موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

فأحرم بالعمرة وأشعرها عند احرامه ، وأحرم المسلمون ملبّين بالعمرة مشعرين (١).

وكان رسول الله في طريقه يستنفر بالأعراب ليكونوا معه ، فلم يتّبعه احد

__________________

(١) قال ابن اسحاق : وانما ساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليعلم الناس انه إنمّا خرج زائرا للبيت ـ ومعظما له ، فيأمن الناس من حربه ، ٣ : ٣٢٢.

وروى الواقدي ٢ : ٥٧٣ ، أن رسول الله صلّى الظهر بذي الحليفة ، ثم دعا بالبدن فجللت (جعل عليها الجلّ) ثم اشعر عددا منها بنفسه في شقها الايمن وهنّ موجّهات الى القبلة ... ثم أمر ناجية بن جندب باشعار ما بقى ، وقلّدها نعلا. فأشعر المسلمون بدنهم وقلدوهن النعال في رقابهن. ثم دخل رسول الله المسجد (؟) فصلى ركعتين ، ثم خرج ودعا براحلته فركبها من باب المسجد ، فلما انبعثت به مستقبلة القبلة أحرم وهو يقول :

«لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك» وأحرم عامة المسلمين باحرامه. ومعه أمّ سلمة.

ودعا رسول الله بسر بن سفيان الكعبي فقال له : إنّ قريشا قد بلغها اني اريد العمرة فخبّر لي خبرهم ثم القني بما يكون منهم. فتقدم بسر أمامه.

ودعا رسول الله عبّاد بن بشر فقدّمه طليعة في عشرين فارسا من خيل المسلمين من الانصار ومنهم محمد بن مسلمة ، ومن المهاجرين ومنهم المقداد بن عمرو. وقيل : بل كان اميرهم سعد بن زيد الأشهلي.

وروى الحميري في قرب الاسناد : ٥٩ ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله لما انتهى الى البيداء حيث الميل قرّبت له ناقة فركبها ، فلما انبعثت به لبّى بالاربع.

وروى الكليني في فروع الكافي ٤ : ٣٣٤ ، بسنده عنه عليه‌السلام ـ أيضا ـ قال : إنّما لبّى النبي في البيداء لأن الناس لم يعرفوا التلبية فأحب أن يعلمهم كيف التلبية.

وروى الطوسي في الاستبصار والتهذيب بسنده عنه عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله لم يكن يلبّى حتى يأتي البيداء ـ ٢ : ١٧ و ٥ : ٨٤. والبيداء هي الصحراء أمام الحجاج بعد ذي الحليفة الى جهة المغرب ـ وفاء الوفاء ٢ : ٢٦٧.

٦٠١

منهم وكانوا يقولون : أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر دارهم فقتلوهم؟! إنه لا يرجع محمد وأصحابه الى المدينة أبدا! (١).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣١ ، وقال ابن اسحاق ٣ : ٣٢٢ ، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ومن الاعراب ليخرجوا معه ، فأبطأ عليه كثير منهم ، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت.

وروى الواقدي ٢ : ٥٧٤ ، أن رسول الله جعل يمر بالاعراب فيما بين المدينة الى مكة : بني بكر ، وجهينة ، ومزينة ، فيستنفرهم معه فيتشاغلون له بأموالهم وأبنائهم وذراريهم ويقولون : أيريد محمد أن يغزو بنا الى قوم معدين مؤيدين في الكراع والسلاح وانما محمد وأصحابه أكلة جزور! لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا أبدا! قوم لا سلاح معهم ولا عدد ، وانما يقدم على قوم عهدهم حديث بمن اصيب منهم يوم بدر! وخرج معه من أسلم سبعون أو مائة رجل. وخرج معه من المسلمين الف وست مائة أو ألف وخمسمائة أو ألف وأربعمائة وكان معه اربع نسوة : أمّ سلمة زوجه ، وأمّ عامر الأشهلية ، وأمّ عمارة ، وأمّ منيع.

وكان رسول الله يقدم الخيل ، ثم هديه ومعه هدي المسلمين مع ناجية بن جندب ومعه فتيان من اسلم ، ثمّ ويخرج هو ...

وراح رسول الله عصر يوم الاثنين من ذي الحليفة فأصبح يوم الثلاثاء بملل ، وراح من ملل فتعشّى بالسيّالة ثم اصبح بالروحاء.

