موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

قلت : كسرت رباعيته كما يقول هؤلاء؟ قال : لا والله ولكنّه شجّ في وجهه .. وقيل له : ألا تدعو عليهم؟! قال : اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون. قلت : فالغار في احد الذي يزعمون أنّ رسول الله صار إليه؟ قال : والله ما برح مكانه.

وروى الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : يروى لنا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كسرت رباعيته؟ فقال : لا ، ولكنّه شجّ في وجهه (١).

__________________

عبدالرحمن : شهدت بدرا ولم تشهد ، وثبتّ يوم احد وولّيت عنه ١ : ٢٧٨.

ونظر عمر إلى عثمان فقال : هذا ممّن عفا الله عنه .. كان تولّى يوم التقى الجمعان ١ : ٢٧٩.

وحضر عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي الشافعي البغدادي (ت ٦٥٦) عند السيّد محمّد بن معدّ العلوي الموسوي الفقيه على رأس الشيعة الإماميّة في داره بدرب الدواب ببغداد سنة ٦٠٨ وقارىء يقرأ عنه (مغازي الواقدي) فقرأ روايته بسنده عن محمّد بن مسلمة : أنّه رأى رسول الله يوم احد وقد انكشف الناس عنه إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه وهو يقول : إليّ يا (فلان) ، إليّ يا (فلان) أنا رسول الله فما عرّج عليه واحد منهما ومضيا. فأشار ابن معد إلى ابن أبي الحديد : أن اسمع : قال : فقلت : وما في هذا؟

قال : هذه كناية عنهما! فقلت : ويجوز أن لا يكون عنهما ، لعلّه عن غيرهما. فقال : ليس في الصحابة من يحتشم ويستحيا من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلّا هما! قلت له : هذا وهم ممنوع! فقال : دعنا من جدلك ومنعك! ثم بان في وجهه التنكّر من مخالفتي له وحلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما ، وأنّه لو كان غيرهما لذكره صريحا ، شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٣ و ٢٤.

(١) معاني الأخبار : ١١٥ ، كما في بحار الأنوار ٢٠ : ٧٤٠.

٣٠١

صرخة إبليس؟!

أمّا عن سبب الهزيمة ، ففي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : إنّ الله لمّا أخبر المؤمنين بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر ومنازلهم في الجنة ، رغبوا في ذلك فقالوا : اللهم أرنا القتال نستشهد فيه! فأراهم الله إيّاه في يوم احد ، فلم يبق إلّا من شاء الله منهم وذلك قوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ ...)(١) ، وكسبب لهذا الانقلاب على الأعقاب قال : جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم احد وعهد العاهد به على تلك الحال ، فجعل الرجل يقول لمن لقيه : النجاء ، فإنّ رسول الله قد قتل! (٢).

أمّا عن صرخة إبليس : فإنّ القمّي بعد ذكره أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بجمع القتلى وصلاته عليهم ودفنهم قال : وصاح إبليس بالمدينة : قتل محمّد! فلم يبق أحد من نساء المهاجرين والأنصار إلّا خرجن ، وخرجت فاطمة بنت رسول الله ، تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وأرشدنا المفيد في «إرشاده» إلى روايته بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : ثبت أمير المؤمنين وأبو دجانة وسهل بن حنيف .. وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسيف يذبّان عنه .. وكثر عليهم المشركون .. فحمل عليهم أمير المؤمنين فكشفهم ثمّ عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية اخرى فكرّ عليهم فكشفهم .. وثاب إليه من أصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلا منهم طلحة بن عبيد الله وعاصم بن ثابت .. وصعد الباقون في الجبل ...

__________________

(١) آل عمران : ١٤٣.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١١٩.

(٣) تفسير القمّي ١ : ١٢٣ و ١٢٤.

٣٠٢

وصاح صائح بالمدينة : قتل رسول الله ، فانخلعت لذلك القلوب وتحيّر المنهزمون فأخذوا يمينا وشمالا (١).

