موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

«التهذيب» قول الشيخ به ثمّ قال : وهو خلاف المشهور (١).

تسمية الحسين عليه‌السلام :

روى الطوسي في «الأمالي» بسنده عنه عن أبيه عن آبائه عن علي بن الحسين عليهم‌السلام قال : حدّثتني أسماء (بنت عميس) (٢) قالت : لمّا حملت فاطمة عليها‌السلام بالحسن وولدته ... وكان بعد حول ولدت الحسين وجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا أسماء هلمّي ابني.

فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأذّن في اذنه اليمنى وأقام في اليسرى ووضعه في حجره فبكى!

فقلت : بأبي أنت وامّي ممّ بكاؤك؟ قال : على ابني هذا.

قلت : إنّه ولد الساعة يا رسول الله!

فقال : تقتله الفئة الباغية من بعدي ، لا أنالهم الله شفاعتي! ثمّ قال : يا أسماء لا تخبري فاطمة بهذا ، فإنّها قريبة عهد بولادته.

ثمّ قال لعليّ : أيّ شيء سمّيت ابني هذا؟

قال : ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله (٣).

__________________

(١) جلاء العيون ٢ : ٢ و ٣ للسيّد شبر وهو تعريب لجلاء العيون للمجلسي.

(٢) يتكرّر فيه الإشكال بعدم حضور أسماء بنت عميس زوجة جعفر الطيّار بالمدينة قبل فتح خيبر ، ويجاب بما مرّ في زفاف الزهراء عليها‌السلام بأنّها أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاريّة القابلة والخطّابة ، وإنّما الخلط من الرواة.

(٣) وروى الخبر الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥ بسنده عنه ، وفيه هنا زيادة : «قد كنت احبّ أن اسمّيه حربا» وليس فيما أخرجه الطوسي ، فمن المستبعد جدا أن يحبّ علي التسمية بحرب!

٤٤١

فقال النبيّ : ولا أسبق باسمه ربّي ـ عزوجل ـ.

ثمّ هبط جبرئيل فقال : يا محمّد ، العليّ الأعلى يقرؤك السّلام ويقول لك : عليّ منك كهارون من موسى ، سمّ ابنك هذا باسم ابن هارون. قال النبيّ : وما اسم ابن هارون؟ قال : شبير. قال النبيّ : لساني عربيّ. قال جبرئيل : سمّه الحسين.

فلمّا كان يوم سابعه عقّ عنه النبيّ بكبشين أملحين ، وأعطى القابلة فخذا ودينارا ، ثمّ حلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر ورقا (فضّة) وطلى رأسه بالخلوق. وقال : يا أسماء ، الدم فعل الجاهليّة (١).

وروى الخبر الصدوق في «الأمالي» بسنده عن زيد بن علي عن أبيه علي ابن الحسين عليه‌السلام ـ بلا إسناد إلى أسماء ـ قال : لمّا ولد الحسين أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى جبرئيل : أنّه قد ولد لمحمّد ابن ، فاهبط إليه فهنّئه وقل له : إنّ عليّا منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم ابن هارون. قال : فهبط جبرائيل فهنّاه من الله تبارك وتعالى ثمّ قال : إنّ عليّا منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم ابن هارون. قال : وما اسمه؟ قال : شبير. قال : لساني عربيّ. قال : سمّه الحسين.

فسمّاه الحسين (٢) من دون ذكر لسنن اليوم السابع.

زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأم سلمة :

روى الواقدي بسنده عن عمر بن أبي سلمة قال : انتقض جرح أبي (أبي سلمة) فمات منه لثلاث مضين (٣) من جمادى الآخرة ... واعتدّت امّي حتى خلت

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٦٧ ح ٧٨١.

(٢) أمالي الصدوق : ١١٦.

(٣) مرّ أنّ النصّ : «بقين» ولكن لا تتمّ العدّة أربعة اشهر وعشرا لليال بقين من شوّال كما يأتي

٤٤٢

أربعة اشهر وعشرا (١).

فلمّا انقضت عدّتها أرسل إليها أبو بكر يخطبها فأبت ، ثمّ أرسل إليها عمر يخطبها فأبت (٢).

