موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

رجوع الرسول من احد :

قال الواقدي : فلمّا فرغ رسول الله من دفن أصحابه دعا بفرسه فركبه ، وخرج المسلمون حوله ، عامتهم جرحى ، وأكثرهم في بني سلمة وبني عبد الأشهل ... فلمّا كانوا بأصل الحرّة (أول الحجارات السود) قال : اصطفّوا فنثني على الله. فاصطفّ الناس ... فرفع يديه فدعا :

«اللهم لك الحمد كلّه ، اللهم لا قابض لما بسطت ولا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا هادي لمن أضللت ولا مضلّ لمن هديت ، ولا مقرّب لما باعدت ولا مباعد لما قرّبت!

اللهم إنّي أسألك من بركتك ورحمتك ، وفضلك وعافيتك.

اللهم إنّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول!

اللهم إنّي أسألك الأمن يوم الخوف ، والغناء يوم الفاقة ، عائذا بك اللهم من شرّ ما أعطيتنا وشرّ ما منعت منّا. اللهم توفّنا مسلمين.

اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

اللهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذّبون رسلك ويصدّون عن سبيلك.

__________________

ـ ذلك. وقال الواقدي : ثم إن الناس حملوا قتلاهم الى المدينة ، فنادى منادي رسول الله : ردوا القتلى الى مضاجعهم! وكان الناس قد دفنوا قتلاهم في البقيع وغيره فلم يرد أحد أحدا إلّا شماس بن عثمان المخزومي مات عند أمّ سلمة بعد يوم وليلة ولم يدفن بعد فأمر رسول الله أن يرد الى احد فيدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها ـ شرح النهج ١٥ : ٣٩ عن الواقدي وليس فيه.

٣٤١

اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك ، إله الحقّ آمين» (١).

قال : وكان أبو سعيد الخدري يحدّث يقول : كنت من الذين ردّهم رسول الله ولم يجزهم مع المقاتلين من موضع الشيخين (في طريق احد) فلما كان نهار احد وبلغنا مصاب رسول الله وتفرّق الناس عنه ، جئت مع غلمان من بني خدرة (عشيرته) ننظر إلى سلامة رسول الله فنرجع بذلك إلى أهلنا ، فلقيناهم بوادي بطن قناة. فلما نظر إليّ رسول الله قال : سعد بن مالك؟ قلت : نعم ؛ بأبي وامّي! ودنوت منه فقبّلت ركبته وهو على فرسه. فقال : آجرك الله في أبيك.

ثمّ نظرت إلى وجهه فإذا في كلّ وجنة من وجنتيه موضع (حلقة المغفر) مثل الدرهم ، وإذا شجّة عند اصول الشعر (في جبهته) وإذا شفته السفلى تدمى ، وإذا رباعيته اليمنى شظية ، وعلى جرح (جبهته) شيء أسود ، فسألت : ما هذا على وجهه؟ قالوا : حصير محترق. وسألت : من دمّى وجنتيه؟ قيل ابن قميئة. قلت : من شجّه في جبهته؟ قيل : ابن شهاب. قلت : من أصاب شفته؟ قيل : عتبة (بن أبي وقاص الزهري أخو سعد) فجعلت أعدو بين يديه (٢).

ونقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال :

وانصرف رسول الله إلى المدينة ، فمرّ بدور بني الأشهل وبني ظفر فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ ، فترقرقت عينا رسول الله وبكى ثمّ قال : لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم! فلمّا سمعها سعد بن معاذ واسيد بن حضير قالا : لا تبكينّ امرأة

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣١٤ و ٣١٥.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٧ و ٢٤٨.

٣٤٢

حميمها حتى تأتي فاطمة فتسعدها (١).

قال الواقدي : وخرج النساء ينظرن الى سلامة رسول الله.

فروى عن أمّ عامر من بني عبد الأشهل قالت : كنّا في نوح على قتلانا إذ قيل لنا : قد أقبل النبيّ ، فخرجنا ننظر إليه ، فنظرت إليه والدرع عليه فقلت له : كلّ مصيبة بعدك جلل!

وكان رسول الله على فرسه وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه ، إذ خرجت امّه تعدو نحوه ، فقال سعد : يا رسول الله امّي! فقال رسول الله : مرحبا بها! فدنت حتى تأمّلت رسول الله فقالت : أمّا إذ رأيتك سالما فقد أشوت (٢) المصيبة.

فعزّاها رسول الله بابنها عمرو بن معاذ (أخي سعد) فقال لها :

يا أمّ سعد أبشري وبشّري أهليهم أنّ قتلاهم قد ترافقوا في الجنّة جميعا ، وقد شفّعوا في أهليهم (وكانوا اثني عشر رجلا).

فقالت : رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟! يا رسول الله ادع لمن خلّفوا.

فقال : اللهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم ، وأحسن الخلف على من خلّفوا.

ثمّ قال لسعد بن معاذ : خلّ يا أبا عمرو الدابّة. فخلّى الفرس ، وتبعه الناس. فقال رسول الله له : يا أبا عمرو ، إنّ الجراح في أهل دارك فاشية وليس فيهم مجروح إلّا يأتي يوم القيامة جرحه كأغرز ما كان ، اللون لون دم والريح ريح

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٣ ، وصدر الخبر عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام. وزاد الصدوق في الفقيه : فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميّت ولا يبكوه حتى يبدءوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه ، فهم الى اليوم على ذلك ١ : ١٨٣ ح ٥٥٣.