وعليه فالصحابة كانوا منهزمين من كرّة عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد المخزوميين ، وانما سببت صيحة الصائح ان تحيّر اولئك المنهزمون من قبل فأخذوا يمينا وشمالا. وقال الطبرسي : وصاح ابليس ـ لعنه الله ـ : قتل محمد ، ورسول الله في اخراهم ... وذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة ، فصاحت فاطمة ، وخرجت تصرخ ولم تبق هاشميّة ولا قرشيّة إلّا وضعت يدها على رأسها وخرجت (٢) فهو جمع بين أمرين : بين صيحة في احد وسماعها في المدينة ، ولكنّها كانت والرسول في اخراهم فهم منهزمون من قبل.

وقال في تفسيره «مجمع البيان» : ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله بحجر فكسر أنفه ورباعيّته وشجّه في وجهه وأقبل يريد قتله ، فذبّ مصعب بن عمير عن رسول الله حتى قتله ابن قميئة ، فرجع وهو يرى أنّه قتل رسول الله وقال : إنّي قتلت محمّدا!

وصاح صائح : ألا إنّ محمّدا قد قتل!

ويقال : إنّ ذلك الصائح كان إبليس لعنه الله فانكشف الناس!

وفشا في الناس : أنّ رسول الله قد قتل ، فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن ابيّ فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان!

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٨٢.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٧٧ ، واختصر الخبر ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٢ قال : وصاح إبليس من جبل احد : ألا إنّ محمّدا قد قتل ، فصاحت فاطمة ووضعت يدها على رأسها وخرجت تصرخ وكلّ هاشميّة وقرشيّة.

٣٠٣

وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم (أي استسلموا للحادث).

وقال اناس من أهل النفاق : إن كان محمّد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل!

فقال أنس بن النضر ـ عمّ أنس بن مالك ـ : يا قوم إن كان قد قتل محمّد فربّ محمّد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟! فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله ، وموتوا على ما مات عليه! ثمّ قال : اللهم إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء! ثمّ شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل.

ثمّ إنّ رسول الله انطلق إلى صخرة (الجبل) وهو يدعو الناس (يقول : إليّ عباد الله).

فأوّل من عرف رسول الله كعب بن مالك قال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا فهذا رسول الله! فأشار إليّ : أن اسكت!

فانحازت إليه طائفة من أصحابه (اجتمع إليه ثلاثون رجلا) فلامهم النبيّ على الفرار فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وامهاتنا ، أتانا الخبر بأنّك قتلت فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين (١).

فالطبرسي هنا بدأ بصرخة ابن قميئة ثمّ رجل آخر من المشركين بناء على نداء ابن قميئة ، وفي آخر الخبر قال : أتانا الخبر بأنّك قتلت ، ولم يذكر صرخة إبليس إلّا قولا قيل كجملة معترضة بين الخبر ، وهو وان جعل من أثر الصرخة : انكشف الناس ، لكنّه قدم قبله الخبر عن الهزيمة قبل الصرخة.

وابتدأ الطبرسي الخبر بالاسناد إلى الزبير ، ونجد بعض الخبر من دون الجملة المعترضة عند ابن اسحاق بسنده عن الزبير أيضا قال : لقد رأيت خدم هند

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٨٤٩.

٣٠٤

بنت عتبة وصواحبها ، مشمّرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، اذ مالت الرماة الى العسكر وخلّوا ظهورنا للخيل فاتينا من خلفنا ، وصرخ صارخ : ألا إنّ محمدا قد قتل! فانكفأنا وانكفأ القوم علينا ، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم.

ثمّ قال ابن هشام : الصارخ هو الشيطان (أزبّ العقبة) (١).

فابن اسحاق من دون أن يصرّح بأن الصارخ هو الشيطان جمع بين اتيان القوم من خلف المسلمين وصرخة الصارخ فجعلهما السبب معا في تراجع المسلمين ثم تراجع المشركين عليهم.