وكان فيهم من لم يحرم ، فاشترى قوم منهم في الروحاء أو عرضوه على المحرمين فأبوا حتى سألوا رسول الله فقال : كلوا ، فكل صيد ليس لكم حلالا من الاحرام ، تأكلونه ، الا ما صدتم أو صيد لكم ٢ : ٥٧٥ ، فروى بسنده عن ابن عباس : أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله في الابواء حمارا وحشيا (قد صاده) فردّه وقال : إنا لم نردّه الا أنا حرم. ولكنه روى عن أبي قتادة : أنه صاد في الابواء حمارا وحشيا لنفسه وأصحابه المحلين وطبخوه وعرضوه على المحرمين فشكوا في أكله فسأل النبي عن ذلك فقال : أمعكم منه شيء؟ فأعطاه

٦٠٢

وروى المفيد في «الإرشاد» : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزل الجحفة فلم يجد بها ماء ، فبعث سعد بن مالك (ابي وقاص الزهري) بالروايا ، حتى اذا كان غير بعيد رجع وقال : يا رسول الله ما استطيع أن امضي لقد وقفت قدماي رعبا من القوم! فبعث رسول الله رجلا آخر ، فخرج بالروايا حتى اذا كان بالمكان الذي انتهى إليه

__________________

الذراع فأكله وهو محرم ، لأنه لم يصده محرم أو لمحرم ، بل محل لمحل ـ ٢ : ٥٧٦.

وحين اقتربوا من الابواء عطب بعير من الهدي فأخبر بذلك ناجية بن جندب رسول الله فقال له : انحرها واصبغ قلائدها في دمها ، وخلّ بين الناس وبينها ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك منها شيئا.

وفي الابواء ـ أيضا ـ رأى رسول الله كعب بن عجرة على طبخ والقمل في رأسه يؤذيه فقال له : هل تؤذيك هوامك يا كعب؟ قال : نعم يا رسول الله ، فقال : فاحلق رأسك.

وروى الواقدي بسنده عن مجاهد : أن في كعب بن عجرة هذا نزلت الآيات من سورة البقرة : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فروى مجاهد عن كعب بن عجرة قال : فأمرني رسول الله أن أذبح شاة «او نسك» أو أصوم ثلاثة أيام ، أو اطعم ستة مساكين مدّين ، وقال : أي ذلك فعلت أجزأك ـ ٢ : ٥٧٧ ، ٥٧٨.

والآيات في سورة البقرة من ١٩٦ ـ ٢٠٣. وعليه فهذه الآيات مما نزلت في السنة السادسة والحقت بسورة البقرة النازلة في السنة الاولى من الهجرة.

٦٠٣

الأول (سعد) فرجع وقال : والذي بعثك بالحق ما استطعت ان امضي رعبا!

فدعا رسول الله علي بن ابي طالب فأرسله بالروايا وخرج معه السقاة وهم لا يشكّون في رجوعه كما رجع من قبله. فخرج علي عليه‌السلام بالروايا حتى ورد الخرار فاستقى ثم أقبل بها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فكبّر النبي ودعا له بخير (١).

قال القمي : فلما بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس ليستقبل رسول الله. فكان يكمن له في الجبال (٢).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٢١ ، ١٢٢ ، واختصره الحلبي في سطرين في المناقب ٢ : ٩٠ ، ونقله عن المفيد ابن حجر في الاصابة ٣ : ١٩٩. والغريب أن الواقدي ٢ : ٥٧٨ ، نقل الخبر بألفاظه إلّا أنه لم يسمّ أحدا لا سعدا ولا عليا عليه‌السلام! سترا للمثالب والمناقب ، أليس الانصاف كذلك؟!

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣١٠ ، وفي روضة الكافي : أرسل إليه المشركون أبان بن سعيد (بن العاص الاموي) في الخيل فكان بازائه. وفي اعلام الورى : ٩٨ ، بعثوا مكرز بن حفص وخالد بن الوليد ، وكذلك في المناقب ٢ : ٢٠٢.

وروى الواقدي ٢ : ٥٧٩ ، لما بلغ المشركين خروج رسول الله الى مكة راعهم ذلك واجتمعوا له ... فأجمعوا أمرهم وجعلوه الى : صفوان بن أميّة ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل.

فقال صفوان : نرى أن نقدّم مائتي فارس الى كراع الغميم (على مرحلتين من مكة) ، ونستعمل عليها رجلا جلدا (قويا). فقالوا : نعم ما رأيت. فقدّموا على خيلهم ـ يقال ـ خالد ابن الوليد (أو) عكرمة بن أبي جهل. واستنفرت قريش من أطاعها من الأحابيش ومعهم ثقيف ، ووضعوا العيون على الجبال الى جبل يقال له : وزر وزع ، فكان العيون يوحي بعضهم ـ الى بعض حتى ينتهي ذلك الى قريش.

وخرجت قريش الى بلدح فضربوا بها القباب والأبنية ، وخرجوا بالنساء والصبيان فعسكروا هناك.

٦٠٤

فلما قرب في الطريق الى مكة وحضرت صلاة الظهر أذن بلال ، وصلّى رسول الله الظهر بالناس ، فقال خالد بن الوليد : لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم ، فانهم لا يقطعون صلاتهم. ثم قال : ولكن تجيء لهم بعد الآن صلاة اخرى احب إليهم من ضياء ابصارهم ، فاذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم!