وخطبها رسول الله فقالت له : يا رسول الله : إنّي امرأة فيّ غيرة شديدة وأخاف أن ترى منّي شيئا يعذّبني الله عليه ، وقد كبر سني وتخطّيت الشباب ، ومع ذلك فإنّي امرأة ذات عيال وأحتاج لأن أعمل في قوتهم.

فقال لها : أمّا ما ذكرت من الغيرة ، فسيذهبها الله عنك. وأمّا السنّ فقد أصابني ما اصابك ، وأمّا ما ذكرت من العيال ، فعيالك عيالي. فرضيت (٣).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» هي هند بنت أبي اميّة بن المغيرة المخزومي ، فهي ابنة عمّ أبي جهل ... وكانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد وامّه برّة بنت عبد المطّلب ، فهو ابن عمّة رسول الله ، وكان لأمّ سلمة منه زينب وعمر (٤).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : تزوّج رسول الله أمّ سلمة ، زوّجها إيّاه عمر بن أبي سلمة ، وهو صغير لم يبلغ الحلم (٥).

__________________

ـ إلّا إذا احتملنا استبدال «بقين» من : مضين ، فالصحيح : مضين ، محرّفة أو مصحّفة إلى : «بقين».

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٣ و ٣٤٤.

(٢) طبقات ابن سعد ٨ : ٦٢ ، ونقله في بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٥ عن المنتقى.

(٣) البداية والنهاية ٤ : ٩١.

(٤) وكان عمر مع علي عليه‌السلام يوم الجمل ، وولّاه البحرين ، وله عقب بالمدينة. ومن مواليها خيرة أمّ الحسن البصري ، وشيبة بن مصباح إمام أهل المدينة في القراءة ـ إعلام الورى ١ : ٢٧٧.

(٥) فروع الكافي ٢ : ٢٤ ، كما في بحار الأنوار ٢٢ : ٢٢٤. وقال الطبرسي في إعلام الورى :

٤٤٣

وروى الواقدي عن عمر بن أبي سلمة قال : اعتدّت امّي حتّى خلت أربعة أشهر وعشرا ثمّ تزوّجها رسول الله ودخل بها في ليال بقين من شوّال. فكانت امّي تقول : ما بأس في النكاح في شوّال والدخول فيه ، قد تزوّجني رسول الله وأعرس بي في شوّال (١).

وروى ابن سعد في «الطبقات» عن عائشة قالت : لمّا تزوّج رسول الله أمّ سلمة حزنت حزنا شديدا لمّا علمت جمالها ، فتلطّفت حتّى رأيتها ، فرأيت أضعاف ما وصفت من الحسن والجمال (٢).

وفي قصص أسباب النزول حكى العلّامة الحلّي في «كشف الحقّ» عن الحميدي عن السدّي قال : لمّا توفّي أبو سلمة وعبد الله بن حذافة وتزوّج النبيّ امرأتيهما : أمّ سلمة وحفصة ، وقد نزل قوله سبحانه : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً* إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٣) قال عثمان : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات؟ والله لو قد مات أجبلنا على نسائه بالسهام. وكان هو يريد أمّ سلمة.

وكذلك قال طلحة وهو يريد عائشة (فهي من تيم وهو منها).

__________________

ـ روي أن رسول الله أرسل إلى أمّ سلمة أن مري ابنك أن يزوّجك. فزوّجها ابنها سلمة بن أبي سلمة وهو غلام لم يبلغ. وأدّى عنه النجاشي صداقها أربعمائة دينار عند العقد. إعلام الورى ١ : ٢٧٧. وقال ابن هشام : أصدقها النبي فراشا حشوه ليف وقدحا ورحى ٤ : ٢٩٤.

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٤.

(٢) طبقات ابن سعد ٨ : ٦٦ وعنه في الإصابة ٤ : ٤٥٩.

(٣) الأحزاب : ٥٣ ، ٥٤.

٤٤٤

فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً)(١).

رجم زانيين يهوديّين :

قال المسعودي في سياق حوادث السنة الرابعة في شهر شوّال ، بعد ذكر تزوّج رسول الله بام سلمة : وفي هذا الشهر ـ فيما ذكر ـ رجم يهودي ويهوديّة كانا قد زنيا (٢) ونقله المجلسي في «بحار الأنوار» عن «المنتقى» قال : وفيها رجم رسول الله اليهوديّ واليهوديّة في ذي القعدة ، ونزل قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٣).