ولم يذكر ابن اسحاق الشيطان (وانما ابن هشام) بل صرّح بأنّ القائل هو ابن قمئة : لقول ابن قمئة لهم : إنّي قد قتلت محمّدا (٢). وروى عن القاسم بن عبد الرحمن من بني النجّار : أنّ رجالا من المهاجرين والأنصار منهم عمر بن الخطّاب وطلحة بن عبيد الله اعتذروا عن جلوسهم واستسلامهم للأمر الواقع لمّا قال لهم أنس بن النضر : ما يجلسكم؟ قالوا : قتل رسول الله. وهو قال : فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله (٣) ، ممّا يفيد أنّهم اتّخذوا الصرخة ذريعة للقعود عن القتال.

ولكنّ الواقدي قد كرّر الخبر عن صرخة إبليس في أربعة مواضع بدأها بالرواية عن رافع بن خديج قال : لمّا انصرف الرماة وبقي من بقي ، نظر خالد بن الوليد إلى خلأ الجبل وقلّة أهله ، فكرّ عليهم بالخيل وتبعه عكرمة في الخيل ، فانطلقا إلى بعض الرماة فحملوا عليهم ، فراموا القوم حتى اصيبوا ، ورامى عبد الله

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٨٢ ، وفي أزبّ العقبة قال ابن الأثير في النهاية ١ : ٢٨ : من أسماء الشياطين.

(٢) ابن هشام ٣ : ٩٩.

(٣) ابن هشام ٣ : ٨٨.

٣٠٥

ابن جبير حتى فنيت نبله ، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر ، ثمّ كسر جفن سيفه فقاتلهم حتى قتل رضى الله عنه. وكان جعال بن سراقة وأبو بردة بن نيار آخر من انصرف من الجبل بعد أن قتل عبد الله بن جبير ، حتى لحقا بالقوم ، فإنّه ليقاتل مع المسلمين أشدّ القتال إلى جنب أبي بردة بن نيار وخوّات بن جبير (أخي عبد الله ابن جبير) إذ ابتلي يومئذ جعال بن سراقة ببلية عظيمة : إذ تصوّر إبليس بصورته ونادى ثلاث مرّات : إنّ محمّدا قد قتل! هذا وجعال يقاتل مع المسلمين أشدّ القتال! فو الله ما رأينا أسرع من انتقال الدولة للمشركين علينا ، فأقبل المسلمون على جعال بن سراقة يقولون : هذا الذي صاح : إنّ محمّدا قد قتل! وهم يريدون قتله لذلك! حتى شهد له أبو بردة بن نيار وخوّات بن جبير بأنّه حين صاح الصائح كان إلى جنبهما فالصائح غيره (١).

إذن فالمسلمون أقبلوا على جعال بن سراقة يقولون : هذا الذي صاح ، وحتى أنّهم أرادوا قتله لذلك! ولكن إذ شهد له أبو بردة وخوّات بن جبير أنّه ليس هو الذي صاح ، تركوه ، ولكنّهم حيث رأوا الصائح في صورة جعال ، ونفى جعال ذلك ، وشهد له الشاهدان ، وبنوا على قبول الشهادة بالنفي ، قالوا : إذن فالصائح المتصوّر بصورة جعال هو إبليس ، كما في هذا الخبر.

ثمّ روى الواقدي بسنده عن أبي بشير المازني قال : لمّا صاح الشيطان (أزبّ العقبة) : إنّ محمّدا قد قتل ـ لما أراد الله من ذلك؟! ـ سقط في أيدي المسلمين وتفرّقوا في كلّ وجه وأصعدوا في الجبل (٢).

وواضح على هذا الخبر عن المازني أنّه ينسب الصيحة إلى الشيطان (وليس إبليس) رأسا دون القول بتصوّره بصورة جعال ، وعليه يبني فيعلّل ذلك

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٥.

٣٠٦

بأنّ الله أراد امورا من وراء تلك الصيحة ؛ إذن فتفرّق المسلمين كان خارجا عن أيديهم : سقط في أيدي المسلمين! فكان جبرا لا اختيارا! وهذا صريح في الغاية من النسبة في الخبر.

ثمّ روى الواقدي بسنده عن الأعرج قال : لمّا صاح الشيطان (وليس إبليس) : إنّ محمّدا قد قتل. قال أبو سفيان بن حرب : يا معشر قريش أيّكم قتل محمّدا؟! قال ابن قميئة : أنا قتلته! قال : سنفعل بك كما تفعل الأعاجم بأبطالها : نسوّرك (١).

