موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

المنذر بن عمرو (الساعدي أميرهم ، وحمل) فقاتل القوم حتى قتل.

ورجع عمرو الضمري (١) إلى المدينة فأخبر رسول الله. فقال : هذا عمل

__________________

(١) وروى ابن إسحاق قال : وأخذ عمرو بن اميّة الضمري أسيرا ، فلمّا أخبرهم أنّه من مضر جزّ ناصيته عامر بن الطفيل واعتقه عن رقبة زعم أنّها كانت على امّه ـ ٣ : ١٩٥ ، ونقله عنه الطبرسي في مجمع البيان ٢ : ٨٨٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٤٨.

وروى الواقدي قال : كان في سرحهم : عمرو بن اميّة الضمري والحارث بن الصمّة ... فقاتلهم الحارث حتّى قتل منهم اثنين ثمّ أخذوه أسيرا ومعه عمرو الضمري. وقالوا للحارث : ما تحبّ أن نصنع بك؟ قال : احبّ أن أرى مصرع حرام بن ملحان (رسولهم) والمنذر بن عمرو الساعدي (أميرهم) ثمّ ترسلوني فاقاتلكم ، فأروه مصرعهما ثمّ أرسلوه ، فقاتلهم فقتل منهم اثنين آخرين ثمّ قتل. وقال عامر بن الطفيل لعمرو الضمري (لما عرفه أنّه من مضر) : كانت على امّي نسمة ، فأنت حرّ عنها ، ثمّ جزّ ناصيته فأطلقه! ـ ١ : ٣٤٨.

وروى ابن إسحاق قال : فخرج عمرو بن اميّة حتّى كان بالقرقرة من أوّل القناة (واد يأتي من الطائف ويصبّ في الأرحضيّة وقرقرة الكدر بناحية المعدن بينه وبين المدينة ثمانية برد ٨٠ كيلومترا ـ معجم البلدان) فأقبل رجلان من بني عامر ونزلا معه في ظلّ هو فيه ، فسألهما : ممّن أنتما؟ قالا : من بني عامر ، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما ثأرا لأصحابه. فلمّا قدم على رسول الله وأخبره الخبر قال رسول الله : لقد قتلت قتيلين ، لأدينّهما ـ لأنّهما كانا في جوار رسول الله ـ ثمّ قال النبيّ : هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارها متخوّفا ٣ : ١٩٥ ـ وقال الواقدي : فقال النبيّ : بئس ما صنعت قتلت رجلين كان لهمها مني أمان وجوار ، لأدينّهما ١ : ٣٥٢ فقال عمرو : كنت أراهما على شركهما ، وكان قومهما قد نالوا منّا ما نالوا من الغدر بنا. وكان قد جاء بسلبهما ، فأمر رسول الله بعزل سلبهما حتى يبعث به مع ديتهما ـ ١ : ٣٦٤.

وقال : ودعا رسول الله على قتلتهم في صلاة الصبح من تلك الليلة التي جاءه فيها الخبر ،

٤٠١

أبي براء ، قد كنت لهذا كارها.

فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفار عامر (بن الطفيل) إيّاه وما أصاب من أصحاب رسول الله فحمل ابنه ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه فأصاب فخذه ، فقال عامر :

هذا عمل عمّي أبي براء ، إن متّ فدمي لعمّي لا تطلبوه به ، وإن أعش فسأرى رأيي فيه (١).

__________________

ـ رفع رأسه من الركوع وقال : سمع الله لمن حمده ثمّ قال : اللهم اشد وطأتك على مضر ، اللهم عليك ببني لحيان وزعب ورعل وذكوان وعصية ، فإنّهم عصوا الله ورسوله ، اللهم عليك ببني لحيان وعضل والقارة ... اللهم انج المستضعفين من المؤمنين : غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله. ثمّ سجد. قال ذلك خمس عشرة يوما وقيل : أربعين يوما ـ ١ : ٣٤٩ و ٣٥٠. وهذا الدعاء أيضا يشير بل صريح في سبق قصّة بني لحيان وعضل والقارة في بطن الرجيع.

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٧. وفي مجمع البيان ٢ : ٨٨١ و ٨٨٢ ، ينقل عن ابن اسحاق : أن عمل ربيعة هذا كان بعد أن بلغه قول حسّان بن ثابت فيه :

بني أمّ البنين ألم يرعكم

وأنتم من ذوائب أهل نجد

تهكّم عامر بأبي براء

ليخفره ، وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي

فما أحدثت في الحدثان بعدي؟!

أبوك أبو الحروب أبو براء

وخالك ماجد : حكم بن سعد

 (ابن هشام ٣ : ١٩٧).

وأيضا ينقل عن ابن اسحاق قول كعب بن مالك :

لقد طارت شعاعا كلّ وجه

خفارة ما أجار أبو براء

بني أمّ البنين أما سمعتم

دعاء المستغيث مع النساء

وتنويه الصريخ؟! بلى ولكن

عرفتم أنّه صدق اللقاء

٤٠٢

غزوة بني النضير :

في تفسير القمي ـ وكأنّه عن كتاب أبان بن عثمان (١) البجلي الكوفي ـ قال : كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود : بنو قينقاع وبنو قريظة والنضير ، وكان بينهم وبين رسول الله عهد فنقضوا عهدهم.