(٢) اشوت : قلّت.

٣٤٣

المسك ، فمن كان مجروحا فليقرّ في داره وليدا وجرحه ، ولا يبلغ معي بيتي ، عزمة منّي!

فنادى فيهم سعد : عزمة رسول الله ، ألّا يتّبع رسول الله جريح من بني عبد الأشهل! فتخلّف كلّ مجروح ، وإنّ فيهم لثلاثين جريحا. ولكن سعد بن معاذ مضى معه إلى بيته (١).

وروى عن أبي سعيد الخدري قال : جعلت أعدو بين يديه حتّى انزل ببابه يتّكئ على السعدين : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، ورأيت ركبتيه مجروحتين (٢).

وروى المفيد في «الإرشاد» قال : فاستقبلته فاطمة عليها‌السلام ومعها إناء فيه ماء ، فغسل به وجهه. ولحقه أمير المؤمنين وقد خضّب الدم يده إلى كتفه ، ومعه ذو الفقار ، فناوله فاطمة عليها‌السلام وقال لها : خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم ، وأنشأ يقول :

أفاطم هاك السيف غير ذميم

فلست برعديد ولا بمليم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد

وطاعة ربّ بالعباد عليم

أميطي دماء القوم عنه فإنّه

سقى آل عبد الدار كأس حميم

فقال رسول الله : خذيه يا فاطمة ، فقد أدّى بعلك ما عليه ، وقتل الله بسيفه صناديد قريش (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣١٥ و ٣١٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٨.

(٣) الإرشاد ١ : ٩٠ ، وقد مرّ عن الطبرسي والواقدي : حضور الزهراء إلى احد ، فلعلّها رجعت قبل رجوعهم فاستقبلته. وقد روى البيتين الأوليّين عن محمّد بن إسحاق ، المعتزلي في شرح النهج ١٥ : ٣٥ ، وليس في المطبوع من ابن هشام.

٣٤٤

وقال ابن إسحاق : فلمّا رجع سعد بن معاذ واسيد بن حضير إلى دور بني عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يتحزّمن ويذهبن (؟) فيبكين على عمّ رسول الله (١).

وقال الواقدي : ورجع (سعد بن معاذ) إلى نسائه فساقهنّ إلى بيت رسول الله (٢) ويقال : وجاء معاذ بن جبل بنساء بني سلمة ، وجاء عبد الله بن رواحة بنساء بني الحارث بن الخزرج (٣).

وروى عن أبي سعيد الخدري قال : فلمّا غربت الشمس وأذّن بلال بالصلاة خرج رسول الله على مثل تلك الحال يتوكّأ على السعدين ، ثمّ انصرف إلى بيته (٤).

قال : فبكين النساء بين المغرب والعشاء (٥) وبقي الناس في المسجد يوقدون النيران يكمّدون بها الجراح.

ثمّ أذّن بلال بالعشاء حين غاب الشفق ، وكان رسول الله نائما فلم يخرج ، فجلس بلال عند بابه حتى ذهب ثلث الليل ثمّ ناداه : الصلاة يا رسول الله (٦).

قال : وقام رسول الله حين فرغ من النوم لثلث الليل فسمع البكاء فقال : ما هذا؟ فقيل : نساء الأنصار يبكين على حمزة. فقال لهنّ رسول الله : رضي الله عنكنّ وعن أولادكنّ. وأمر النساء أن يرجعن إلى منازلهنّ. قالت أمّ سعد بن معاذ : فرجعنا إلى بيوتنا معنا رجالنا (٧).

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ١٠٥.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣١٦ فكان حاضرا للصلاة.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣١٧.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٨.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ٣١٦.

(٦) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٨.

(٧) مغازي الواقدي ١ : ٣١٦ و ٣١٧.

٣٤٥

وقال الطبرسي : فلمّا سمع رسول الله الواعية على حمزة على باب المسجد ـ وهو عند فاطمة ـ قال لهنّ : ارجعن ـ رحمكن الله ـ فقد آسيتنّ بأنفسكنّ (١) ورواه ابن إسحاق بسنده عن بعض رجال بني عبد الأشهل. ورواه ابن هشام عن أبي عبيدة (٢).

فروى الواقدي بسنده قال : لمّا كان ليلة الأحد ... وبلال جالس على باب النبيّ وقد أذّن ، وهو ينتظر خروج النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلم ـ. فلمّا خرج نهض إليه عبد الله بن عمرو بن عوف المزنيّ فقال له : يا رسول الله ، أقبلت من أهلي حتى إذا كنت بملل ، فإذا قريش قد نزلوا (فيه) فقلت (في نفسي) : لأدخلنّ فيهم ولأسمعنّ من أخبارهم. فجلست معهم ، فسمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون : ما صنعنا شيئا ، أصبتم شوكة القوم وحدّتهم ، فارجعوا نستأصل من بقي! وصفوان يأبى ذلك عليهم (٣).