وفي هذا الخبر يعرّج الأعرج بمفاد الخبر إلى أنّ الصيحة لم تشرّد بالمسلمين فحسب ، بل إنّ أبا سفيان أذعن بمفادها وأخذ يسأل عن القاتل ، فادّعاها حينئذ ابن قميئة ، دون أن يكون هو الصائح الصارخ. ثمّ يتبيّن له كذب ابن قميئة.

ثمّ قال الواقدي : قالوا : ولمّا صاح إبليس (وليس الشيطان مطلقا) : إنّ محمّدا قد قتل .. تفرّقوا في كلّ وجه ، وجعل الناس يمرّون على النبيّ لا يلوي عليه أحد منهم ، ورسول الله يدعوهم في اخراهم ... ووجّه رسول الله إلى الشعب يريد أصحابه فيه (٢).

وهذا قول الواقدي نقلا لمعنى الخبر الأوّل عن رافع بن خديج ، نعم زاد إليه ذيله : وجّه رسول الله إلى الشعب. بعد ما قال : ورسول الله يدعوهم في اخراهم. وكأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما دعاهم وهم لا يلوون عليه ولا أحد منهم! يئس منهم فتبعهم بدل أن يتبعونه! اللهم إلّا أن يكون الكلام اختزالا بدل الاختصار.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٦. ونسوّرك : أي نلبسك سوارا ـ الصحاح : ٦٩٠ أو نجعلك استوارا أي قائدا.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٩٣.

٣٠٧

ثمّ نقل الواقدي عن عمر قال : كان عمر يقول : لمّا صاح الشيطان : قتل محمّد ، أقبلت أرقى في الجبل كأنّي ارويّة (١) فانتهيت إلى النبيّ وهو يقرأ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ...)(٢).

وفي هذا عكس الأمر فكأنّ النبيّ كان قد سبق أصحابه إلى الجبل قبل الصيحة! فلمّا صاح الشيطان أقبلوا إليه فنزلت عليه الآيات من آل عمران ثمّ انتهوا إليه وهو يقرأ بها! اللهم لم يكن لهم أن ينكشفوا عن نبيّك من سفح الجبل حتى يعلونه بحجّة أنّ نبيّك قد سبقهم إليه فأقبلوا حتى انتهوا إليه ، ولهم الحجّة أيضا : أنّ الشيطان أو إبليس من الشياطين صاح أو صرخ بقتل رسولك ، وأنّك أردت من ذلك امورا ، كما قالوها (٣).

هذا ، وقبل أن ننتقل إلى عرض أخبار الصيحة أو الصرخة عرضنا لكثير من أخبار النكسة أو الهزيمة ولم تصرح بصرخة ولا صيحة إلّا قول ابن قميئة بأنّه قتل محمّدا ، مع أنّها لو كانت لكانت من أكبر أسباب الانكشاف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهمّ عوامل القلاقل ، فكيف يخلو خبر من علل انكسار الكثرة وبقاء القلّة عن أكبر أسبابه وأهمّ علله؟!

ثمّ كيف يصيح الشيطان ويريد الرحمن من ذلك امورا كما قالوا (٤) ، ثمّ هو يذكر ذلك في آيات من كتابه تتلى آناء الليل وأطراف النهار إلى يوم الخلود ، يخلّد فيها ذلك يلومهم بها ويؤنّبهم ويقرعهم ويوبّخهم؟! عفوك اللهم أنت أعدل من ذلك وأفضل ، وهيهات! ما ذلك الظنّ بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشبه لما

__________________

(١) الاروية : الانثى من الوعل ، أي حمار الوحش ، ويشبّه بها في سرعة العدو والمشي.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) انظر مغازي الواقدي ١ : ٢٣٥.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٥.

٣٠٨

عاملت به عبادك من فضلك وكرمك ، وعطفك ولطفك ورأفتك ورحمتك.

ثمّ كيف يصيح الشيطان ويريد الرحمن من ذلك امورا ، ثمّ يعاتبهم على ذلك ويتلو الرسول آياته تلك عليهم وهم لا يحيرون جوابا يعتذرون به إليه ، بل هم يسمعون فينصتون وينكصون ويسكتون؟!