وكان السبب في نقض بني النضير عهدهم : أنّه أتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستسلفهم ـ يعني يستقرض منهم ـ دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة (٢) وقصد كعب بن الأشرف.

فلمّا دخل على كعب (ومعه جمع من أصحابه) قال له : مرحبا يا أبا القاسم وأهلا. وقام كأنّه يصنع لهم الطعام ، وحدّث نفسه أن يقتل رسول الله ثمّ يتبعه أصحابه.

فنزل جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بذلك ، فرجع رسول الله إلى المدينة (٣).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : فنزل جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بما همّ القوم من الغدر ، فقام رسول الله كأنّه يقضي حاجة ، وعرف أنّهم لا يقتلون أصحابه وهو حيّ ، فأخذ الطريق نحو المدينة.

__________________

ـ وليس في ابن هشام. مجمع البيان ٢ : ٨٨٢ ، وعنه في المناقب ١ : ١٩٥.

وقال الواقدي : وبعث عامر بن الطفيل نفرا من أصحابه وكتب معهم إليه : إنّ رجلا من أصحابك قتل رجلين من أصحابنا ولهما منك أمان وجوار ـ ١ : ٣٥٢ ـ فابعث بديتهما إلينا ١ : ٣٦٤.

(١) انظر تفسير القمي ١ : ٣٦٠.

(٢) هو عمرو بن اميّة الضمري الذي قتل رجلين عامريّين مسلمين أو هما في جوار رسول الله.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٥٨ و ٣٥٩.

٤٠٣

وكان كعب قد أرسل بعض أصحابه إلى من يستعين بهم على رسول الله ، فاستقبلوا رسول الله ، فأخبروا كعبا بذلك ، فأخبر أصحاب النبيّ فساروا راجعين.

وكان عبد الله بن صوريا أعلمهم فقال لهم : والله إنّ ربّه أطلعه على ما أردتموه من الغدر! ولا يأتيكم ـ والله ـ أوّل ما يأتيكم إلّا رسول محمّد يأمركم عنه بالجلاء! فأطيعوني في خصلتين لا خير في الثالثة : أن تسلموا! فتأمنوا على دياركم وأموالكم ، وإلّا ، فإنّه يأتيكم من يقول لكم : اخرجوا من دياركم! فقالوا : هذه أحبّ إلينا! فقال : أما إنّ الاولى خير لكم منها ، ولو لا أن أفضحكم لأسلمت (١).

قال القمي : فقال رسول الله لمحمّد بن مسلمة الأنصاري : اذهب إلى بني النضير فأخبرهم : إنّ الله ـ عزوجل ـ قد أخبرني بما هممتم به من الغدر! فإمّا أن تخرجوا من بلدنا! وإمّا أن تأذنوا بحرب! (٢) ثمّ بعثه إليهم (٣).

فقالوا : نخرج من بلادك.

فبعث إليهم عبد الله بن أبيّ : أن لا تخرجوا ، وأقيموا وتنابذوا محمّدا الحرب ، فإنّي أنصركم أنا وقومي وحلفائي ، فإن خرجتم خرجت معكم ، وإن قاتلتم قاتلت معكم!

فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيّأوا للقتال وبعثوا إلى رسول الله : إنّا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع!

فقام رسول الله وكبّر ، وكبّر أصحابه ، وقال لأمير المؤمنين : تقدّم إلى بني النضير.

فأخذ أمير المؤمنين الراية وتقدّم ، وجاء رسول الله وأحاط بحصنهم وأمر

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٥٩.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٨٨.

٤٠٤

بقطع نخلهم ، فجزعوا من ذلك وقالوا : يا محمّدا أيأمرك الله بالفساد؟ إن كان هذا لك فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه (١).

وقال المفيد في «الإرشاد» : وضرب رسول الله قبّته في أقصى بني خطمة من البطحاء (٢) فلمّا جنّ الليل رماه رجل من بني النضير بسهم! فأصاب القبّة! فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحوّل قبّته إلى السفح ، وأحاط به المهاجرون والأنصار.

فلمّا اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال الناس : يا رسول الله لا نرى عليّا؟! فقال : أراه في بعض ما يصلح شأنكم. فلم يلبث أن جاء برأس اليهوديّ الذي رمى النبيّ ، وكان يقال له : عزورا (أو عازورا (٣) عزرا) فطرحه بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف صنعت يا أبا الحسن؟ قال عليه‌السلام :

إنّي رأيت هذا الخبيث جريئا شجاعا ، فقلت : ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الليل يطلب منا غرة! فكمنت له ، فأقبل مصلتا بسيفه في تسعة نفر من اليهود ، فشددت عليه وقتلته ، وأفلت أصحابه ولم يبرحوا قريبا ، فابعث معي نفرا فإنّي أرجو أن أظفر بهم.

فبعث رسول الله معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، فأدركوهم قبل أن يلجوا الحصن فقتلوهم وجاءوا برءوسهم إلى

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٥٩.