__________________

وروى ابن اسحاق بسنده عن المسور بن مخرمة قال : وخرج رسول الله حتى كان بعسفان (على مرحلتين من مكة ـ معجم البلدان) فلقيه بشر بن سفيان الكعبي (الذي كان قد بعثه النبي الى مكة عينا له) فقال له : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل [العائذات ومعهن اطفالهن] قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى [قرب مكة] يعاهدون الله : لا تدخلها عليهم ابدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدّموها الى كراع الغميم [واد بعد عسفان بثمانية اميال].

فقال رسول الله : يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ، ما ذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة! فما تظن قريش؟! فو الله لا أزال اجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة [أي صفحة العنق ، كناية عن الموت].

ثم أمر رسول الله الناس أن يسلكوا ذات اليمين طريقا تخرجهم على ثنيّة المرار مهبط الحديبية في أسفل مكة.

فلما رأت خيل قريش من قتار جيش المسلمين أنهم خالفوا طريقهم ، الى مكة ـ سيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٣ ، ٣٢٤. وهذه هي رواية ابن اسحاق عن ابن شهاب ، وعليها فقد كان كل ذلك على بعد فيما بين المسلمين والمشركين ، ولم يكن بينهم قبل الحديبية من القرب ما يوجب صلاة الخوف كما يظهر من الخبر الثاني عن تفسير القمي ومغازي الواقدي.

٦٠٥

فنزل جبرئيل على رسول الله بقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً* فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(١).

ففرّق رسول الله أصحابه فرقتين ، فوقف بعضهم تجاه العدو وقد اخذوا سلاحهم ، وفرقة صلوا مع رسول الله قياما ومرّوا فوقفوا مواقف أصحابهم ، وجاء اولئك الذين لم يصلوا فصلى بهم رسول الله الركعة الثانية ، وقعد رسول الله يتشهد ، وقام أصحابه فصلوا الركعة الثانية (٢) فرادى.

__________________

(١) النساء : ١٠٢ ، ١٠٣. والخبر في تفسير القمي ٢ : ٣١٠.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٥٠. وقال الطوسي في التبيان ٣ : ٣١١ : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعسفان ، والمشركون بضجنان ، فتواقفوا ، فصلى النبي بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا عليهم ، فقال بعضهم : لهم صلاة اخرى أحب إليهم من هذه. يعنون العصر. فأنزل الله عليه الآية فصلى بهم العصر صلاة الخوف ، ونقله عنه الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٥٧ ، ثم ذكر خبر أبي حمزة الثمالي في تفسيره أن ذلك كان في حرب محارب وأنمار.

وروى الواقدي بسنده عن ابن عياش الزرقي (الانصاري) تفصيل ذلك قال : حانت صلاة الظهر فأذن بلال وأقام ، فاستقبل رسول الله القبلة وصفّ الناس خلفه فصلى بهم الظهر

٦٠٦

وروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما بلغه أن المشركين أرسلوا خالد بن الوليد ليردّه قال : ابغوا لي رجلا يأخذني على غير هذا الطريق فاتي برجل من مزينة أو جهينة ، فسأله فلم يوافقه ، فقال : ابغوا لي رجلا غيره. فاتي برجل آخر (١).

وفي «المغازي» : قالوا : فلما أمسى رسول الله قال : أيّكم يعرف ثنيّة

__________________

ـ وسلم ، فقاموا الى ما كانوا عليه من التعبية ، فقال خالد بن الوليد : قد كانوا على غرّة ، لو كنّا حملنا عليهم لأصبنا منهم. ثم قال : ولكن تأتي الساعة صلاة هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم!

فنزل جبرئيل عليه‌السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ ...) الآية. فحانت العصر فأذن بلال وأقام ، فقام رسول الله مواجها القبلة ، والعدو امامه ، (والمسلمون خلفه صفّين) وكبّر رسول الله فكبّر الصفان وركعوا معا ، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه ووقف الصف الآخر يحرسونهم ، فلما قضى رسول الله السجود بالصف الأول وقام وقاموا معه سجد الصف المؤخر السجدتين وقاموا ، فتأخر الصف الاول وتقدم الصف المؤخر ، فركع رسول الله وركعوا معا ، ثم سجد رسول الله فسجد الصف الذي يليه ووقف الصف المؤخر يحرسونهم ، فلما سجد رسول الله السجدتين ومن معه ورفعوا رءوسهم واستووا جالسين سجد الصف المؤخر السجدتين ، فتشهد رسول الله عليهم ٢ : ٥٨٣.

ورواها كذلك ـ أيضا ـ بسنده عن عكرمة عن ابن عباس ٢ : ٥٨٢.

ولكنه روى بسنده عن جابر بن عبد الله الانصاري : أن هذه الصلاة كانت في عسفان وأنها كانت صلاة الخوف الثانية بعد صلاته الاولى في غزوة ذات الرقاع ، بينهما اربع سنين. ثم قال الواقدي : وهذا أثبت عندنا ٢ : ٥٨٣. ويؤيد ذلك أن الآية من سورة النساء.

(١) روضة الكافي : ٢٦٦.