وروى الشيخ الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : إنّ امرأة من خيبر في شرف منهم زنت وهي محصنة ، فكرهوا رجمها ، فأرسلوا إلى يهود المدينة يسألون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طمعا أن يكون أتى برخصة! فسألوه.

فقال : هل ترضون بقضائي؟ قالوا : نعم ، فأنزل الله عليه الرجم ، فأبوه ، فقال جبرئيل : سلهم عن ابن صوريا ثمّ اجعله بينك وبينهم. فقال : تعرفون شابّا أبيض أعور أمرد يسكن فدكا يقال له : ابن صوريا؟ قالوا : نعم هو أعلم يهودي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى. قال : فأرسلوا إليه. فأرسلوا إليه فأتى.

فقال له رسول الله : فإنّي اناشدك الله الذي لا إله إلّا هو القوي إله بني

__________________

(١) الأحزاب : ٥٧. وسورة الأحزاب هي ٩٠ في النزول ، والرابعة او الخامسة في النزول بالمدينة بعد البقرة والأنفال وآل عمران والنساء ، فلا بعد في نزولها يومئذ. والخبر في كشف الحق : ٢٤٧ ط بغداد ، بتصرف يسير.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢١٣.

(٣) بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٣ عن المنتقى : ١٢٦ ـ ١٢٨ والآية من المائدة : ٤٧.

٤٤٥

إسرائيل الذي أخرجكم من أرض مصر ، وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام وأنزل عليكم المنّ والسلوى ، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه ، هل تجدون في كتابكم الذي جاء به موسى الرجم على من أحصن؟

قال عبد الله بن صوريا : نعم ، والذي ذكّرتني ، ولو لا مخافتي من ربّ التوراة أن يهلكني إن كتمت ، ما اعترفت لك به!

فأنزل الله فيه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ...)(١).

فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال : هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي امرت أن تعفو عنه. فأعرض النبيّ عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه ، وعن شبه الولد بأبيه وامّه ، وما حظّ الأب من أعضاء المولود وما حظّ الامّ؟

فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي.

والشبه يغلبه أيّ الماءين علا.

وللأب العظم والعصب والعروق ، وللام اللحم والدم والشعر.

فقال : أشهد أنّ أمرك أمر نبيّ ، وأسلم. فشتمه اليهود.

فلمّا أرادوا الانصراف تعلّقت قريظة ببني النضير (٢) فقالوا :

يا أبا قاسم ، هؤلاء إخواننا بنو النضير إذا قتلوا منّا قتيلا لا يعطونا القود ويعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا منهم قتيلا أخذوا القود ومعه سبعون وسقا من تمر ، وإن أخذوا الديّة أخذوا منّا مائة وأربعين وسقا ، وكذلك جراحاتنا على

__________________

(١) المائدة : ١٥.

(٢) بعد جلائهم إلى خيبر وفدك.

٤٤٦

أنصاف جراحاتهم؟!

فأنزل الله ـ تعالى ـ : (... وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ...)(١) فحكم بينهم بالسواء ، فقال (بنو النضير) : لا نرضى بقضائك (٢) ، فأنزل الله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٣) وقال : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ)(٤) شاهدا لك ما يخالفونك ، ثمّ فسّر ما فيها من حكم الله فقال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٥) إلى قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ)(٦) وهو إجلاؤهم من ديارهم (٧).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن الباقر عليه‌السلام أيضا قال : إنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان ، فكرهوا

__________________

(١) المائدة : ٤٢.

(٢) يستبعد أن يكون هذا بعد إجلائهم وإذلالهم ، اللهم إلّا أن يكون قبل ذلك ، كما يأتي في آخر الخبر ما يفيد ذلك أيضا.

(٣) المائدة : ٥٠.

(٤) المائدة : ٤٣.

(٥) المائدة : ٤٥.

(٦) المائدة : ٤٩.

(٧) التبيان ٣ : ٥٢٥ و ٥٢٦. ونقله في ١ : ٣٦٣ (عن ابن عباس) وآخر الخبر يفيد أن الامر كان قبل اجلائهم وإذلالهم.

٤٤٧

رجمهما ، فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم : أن يسألوا النبيّ عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة!