(٢) وهو الموضع الذي كان نفر من الانصار يشربون فيه نبيذ التمر (الفضيخ) وبلغهم تحريم الخمر فأراقوا قربتهم ، وبنوا فيه فيما بعد مسجداً أسموه مسجد الفضيخ (تأريخ المدينة لابن شبّة ١ : ٦٩) وهو جنوب مشربة اُمّ ابراهيم في الشارع الموصل بين شارع العوالي وخطّ الحزام على طريق مستشفى المدينة الوطني كما ذكره عبدالرحمان خويلد في كتابه : المساجد والاماكن الاثرية المجهولة ، وعنه في مجلّة ميقات الحجّ ٧ : ٢٧٥.

(٣) عن الإرشاد في بحار الأنوار ٢٠ : ١٧٢.

٤٠٥

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمر أن تطرح في بعض آبار بني خطمة (١).

قال القمي : وبعد ذلك قالوا : يا محمّد نخرج من بلادك واعطنا مالنا.

فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل. فلم يقبلوا ذلك.

فبقوا أيّاما ثمّ قالوا : نخرج ولنا ما حملت الإبل.

فقال : لا ، ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا ، فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه!

فخرجوا على ذلك ، خرج قوم منهم إلى فدك ووادي القرى ، وخرج قوم منهم إلى الشام (٢) وقال في «المناقب» : فخرجوا إلى خيبر والحيرة وأريحا وأذرعات ، لكلّ ثلاثة منهم بعير (٣).

قال المفيد في «الإرشاد» واصطفى رسول الله أموال بني النضير ، وكانت أوّل صافية (٤).

نزول سورة الحشر فيهم :

قال القمّي : وأنزل الله فيهم : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ... (، سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٩٢ ، ٩٣. ثمّ قال : وفي تلك الليلة قتل كعب بن الأشرف. ولم يذكر الكيفيّة ، فلو كان ذلك كما قاله المؤرّخون كما مرّ بعد بدر فإنّ ذلك لا يتناسب مع حال الحصار الذي بدءوا به عليهم. وفي المناقب ١ : ١٩٦ قال إنّ كعبا قصد مكّة بعد احد وتعاهد مع أبي سفيان وغيره على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجع ونزلت سورة الحشر فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محمّد بن مسلمة لقتله فقتله بالليل ثمّ قصد إليهم وحاصرهم. وهذا أيضا لا ينسجم مع طبيعة الأحداث يومئذ.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٥٩.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٧.

(٤) الإرشاد ١ : ٩٣. ومناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٧.

٤٠٦

الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ ، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ، ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ، فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ، وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ* وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ، وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١).

ففيه بسنده عن أبي بصير : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال للأنصار : إن شئتم دفعت إليكم فيء المهاجرين منها [وأخرجتهم عنكم] وإن شئتم قسمتها بينكم وبينهم ، وتركتهم معكم؟

فقالوا : قد شئنا أن تقسمها [كلّها] فيهم.

فقسمها رسول الله بين المهاجرين ولم يعط الأنصار ، إلّا رجلين منهم ذكرا حاجة : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف (٢).

وفي «الإرشاد» : فقسمها بين المهاجرين الأوّلين ، وأمر عليا عليه‌السلام فحاز ما لرسول الله منها فجعله صدقة ، وكانت بيده مدّة حياته ، ثمّ بيد أمير المؤمنين بعده (٣).

__________________

(١) الحشر : ١ ـ ٦ ، وهي السورة ١٠١ في النزول ، أي الخامسة عشر في النزول بالمدينة ، أي منتصف العدد النازل بالمدينة تقريبا ، ممّا يتناسب زمنيا مع نهاية حرب بني النضير في حدود الخامسة من الهجرة تقريبا.

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٣٦٠.

(٣) الإرشاد ١ : ٩٣.

٤٠٧

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن الكلبي قال : قال رؤساء المسلمين لرسول الله : يا رسول الله ، خذ صفيّك والربع ، ودعنا [الرؤساء] والباقي ؛ فهكذا كنّا نفعل في الجاهلية ، وأنشدوا :

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول (١)

فنزلت [السورة وفيها] الآية : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢) ، فقالوا : سمعا وطاعة لأمر الله وأمر رسوله (٣).

قال الطبرسي : فجعل الله أموال بني النضير لرسول الله خاصّة يفعل بها ما يشاء (٤).

قال : ولكنّ النبيّ قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة؟

فقال الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها. فنزلت فيهم [السورة وفيها] الآيات : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ، يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ

__________________

(١) النشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل الوصول إلى المقصد.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٣٩٢.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٣٩١.

٤٠٨

كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

فنقل الطبرسي عن الزجّاج النحويّ قال : بيّن الله سبحانه من «المساكين» الذين لهم الحقّ ـ في الآية السابقة ـ ثمّ ثنّى سبحانه بوصف الأنصار ومدحهم حيث طابت أنفسهم عن الفيء (٢) ثمّ قال : فقسّمها رسول الله بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئا ، إلّا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمّة (٣).

ومن حوادث ما بعد بني النضير : أنّ عامر بن الطفيل العامري تآمر مع صاحبه أربد بن قيس ـ أخي لبيد بن ربيعة الشاعر ـ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال له : إذا قدمنا على الرجل (٤) فإنّي شاغل عنك وجهه فإذا فعلته فاعله بالسيف!

فلمّا قدموا عليه قال عامر : يا محمد خالني (أي تفرّد لي خاليا).