٦٠٧

ذات الحنظل (١) فنزل عمرو بن عبد نهم الأسلمي فقال : أنا يا رسول الله أدلك. فقال : انطلق أمامنا ، فانطلق عمرو أمامهم حتى نظر رسول الله الى الثنيّة فقال : هذه ثنية ذات الحنظل؟ فقال عمرو : نعم يا رسول الله.

وعن أبي سعيد الخدري قال : انما كان عامّة زادنا التمر ، وانما مع رسول الله الدقيق ... فحين نزل رسول الله قال : من كان معه ثقل فليصطنع [أي : من كان معه دقيق فليخبز] فقلنا : يا رسول الله انا نخاف من قريش أن ترانا! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله سيعينكم عليهم ، إنهم لن يروكم.

فأوقدوا النيران فكانت اكثر من خمسمائة نار. فلما أصبحنا صلّى رسول الله بنا الصبح (٢).

وروى ابن اسحاق بسنده عن المسور بن مخرمة قال : خرج رسول الله حتى اذا سلك في ثنيّة المرار بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت الناقة (٣) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما خلأت ، وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة! لا تدعوني قريش اليوم الى خطة يسألونني فيها صلة الرحم الا أعطيتهم إيّاها (٤).

وروى الخبر الواقدي وفيه زيادة : ثم قامت فعادت حتى نزلت به على ثمد ظنون قليل الماء (٥) فقال رسول الله للناس : انزلوا! فقيل له : يا رسول الله ما

__________________

(١) ذات الحنظل : موضع كان في ديار بني أسد ـ معجم ما استعجم : ٢٨٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٨٣ ـ ٥٨٥.

(٣) خلأت : الخلاء في النوق كالحران في الدواب : إعياء يصيب الحيوان فلا يمشي.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٤. ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٧٨ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٥٨٧ ومجمع البيان ٩ : ١٧٨ عن المسور بن مخرمة ، والثمد : الماء القليل ، والظنون : البخيل.

٦٠٨

بالوادي ماء ننزل عليه (١).

وروى الواقدي بسنده عن أبي قتادة الانصاري : نزلنا على الحديبية والماء قليل ، فسمعت الجدّ بن قيس [المنافق] يقول : ما كان خروجنا الى هؤلاء القوم؟! نموت من العطش عن آخرنا! فقلت له : يا أبا عبد الله فلم خرجت؟ قال : خرجت مع قومي! قلت : فلم تخرج معتمرا؟ قال : لا والله ما أحرمت ، ولا نويت العمرة. فذكرت قوله للنبي صلّى الله عليه [وآله] وسلم ، فقال رسول الله : ابنه خير منه (٢).

الماء في الحديبية :

فروى بسنده عن ناجية بن الاعجم الأسلمي قال : كان المشركون قد سبقوا الى بلدح فغلبوا على مياهه ، والناس في حرّ شديد ، والبئر واحدة ، وقد شكى الناس الى النبي قلّة مائها ، فدعا بدلو من ماء البئر فجئته به فمضمض فاه ثم مجّه فيه ، وأخرج سهما من كنانته ودفعه إليّ وقال : انزل بالماء فصبّه في البئر ، وأثر ماءها بالسهم. ففعلت ، فوالذي بعثه بالحق لقد فارت كما تفور القدر وكاد الماء يغمرني وأنا أخرج حتى طمّت البئر واستوت بشفيرها ، فكان المسلمون يغترفون الماء منها حتى نهلوا عن آخرهم.

النفاق في الحديبية :

وكان يومئذ نفر من المنافقين جلوس ينظرون الى الماء وقد جاشت البئر وهم على شفيرها ، فقال أوس بن خولي لعبد الله بن ابي بن سلول : ويحك يا أبا الحباب :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٩٠.

٦٠٩

أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيء (١)؟! وردنا بئرا يتبرّض ماؤها (٢) فتوضأ رسول الله في الدلو ومضمض فاه فيه ، ثم افرغ الدلو فيها ونزل بالسهم فحثحثها فجاشت بالرواء.

فقال ابن ابي : قد رأيت مثل هذا!

فقال أوس : قبّحك الله وقبّح رأيك!

وقال له رسول الله : أي أبا الحباب ، أين رأيت مثل ما رأيت اليوم؟

قال : ما رأيت مثله قط!

فقال رسول الله : فلم قلت ما قلت؟

قال : استغفر الله (٣)!

وقال ابو قتادة الأنصاري : فلما دعا رسول الله الرجل وتوضأ بالدلو ومج فاه فيه ثم رده في البئر ونزل فيها بالسهم ، فجاشت البئر بالرواء ... رأيت الجدّ بن القيس على شفير البئر مادّا رجليه في الماء!

فقلت له : أبا عبد الله ، أين ما قلت؟

فقال : لا تذكر لمحمد مما قلت شيئا ، انما كنت أمزح معك (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٨٨ ، ٥٨٩. وقد روى الكليني خبر البئر عن الصادق عليه‌السلام في روضة الكافي : ٢٦٦ ، وأشار إليه الطوسي في التبيان ٩ : ٣١٣ ، والطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٦٧ عن ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٢ ، والراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ٥٨ و ١٢٣ وخبر آخر مثله في الطريق ١ : ١٠٩.