أمّا عن كيفيّة خروجه لصلاة العشاء ففي روايته عن أبي سعيد الخدري قال : فخرج (للعشاء) فإذا هو أخفّ في مشيته منه حين دخل بيته ، فصلّيت معه العشاء ، ثمّ رجع إلى بيته يمشي وحده ، وقد صفّ له الرجال ما بين مصلاه إلى بيته حتى دخل بيته ، وبقي وجوه الأوس والخزرج على باب النبيّ يحرسونه ، خوفا من

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٣.

(٢) ابن هشام ٣ : ١٠٥.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣٢٦ ضمن تفسيره لآيات آل عمران المشيرة إلى غزوة حمراء الأسد ، ولكن النص هكذا : «لمّا كان في المحرّم (؟!) ليلة الأحد» وليلة الأحد مساء يوم احد لم تكن في غير شوّال ، ولم يعلّق على الخبر بشيء ، وفيه أنّه «لمّا سلّم أمر بلالا فنادى في الناس بطلب عدوّهم» أي بعد صلاة العشاء ليلا.

٣٤٦

أن تكرّ عليهم قريش (١). وهم : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، وحباب بن المنذر ، وأوس بن خوليّ ، وقتادة بن النعمان ، وعبيد بن أوس (٢).

ونقل الطبرسي فيه عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن أبي نصير عن الصادق عليه‌السلام قال : وكان قزمان قد قتل ستّة أو سبعة من المشركين وقاتل قتالا شديدا حتى أثخنته الجراح فاحتمل إلى دور بني ظفر ، فقال له المسلمون : أبشر يا قزمان! فقد أبليت اليوم! فقال : بم تبشّروني؟! فو الله ما قاتلت إلّا عن أحساب قومي ، ولو لا ذلك ما قاتلت! ولمّا اشتدّت عليه الجراحة أخذ من كنانته مشقصا فقتل به نفسه!

فأتي رسول الله وقيل : إنّ قزمان استشهد ، وذكر لرسول الله حسن معونته لإخوانه ، فقال يفعل الله ما يشاء ، إنّه من أهل النار! فقيل : إنّه قتل نفسه! (٣)

__________________

(١) ورجعت إلى أهلي فأخبرتهم بسلامة رسول الله فحمدوا الله على ذلك وناموا ـ ١ : ٢٤٨ و ٢٤٩.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٣٤.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٨٢ ، ١٨٣. وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٩٣ عن عاصم بن عمر بن قتادة الظّفري (من بني ظفر) قال : لمّا كان يوم احد كان فينا رجل ذو بأس يقال له قزمان لا يدرى ممّن هو ، قاتل قتالا شديدا حتى قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ، فأثبتته الجراحة ، فاحتمل إلى دور بني ظفر ، وجعل رجال من المسلمين يقولون له : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان ، فابشر. قال : بما ذا أبشر؟ فو الله إن قاتلت إلّا عن أحساب قومي ، ولو لا ذلك ما قاتلت. ولمّا اشتدّت عليه جراحته أخذ من كنانته سهما فقتل به نفسه ـ ٣ : ١٠٣ و ١٠٤.

وقال الواقدي : وكان قزمان لا يدرى ممّن هو معدودا في بني ظفر مقلّا لا زوجة له ولا ولد ، وكان شجاعا ، وشهد احدا فقاتل قتالا شديدا فقتل ستّة أو سبعة

٣٤٧

فقال : أشهد أنّي رسول الله.

وروى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري الظفري (من بني ظفر) عن أبيه عن جدّه قال : كان منهم رجل يدعى يزيد بن حاطب بن اميّة ، أصابته جراحة يوم احد ، فاتي به إلى دار قومه وهو في سكرات الموت ، فاجتمع إليه المسلمون من أهل بيته : أبشر يا بن حاطب بالجنّة!

وكان أبوه حاطب منافقا فاظهر يومئذ نفاقه فقال : بأي شيء تبشّرونه؟

بجنّة من حرمل (حول قبره)؟ والله غررتم هذا الغلام عن نفسه! (١).

وقال الواقدي : لمّا رجع به قومه إلى منزله ، رأى أبوه أهل الدار يبكون عنده ، ولم يكن يقرّ بالإسلام فقال لهم : والله أنتم صنعتم به هذا! قالوا له : وكيف؟

قال : غررتموه من نفسه حتى خرج فقتل ، ثم صرتم تعدونه جنّة يدخل فيها؟! (أجل) جنّة من حرمل (حول قبره) (٢).

قال : ويقال : إنّ عبد الله بن عبد الله بن ابيّ رجع وهو جريح وبات يكوي الجراحة بالنار وجعل أبوه يقول : ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمّد وأطاع الولدان ؛ والله لكأنّي كنت أنظر إلى هذا! وابنه يقول : صنع

__________________

ـ وأصابته الجراح. فقيل له : يا أبا الغيداق هنيئا لك الشهادة! قال : بم تبشّرون؟ قالوا : بشّرناك بالجنّة ، قال : والله ما قاتلت على جنّة ولا نار إنّما قاتلت على الأحساب! ثمّ أخرج من كنانته سهما فجعل يتوجّأ به نفسه ، ولمّا أبطأ عليه أخذ السيف فاتّكأ عليه حتى خرج من ظهره! فذكر ذلك للنبيّ فقيل : قزمان قد أصابته الجراح ، فهو شهيد؟ قال : هو من أهل النار ـ ١ : ٢٦٣ و ٢٦٤.