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، حتّى تؤمن بالله وحده. فلمّا أبى عليه رسول الله قال عامر : والله لأملأنّها عليك خيلا حمرا ورجالا! ثمّ ولّى ، فقال رسول الله : اللهمّ اكفني عامر بن الطفيل. ولمّا خرجوا قال عامر لأربد : أين ما كنت أمرتك به؟ قال : والله ما هممت بالذي أمرتني به إلّا دخلت بيني وبين الرجل أفأضربك بالسيف؟!

__________________

(١) الحشر : ٨ و ٩.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٩٢.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٣٩١ ، وقال : والآية تشير إلى أنّ تدبير الامّة إلى النبيّ ، ولهذا فقد أجلى بني قينقاع وبني النضير وترك لهم شيئا من مالهم وقسم أموالهم على المهاجرين ، وقتل رجال بني قريظة وسبى نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم على المهاجرين أيضا ، ومنّ على أهل خيبر في رقابهم وقسم أموالهم (فيمن حضر) ومنّ على أهل مكّة في أرضهم وديارهم وأموالهم وأنفسهم ونسائهم وذراريهم ٩ : ٣٩٢. وانظر في نزول السورة سيرة ابن هشام ٣ : ٢٠٢ ، ومغازي الواقدي ١ : ٣٨٠ ـ ٣٨٣.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢١٣.

٤٠٩

فلمّا كانا في الطريق أصابه الله بغدّة طاعون في عنقه فقتلته ، ثمّ أصاب صاحبه أربد بصاعقة فقتلته (١).

وفيما كان من أمر أمير المؤمنين في هذه الغزاة وقتله اليهوديّ ومجيئه إلى النبيّ برءوس التسعة يقول حسّان بن ثابت :

لله أيّ كريمة أبليتها

ببني قريظة ، والنفوس تطلّع

أردى رئيسهم وآب بتسعة

طورا يشلهم وطورا يدفع (٢)

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٥٠ و ٢٥١ ونقل كون ذلك بعد غزوة بني النضير من كتاب أبان الأحمر البجلي الكوفي ، وهذا أقرب من أن يكون ذلك في عام الوفود سنة تسع أو عشر.

(٢) الإرشاد ١ : ٩٤. وروى ابن إسحاق خبر بني النضير عن يزيد بن رومان فقال : كان رهط من بني عوف من الخزرج منهم عبد الله بن ابيّ بن سلول ووديعة ومالك بن ابي قوقل وسويد وداعس وقد بعثوا إلى بني النضير : أن اثبتوا وتمنّعوا فإنّا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم.

فتربّصوا ذلك ، فلم يفعلوا ، فسألوا رسول الله أن يجلهم ويكفّ عن دمائهم ، على أنّ لهم من أموالهم ما حملت الإبل ، إلّا الحلقة (السلاح) فقبل رسول الله فاحتملوا من أموالهم ما استقلّت الإبل ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام. ومن أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر : حييّ بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، وابن أخيه كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق. وحملوا الأموال والنساء والأبناء معهم القيان يعزفن بالمزامير والدفوف. وخلوا (بقية) الأموال لرسول الله فكانت له خاصّة يضعها حيث يشاء ، فقسّمها رسول الله على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار إلّا سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة.

ولم يسلم من بني النضير إلّا رجلان : أبو سعد بن وهب ، ويامين بن عمير ، أسلما على أموالهما ، فابقيت لهما.

ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها.

وكان يامين بن عمير بن كعب ، ابن عم عمرو بن جحاش بن كعب الذي انتدب ليعلو

٤١٠

__________________

ـ على البيت (البيت الذي كان إلى جداره رسول الله قاعدا) فيلقي صخرة على رسول الله. فروى ابن إسحاق عن آل يامين أنّ رسول الله قال له بعد ما أسلم : ما ذا لقيت من ابن عمّك وما همّ به من شأني؟! فجعل يامين جعلا لرجل على أن يقتل ابن عمّه عمرو بن جحاش ، فيزعمون أنّه قتله.

وقال ابن هشام : استمرّ حصارهم ستّ ليال من شهر ربيع الأوّل ٣ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

وكذلك قال الواقدي : غزوة بني النضير في ربيع الأوّل على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجرة النبيّ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ.

خرج رسول الله يوم السبت ومعه رهط من المهاجرين والأنصار ، منهم علي ، وطلحة والزبير ، وأبو بكر وعمر ، وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، واسيد بن حضير ، فصلى في مسجد قباء ١ : ٣٦٤ وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتي إلى قباء يوم السبت ويوم الإثنين ١ : ٣٠٤ ثمّ سار إلى بني النضير يستعين بهم في دية الرجلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن اميّة الضمري غير عالم بهما ، فوجدهم في ناديهم ، فجلس رسول الله وأصحابه ، فكلّمهم رسول الله أن يعينوه في دية الكلابيّين اللذين قتلهما عمرو بن اميّة ، فقالوا : نفعل ـ يا أبا القاسم ـ ما أحببت ، اجلس حتّى نطعمك.