(٢) يتبرّض : يخرج في القعب جرعة ماء.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٥٨٨ ، ٥٨٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٥٩٠.

٦١٠

وفي المساء مطرت السماء فكثر الماء ، فروى الواقدي بسنده عن أبي قتادة الأنصاري قال : فسمعت ابن ابي يقول : هذا نوء الخريف ، مطرنا بالشعري (١)!

فروى الواقدي بسنده عن زيد بن خالد الجهني قال : صلّى بنا رسول الله في الحديبية صبيحة مطر كان في الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ما ذا قال ربّكم؟ قالوا : الله ورسوله اعلم. فقال : إنه قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب (٢).

هدايا المشركين :

قال الواقدي : وقالوا : لما نزل رسول الله الحديبية ... أهدى عمرو بن سالم الخزاعي من ضجنان لسعد بن عبادة الخزرجي وكان صديقا له غنما وجزرا على يد غلام منهم ، فجاء سعد بالغنم والغلام الى رسول الله فأخبره : أن عمرا أهداها له ، فقال رسول الله : فبارك الله في عمرو! ثم قال للغلام : يا غلام أين تركت أهلك؟ قال : تركتهم قريبا بضجنان وما والاه ، فقال : فكيف تركت البلاد؟ فقال الغلام : تركتها وقد تيسّرت ... قد ابتليت الأرض فتشبّعت شاتها وشبع بعيرها مما جمعا من حوض الارض وبقلها الى الليل ، وتركت مياههم كثيرة تشرع فيها الماشية ، مع قلة حاجتهما الى الماء لرطوبة الأرض.

فأعجب رسول الله لسانه وكانت عليه بردة بالية ، فأمر له بكسوة ، فكسي الغلام. فقال الغلام : اني اريد أن أمسّ يدك أطلب بذلك البركة! فقال رسول الله :

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٩٠.

(٢) المغازي ٢ : ٥٨٩ ، ٥٩٠.

٦١١

ادن [وأشار إليه بيده] فأخذ يد رسول الله فقبّلها ، فمسح رسول الله على رأسه وقال : بارك الله فيك (١).

ثم فرّق رسول الله الغنم كلّها على أصحابه ، وأمر بالجزر أن تنحر وتقسم في أصحابه.

وكانت أمّ سلمة معه فقالت : وشركنا في شاة فدخل علينا بعضها ، ودخل علينا من لحم الجزر كنحو مما دخل على رجل من القوم (٢)!

رسل المشركين :

روى ابن اسحاق بسنده عن المسور بن مخرمة قال : لما اطمأن رسول الله أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة ـ وكانوا ناصحين لرسول الله لا يخفون عنه شيئا ـ فسألوه : ما الذي جاء به؟

فقال لهم مثل ما قال لبشر بن سفيان وأنه لم يأت يريد حربا وانما جاء زائرا للبيت ومعظّما لحرمته.

فرجع بديل الخزاعي ورجاله الى قريش فقالوا لهم : يا معشر قريش ، انكم تعجلون على محمد ، انّ محمدا لم يأت لقتال ، وانما جاء زائرا هذا البيت.

فقالوا : وان كان لا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة ، ولا تحدث بذلك عنّا العرب (٣).

__________________

(١) قال : فبارك الله فيه حالا وفضلا حتى توفي في زمن الوليد بن عبد الملك ٢ : ٥٩٣.

(٢) المغازي ٢ : ٥٩٢.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٥. أما الواقدي فقد روى الخبر في ٢ : ٥٩٣ والظاهر أنه بسند ابن

٦١٢

__________________

ـ اسحاق أيضا ٢ : ٥٨٦ ، ٥٨٧ ولكنه قال : قال بديل : جئناك من عند قومك : كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، وقد استنفروا لك الأحابيش ومن اطاعهم معهم العوذ المطافيل (العائذات معها اطفالها) يسمون بالله : لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم (سوادهم جماعتهم).

فقال رسول الله : انا لم نأت لقتال أحد ، إنمّا جئنا لنطوف بهذا البيت ، فمن صدّنا قاتلناه! وقريش قوم قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم ، فان شاءوا ماددتهم مدة يأمنون فيها ويخلون فيها بيننا وبين الناس ، والناس اكثر منهم ، فان ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، أو يقاتلوا وقد جمعوا والله لأجهدن على أمري حتى تنفرد سالفتي (صفحة العنق ، كناية عن الموت) أو ينفذ الله أمره!

فقام بديل وركب ، وركب من معه الى قريش حتى هبطوا عليهم فقال ناس منهم : هذا بديل وأصحابه إنما جاءوا يريدون أن يستخبروكم! فلا تسألوهم عن حرف واحد (وكأنهم لم يرسلوا من قبل قريش).

فقال بديل : انا جئنا من عند محمد ، أتحبون أن نخبركم؟!