فانطلق قوم ، منهم : كعب بن الأشرف (١) وكعب بن اسيد وشعبة بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم فقالوا : يا محمّد ، أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال : وهل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا : نعم فنزل جبرئيل بالرجم ، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به. فقال جبرئيل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له. فقال النبيّ لهم : هل تعرفون شابّا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له : ابن صوريا؟ قالوا : نعم. قال : فأيّ رجل هو فيكم؟ قالوا : اعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى! قال : فأرسلوا إليه. ففعلوا فأتاهم.

فقال له النبيّ : إنّي انشدك الله الذي لا إله إلّا هو الذي أنزل التوراة على موسى وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المنّ والسلوى ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟

قال ابن صوريا : نعم ، والذي ذكّرتني به لو لا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ، ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟

قال : إذا شهد أربعة رهط عدول : أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب الرجم.

قال ابن صوريا : هكذا أنزل الله في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ : فما ذا كان أوّل ما ترخصتم به أمر الله؟

قال : كنّا إذا زنى الشريف تركناه وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ ، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه ، ثمّ زنى رجل آخر ، فأراد

__________________

(١) هذا وقد مر قتله قبل هذا ، اللهم الا ان يكون قتله متأخرا عن هذا الامر.

٤٤٨

الملك رجمه ، فقال له قومه : لا ، حتى ترجم فرنا (ابن عمّه) فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة ثمّ يسوّد وجوههما ثمّ يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما. فجعلوا هذا مكان الرجم!

فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أتينا عليك بأهل!

فقال : إنّه أنشدني بالتوراة ، ولو لا ذلك لما أخبرته به.

فقال رسول الله : (اللهم) أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه. فأمر بهما فرجما عند باب المسجد.

وأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثمّ قال : هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي امرت أن تعفو عنه. فأعرض النبيّ عنه.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه. فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي ، فقال : صدقت. وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه امّه شيء أو بأمّه ليس فيه من شبه أبيه شيء؟ فقال : أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له. قال : صدقت. فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ فاغمي على رسول الله طويلا ثمّ خلي عنه محمرّا وجهه يفيض عرقا فقال : اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل ، قال له : صدقت أمرك أمر نبيّ. يا محمّد ، من يأتيك من الملائكة؟ قال : جبرئيل ، قال : صفه لي ، فوصفه النبيّ فقال : أشهد أنّه في التوراة كما قلت وأنّك رسول الله حقّا. فأسلم ابن صوريا عند ذلك. فلمّا أسلم ابن صوريا وقع فيه اليهود وشتموه.

٤٤٩

ولمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا : يا محمّد ، بنو النضير إخواننا ، أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد ، فإذا قتلوا منّا قتيلا لم يقد ، وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل وأخذوا منّا الضعف ؛ مائة وأربعين وسقا من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا وبالرجل منهم الرجلين منّا وبالعبد منهم الحرّ منّا ، وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم! فاقض بيننا وبينهم.

فأنزل الله الآيات في الرجم والقصاص (١).

وقد تكرّر في الآية : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) والآية : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)(٢) فقال الطوسي : إنّما كرّر ـ سبحانه ـ الأمر بينهم ... لأنّهم احتكموا إليه في الزنا المحصن ثمّ احتكموا إليه في قتيل كان بينهم وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣).

والقمي في تفسيره في سبب نزول الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ...)(٤) اكتفى بهذا الحكم الثاني فقال :

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٩٩ ـ ٣٠١ ونقل مختصره في ١ : ٣٢٥ عن ابن عباس. ويختلف الخبر هنا عما في التبيان ببعض التفاصيل. ورواه الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٤٦ ـ ٤٨ عن العسكري عليه‌السلام. ونقله ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٩١ ونقلته في ذيل الآية : «(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ») من سورة البقرة ، في الهامش. ويستبعد التعدد جدّا ، والأولى الثاني.

(٢) المائدة : ٤٨ ، ٤٩.

(٣) التبيان ٢ : ٥٤٧ و ٥٤٨ ، وعنه في مجمع البيان ٣ : ٣١٥ و ٣١٦.

(٤) المائدة : ٤١.

٤٥٠

لما هاجر رسول الله إلى المدينة ودخلت الأوس والخزرج في الإسلام ضعف أمر اليهود ، فقتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير ، فبعث بنو النضير إلى بني قريظة : أن ابعثوا إلينا بدية المقتول وبالقاتل حتّى نقتله.