ثمّ خلا بعضهم إلى بعض فتناجوا فقال حييّ بن أخطب : يا معشر اليهود ، قد جاءكم محمّد في نفير من أصحابه لا يبلغون عشرة فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته فاقتلوه ، فلن تجدوه أخلى منه الساعة ، فإنّه إن قتل تفرّق أصحابه ، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم ، وبقي من هاهنا من الأوس والخزرج حلفاؤكم ، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن!

فقال عمرو بن جحاش : أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة.

فقال سلّام بن مشكم : يا قوم أطيعوني هذه المرّة وخالفوني الدهر ، والله إن فعلتم ليخبرن

٤١١

__________________

ـ بأنّا قد غدرنا به ، وإنّ هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه ، فلا تفعلوا ، ألا فو الله لو فعلتم الذي تريدون ليقومنّ بهذا الدين منهم قائم إلى يوم القيامة يستأصل اليهود ويظهر دينه!

فلما هيّأ عمرو بن جحاش الصخرة وأشرف بها جاء رسول الله الخبر من السماء بما همّوا به!

فنهض رسول الله سريعا كأنّه يريد حاجة وتوجّه إلى المدينة.

وجلس اصحابه يتحدّثون وهم يظنّون أنّه قام يقضي حاجة ، فلما يئسوا من ذلك قاموا.

فقال حييّ : عجّل أبو القاسم قد كنّا نريد أن نقضي حاجته ونغدّيه.

وتبعه أصحابه فلقوا رجلا خارجا من المدينة فسألوه : هل لقيت رسول الله؟ قال : لقيته بالجسر داخلا.

ولمّا انتهى أصحابه إليه وجدوه قد أرسل إلى محمّد بن مسلمة يدعوه. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قمت ولم نشعر؟ فقال : همّت اليهود بالغدر بي فأخبرني الله بذلك فقمت.

وجاء محمّد بن مسلمة ، فقال له رسول الله : اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم : إنّ رسول الله أرسلني إليكم : أن اخرجوا من بلده!

وقال لهم كنانة بن صويراء : هل تدرون لم قام محمّد؟ قالوا : لا ندري ولا تدري.

قال : بلى والتوراة إنّي لأدري : قد اخبر محمّد بما هممتم به من الغدر ، والله إنّه لرسول الله ، وما قام إلّا لأنّه اخبر بما هممتم به ، وإنّه لآخر الأنبياء. كنتم تطمعون أن يكون من بني هارون فجعله الله حيث شاء ، وإن كتبنا والذي درسناه في التوراة التي لم تغير ولم تبدّل : أنّ مولده بمكّة ودار هجرته يثرب ، وصفته بعينها ما تخالف حرفا ممّا في كتابنا. وما يأتيكم به أولى من محاربته إيّاكم ، ولكأني أنظر إليكم ظاعنين يتضاعن (يتصايح) صبيانكم ، قد تركتم دوركم وأموالكم ، وإنّما هي شرفكم. فأطيعوني في خصلتين والثالثة لا خير فيها!

قالوا : ما هما؟ قال : تسلمون وتدخلون مع محمّد ، فتأمنون على أموالكم وأولادكم ، وتكونون من علية

٤١٢

__________________

ـ أصحابه ، وتبقى بأيديكم أموالكم ، ولا تخرجون من دياركم.

قالوا : لا نفارق التوراة وعهد موسى!

قال : فإنّه مرسل إليكم : اخرجوا من بلدي. فقولوا : نعم ، فإنّه لا يستحلّ لكم دما ولا مالا فتبقى لكم أموالكم ، إن شئتم بعتم وإن شئتم أمسكتم. قالوا : أمّا هذه فنعم.

قال : أما والله إنّ الاخرى خيرهنّ لي ، أما والله لو لا أنّي أفضحكم لأسلمت ، ولكن لا تعير شعثاء (ابنته) بإسلامي أبدا حتى يصيبني ما أصابكم!

ثمّ قال سلّام بن مشكم لحييّ : قد كنت لما صنعتم كارها ، وهو مرسل إلينا : أن اخرجوا من داري ، فلا تعقب كلامه ـ يا حييّ ـ وأنعم له بالخروج واخرج من بلاده!

قال : نعم أفعل.

فلما جاءهم محمّد بن مسلمة قال لهم : إنّ رسول الله أرسلني إليكم برسالة ، ولست أذكرها لكم حتّى اعرّفكم شيئا تعرفونه : انشدكم بالتوراة التي أنزل الله على موسى ، هل تعلمون أنّي جئتكم قبل أن يبعث محمّد وبينكم التوراة ، فقلتم لي في مجلسكم هذا : يا بن مسلمة ، إن شئت أن نغدّيك غدّيناك ، وإن شئت أن نهوّدك هوّدناك؟ فقلت لكم غدّوني ولا تهوّدوني فإنّي والله لا أتهوّد أبدا! فقلتم لي : ما يمنعك من ديننا إلا أنّه دين يهود كأنّك تريد دين الحنيفيّة التي سمعت بها ... أتاكم صاحبها الضحوك القتّال! في عينيه حمرة ، يأتي من قبل اليمن ، يركب البعير ويلبس الشّملة ويجتزئ بالكسرة! سيفه على عاتقه ، ليست معه آية ، ينطق بالحكمة. والله ليكوننّ بقريتكم هذه قتل ومثل وسلب!