(١) ابن هشام ٣ : ٩٣.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٦٣.

٣٤٨

الله لرسوله وللمسلمين خيرا (١).

قال : ويقال : إنّ أبا سلمة بن عبد الأسد (زوج أمّ سلمة) أصابه جرح باحد ، فلم يزل جريحا حتى مات به بعد ذلك (بسنة) (٢).

غزوة حمراء الأسد (٣) :

نقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال : خرج أبو سفيان (بالمشركين) حتى إذا انتهى إلى الرّوحاء (٤) فأقام بها وهو يهمّ بالرجعة على رسول الله ويقول : قد قتلنا صناديد القوم ، فلو رجعنا استأصلناهم (٥).

وقال في «مجمع البيان» : لمّا انصرف أبو سفيان وأصحابه من احد فبلغوا الرّوحاء ، ندموا على انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا فقالوا : لا محمّدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق منهم إلّا الشريد تركتموهم ، فارجعوا فاستأصلوهم (٦).

وقال القمي في تفسيره : نزلت قريش الروحاء ، فقال عكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد : نرجع فنغير على المدينة فقد قتلنا سراتهم وكبشهم (٧).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣١٧.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٠٠.

(٣) حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال إلى مكّة ـ مجمع البيان ٢ : ٨٨٦.

(٤) الرّوحاء : كانت لعديّ بن حاتم الطائي وهي على أربعين ميلا من المدينة إلى مكّة.

(٥) إعلام الورى ١ : ١٨٤.

(٦) مجمع البيان ٢ : ٨٨٦.

(٧) تفسير القمي ١ : ١٢٥.

٣٤٩

قال : ونزل جبرئيل على رسول الله فقال له : إنّ الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا يخرج معك إلّا من به جراحة! (١)

وقال الطبرسي : فبلغ ذلك الخبر رسول الله فأراد أن يرهب العدوّ ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة. فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال :

«ألا عصابة تشدّد لأمر الله تطلب عدوّها؟ فإنها أنكى للعدو وأبعد للسمع» (٢).

وقال القمي : فأمر رسول الله مناديا ينادي : يا معشر المهاجرين والأنصار ، من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم تكن به جراحة فليقم! (٣).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٨٨٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٢٥.

[لجوء ابن عمّ عثمان إليه]

وهنا قبل أن نخرج بالجرحى من صحابة الرسول إلى حمراء الأسد ، حادث حدث صباحا :

كان ممّن انهزم من المشركين يوم احد في الحملة الاولى وقبل النكسة : معاوية بن المغيرة ابن أبي العاص (ابن عمّ عثمان بن عفّان بن أبي العاص) ولكنّه ضلّ الطريق.

قال الواقدي : فنام قريبا من المدينة ، فلمّا أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفّان فضرب بابه ، فقالت امرأته أمّ كلثوم بنت رسول الله : ليس هو هاهنا هو عند رسول الله.

فقال معاوية : فأرسلي إليه فإنّ له عندي ثمن بعير اشتريته منه عام أوّل فجئته بثمنه ، وإلّا ذهبت.

فأرسلت إلى عثمان فجاء ، فلمّا رآه قال : ويحك أهلكتني وأهلكت نفسك ، ما جاء بك؟! قال : يا بن عمّ لم يكن لي أحد أقرب إليّ ولا أحقّ منك. فأدخله عثمان في ناحية البيت.

وقال الرسول لأصحابه : إنّ معاوية (ابن المغيرة) قد أصبح بالمدينة فاطلبوه.

٣٥٠

__________________

ـ فطلبوه فلم يجدوه.

وخرج عثمان إلى النبيّ يريد أن يأخذ له أمانا. وقال بعض الصحابة لبعض : اطلبوه في بيت عثمان. فدخلوا بيت عثمان وسألوا عنه أمّ كلثوم. فأشارت إلى حمارة لهم (ثلاثة أعواد تربط رءوسها ويخالف بين أرجلها وتعلّق بها الإداوة ليبرد الماء) فاستخرجوه من تحتها وانطلقوا به إلى النبيّ وعثمان جالس عند رسول الله ، فلمّا رآه عثمان قد اتي به قال : والذي بعثك بالحقّ ما جئتك إلّا أن أسألك أن تؤمّنه ، فهبه لي يا رسول الله. فوهبه له وأمّنه مؤجّلا بثلاثة أيّام فإن وجد بعدهنّ قتل! فخرج عثمان فاشترى له بعيرا وجهّزه وقال له : ارتحل ... وخرج عثمان مع المسلمين إلى حمراء الأسد. فأقام معاوية حتى كان اليوم الثالث ثمّ ارتحل وخرج ـ ١ : ٣٣٣.

واختصر خبره ابن هشام في السيرة ٣ : ١١١ قال : ويقال : كان معاوية بن المغيرة (ابن أبي العاص) لجأ إلى عثمان بن عفّان (ابن أبي العاص) فاستأمن له رسول الله فأمّنه على أنّه إن وجد بعد ثلاث قتل! فأقام ثلاثا وتوارى ـ ٣ : ١١١.

