى صوته مرارا : يا معشر قريش! حتى ثابت إليه الناس وهم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون فلما رضي منهم قال : أبشروا ، قد قتلنا أصحاب محمد مقتلة لم يقتل مثلها في زحف قط ، وجرحنا محمدا

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١١٦.

(٢) الإرشاد ١ : ٣٠٧.

(٣) اقرأ عنه في معجم معالم مكة لعاتق البلادي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٤ : ١٩٥ ـ ١٩٨.

٣٧٥

فأثبتناه بالجراح ، وقتلت رأس الكتيبة حمزة!

فتفرّق الناس عنه في كل وجه بالشماتة واظهار السرور بقتل أصحاب محمد.

ولما خلى وحشي بمولاه جبير بن مطعم قال : ما تقول؟ قال وحشي : والله قد صدقت! قال : أقتلت حمزة؟ قال : والله قد رزقته بالمزراق في بطنه حتى خرج من بين رجليه ، ثم نودي فلم يجب ، فأخذت كبده وحملتها إليك لتراها!

فقال جبير : لقد أذهبت حزن نسائنا وبرّدت حرّ قلوبنا! وأمر نساءه بالدهن (١).

وقال : ولما قدم أبو سفيان على قريش بمكة لم يصل الى بيته حتى أتى هبل فقال له :

قد أنعمت ونصرت وشفيت نفسي من محمد وأصحابه ؛ وحلق رأسه (شكرا) (٢).

قصيدة ابن الزّبعرى :

قال ابن اسحاق : وقال عبد الله بن الزّبعرى في يوم احد :

يا غراب البين اسمعت فقل

إنما تندب أمرا قد فعل

إنّ للخير وللشرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل

والعطيّات خساس بينهم

وسواء قبر مثر ومقل

كل عيش ونعيم زائل

وبنات الدهر (٣) يلعبن بكل

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٣٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٩٩.

(٣) بنات الدهر : حوادثه.

٣٧٦

أبلغا حسّان عنّي آية

فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كم ترى بالجرّ (١) من جمجمة

وأكفّ قد أترّت (٢) ورجل

وسرابيل حسان سريت

عن كماة أهلكوا في المنتزل (٣)

كم قتلنا من كريم سيّد

ماجد الجدّين مقدام بطل

صادق النجدة قرم بارع

غير ملتاث لدى وقع الأسل (٤)

فسل المهراس من ساكنه

بين أقحاف وهام كالحجل (٥)

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل (٦)

حين حكّت بقباء بركها

واستحرّ القتل في عبد الأشل (٧)

ثمّ خفّوا عند ذاكم رقّصا

رقص الحفّان يعلو في الجبل (٨)

فقتلنا النصف من أشرافهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

لا ألوم النفس إلّا أنّنا

لو كررنا لفعلنا المفتعل

__________________

(١) الجرّ : أصل الجبل.

(٢) اترّت : قطعت.

(٣) السرابيل جمع السربال : الدرع المسربل أي المرسل. سريت : أي ذهب بها وسلبت. والمنتزل : محلّ النزال : الحرب.

(٤) أي عند تأثير الرماح لا يلتاث أي لا يتلوّث أي لا يصاب بلوثة أي ضعف العقل.

(٥) المهراس : نقر كبار وصغار فيها مياه الأمطار في أقاصي جبل احد. يقول : اسأل احدا من يسكنه؟ ثمّ يجيب : بين رءوس كالحجل الطائر وعظام كأقحاف الخزف.

(٦) يقول ليت الشيوخ الذين قتلوا ببدر كانوا يرون اليوم جزع الخزرج من أثر الرماح فيهم.

(٧) يقول : حين حكّت ناقة الحرب صدرها بأرض قباء ـ كناية عن المدينة ـ وأصبحت الحرب حارّة في بني عبد الأشهل ، وعيّرهم فقال : الأشل.

(٨) يقول ثمّ خفّ المسلمون عدوا كعدو صغار النعام إذ تصعد في الجبل.

٣٧٧

بسيوف الهند تعلو هامهم

عللا تعلوهم بعد نهل (١)

فأجابه حسّان بن ثابت بقصيدة مماثلة في الوزن والقافية والروي وعدد الأبيات.

ثمّ ذكر قصيدة اخرى لابن الزبعرى عينيّة في سبعة عشر بيتا ، وجوابا من حسّان كذلك.

ثمّ قصيدة اخرى لحسّان ميميّة في ٢٣ بيتا ، واخرى حائيّة في ٤٣ بيتا في رثاء حمزة عليه‌السلام واخرى لاميّة في عشرين بيتا كذلك في رثاء حمزة. ومقطوعة في خمسة ابيات جوابا لقصيدة هبيرة بن أبي وهب المخزومي. وجوابا آخر لكعب بن مالك الأنصاري نحو خمسين بيتا يقول في سادسها :

مجالدنا عن جذمنا كلّ فخمة

مدرّبة ، فيها القوانس تلمع (٢)

فقال رسول الله له : أيصلح أن تقول : مجالدنا عن ديننا؟ فقال كعب : نعم. فقال رسول الله : فهو أحسن ، فقال كعب : مجالدنا عن ديننا (٣) ولكعب اخرى في رثاء حمزة بقافية الجيم في سبعة عشر بيتا. ولعمرو بن العاص مقطوعة في ستّة أبيات واخرى في عشرة أجابهما كعب بقصيدة لاميّة في ٢٣ بيتا. ثمّ قصيدة اخرى داليّة في ٢١ بيتا في رثاء حمزة عليه‌السلام. ثمّ اخرى نونيّة بروي الألف في احد في ٢٩

__________________

(١) يقول : لفعلنا نفس الفعل بسيوف هنديّة تعلو هام المسلمين بشربة ثانية بعد الشربة الاولى ـ ٣ : ١٤٣ و ١٤٤ ، وتمثّل بأبيات منها يزيد بن معاوية في مجلسه العام بالشام شماتة بقتل الامام الحسين بن رسول الله عليه‌السلام ، كما في بلاغات النساء : ٢١ لابن طيفور البغدادي (م ٢٨٠ ه‍) وزاد :

لست للشيخين ان لم أنتقم

م من بني أحمد ما كان فعل

(٢) الجذم : الأصل ، والفخمة : الكتيبة الضخمة. مدرّبة : معلّمة على القتال. القوانس : رءوس السلاح الأبيض.