ثمّ كيف يصيح الشيطان ، ويصرّح المازني بأنّ الله أراد من ذلك امورا (١) ولا ينقل مثل ذلك أو شيء منه عن النبيّ وآله ولا أنّهم سألوهم عنه؟!

ويكفينا هذا العرض لردّ مثل هذه المزعمة التبريريّة ، وقالوا قديما : توجيه الغلط غلط آخر ، بل أكبر.

ولذلك لم يعتمد على ذلك المحقّقون في السيرة والمغازي :

قال ابن أبي الحديد : قرأت هذه الغزاة (احد) من كتاب الواقدي على النقيب أبي يزيد ؛ وقلت له : إنّي أستعظم ما جرى لهؤلاء في هذه الوقعة! فكيف جرى ذلك؟

قال : بعد قتل أصحاب الألوية حمل قلب المسلمين على قلب المشركين فكسره ، فلو ثبتت مجنّبتا رسول الله اللتان فيهما اسيد بن حضير والحباب بن المنذر بإزاء مجنّبتي المشركين لم ينكسر عسكر الإسلام ، ولكن مجنّبتا المسلمين أطبقت إطباقا واحدا على قلب المشركين مضافا إلى قلب المسلمين ، فصار عسكر رسول الله قلبا واحدا وكتيبة واحدة ... فلمّا رأت مجنّبتا قريش أن ليس بإزائها أحد استدارت المجنّبتان من وراء عسكر المسلمين ، وصمد كثير منهم للرماة الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين فقتلوهم عن آخرهم لأنّهم لم يكونوا ممّن يقومون لخالد وعكرمة وهما في ألفي رجل وإنّما كانوا خمسين رجلا ، لا سيّما وقد شره كثير

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٥.

٣٠٩

منهم إلى الغنيمة فترك مركزه وأكبّ على النهب! والذي كسر المسلمين يومئذ ونال منهم كلّ منال خالد بن الوليد ، وكان فارسا شجاعا ومعه خيل كثيرة ورجال أبطال موتورون ، واستدار خلف الجبل فدخل من الثغرة التي كان الرماة عليها فأتى من وراء المسلمين ، وتراجع قلب المشركين بعد الهزيمة فصار المسلمون بينهم في مثل الحلقة المستديرة واختلط الناس ، فلم يعرف المسلمون بعضهم بعضا وضرب الرجل منهم أخاه وأباه بالسيف وهو لا يعرفه لشدّة النقع والغبار ، ولما اعتراهم من الدهشة والعجلة والخوف ، فكانت الدبرة عليهم بعد أن كانت لهم. ومثل هذا يجري دائما في الحرب (١) وليست الصرخة ولا الصيحة ، اللهم إلّا تبريرا وتوجيها للغلطة ، وتخفيفا لدور ابن الوليد! ولم يذكر الصرخة النقيب أبو يزيد ، ولا استدرك بها عليه ابن أبي الحديد.

وينتبه ابن أبي الحديد في كتابه بعد هذا إلى منافاة وتهافت في أخبار الصيحة ، فيقول : سألت المحدّث ابن النجّار عن هذا الموضع فقلت له : قصّة احد تدلّ على أنّ الدولة بادئ الحال كانت للمسلمين ، فلمّا صاح الشيطان : قتل محمّد انهزم أكثرهم ثمّ ثاب أكثرهم فحاربوا حربا كثيرة طالت مدّتها حتى صار آخر النهار ، ثمّ اصعدوا في الجبل ورسول الله معهم فتحاجزوا. إلّا أنّ بعض روايات الواقدي يقتضي غير ذلك ، نحو روايته : أنّه لمّا صاح الشيطان : إنّ محمّدا قد قتل ، كان رسول الله ينادي المسلمين فلا يعرّجون عليه فوجّه نحو الجبل فانتهى إليهم وهم أوزاع يتذاكرون القتلى ، فهذه الرواية تدلّ على أنّه اصعد في الجبل حيث صاح الشيطان ، وصياح الشيطان كان حال غشيان خالد بن الوليد المسلمين من وراء الجبل وهم مشتغلون بالنهب ، فكيف هذا؟

__________________

(١) شرح النهج ١٤ : ٢٤٤ و ٢٤٥.