وروى خبره الكليني في الجزء الأوّل من فروع الكافي : ٦٩ كما في بحار الأنوار ٢٢ : ١٦٠ عن عليّ بن إبراهيم القمي بسنده عن يزيد بن خليفة الحارثي الخولاني قال : كنت حاضرا عند أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام إذ سأله عيسى بن عبد الله (القمي الأشعري) عن خروج النساء للجنازة ، فقال عليه‌السلام : كان المغيرة بن ابي العاص (كذا) ممّن ندر رسول الله دمه ، فآوى (عثمان) عمّه وقال لابنة رسول الله : لا تخبري أباك بمكانه! وكأنه لا يوقن أنّ الوحي يأتي محمّدا! فقالت : ما كنت لأكتم عن رسول الله عدوّه! وجعله بين مشجب له ولحّفه بقطيفة. وأتى رسول الله الوحي فأخبره بمكانه ...

وروى الخبر القطب الراوندي في الخرائج أخرجه من طريق آخر عن يزيد بن خليفة كما فيما مرّ ، إلّا أنّ فيه : أنّ عثمان خرج إلى رسول الله فاستأمنه لعمّه ، بينما في الكافي : أنّه أخذ

٣٥١

وفي خبر الطبرسي عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : فلمّا كان الغد من يوم احد ، نادى منادي رسول الله في المسلمين : (أن يخرجوا على علّتهم) فخرجوا على علّتهم وما أصابهم من القرح والجرح. وقدّم عليّا براية المهاجرين. حتى انتهوا إلى حمراء الأسد (١).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : ونادى منادي رسول الله : ألا لا يخرجنّ أحد إلّا من حضر يومنا بالأمس. فانتدبت عصابة منهم مع ما بهم من القراح والجراح الذي أصابهم يوم احد ... فخرج في سبعين رجلا ، حتى بلغ حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال (٢).

قال القمي : فوافاهم رجل خرج من المدينة ، فسألوه الخبر فقال : تركت محمّدا وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جدّ الطلب (٣).

وفي خبر الطبرسي عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : والتقى بأبي سفيان معبد الخزاعي فقال له : ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد : قد والله تركت محمّدا وأصحابه وهم يحرّقون عليكم ، وهذا عليّ بن أبي طالب قد أقبل على مقدّمته في الناس ، وقد اجتمع عليه من كان تخلّف عنه ، وقد دعاني ذلك إلى أن قلت شعرا في ذلك.

قال أبو سفيان : وما قلت؟ قال : قلت :

__________________

ـ بيد عمّه وأتى به النبيّ واستأمنه له. وفي خبر الخرائج أنّه كان بعد يوم الخندق دون احد ـ كما في بحار الأنوار ٢٢ : ١٥٨.

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٣ ، ١٨٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٨٨٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٢٥.

٣٥٢

كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردي باسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ولا خرق معازيل (١)

فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلة

لمّا سموا برئيس غير مخذول

وقلت : ويل ابن حرب من لقائكم

إذا تغطمطت البطحاء بالجيل (٢)

إني نذير لأهل البسل ضاحية

لكل ذي إربة منهم ومعقول (٣)

من جيش أحمد لا وخش تنابلة

وليس يوصف ما أثبتّ بالقيل (٤)

فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه (٥).

__________________

(١) تردي : تسرع. التنابلة : القصار الضعاف. معازيل : الأعزل من السلاح.

(٢) تغطمطت : ماجت. الجيل : الخيل.

(٣) البسل : الشجاعة.

(٤) الوخش : الأوباش.

(٥) إعلام الورى ١ : ١٨٤ وروى بيتين من الشعر. وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٨ خبر معبد الخزاعي هنا ، وكرّر ذكره ومروره بالرسول والمسلمين في بدر الصفراء (الموعد) وبيتين من شعر آخر له ٣ : ٢٢١. وكذلك الواقدي في المغازي ١ : ٣٣٩ و ٣٨٩ فهل تكرّر دوره المشابه؟

وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٨ عن عبد الله بن أبي بكر قال : إنّ أبا سفيان ومن معه لمّا كانوا بالروحاء قالوا : أصبنا حدّ أصحابه وأشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرّنّ على بقيّتهم فلنفرغنّ منهم. وأجمعوا على الرجعة إلى رسول الله وأصحابه ـ ٣ : ١٠٨.

قال ابن إسحاق : وكان يوم احد يوم السبت للنصف من شوّال ، فلمّا كان الغد يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوّال ، أذن مؤذّن رسول الله في الناس بطلب العدو ، وأن : لا يخرجنّ معنا أحد إلّا أحد حضر يومنا بالأمس! فخرج رسول الله حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال (١٤ كيلومترا تقريبا) فأقام بها الاثنين

٣٥٣

__________________

ـ والثلاثاء والأربعاء.

ومرّ به معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو مشرك فقال لرسول الله : يا محمّد ، أما والله لقد عزّ علينا ما أصابك ، ولوددنا أن الله عافاك فيهم.