(٣) ابن هشام ٣ : ١٤٣.

٣٧٨

بيتا. واخرى بائيّة في احد في عشرة أبيات. ثمّ اخرى لاميّة في رثاء حمزة في ١٦ بيتا له أو لعبد الله بن رواحة. ومقطوعة لاميّة في خمسة أبيات في قتلى احد. ومقطوعة اخرى في أربعة أبيات تائيّة في رثاء حمزة عليه‌السلام. ثمّ مقطوعة اخرى في ثمانية أبيات رائيّة في رثاء حمزة أيضا لصفيّة بنت عبد المطلّب اخته. وأورد مقطوعة في ثلاثة أبيات لاميّة بروي الألف للحجّاج بن علاط السّلمي يمدح أبا الحسن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في قتله لصاحب لواء المشركين يوم احد طلحة بن أبي طلحة من عبد الدار ، أوردها المفيد في «الإرشاد» أيضا قال :

لله أيّ مذبّب عن حرمة

أعني ابن فاطمة المعمّ المخولا (١)

سبقت يداك له بعاجل طعنة

تركت طليحة للجبين مجدّلا (٢)

وشددت شدّة باسل فكشفتهم

بالجرّ ، إذ يهوون أخول أخولا (٣)

وعللت سيفك بالدماء ولم تكن

لتردّه حرّان حتى ينهلا (٤)

ملحوظة مهمّة :

وعلى ذكر هذه الأشعار وقصيدة ابن الزّبعرى اللاميّة ، فقد لاحظته يقول :

ثم خفّوا عند ذاكم رقّصا

رقص الحفّان تعدو في الجبل

__________________

(١) مذبّب من الذبّ أي الدفع. ابن فاطمة : فاطمة بنت أسد أمّ عليّ عليه‌السلام. المعمّ : الكريم الأعمام. المخول : الكريم الأخوال.

(٢) في الإرشاد : جادت يداك له ..

(٣) في الإرشاد : بالسفح إذ يهوون أسفل أسفلا. والسفح يعني الجرّ ، وأخول أخولا أي واحدا بعد واحد. ابن هشام ٣ : ١٥٨ و ١٥٩. ومجموع شعره ٤٠ صفحة من ١٣٦ ـ ١٧٦.

(٤) الإرشاد ١ : ٩١ ، ٩٢. ولم يورده ابن هشام. وعللته بالدماء : أي سقيته بالدماء شربة ثانية. حرّان : عطشان. ينهل : يشرب فيرتوي.

٣٧٩

أي : أنّ المسلمين ـ ويخصّ الخزرج منهم لأنّهم الأكثر ـ لمّا جزعوا من كثرة القتل ، واستحرّ القتل في بني عبد الأشهل منهم ، عند ذلك خفّوا يرقصون أي يمشون سراعا مثل العدو السريع لصغار النعام إذ تعدو في الجبل ، جبل احد. ولا يقول بأنّ الليل أيضا حال بينهم وبين المشركين وبين المسلمين لمّا اعتصموا بالجبل فصعدوا فيه. ويقول في الاخرى العينيّة :

ولو لا علوّ الشعب غادرن أحمدا

ولكن علا والسّمهريّ شروع

أي : لو لا أنّ طريق الجبل ـ جبل احد ـ كان عاليا مرتفعا ، لغادرت السيوف أحمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قتيل ، ولكنّه علا وصعد في الجبل والرماح شارعة أي متّجهة نحوه لطعنه.

أي كان كما نقل المعتزليّ الشافعيّ ابن أبي الحديد عن شيخه النقيب أبي يزيد أنّه قال : إنّما تحاجز الفريقان بعد أن عرف أبو سفيان أنّ النبيّ حيّ ولكنّه في أعلى الجبل وأنّ الخيل لا تستطيع الصعود إليه ، وأنّ القوم إن صعدوا إليه رجّالة لم يثقوا بالظفر به ، لأنّ معه أكثر أصحابه وهم مستميتون إن صعد القوم إليهم ، وأنّهم لا يقتلون منهم واحدا حتّى يقتلوا منهم اثنين أو ثلاثة ، لأنّهم لا سبيل لهم للهرب لكونهم محصورين. فالرجل منهم يحامي عن خيط رقبته ... كفّوا عن الصعود ، وقنعوا بما وصلوا إليه من قتل من قتلوه في الحرب ، وأمّلوا يوما ثانيا يكون لهم فيه الظفر الكلّي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ولكنّه قبل ذلك قال : قلت له : ما كانت حال رسول الله لمّا انكشف المسلمون وفرّوا.

قال : ثبت في نفر يسير من أصحابه يحامون عنه. قلت : ثمّ ما ذا؟

قال : ثمّ ثابت إليه الأنصار وردّت إليه عنقا واحدا بعد فرارهم وتفرّقهم ،

__________________

(١) شرح النهج ١٤ : ٢٤٦.

٣٨٠