٣١٠

فكان ابن النجّار لا يرى حلّا للمشكل إلّا أن يدعى : أنّ الشيطان صاح دفعتين : في أوّله وآخره لمّا تصرّم النهار ، وما اعتصم بالجبل في الصرخة الاولى ، بل ثبت ولم يفارق عرصة الحرب ، وإنّما فارقها في صرخته الثانية حيث علم أنّه لم يبق له وجه مقام (١).

وإذ لم يذكر حمزة في الثابتين علم أنّه قتل في الحملات قبل النكسة ، وقد يكون مقتله من عوامل التراجع عند المسلمين والتجرّؤ لدى المشركين ، فلننتقل إلى :

مقتل حمزة عليه‌السلام :

قال القمّي في تفسيره : كان حمزة بن عبد المطّلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له واحد منهم.

وكان وحشي عبدا حبشيّا لجبير بن مطعم.

وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشيّا عهدا : لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة لأعطينّك رضاك؟!

فقال وحشي : أمّا محمّد فلا أقدر عليه ، وأمّا عليّ فرأيته رجلا حذرا كثير الالتفات فلم أطمع فيه. فكمنت لحمزة فرأيته يهدّ الناس هدّا ، فمرّ بي فوطأ على جرف نهر فسقط ، فأخذت حربتي فهززتها ورميته بها فوقعت في خاصرته وخرجت مغمّسة بالدم (٢).

وروى المفيد في «الإرشاد» بسنده عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال : كانت هند بنت عتبة جعلت لوحشيّ جعلا على أن يقتل رسول الله

__________________

(١) شرح النهج ١٥ : ٢٨ و ٢٩ ، مختصرا ، ولا مسند لدعوى النجّار.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١١٦.

٣١١

أو أمير المؤمنين أو حمزة بن عبد المطّلب ـ سلام الله عليهم ـ. فقال : أمّا محمّد ، فلا حيلة لي فيه لأنّ أصحابه يطيفون به ، وأمّا عليّ فإنّه إذا قاتل كان أحذر من الذئب ، وأمّا حمزة فإنّي أطمع فيه ، لأنّه إذا غضب لم يبصر بين يديه. وكان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره.

فكمن له وحشيّ في أصل شجرة ، فرآه حمزة فبدر إليه.

قال وحشيّ : وهززت حربتي حتى إذا تمكّنت منه رميته فأصبته في اربيته فأنفذته ، وتركته حتى إذا صرت إليه فأخذت حربتي ، وشغل عنّي وعنه المسلمون بهزيمتهم.

وجاءت هند فأمرت بشقّ بطن حمزة وقطع كبده والتمثيل به ، فجدعوا أنفه واذنيه ومثّلوا به ، ورسول الله مشغول عنه لا يعلم بما انتهى إليه أمره (١).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : كان وحشيّ يقول : كنت عبدا لجبير ابن مطعم فقال لي : إنّ عليّا قتل عمّي (طعيمة) يوم بدر ، فإن قتلت محمّدا فأنت حرّ ، وإن قتلت عمّ محمّد فأنت حرّ ، وإن قتلت ابن عمّ محمّد فأنت حرّ.

قال : وكنت لا أخطئ في رمي الحراب تعلّمته من الحبشة عندهم. فخرجت مع قريش بحربة لي إلى احد اريد العتق لا اريد غيره ، ولا أطمع في محمّد ، ولكنّني قلت : لعلّي اصيب من عليّ أو حمزة فازرقه. وكان حمزة يحمل حملاته ثمّ يرجع إلى موقفه (٢).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٨٣.

(٢) رواه ابن إسحاق بسنده عن جعفر بن عمرو الضمري عن وحشي قال : كنت غلاما لجبير ابن مطعم ، وكان عمّه طعيمة بن عديّ قد اصيب يوم بدر ، فلمّا سارت قريش إلى احد قال لي جبير : إن قتلت حمزة عمّ محمّد بعمّي فأنت عتيق.