قالوا : اللهم نعم ، قد قلناه لك ، ولكن ليس به. قال : قد فرغت. إنّ رسول الله أرسلني إليكم يقول لكم : قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي! ـ وأخبرهم بما كانوا ارتئوا من الرأي وصعود عمرو بن جحاش على البيت ليطرح الصخرة ، فسكتوا ولم يقولوا حرفا ـ ويقول لكم : اخرجوا من بلدي ، فقد أجّلتكم عشرا ، فمن رئي بعد ذلك

٤١٣

__________________

ـ ضربت عنقه!

قالوا : يا محمّد ، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس! قال محمّد : تغيّرت القلوب!

فمكثوا أيّاما يتجهّزون ، وأرسلوا اناسا إلى ذي الجدر (مسرح بناحية قباء على ستة أميال من المدينة ١٠ كيلومترا) ليجلبوا لهم مراكبهم هناك ، واكتروا أيضا من أشجع.

فبينما هم على ذلك إذ جاءهم رسولا ابن ابيّ : داعس وسويد فقالا لهم :

يقول لكم عبد الله بن ابيّ : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، أقيموا في حصونكم ، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم! وتمدّكم قريظة فإنّهم لن يخذلوكم ويمدّكم حلفاؤهم من غطفان!.

ولم يزل يرسل إلى حييّ بذلك حتى طمع حييّ فيما قال ابن ابيّ ، فقال : نرمّم حصوننا ثمّ ندخل ماشيتنا وندرّب أزقّتنا ، وننقل الحجارة إلى حصوننا ، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة ، وماؤنا واتن في حصوننا لا نخاف قطعه (وهو الواتن) فترى محمّدا يحصرنا سنة؟! لا نرى هذا!

فقال سلّام بن مشكم : منّتك نفسك ـ يا حييّ الباطل ، إنّي والله لو لا أن يسفّه رأيك أو يزرى بك لاعتزلتك بمن أطاعني من اليهود! فلا تفعل يا حييّ ، فو الله إنّك لتعلم ونعلم معك ـ أنّه لرسول الله وأنّ صفته عندنا ، فإن حسدناه من حيث خرجت النبوّة من بني هارون فلم نتّبعه فتعال لنقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج من بلاده ، فإذا كان أوان الثمر جئنا أو جاء من جاء منّا إلى ثمره فباع أو صنع ما بدا له ثمّ انصرف إلينا فكأنّا لم نخرج من بلادنا إذا كانت أموالنا بأيدينا ، فإنّا إنّما شرّفنا على قومنا بأموالنا وفعالنا ، فإذا ذهبت أموالنا من أيدينا كنّا كغيرنا من اليهود في الذلّة والإعدام! وإنّ محمّدا إن سار إلينا فحصرنا في هذه الصياصي يوما واحدا ثمّ عرضنا عليه ما أرسل به إلينا أبى علينا ولم يقبله منّا!

قال حييّ : إنّ محمّدا لا يحصرنا ، إن اصاب منّا نهزة (فرصة وعورة) فبها ، وإلّا

٤١٤

__________________

ـ انصرف! وقد وعدني ابن ابيّ ما قد رأيت!

فقال ابن سلّام : ليس قول ابن ابيّ بشيء ، إنّما يريد ابن ابيّ أن يورّطك في الهلكة حتى تحارب محمّدا ثمّ يجلس في بيته ويتركك ... وإلّا فإنّ ابن ابيّ قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتّى حاربوا ونقضوا العهد وحصروا أنفسهم في صياصيهم وانتظروا نصرة ابن ابيّ ، فجلس في بيته ، وسار محمّد إليهم فحصرهم حتّى نزلوا على حكمه ، فابن ابيّ لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس كلّهم ، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حروبهم كلّها إلى أن قدم محمّد فحجز بينهم فتقطّعت حروبهم. وابن أبيّ لا يهوديّ على دين يهود ، ولا على دين محمّد ، ولا على دين قومه ، فكيف تقبل قولا قاله؟!

قال حييّ : تأبى نفسي إلّا عداوة محمّد ، وإلّا قتاله!

قال ابن سلّام : فهو والله جلاؤنا من أرضنا وذهاب أموالنا وذهاب شرفنا ، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا!

فأبى حييّ إلّا محاربة رسول الله.

وكان فيهم رجل ضعيف عندهم في عقله كأنّه مجنون يقال له ساروك بن أبي الحقيق ، فقال :

يا حييّ ، أنت رجل مشئوم! تهلك بني النضير!

فغضب حييّ وقال : كلّ بني النضير قد كلّمني حتى هذا المجنون! فقام إليه إخوته فضربوه. وقالوا لحييّ : أمرنا لأمرك تبع لن نخالفك.

فقال حييّ : أنا ارسل إلى محمّد اعلمه أنّا لا نخرج من دارنا وأموالنا فليصنع ما بدا له.

وأرسل أخاه جديّ بن أخطب إلى رسول الله : أنّا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع. وأمره أن يأتي ابن ابيّ فيخبره برسالته إلى محمّد ويأمره بتعجيل ما وعد من النصر!

٤١٥

__________________

ـ فذهب جديّ بن أخطب إلى رسول الله بالذي أرسله حييّ ، فجاء إلى رسول الله وهو جالس في أصحابه فأخبره ، فأظهر رسول الله التكبير وكبّر المسلمون لتكبيره.