ثمّ خرج ورسول الله بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرّوحاء.

فلمّا رأى أبو سفيان معبدا قال له : ما وراءك يا معبد؟

قال : محمّد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم تحرّقا ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما ضيّعوا ، فيهم من الحنق عليكم ، شيء لم أر مثله قط!

قال أبو سفيان : ويحك ما تقول؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصي الخيل!

قال : لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصل بقيّتهم! قال : فإنّي أنهاك عن ذلك! ولقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم شعرا. قال : وما قلت؟ قال : قلت : (الأبيات) فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ـ ٣ : ١٠٦ ـ ١٠٩.

وروى ابن هشام عن أبي عبيدة : أنّ أبا سفيان لمّا انصرف من احد وأراد الرجوع إلى المدينة ليستأصل بقيّة أصحاب رسول الله ، قال له صفوان بن اميّة : إنّ القوم قد حربوا ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، فارجعوا ، فرجعوا ـ ٣ : ١١٠.

ومرّ به ركب من عبد القيس ، قال لهم : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة. قال : ولم؟ قالوا : نريد الميرة. قال : فهل أنتم مبلّغون عنّي محمّدا رسالة ارسلكم بها إليه؟ واحمّل لكم هذه (العير) غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا : نعم. قال : فإذا وافيتموه فأخبروه : أنّا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيّتهم.

فمرّ الركب برسول الله وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ... وقال : والذي نفسي بيده لقد سوّمت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا

٣٥٤

__________________

ـ كأمس الذاهب ـ ٣ : ١٠٧ ـ ١١٠.

وقال الواقدي : كان وجوه الأوس والخزرج : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، وحباب ابن المنذر وأوس بن خوليّ ، وقتادة بن النعمان وعبيد بن أوس في عدّة منهم ، كانوا قد باتوا في المسجد على باب رسول الله يحرسونه (ليلة الأحد لثمان خلون من شوّال).

فلمّا صلّى صلاة الصبح وانصرف منها أمر بلالا أن ينادي : إنّ رسول الله يأمركم بطلب عدوّكم ، ولا يخرج معنا إلّا من شهد القتال بالأمس!

فخرج سعد بن معاذ راجعا إلى داره يأمر قومه بالمسير ، هذا والجراح فاشية في الناس عامّة! فجاء سعد بن معاذ فقال : إنّ رسول الله يأمركم أن تطلبوا عدوّكم.

وجاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة فأمرهم بالمسير ، فتلبّسوا ولحقوا.

وجاء (أبو) قتادة أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال لهم : هذا منادي رسول الله يأمركم بطلب عدوّكم. فوثبوا إلى سلاحهم وما عرّجوا على جراحاتهم ...

واستأذنه رجال لم يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم. فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غير جابر بن عبد الله الأنصاري فإنّه قال لرسول الله : يا رسول الله ، إنّ مناديا نادى : أن لا يخرج معنا إلّا من حضر القتال بالأمس ، وقد كنت حريصا على الخروج والحضور (بالأمس) ولكنّ أبي خلّفني على أخوات لي وقال : يا بنيّ لا ينبغي لي ولك أن ندعهنّ ولا رجل عندهن ، وأخاف عليهنّ وهنّ نسيّات ضعاف ، وأنا خارج مع رسول الله لعلّ الله يرزقني الشهادة. فتخلّفت عليهن ، فاستأثره الله عليّ بالشهادة وقد كنت رجوتها ، فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك! فأذن له رسول الله صلّى الله عليه [وآله].

ودعا رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] ـ بلوائه وهو معقود لم يحلّ من الأمس فدفعه إلى عليّ عليه‌السلام ... وخرج رسول الله وهو مجروح في وجهه أثر الحلقتين ومشجوج في جبهته في اصول الشعر ، وقد انكسرت رباعيته ، وجرحت شفته من باطنها ، وهو متوهّن منكبه

٣٥٥

__________________

ـ الأيمن بضربة ابن قميئة ، وركبتاه مجحوشتان ... فدخل المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا. ثمّ دعا بفرسه على باب المسجد ... فركب وعليه الدرع والمغفر ما يرى منه إلّا عيناه!

ثمّ قال لطلحة بن عبيد الله : ترى (أين) القوم الآن؟ قال : هم بالسيّالة. فقال رسول الله : ذلك (هو) الذي ظننت ، أما إنّهم يا طلحة لن ينالوا منّا مثل أمس حتى يفتح الله مكّة علينا!

وبعث رسول الله ثلاثة نفر من أسلم طليعته في آثار القوم ، سليطا ونعمان ابني سفيان السهمي الدارمي ـ ومعهما ثالث لم يسمّ ـ ولحقا القوم بحمراء الأسد فبصروا بهما فأصابوهما ـ ١ : ٣٣٧.

فروى عن بكير بن مسمار قال : إنّما نزل المشركون بحمراء الأسد في أوّل الليل ساعة ، ثمّ رحلوا وتركوا أبا عزة (عمرو بن عبد الله الجمحي) نائما مكانه ، حتى لحقه المسلمون نهارا وهو منتبه يتلفّت يمينا وشمالا ، فأخذه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري ـ ١ : ٣٠٩.