قال : وكنت رجلا حبشيّا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلّما أخطئ بها شيئا ، فخرجت

٣١٢

__________________

ـ مع الناس. فلمّا التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يقوم له شيء. وأنا اريده واستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو منّي ، إذ تقدّمني إليه سباع بن عبد العزّى (وكانت امّه أمّ أنمار مولاة شريق بن الأخنس الثقفي وكانت ختّانة للبنات بمكّة) ٣ : ٧٤. فلمّا رآه حمزة قال له : هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور! فضربه ضربة ما أخطأ رأسه. وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنّته (قرب عانته) حتى خرجت من بين رجليه ، وقام متثاقلا نحوي فسقط ، فتركته حتى مات ، ثمّ أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر.

فلمّا رجعت إلى مكّة اعتقت فأقمت بها حتى افتتح رسول الله مكّة فهربت إلى الطائف فمكثت بها. فلمّا أراد وفد الطائف أن يخرج إلى رسول الله ليسلموا قلت في نفسي ألحق ببعض البلاد اليمن أو الشام إذ قال لي رجل : إنّه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل دينه وتشهّد شهادته. فلمّا قال لي ذلك خرجت (معهم) حتى قدمت على رسول الله المدينة وقمت على رأسه أشهد شهادة الحقّ فلمّا رآني قال : أوحشيّ؟ قلت : نعم يا رسول الله. قال : اقعد فحدّثني كيف قتلت حمزة؟ فحدّثته ، فلمّا فرغت من حديثي قال : ويحك غيّب عنّي وجهك فلا ارينّك. فكنت أتنكّب طريق رسول الله حيث كان لئلّا يراني حتى قبضه الله. ٣ : ٧٦ ، وكان بحمص ٣ : ٧٥ ، ولم يزل يحدّ في شرب الخمر حتى اخرج اسمه من ديوان العطاء ومات بحمص ، وكان عمر يرى ذلك من سوء توفيقه فقال : علمت أنّ الله لم يكن ليدع قاتل حمزة اي حتى يجعله من أهل النار ٣ : ٧٧.

ولم يذكر ابن إسحاق هنا شيئا عمّا فعلت هند بحمزة ، وذكر ذلك في موضع آخر قال : حدّثني صالح بن كيسان قال : وقعت هند والنسوة اللاتي معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله : يجدّعن الآذان والانف ، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وانفهم خلخالا وقلائد ، وأعطت خلخالها وقلائدها وقرطها لوحشيّ غلام جبير بن مطعم ، وبقرت عن كبد

٣١٣

__________________

ـ حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثمّ علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

ولا أخي وعمّه ، وبكري

شفيت نفسي وقضيت نذري

شفيت وحشيّ غليل صدري

فشكر وحشي عليّ عمري

حتى ترمّ أعظمي في قبري

ومرّ الحليس بن زبّان بأبي سفيان وهو يضرب بزجّ الرمح في شدق حمزة بن عبد المطّلب ويقول : ذق يا عقق (يا عاقّ) فقال الحليس : يا بني كنانة ؛ هذا سيّد قريش يصنع بابن عمّه ما ترون! فقال أبو سفيان : ويحك اكتمها عنّي فإنّها كانت زلّة!

وقالت هند أيضا :

شفيت من حمزة نفسي باحد

حتى بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عنّي ذاك ما كنت أجد

من لذعة الحزن الشديد المعتمد

فأنشد عمر بن الخطّاب بعض ما قالت لحسّان بن ثابت ، فقال حسّان :

أشرت لكاع وكان عادتها

لؤما ـ إذا أشرت ـ مع الكفر

واقذع فيها فتركناها ٣ : ٩٢ ـ ٩٣.

وروى الواقدي بسنده عن وحشيّ قال : كنت عبدا لجبير بن مطعم بن عدي ، فلمّا خرج الناس إلى احد دعاني فقال : قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي قتله حمزة بن عبد المطّلب يوم بدر فلم تزل نساؤنا في حزن شديد إلى يومي هذا ، فإن أنت قتلت حمزة فأنت حرّ.