وخرج جديّ حتى دخل على ابن ابيّ وهو جالس في بيته مع نفير من حلفائه ، فقال : أنا ارسل إلى حلفائي فيدخلون معكم!

ونادى منادي رسول الله يأمرهم بالمسير إلى بني النضير ...

فدخل عبد الله بن عبد الله بن ابيّ على أبيه فلبس درعه وأخذ سيفه وخرج يعدو!

وأرسل ابن أبيّ إلى كعب بن أسد يكلّمه أن يمدّ أصحابه ، فقال كعب بن أسد : لا ينقض العهد من بني قريظة رجل واحد!

وسار رسول الله في أصحابه فصلّى العصر بفضاء بني النضير ، فلمّا رأوا رسول الله وأصحابه قاموا على جدر حصونهم معهم الحجارة والنبل ، فجعلوا يرمون ذلك اليوم بالحجارة والنبل حتّى أظلموا. وصلّى رسول الله العشاء واستعمل على العسكر عليّا عليه‌السلام ورجع في عشرة من أصحابه إلى بيته على فرسه وعليه الدرع. وبات المسلمون يحاصرونهم حتّى أصبحوا.

وأذّن بلال بالمدينة فاستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم وغدا رسول الله في أصحابه الذين كانوا معه فصلّى بالناس في فضاء بني خطمة ، وحملت له قبّة من أدم أو مسوح (كساء الشعر) أرسل بها سعد بن عبادة ، فأمر بلالا فضربها في موضع بفضاء بني خطمة ، فدخل قبّته. فرماه رجل من اليهود رام يقال له عزوك ، فبلغ نبله قبّة النبيّ ، فأمر بقبّته فحوّلت إلى موضع مسجد الفضيخ اليوم فتباعد عن النبل.

وأمسوا ، وبات رسول الله بدرعه ، وظلّ محاصرهم.

وفي ليلة من الليالي فقد عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قرب العشاء ، فقال الناس. ما نرى عليّا يا رسول الله؟ قال : دعوه فإنّه في بعض شأنكم! فلم يلبث أن جاء برأس عزوك فطرحه بين

٤١٦

__________________

ـ يدي رسول الله ، فقال : يا رسول الله إنّي كمنت لهذا الخبيث ، قلت : ما أجرأه أن يخرج إذا أمسينا يطلب مناغرة (وهذا يقتضي الليلة الاولى) فأقبل مصلتا سيفه في نفر من اليهود فشددت عليه فقتلته ، وأجلى أصحابه ولم يبرحوا قريبا ، فإن بعثت معي نفرا رجوت أن أظفر بهم!

فبعث رسول الله معه أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة من أصحابه ، فأدركوهم قبل أن يدخلوا حصنهم ، فقتلوهم وأتوا برءوسهم ، فأمر رسول الله برءوسهم فطرحت في بعض بئار بني خطمة.

وأمر رسول الله رجلين من أصحابه بقطع نخلهم : عبد الله بن سلام وأبا ليلى المازني ، وكان عبد الله بن سلام يقطع غير البرني والعجوة ، وأبو ليلى يقطع العجوة ، فلمّا قطعت العجوة دعون النساء بالعويل وضربن الخدود وشققن الجيوب ، فقال رسول الله : ما لهنّ؟ قيل : يجزعن على قطع العجوة!

وأرسل حييّ إلى رسول الله : يا محمّد ، إنّك كنت تنهى عن الفساد ، فلم تقطع النخل؟ نحن نعطيك الذي سألت ونخرج من بلادك.

فقال رسول الله : لا أقبله اليوم ، ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلّا الحلقة (السلاح).

فقال سلّام لحييّ : اقبل ويحك قبل أن تقبل شرّا من هذا! فأبى حييّ أن يقبل يوما أو يومين ، فلمّا رأى ذلك أبو سعد بن وهب ويامين بن عمير قال أحدهما لصاحبه : وإنّك لتعلم أنّه لرسول الله ، فما تنتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا؟ فنزلا من الليل فأسلما. فأحرزا دماءهما وأموالهما.

وحاصرهم رسول الله خمسة عشر يوما ، ثمّ نزلت اليهود على أنّ لهم ما حملت الإبل إلّا الحلقة ، وقالوا : إنّ لنا ديونا على الناس إلى آجال! فقال رسول الله : تعجّلوا وضعوا.

٤١٧

__________________

ـ فكان لأبي رافع سلّام بن أبي الحقيق على اسيد بن حضير مائة وعشرون دينارا إلى سنة ، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارا ، وأبطل ما فضل (فيعلم أنّه كان قرضا ربويّا).

وحملوا النساء والصبيان ، وخرجوا على بني الحارث بن الخزرج ثمّ على الجبليّة ثمّ على الجسر حتى مرّوا بالمصلى ، ثمّ سوق المدينة ، والنساء في الهوادج عليهن من الحرير والديباج وقطف الخزّ الخضر والحمر ، وقد صفّ الناس ، فجعلوا يمرّون قطارا في إثر قطار على ستمائة بعير! ومرّوا وهم يضربون بالدفوف ويزمّرون بالمزامير ، وعلى النساء المعصفرات وحليّ الذهب ، قد أبرزوا ذلك تجلّدا. ونادى أبو رافع سلّام ابن أبي الحقيق وهو يرفع زمام الجمل : هذا ما كنّا نعدّه لخفض الأرض ، فإن يكن النخل قد تركناها فإنّا نقدم على نخل بخيبر!