وكانت قريظة سبعمائة والنضير ألفا ، وأكثر مالا وأحسن حالا من قريظة ، فكان إذا وقع بين قريظة والنضير قتل وكان القاتل من بني النضير قالوا لبني قريظة : لا نرضى أن يكون قتيل منّا بقتيل منكم! وجرت في ذلك بينهم مخاطبات كثيرة حتّى كادوا أن يقتتلوا ، ثمّ رضيت قريظة وكتبوا بينهم كتابا على أنّه : أيّ رجل من النضير قتل رجلا من بني قريظة فعليه أن يجنّب ويحمّم ، والتجنيب أن يقعد على جمل ويولّى وجهه إلى ذنب الجمل ، والتحميم : أن يلطّخ وجهه بالحمأة ، وأن يدفع نصف الدية. وأيما رجل من قريظة قتل رجلا من بني النضير فعليه أن يدفع دية كاملة ، ويقتل به!

(فلمّا كان ذلك) قالت قريظة : ليس هذا حكم التوراة وإنما هو شيء غلبتمونا عليه ، فإمّا الدية وإما القتل ، وإلّا فهذا محمد بيننا وبينكم ، فهلموا فلنتحاكم إليه (١).

وكان بنو النضير حلفاء لعبد الله بن ابيّ ، فمشوا إليه وقالوا : سل محمّدا أن لا ينقض شرطنا في هذا الحكم الذي بيننا وبين بني قريظة في القتل.

فقال عبد الله بن ابيّ : ابعثوا معي رجلا يسمع كلامي وكلامه ، فإن حكم لكم بما تريدون والّا فلا ترضوا به!

فبعثوا إليه رجلا فجاء معه إلى رسول الله فقال له :

__________________

(١) وإذا كان هذا بعد إجلاء بني النضير كان ذلك من بني قريظة انتهازا للفرصة انتصارا عليهم.

٤٥١

يا رسول الله ، إنّ هؤلاء القوم قريظة والنضير قد كتبوا بينهم كتابا وعهدا وثيقا تراضوا به ، والآن في قدومك يريدون نقضه ، وقد رضوا بحكمك فيهم ، فلا تنقض عليهم كتابهم وشرطهم ، فإنّ بني النضير لهم القوّة والسلاح والكراع ، ونحن نخاف الغوائل والدوائر (١).

فاغتمّ لذلك رسول الله ولم يجبه بشيء.

ونزل عليه جبرئيل بهذه الآيات : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(٢). إلى قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٣) وقوله : (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)(٤).

وروى الطبري مختصر خبر الرجم عن عكرمة (عن ابن عباس) : أن اليهود سألوا رسول الله عن حكم الرجم ، فسأل عن أعلمهم؟ فأشاروا إلى ابن

__________________

(١) ولكنّ هذا لا يلائم إلّا أوائل قدوم الرسول وقبل إجلاء بني النضير وإذلالهم.

(٢) المائدة : ٤١ و ٤٢.

(٣) المائدة : ٤٤.

(٤) المائدة : ٥٢ ، والخبر في تفسير القمي ١ : ١٦٨ ـ ١٧٠.

٤٥٢

صوريا ، فناشده بالله هل يجدون حكم الرجم في كتابهم؟ فقال : إنّه لمّا كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرءوس ، فحكم عليهم بالرجم ، فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ ...) إلى قوله : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وروى عن ابن عباس ـ أيضا ـ قال : أتى رسول الله ابن ابيّ وبحري بن عمرو ، وشاس بن عدي فكلّمهم وكلّموه ، فدعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوّفنا يا محمّد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه. كقول النصارى. فأنزل الله فيهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ...).

وروى عن ابن عباس ـ أيضا ـ قال : دعا رسول الله اليهود ورغّبهم في الإسلام وحذّرهم ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر اليهود اتّقوا الله فإنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا : ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده! فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)(١).

وسرق ابن ابيرق :

وقبل هذه الآيات وقبل ما نزل من سورة النساء في غزوة بدر الأخيرة ، آيات تتعلّق بسرقة اخرى هي سرقة ابن ابيرق ، وقد نقل المجلسي في

__________________

(١) تفسير الطبري ، ورواها السيوطي في الدر المنثور ٢ : ٢٦٩. لكن الآية هي ١٩ من المائدة النازلة بعد حجة الوداع في آخر العاشرة للهجرة.