فقال عكرمة بن أبي جهل والحكم بن العاص : لا والله ما لنا حاجة بأن تخبرنا عنه! ولكن اخبروه عنا : أنه لا يدخلها علينا عامه هذا ابدا حتى لا يبقى منّا رجل!

فقال عروة بن مسعود : والله ما رأيت كاليوم رأيا أعجب! وما تكرهون أن تسمعوا من بديل وأصحابه ، فإن أعجبكم أمر قبلتموه وإن كرهتم شيئا تركتموه.

فقال صفوان بن أميّة والحارث بن هشام : أخبرونا بالذي رأيتم والذي سمعتم. فأخبروهم بمقالة النبي التي قال وما عرض على قريش من المدة.

فقال عروة : يا معشر قريش ... إنّ بديلا قد جاءكم بخطة رشد لا يردّها أحد أبدا إلّا أخذ

٦١٣

وفي خبر «روضة الكافي» عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم ارسلوا الحليس [سيد الأحابيش](١) فرأى البدن (وقد تآكل أوبارها).

فرجع ... وقال لأبي سفيان : يا أبا سفيان ، أما والله ما على هذا حالفناكم على أن تردّوا الهدي عن محلّه.

فقال له ابو سفيان : اسكت فانّما أنت اعرابي!

فقال الحليس : أما والله لتخلّين عن محمد وما أراد ، أو لأنفردنّ بالأحابيش!

فقال أبو سفيان : اسكت حتى نأخذ من محمد ولثا (٢).

__________________

ـ شرا منها ، فاقبلوها منه ، وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده ، وأنظر الى من معه واكون لكم عينا آتيكم بخبره ... فاني لكم ناصح شفيق عليكم لا ادّخر عليكم نصحا. فبعثوه ٢ : ٥٩٣ ، ٥٩٤ ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٧٨ باختصار وبنفس السند. وأشار إليه الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢ ، ٢٠٣.

(١) قال ابن الأثير : الأحابيش : كانوا احياء من القارة انضموا الى بني ليث في محاربتهم لقريش ... ثم حالفوا قريشا عند جبل يسمى حبشي ، فسمّوا بذلك. وزاد الفيروزآبادي في القاموس المحيط : حبشي بالضمّ : جبل باسفل مكة ، ومنه أحابيش قريش ، لأنهم تحالفوا فيه بالله أنهم يد على غيرهم ما سجى ليل ، ووضح نهار ومارسى حبشي. وعنه في مجمع البحرين ، مادة : حبش.

(٢) روضة الكافي : ٢٦٧ وفي مجمع البحرين : الولث : العهد من غير قصد أو غير مؤكد. مادّة : ولث. روى خبر الحليس ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٥ ، ٣٢٦. والواقدي في المغازي ٢ : ٥٩٩ ، ٦٠٠ وكلاهما عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة. وابن اسحاق روى الكلام بينه وبين قريش ـ بلا اسم ـ عن عبد الله بن ابي بكر ، وكان بمكة مشركا.

٦١٤

فأرسلوا إليه عروة بن مسعود [الثقفي](١) وقد كان جاء الى قريش في القوم الذين أصابهم المغيرة بن شعبة [الثقفي] كان قد خرج معهم من الطائف تجارا فقتلهم وجاء بأموالهم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأبى رسول الله أن يقبلها وقال : هذا غدر ، ولا حاجة لنا فيه.

فأرسل [مقدّم المسلمين] الى رسول الله : يا رسول الله ، هذا عروة بن مسعود قد أتاكم ، وهو يعظّم البدن.

فقال [رسول الله] : فأقيموها [له] فأقاموها.

فقال : يا محمد ، مجيء من جئت؟

قال : جئت أطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر هذه الابل واخلّي [بينكم] وبين لحماتها (٢).

وفي خبر القمي عن الصادق عليه‌السلام ـ أيضا ـ قال :

قال رسول الله : ما جئت لحرب ، وإنّما جئت لأقضي نسكي فأنحر بدني ، واخلّي بينكم وبين لحماتها.

وقال (عروة) : يا محمد ، تركت قومك وقد ضربوا الأبنية وأخرجوا العوذ المطافيل [العائذات معها اطفالها] يحلفون باللات والعزّى لا يدعوك تدخل مكة وفيها عين تطرف ، فإنّ مكة حرمهم. أتريد أن تبيد اهلك وقومك يا محمد (٣)؟!

وفي خبر الكليني قال : فلا واللات والعزّى ما رأيت مثلك ردّ عما جئت له ؛

__________________

(١) وهو صهر أبي سفيان على ابنته ميمونة فهو عديل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لزواجه بامّ حبيبة بنت أبي سفيان.

(٢) روضة الكافي : ٢٦٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١١.

٦١٥

إنّ قومك يذكرونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير اذنهم ، وأن تقطع أرحامهم وأن تجرّي عليهم عدوّهم!

فقال رسول الله : ما أنا بفاعل حتى أدخلها.