فروى عن سعيد بن المسيّب أنّه قال للنبيّ : يا محمّد ، إنّما خرجت مكرها ولي بنات فامنن عليّ!

فقال رسول الله : أين ما أعطيتني من العهد والميثاق ، لا والله لا تمسح عارضيك بمكّة تقول : سخرت بمحمّد مرّتين! ١ : ١١١ وقال : إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين! ثمّ أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه ١ : ٣٠٩.

وعسكر هناك واقبروا (الأخوين الرسولين) في قبر واحد فقيل لهما : القرينان. وكان عامّة زاد المسلمين التمر حمّل منه سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا ، وساق جزرا فنحروا في يوم الإثنين والثلاثاء. وكان رسول الله يأمرهم في النهار بجمع الحطب فإذا أمسوا أمرهم أن يوقدوا النيران فكانوا يوقدون خمسمائة نار ، حتى ذهب ذكر نيرانهم ومعسكرهم في كلّ ـ

٣٥٦

__________________

ـ وجه ، وكان ذلك ممّا كبت الله به عدوّهم ١ : ٣٣٨.

قال : وكان ممّا ردّ الله به أبا سفيان وأصحابه كلام صفوان بن اميّة إذ قال لهم : يا قوم لا تفعلوا ، فإنّ القوم قد حربوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلّف من الخزرج ، فارجعوا والدولة لكم ، فإنّي لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة لهم عليكم ـ ١ : ٣٣٩ وقال لهم : قد أصبتم القوم ، فانصرفوا ، ولا تدخلوا عليهم وأنتم كاللّون ، ولكم الظفر ، وإنّكم لا تدرون ما يغشاكم ، وقد ولّيتم يوم بدر فما تبعوكم والظفر لهم عليكم ١ : ٢٩٨.

وانتهى معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى النبيّ وهو مشرك ولكنّه سلم للإسلام ، فقال له : يا محمّد ، لقد عزّ علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أنّ الله أعلى كعبك (شرفك) وأنّ المصيبة كانت بغيرك! ١ : ٣٣٨.

ثمّ مضى معبد حتى وجد أبا سفيان وقريشا بالرّوحاء وهم مجمعون على الرجوع وعكرمة بن أبي جهل يقول : ما صنعنا شيئا أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم من قبل أن يكون لهم وقر! فلمّا بدا معبد قال أبو سفيان : هذا معبد وعنده الخبر ، ما وراءك يا معبد؟

قال معبد : تركت محمّدا وأصحابه خلفي يتحرّقون عليكم بمثل النيران ، وقد أجمع معه من تخلّف عنه بالأمس من الخزرج والأوس ، وتعاهدوا أن لا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم! وغضبوا لقومهم ولمن أصبتم من أشرافهم غضبا شديدا! قالوا : ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أرى أن ترتحلوا حتى تروا نواصي الخيل ، ولقد حملني ما رأيت منهم أن قلت شعرا :

كادت تهد من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تعدو باسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ، ولا ميل معازيل

فقلت : ويل ابن حرب من لقائهم

إذا تغطمطت البطحاء بالجيل

٣٥٧

__________________

ـ فانصرف القوم سراعا خائفين من الطلب لهم. ومرّ بأبي سفيان نفر من عبد القيس يريدون المدينة ، فقال لهم : هل أنتم مبلغو محمّد وأصحابه ما ارسلكم به على أن اوقر لكم أباعركم (هذه) زبيبا غدا بعكاظ إذا جئتموني؟ قالوا : نعم. قال : حيثما لقيتم محمّدا وأصحابه فأخبروهم : أنّا قد أجمعنا (على) الرجعة إليهم! وانطلقوا.

وقدم الركب على النبيّ وأصحابه بالحمراء فأخبروهم بالذي أمرهم أبو سفيان ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.

وأرسل معبد رجلا من خزاعة إلى رسول الله يعلمه : أن قد انصرف أبو سفيان وأصحابه خائفين وجلين. فانصرف رسول الله راجعا إلى المدينة ١ : ٣٤٠ فيقال : إنّ رسول الله قال : نهاهم صفوان بن اميّة ١ : ٢٩٨. أو قال : أرشدهم صفوان وما هو برشيد. ثمّ قال : والذي نفسي بيده! لقد سوّمت لهم الحجارة ، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب! ١ : ٣٣٩.

[باقي خبر ابن عمّ عثمان]وقال ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١١٠ : وأخذ رسول الله قبل رجوعه إلى المدينة معاوية ابن المغيرة بن أبي العاص بن اميّة ، وهو أبو عائشة أم عبد الملك بن مروان ـ بعث عليه زيد ابن حارثة وعمّار بن ياسر وقال لهما : إنّكما ستجدانه بمكان كذا وكذا ، فوجداه فقتلاه ـ ٣ : ١١٠ و ١١١.

وقال الواقدي : وأقام معاوية بن المغيرة بالمدينة حتى كان اليوم الثالث ، فجلس على راحلته وخرج ، حتى كان في أوائل وادي العقيق (وكان رسول الله قريبا منه) فقال : إنّ معاوية قد أصبح قريبا فاطلبوه.