٤٥٣

«بحار الانوار» عن «المنتقى» قال في سياق حوادث السنة الرابعة : وفيها سرق ابن ابيرق (١).

وقال القمي في تفسيره لقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(٢) : كان سبب نزولها : أنّ قوما من الأنصار من بني ابيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين : بشر وبشير ومبشّر ، فنقّبوا على عمّ قتادة بن النعمان ، وكان قتادة بدريّا ، فسرقوا منه سيفا ودرعا وطعاما كان قد أعدّه لعياله ، فشكى قتادة ذلك إلى رسول الله قال : يا رسول الله ، إنّ قوما نقبوا على عمّي وأخذوا سيفا ودرعا وطعاما كان قد أعدّه لعياله.

وكان مع بني ابيرق في الدار رجل مؤمن يقال له لبيد بن سهل ، فقال بنو ابيرق لقتادة : هذا عمل لبيد بن سهل! فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم فقال : يا بني ابيرق ، أترمونني بالسرقة؟! وأنتم أولى بها منّي! انكم منافقون تهجون رسول الله وتنسبون ذلك إلى قريش! لتبيّنن ذلك أو لأملأنّ سيفي منكم! فبرّأوه من ذلك.

ثمّ مشوا إلى رجل من رهطهم يقال له اسيد بن عروة وكان منطيقا بليغا ، وطلبوا منه أن يبرّئهم عند رسول الله من قول قتادة.

فمشى اسيد بن عروة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منّا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرقة واتهمهم بما ليس فيهم.

__________________

(١) بحار الانوار ٢٠ : ١٨٤ عن المنتقى : ١٢٦ ـ ١٢٨ وقال المجلسي : سيأتي شرح القصّة في باب أحوال أصحابه. ولم أجده فيه.

(٢) النساء : ١٠٥.

٤٥٤

فاغتم رسول الله لذلك. وجاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول الله فقال له : عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة؟! وعاتبه عتابا شديدا. فاغتم قتادة من ذلك ، ورجع إلى عمّه وقال له : يا ليتني متّ ولم أكلّم رسول الله. فقد كلّمني بما كرهته. فقال عمّه : الله المستعان.

ثمّ أنزل الله في ذلك على نبيّه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً* وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً* يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(١)؟!

وروى أبو الجارود عن الباقر عليه‌السلام قال : لمّا أنزل (ذلك) أقبل ناس من رهط بشير الأدنين وقالوا له : يا بشير استغفر الله وتب إليه من الذنب! فقال : والذي أحلف به ما سرقها إلّا لبيد! فنزلت : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً* وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)(٢) فكفر بشير ولحق بمكة.

وأنزل الله في النفر الذين أعذروا بشيرا وأتوا النبيّ ليعذروه قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا

__________________

(١) النساء : ١٠٥ ـ ١٠٩.

(٢) النساء : ١١٠ ـ ١١٢.

٤٥٥

أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(١). ونزلت في بشير وهو بمكة : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)(٢).

ورواه الطوسي في «التبيان» عن عدة منهم مجاهد وعكرمة عن ابن عباس ، إلّا أنّه قال إنّهم اتهموا بذلك يهوديا يقال له زيد بن السمين ، بدلا عن لبيد بن سهل. وأضاف : أنّ بشيرا لمّا مضى إلى مكّة نزل على سلامة بنت سعد بن شهيد امرأة من الأنصار كانت في بني عبد الدار بمكة ، فهجاها حسّان بن ثابت قال :

وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت

ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبيّ عنده الوحي واضعه

فحملت رحله على رأسها وألقته بالأبطح وقالت : ما كنت تأتيني بخير ، أهديت إليّ شعر حسّان!

فلم يزالوا بمكّة مع قريش حتّى فتحت مكة فهربوا إلى الشام (٣).

__________________

(١) النساء : ١١٣.

(٢) النساء : ١١٥ ، وليس معنى هذا أنّ الآية ١١٤ خارجة عن السياق بل هي منه غير مذكورة في الخبر ، وهي : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ولعلّها تبرّئ اسيد ابن عروة وأنّه ما أراد إلّا الإصلاح. والخبر في تفسير القمي ١ : ١٥٠ ـ ١٥٢.