وكان عروة حين كلّم رسول الله تناول لحيته ، وكان المغيرة [بن شعبة] قائما على رأس النبيّ ، فضرب يد عروة ، فقال عروة : من هذا يا محمد؟ فقال : هذا ابن اخيك المغيرة! فقال له عروة : يا غدر ، ما جئت الا في غسل سلحتك (١).

ثم رجع الى [مكة] فقال لأبي سفيان وأصحابه : لا والله ما رأيت مثل محمد ردّ عما جاء له (٢).

وقال الواقدي : فلما فرغ عروة بن مسعود من كلام رسول الله ... ركب حتى رجع الى قريش فقال لهم : يا قوم ، اني وفدت على الملوك : على كسرى وهرقل

__________________

(١) السلح : ضروق الطائر ـ مجمع البحرين.

(٢) روضة الكافي : ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، ولعل علة عدم معرفة عروة للمغيرة ما رواه الواقدي في المغازي ٢ : ٥٩٥ : أنه كان على وجهه المغفر فلا يعرف. وفيه ان عروة قال له : وأنت بذلك يا غدر؟! لقد أورثتنا العداوة من ثقيف الى آخر الدهر! ثم قال : يا محمد ، أتدري كيف صنع هذا؟ انه خرج في ركب من قومه ، فلما كانوا بيننا وناموا طرقهم فقتلهم وأخذ حرائبهم (أموالهم) وفرّ منهم! قال الواقدي : ولحق بالنبيّ فأسلم ، وحين اخبر النبيّ خبرهم قال : هذا [مال] غدر لا اخمّسه.

قال : وكان عروة بن مسعود قد استعان في حمل ديته فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث وأعانه أبو بكر بعشر فرائض. فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود. فلما قال عروة للنبي : وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا! قال له ابو بكر : امصص بظر اللات! أنحن نخذله؟! فقال عروة : أما والله لو لا يد لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك! يقصد عونه له بعشر ديات ـ المغازي ٢ : ٥٩٥ ، ٥٩٦. ومجمع البيان ٩ : ١٧٨. وفي الغارات ٥١٧ اشارة علي عليه السلام إلى غدره واسلامه.

٦١٦

والنجاشي ، واني ـ والله ـ ما رأيت ملكا قط اطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد في أصحابه! والله ما يشدون إليه النظر ، وما يرفعون عنده الصوت ، ويكفيه أن يشير الى أمر فيفعل ، وما يتنخّم وما يبصق الا وقعت في يد رجل منهم يمسح بها جلده! وما يتوضأ الا ازدحموا عليه أيّهم يظفر منه بشيء! وقد حرزت القوم.

وأعلموا أنّكم إن أردتم السيف بذلوه لكم ، وقد رأيت قوما ما يبالون ما يصنع بهم إذا هم منعوا و (حموا) صاحبهم ، والله لقد رأيت معه أناسا لا يسلمونه على حال أبدا! فروا رأيكم ، واياكم والوهن في الرأي ، وقد عرض عليكم خطة فمادوه! يا قوم اقبلوا ما عرض ، فاني لكم ناصح ، مع أني أخاف أن لا تنصروا عليه (فانه) رجل أتى هذا البيت معظما له معه الهدي ينحره وينصرف!

فقالوا له : يا أبا يعفور ، لا تتكلم بهذا ، ولو غيرك تكلّم بهذا للمناه ، ولكن نردّه عن البيت في عامنا هذا ويرجع ، الى قابل (١).

رسل رسول الله :

روى ابن اسحاق : أنّ رسول الله دعا خراش بن أميّة الخزاعي فبعثه الى قريش مكة ، وحمله على بعير له ، ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له.

فعقروا به جمل رسول الله وأرادوا قتله فمنعت عنه الأحباش وخلّوا سبيله (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٩٨ ، ٥٩٩. وروى الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٧٨ ، ١٧٩ : عن المسور بن مخرمة قريبا منه ، وذكر مختصره الحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٨. وقال الواقدي في المغازي ٢ : ٦٠٠ كان أول من بعث رسول الله الى قريش خراش بن أميّة الكعبي ... ليبلّغ أشرافهم عن رسول الله ويقول لهم : إنما جئنا معتمرين معنا الهدي معكوفا ، فنطوف بالبيت ونحلّ وننصرف. فولي عكرمة بن ابي

٦١٧

فروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام : «أن رسول الله أراد أن يبعث عمر ، فقال : يا رسول الله ، إنّ عشيرتي قليل ، وإنّي فيهم على ما تعلم ، ولكنّي أدلّك على عثمان بن عفّان (١).

فأرسل إليه رسول الله فقال له : انطلق الى قومك من المؤمنين فبشّرهم بما وعدني ربّي من فتح مكة (٢).

فلما انطلق عثمان لقى أبان [بن سعيد بن العاص الاموي] فتأخّر عن السرج

__________________

ـ جهل عقر جمل النبيّ وأراد قتل (الرجل) فمنع عنه من كان هناك من قومه ، وخلّوا سبيله ، فرجع الى النبي ولم يكد يرجع ، فأخبر النبي بما لقى وقال : يا رسول الله ابعث رجلا أمنع مني ـ ٢ : ٦٠٠.