وقبض رسول الله الأموال وقبض الحلقة ، فوجد من الحلقة : خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا.

فلمّا غنم رسول الله بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شمّاس فقال له : ادع لي قومك. قال ثابت : الخزرج يا رسول الله؟ قال : الأنصار كلّها. فدعا له الأوس والخزرج.

فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثمّ ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إيّاهم في منازلهم وآثرتهم على أنفسهم ، ثمّ قال : إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ممّا أفاء الله عليّ من بني النضير ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم؟

فتكلّم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا : يا رسول الله بل تقسّمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار : رضينا وسلّمنا يا رسول الله. فقال رسول الله : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار.

ثمّ قسّم رسول الله ما أفاء الله عليه وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار من ذلك الفيء شيئا ، إلّا رجلين كانا محتاجين : سهل بن حنيف وأبا دجانة ، وأعطى سعد بن

٤١٨

__________________

ـ معاذ سيف بن أبي الحقيق ، وكان سيفا مذكورا عندهم. وكان مال سهل بن حنيف وأبي دجانة معروفا يقال له : مال ابن خرشة ، وأعطى الزبير بن العوّام وأبا سلمة بن عبد الأسد : البويلة ، وأعطى حبيب بن سنان : الضرّاطة ، وأعطى عبد الرحمن بن عوف شؤالة ، وأعطى أبا بكر بئر حجر ، وأعطى عمر بئر جرم.

واستعمل رسول الله على أموال بني النضير مولاه أبا رافع (وهذا أوّل ذكر لأبي رافع) وإنّما كان ينفق على أهله من بني النضير إذ كانت خالصة له ، وكان يزرع تحت النخل زرعا كثيرا ، منها قوت أهله سنة من الشعير والتمر لأزواجه وبني عبد المطّلب ، فما فضل جعله في السلاح والخيل. وكانت منها صدقاته ، ومن أموال مخيريق (اليهوديّ الشهيد ببدر) وهي سبعة حوائط : الميثب ، والصافية ، والدلال ، وحنى ، وبرقة ، والأعواف ، والمشربة التي سمّيت بعد بامّ إبراهيم.

وكان ذلك بعد نزول سورة الحشر وفيها قوله ـ سبحانه ـ : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر : ٧ و ٨) ومع ذلك قال عمر لرسول الله : يا رسول الله ألّا تخمّس ما أصبت من بني النضير كما خمّست ما أصبت من بدر؟!

فقال رسول الله : لا أجعل شيئا جعله الله لي من دون المؤمنين كما وقع فيه السهمان للمسلمين ـ مغازي الواقدي ١ : ٣٦٤ ـ ٣٨٠. هذا وهو لم يخمّس في بدر.

وبصورة ضمنيّة تبيّن تأريخ خروج المهاجرين الفقراء من دور الأنصار أيضا.

وقال ابن إسحاق : قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يذكر إجلاء بني النضير :

عرفت ، ومن يعتدل يعرف

وأيقنت حقّا ولم أصدف

٤١٩

ومن قصص الغنائم :

نقل العلامة الحلّي عن السدّي قال : لما فتح الله بنى النضير فغنم أموالهم ،

__________________

عن الكلم المحكم اللّاء من

لدى الله ذي الرأفة الأرأف

رسائل تدرس في المؤمني

ن بهنّ اصطفى أحمد المصطفي

فأصبح أحمد فينا عزيزا

عزيز المقامة والموقف

فيا أيّها الموعدوه سفاها

ولم يأت جورا ولم يعنف

ألستم تخافون أدنى العذا

ب ، وما آمن الله كالأخوف

وأن تصرعوا تحت أسيافه

كمصرع كعب أبي الأشرف

غداة رأى الله طغيانه

وأعرض ، كالجمل الأجنف

فأنزل جبريل في قتله

بوحي إلى عبده ملطف

فدسّ الرسول رسولا له

بأبيض ذي ضبة مرهف

فباتت عيون له معولات

متى ينع كعب لها تذرف

وقلن لأحمد ذرنا قليلا

فإنّا من النوح لم نشتف

فخلّاهم ثمّ قال : اظعنوا

دجورا على رغم الآنف

وأجلى النضير إلى غربة

وكانوا بدار ذوي زخرف

إلى أذرعات ردافى وهم

على كلّ ذي دبر أعجف

سيرة ابن هشام ٣ : ٢٠٧.

وعليه ، فقتل كعب بن الأشرف كان من قبل ، ولعلّ اسمه جاء في خبري أبان والقمي خطأ ، بدلا عن حيي بن أخطب زعيم بني النضير. ولم ننس أنّ الحرب هذه بدأت بعد أن استعان بهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على دية القتيلين من بني كلاب العامريين ، ونصّ التأريخ على أنّه ودّاهما وإن لم يتذكروا ذلك بعد نهاية أمر بني النضير ، وزاد الواقدي : عزل رسول الله سلبهما حتّى بعث به مع ديتهما ـ ١ : ٣٦٤ ـ.

٤٢٠