(٣) التبيان ٣ : ٣١٦ و ٣١٧ ، ونقله الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٦١ بتغيير يسير وسمّى عم قتادة : رفاعة بن زيد.

٤٥٦

بدر الأخيرة :

يبدو أنّ الطبرسي في «إعلام الورى» اختصر خبرها عن ابن اسحاق فقال : ثم كانت غزوة بدر الأخيرة في شعبان ، خرج رسول الله إلى بدر لميعاد أبي سفيان ، فأقام عليها ثماني ليال ... ووافق رسول الله وأصحابه السوق فاشتروا وباعوا وأصابوا بها ربحا حسنا.

وخرج أبو سفيان في أهل تهامة فلما نزل الظّهران بدا له في الرجوع (١) فرجع ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكنّه في تفسيره «مجمع البيان» نقل عن الكليني : أن أبا سفيان لمّا أراد الرجوع إلى مكّة يوم احد واعد رسول الله موسم بدر الصفراء (٢) وهو سوق تقوم في ذي القعدة.

فلما بلغ الميعاد قال رسول الله للناس : اخرجوا إلى الميعاد. فتثاقلوا وكرهوا ذلك أو بعضهم كراهة شديدة ، فأنزل الله هذه الآية : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)(٣) فحرّض النبيّ المؤمنين فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا ، حتّى خرج رسول الله في سبعين راكبا ، وأتى موسم بدر ، فكفاهم الله بأس العدو ، ولم يوافهم أبو سفيان ، ولم يكن قتال يومئذ ، وانصرف رسول الله بمن معه سالمين (٤).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٩٠ وانظر ابن هشام ٣ : ٢٢٠.

(٢) في النصّ : الصغرى ، والصحيح ما أثبتناه عن الواقدي كما يأتي ، فهو اسم الموضع ، والصغرى إنّما هو وصف للغزوة بعد وقوعها لا قبله ، بالقياس إلى بدر الكبرى.

(٣) النساء : ٨٤.

(٤) مجمع البيان ٣ : ١٢٨.

٤٥٧

وقال الواقدي : كان بدر الصفراء مجمعا يجتمع فيه العرب ، وسوقا تقوم لهلال ذي القعدة إلى ثماني ليال خلون منه ، فإذا مضت ثماني ليال منه تفرّق الناس إلى بلادهم.

ولمّا أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم احد نادى : موعد بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول نلتقي فيه فنقتتل!

فافترق الناس على ذلك ، ورجعت قريش فخبّروا من قبلهم بالموعد وتهيّأوا للخروج وأجلبوا ، وطمعوا فيه بمثل ظفرهم حينما رجعوا من احد والدولة لهم.

ولما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج إلى رسول الله وأحبّ أن يقيم رسول الله وأصحابه بالمدينة لا يوافون الموعد ، فكان كل من يرد عليه مكة يريد المدينة يظهر له : أنا نريد أن نغزو محمدا في جمع كثيف!

وقدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة ، فجاءه أبو سفيان بن حرب في رجال من قريش وقال له : يا نعيم ، إنّي وعدت محمدا وأصحابه يوم احد أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحوس ، وقد جاء ذلك.

فقال نعيم : ما أقدمني إلّا ما رأيت محمدا وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع ، قد تجلّب إليه حلفاء الأوس من بليّ وجهينة وغيرهم ، فتركت المدينة أمس وهي كالرمّانة!

فقال أبو سفيان : أسمعك تذكر ما تذكر وما قد أعدّوا ، وهذا عام جدب ، وإنّما يصلحنا عام خصب غيداق ترعى فيه الظهر والخيل ونشرب اللبن ، وأنا أكره أن يخرج محمد وأصحابه ولا أخرج فيجترءون علينا ، ويكون الخلف من قبلهم أحبّ إليّ ، ونجعل لك عشرين فريضة : عشرا جذاعا (في الخامسة) وعشرا حقاقا (في الرابعة) وتوضع لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها لك.

٤٥٨

فقال نعيم لسهيل ـ وكان صديقا له ـ : يا أبا يزيد ، تضمن لي عشرين فريضة على أن أقدم المدينة فاخذّل أصحاب محمّد؟ قال : نعم قال : فإنّي خارج.