(١) رواه ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٩ بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه الى مكة ، فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله ، إنّي أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها وغلظتي عليها ، ولكني أدلّك على رجل أعز بها منّي : عثمان بن عفّان ، فبعثه الى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم : أنّه لم يأت لحرب ، وأنّه إنّما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته. مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٠. سيأتي التفصيل في عمرة القضاء في آخر السنة السابعة للهجرة.

(٢) قال الواقدي في المغازي ٢ : ٦٠١ : قال عثمان : ثم كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين فأقول : إنّ رسول الله يبشركم بالفتح ويقول : أظلّكم حتى لا يستخفى بالايمان بمكة. فكنت أرى المرأة منهم تنتحب والرجل ينتحب حتى اظن أنه يموت فرحا بما خبّرته ، فيسأل عن رسول الله فيحفى المسألة ويشد ذلك أنفسهم ويقولون : إنّ الذي أنزله بالحديبية لقادر أن يدخله مكة فاقرأ منّا السّلام على رسول الله.

٦١٨

وحمل عثمان بين يديه وأدخله مكة وأعلمهم (١).

ذكر الطبرسي في «اعلام الورى» : أن رسول الله بعث عثمان بن عفّان الى أهل مكة يستأذنهم أن يدخل مكة معتمرا.

فأبوا أن يتركوه واحتبس ، فظن رسول الله أنهم قتلوه! (٢).

الحراسة والغارة :

قال الواقدي : وكان رسول الله يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل ،

__________________

(١) روضة الكافي : ٢٦٨. وقال ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٩ : فخرج عثمان الى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه وأجاره ليبلّغ رسالة الله. فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلّغهم عن رسول الله ما أرسله به.

وقال الواقدي في المغازي ٢ : ٦٠٠ ، ٦٠١ : فخرج عثمان حتى أتى بلدح ، فوجد قريشا هنالك ، فقالوا له : أين تريد؟ فقال : بعثني رسول الله إليكم يدعوكم الى الله والى السّلام ؛ تدخلون في الدين كافة ، فان الله مظهر دينه ومعزّ نبيّه! واخرى : تكفّون ، ويلي هذا الأمر منه غيركم ، فان ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم ، وان ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس ، أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامّون (مستريحون) ... واخرى : أنّ رسول الله يخبركم أنه لم يأت لقتال أحد ، إنما جاء معتمرا معه الهدي عليه القلائد ينحره وينصرف.

فقالوا : قد سمعنا ما تقول ، ولا كان هذا أبدا ، ولا دخلها علينا عنوة ، فارجع الى صاحبك فأخبره!

فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحّب به وأجاره ، ونزل عن فرسه وحمل عثمان على السرج وارتدف وراءه ، وأدخله مكة وقال له : لا تقصر عن حاجتك.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٠٤. وقال ابن اسحاق : فاحتبسته قريش عندها وبلغ رسول الله أنه قد قتل ٣ : ٣٢٩.

٦١٩

فكان ثلاثة منهم يتناوبون الحراسة : أوس بن خوليّ ، وعبّاد بن بشر ، ومحمّد بن مسلمة ، فكان الرجل منهم يبيت على الحرس يطيف بالعسكر حتى يصبح.

وكان عثمان قد اقام بمكة ثلاثا يدعو قريشا. وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة باذن رسول الله الى أهليهم (١) وهم عشرة من المهاجرين : حاطب بن ابي بلتعة ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وأبو الروم بن عمير ، وعمير بن وهب الجمحي ، وعبد الله بن ابي أميّة بن وهب ، وعبد الله بن حذافة ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو العامري : سفير الصلح ، وعياش بن أبي ربيعة ، وكرز بن جابر الفهري ، وهشام بن العاص بن وائل (٢).

وليلة من تلك الليالي وعثمان بعد بمكة ، ومحمد بن مسلمة (على الحراسة) وقد كانت قريش بعثت خمسين رجلا ليلا (٣) عليهم مكرز بن حفص ، أمروهم أن يطيفوا بالنبي صلّى الله عليه [وآله] رجاء أن يصيبوا منهم أحدا ، أو يصيبوا منهم غرة ، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه وجاءوا بهم الى رسول الله.

وبلغ قريشا أن أصحابهم حبسوا ، فجاء جمع منهم الى المسلمين وتراموا بالنبل والحجارة ، وأسّر المسلمون منهم أسرى آخرين أيضا (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٣.

(٣) وروى الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨٦ : عن انس بن مالك : أنهم كانوا ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ، فأخذهم المسلمون.

وروى قبله عن ابن عباس : أنهم كانوا أربعين رجلا بعثهم المشركون ليصيبوا المسلمين فاسروا ، واتي بهم الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فخلّى سبيلهم.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٢.

٦٢٠