فخرج الناس في طلبه ، حتى أدركوه في اليوم الرابع ، أدركه عمّار بن ياسر وزيد بن حارثة بالجمّاء ... ويقال : أدركاه بثنيّة الشريد على ثمانية أميال من المدينة (وعليه فهو قريب من حمراء الأسد) فاتّخذاه غرضا فلم يزالا يرميانه بالنبل والحجارة حتى مات ١ :٣٣٣ و ٣٣٤.

٣٥٨

قال القمي : وقال أبو سفيان : هذا النكد والبغي ، قد ظفرنا بالقوم وبغينا ، والله ما أفلح قوم قطّ بغوا!

ووافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي ، فقال أبو سفيان : أين تريد؟ قال : المدينة لأمتار لأهلي طعاما. قال : هل لك أن تمرّ بحمراء الأسد وتلقى أصحاب محمّد وتعلمهم أنّ حلفاءنا وموالينا من الأحابيش قد وافوا حتى يرجعوا عنّا ، ولك عندي عشرة قلايص (من الإبل) أملؤها زبيبا (وتمرا؟!) قال : نعم.

فوافى من غد ذلك اليوم حمراء الأسد فقال لأصحاب محمّد : أين تريدون؟ قالوا : قريشا. قال : ارجعوا ، فإنّ قريشا قد اجنحت إليهم حلفاؤهم ومن كان تخلّف عنهم ، وما أظنّ [الّا أن] أوائل القوم قد طلعوا عليكم الساعة! فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل (١).

__________________

ـ وجاء في الخبرين عن «فروع الكافي» و «الخرائج» الذين مرّ صدرهما اسم المدركين لهذا الرجل ، مع الاختلاف في اسمه واسمهما : فاسم الرجل جاء ـ كما مرّ ـ المغيرة بن أبي العاص (عم عثمان لا معاوية بن المغيرة ، ابن عمّه) وجاء اسم الرجلين المدركين له : زيد بن حارثة وعمّار ، ولكن في الخبرين : ففي خبر «الكافي» : فانتهى إلى شجرة سمرة فاستظلّ بها ، فأتى رسول الله الوحي فأخبره بذلك ، فدعا عليّا عليه‌السلام فقال له : خذ سيفك فانطلق أنت وعمّار فأت المغيرة بن ابي العاص تحت شجرة كذا وكذا. وفي خبر «الخرائج» : فأتى شجرة فجلس تحتها فجاء الملك فأخبر رسول الله بمكانه ، فبعث إليه رسول الله زيدا والزبير وقال لهما : ائتياه في مكان كذا وكذا فاقتلاه. وكان رسول الله قد آخى بين زيد والحمزة ، فقال زيد للزبير : إنّه ادّعى أنّه قتل أخي حمزة فاتركني أقتله فتركه الزبير فقتله زيد. الخرائج والجرائح ١ : ٩٤ ـ ٩٦ وفروع الكافي ٣ : ٢٥١ ح ٨ وفي التهذيب ٣ : ٣٣٣ ح ٦٩.

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٥ و ١٢٦. ويذكر له دور مثل هذا في بدر الأخيرة ، وفي حرب الأحزاب : الخندق. فهل تكرّر دوره المشابه أيضا؟

٣٥٩

وفي خبر الطبرسي عن كتاب أبان الأحمر البجلي الكوفي قال : فمرّ به ركب من عبد القيس يريدون الميرة من المدينة ، فقال لهم أبو سفيان : أبلغوا محمّدا : أنّي أردت الرجعة إلى أصحابه لأستأصلهم ، واوقر لكم ركابكم زبيبا إذا وافيتم عكاظ!

فأبلغوا ذلك إلى رسول الله وقد بلغ حمراء الأسد ، فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل (١).

قال القمي : ونزل جبرئيل على رسول الله فقال : ارجع يا محمّد ، فإنّ الله قد أرهب قريشا ومرّوا لا يلوون على شيء!

فرجع رسول الله إلى المدينة. وأنزل الله عليه (الآيات من آل عمران) (٢).

وفي خبر الطبرسي عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : ورجع النبيّ إلى المدينة يوم الجمعة (٣).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٤.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٢٦.

(٣) فروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١١١ عن ابن شهاب الزهري قال : كان لعبد الله ابن ابيّ ابن سلول مقام يقومه كلّ جمعة ، بين يدي رسول الله إذا جلس يوم الجمعة يخطب الناس ، قام فقال : أيّها الناس ، هذا رسول الله بين أظهركم ، أكرمكم الله وأعزّكم به ، فانصروه وعزّروه ، واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس. فلمّا صنع يوم احد ما صنع إذ رجع بالناس ، وقام (يوم الجمعة) يفعل ذلك كما كان يفعله! أخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا له : اجلس أيّ عدوّ الله! لست أهلا لهذا وقد صنعت ما صنعت! فخرج يتخطّى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأنّما قلت بجرا (هجرا) أن قمت أشدّ أمره!

وبباب المسجد لقيه رجل من الأنصار فقال له : ويلك ما لك؟ قال : قمت أشدّ أمره فوثب عليّ رجال من أصحابه يجذبونني ويعنّفونني لكأنّما قلت بجرا أن قمت أشد أمره! فقال

٣٦٠