فخرج على بعيره وأسرع السير ، فقدم وقد حلق رأسه من العمرة ، فوجد أصحاب رسول الله يتجهّزون. فقالوا له : من أين يا نعيم؟ قال : معتمرا من مكة. قالوا : لك علم بأبي سفيان؟ قال : نعم تركت أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب معه العرب ، فهو جاء فيما لا قبل لكم به ، فأقيموا ولا تخرجوا ، فإنّهم قد أتوكم في داركم وقراركم فلن يفلت منكم إلّا الشريد ، وقتلت سراتكم ، وأصاب محمدا ما أصابه في نفسه من الجراح ، فتريدون أن تخرجوا إليهم فتلقوهم في موضع من الأرض؟ بئس الرأي رأيتم لأنفسكم ، والله ما أرى أن يفلت منكم أحد!

وجعل يطوف بهذا القول في أصحاب رسول الله حتّى رعّبهم وكرّه إليهم الخروج ، وحتى نطقوا أو بعضهم بتصديق قول نعيم ، واستبشر بذلك المنافقون واليهود وقالوا : إن محمّدا لا يفلت من هذا الجمع! وحتى بلغ ذلك إلى رسول الله وتظاهرت الأخبار عنه عنده وحتى خاف رسول الله أن لا يخرج معه أحد ... ثمّ قال : والذي نفسي بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معي أحد!

فلمّا تكلّم رسول الله بذلك بصّر الله المسلمين وأذهب عنهم رعب الشيطان ... فخرج في ألف وخمسمائة من أصحابه ، فيهم عشرة خيول للرسول والمقداد والزبير وغيرهم ... وكان يحمل لواء رسول الله الأعظم يومئذ علي بن أبي طالب عليه‌السلام. واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة. وخرجوا ببضائع لهم ونفقات وتجارات ... فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذي القعدة ، وقام السوق صبيحة الهلال ، فأقاموا ثمانية أيّام والسوق قائمة ... فربحوا للدينار دينارا ... وقال أبو سفيان لقريش : يا معشر قريش ، قد بعثنا نعيم بن مسعود ليخذّل أصحاب محمّد عن الخروج ، وهو جاهد ، ولكن نخرج فنسير ليلة أو ليلتين ثمّ نرجع. فإن كان

٤٥٩

محمّد لم يخرج بلغه أنّا خرجنا فرجعنا لأنّه لم يخرج ، فيكون هذا لنا عليه ، وإن كان خرج أظهرنا أنّ هذا عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام عشب. قالوا : نعم ما رأيت.

فخرج في قريش : وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا ، حتى انتهوا إلى مجنّة (بناحية مرّ الظّهران على أميال من مكّة) ثمّ قال لهم : ارجعوا ، فإنّه لا يصلحنا إلّا عام خصب غيداق ، نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وإنّ عامكم هذا عام جدب ، وإنّي راجع ، فارجعوا ، فرجعوا.

وأقبل رجل من بني ضمرة يقال له مخشيّ بن عمرو ، وهو الذي حالف رسول الله على قومه في غزوة رسول الله الاولى إلى ودّان ، وكان الناس مجتمعين في سوقهم ، وأصحاب رسول الله أكثر أهل ذلك الموسم ، فقال : يا محمّد ، لقد اخبرنا أنّه لم يبق منكم أحد! فما أعلمكم إلّا أهل الموسم!

فقال رسول الله : ما أخرجنا إلّا موعد أبي سفيان وقتال عدوّنا! وهو يريد أن يرفع ذلك إلى عدوّه من قريش ، وسمع بذلك معبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكان مقيما هناك ثمانية أيّام ورأى أهل الموسم ورأى أصحاب رسول الله وسمع كلام مخشيّ ، فانطلق سريعا حتّى قدم مكّة ، فكان أوّل من قدم بخبر موسم بدر فسألوه فقال : وافى محمّد في ألفين من أصحابه ، وأقاموا ثمانية أيّام حتى تصدّع (وتفرّق) أهل الموسم!

فقال صفوان بن اميّة لأبي سفيان : والله لقد نهيتك يومئذ أن تعد القوم وقد اجترؤوا علينا ورأوا أن قد أخلفناهم ، وإنمّا خلّفنا الضعف عنهم.

وغاب رسول الله فيها ست عشرة ليلة ، ورجع إلى المدينة لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٨٤ ـ ٣٨٩. هذا وقد قال : انتهوا إلى بدر ليلة هلال ذي القعدة ،

٤٦٠