قال : فخرجت مع الناس ولي مزاريق (رماح قصار) وكنت أمرّ بهند بنت عتبة فتقول : ايه أبا دسمة ، اشف واشتف! فلمّا وردنا احدا نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدّهم هدّا ، فرآني وأنا قد كمنت له تحت شجرة فأقبل نحوي ، واعترض له سباع الخزاعي (وكانت امّه

٣١٤

__________________

ـ ختّانة للبنات) فأقبل عليه حمزة وهو يقول : وأنت أيضا يا بن مقطّعة البظور ممّن يكثر علينا! هلمّ إليّ! فاحتمله ثمّ ضرب به الأرض ثمّ قتله وأقبل نحوي سريعا ، فاعترض له جرف فوقع فيه ، فزرقته بمزراقي فوقع في ثنّته (ما بين السرّة والعانة) حتى خرج من بين رجليه ، فقتلته. ومررت بهند بنت عتبة فآذنتها ، وكان في ساقيها خلخالان من جزع ظفار ، ومسكتان (سواران معضدان) من ورق (فضّة) وخواتيم منها كنّ في أصابع رجليها ، فأعطتني ذلك ١ : ٢٨٦ ـ ٢٨٨.

وقال قبل ذلك : قالوا : كان وحشيّ عبدا لجبير بن مطعم أو لابنة الحارث بن عامر ، فقالت له : إنّ أبي قتل يوم بدر ، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حرّ إن قتلت محمّدا ، أو حمزة ، أو علي بن أبي طالب ، فإنّي لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم.

قال وحشيّ : وقد علمت أنّ رسول الله لا أقدر عليه وأنّ أصحابه لن يسلموه! وأمّا حمزة فو الله لو وجدته نائما ما أيقظته من هيبته! وأمّا عليّ فالتمسته ، فبينا أنا في الناس ألتمسه إذ طلع عليّ فكان رجلا ممارسا حذرا كثير الالتفات! فقلت في نفسي : ما هذا صاحبي الذي ألتمس! فرأيت حمزة يفري الناس فريا ، فكمنت إلى صخرة (لا شجرة) فاعترض له سباع بن أم أنمار ـ وكانت امّه مولاة لشريف بن علاج الثقفي ختّانة بمكّة ـ فقال له حمزة : وأنت أيضا يا بن مقطّعة البظور ممّن يكثر علينا! هلمّ إليّ! ثمّ احتمله فرمى به وبرك عليه وشحطه شحط الشاة! ثمّ لمّا رآني أقبل إليّ مكبّسا ، فلمّا بلغ المسيل وطأ على جرف فزلّت قدمه ، فهززت حربتي حتى رضيت منها فضربت بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته. وكرّ عليه طائفة من أصحابه سمعتهم ينادونه : أبا عمارة! فلا يجيب فعلمت أنّه قد مات! وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته.

وذكرت هندا وما لقيت من مصابها على أبيها وعمّها وأخيها (وبكرها) فكررت عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده فجئت بها إلى هند بنت عتبة فقلت لها : ما ذا لي إن قتلت قاتل

٣١٥

ثمّ روى عن الصادق عليه‌السلام قال : وزرقه وحشيّ فوق الثدي ، فسقط ، وشدّوا عليه فقتلوه (١). فأخذ وحشي الكبد فشدّ بها إلى هند بنت عتبة ، فأخذتها وطرحتها في فيها فصارت مثل الداغصة (عظم الركبة) فلفظتها!

وجاء أبو سفيان على فرس وبيده رمح حتى وقف على حمزة فوجأ به في شدق حمزة وقال : ذق! يا عقق! (أي يا عاقّ الرحم) فنظر إليه الحليس ابن علقمة فقال : يا معشر بني كنانة ، انظروا إلى من يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الذي صار لحما! فقال أبو سفيان : صدقت! إنّما كانت زلّة منّي! فاكتمها عليّ! (٢).

وقال القمّي في تفسيره : وجاءت إليه هند فقطعت مذاكيره وقطعت اذنيه

__________________

ـ أبيك؟ قالت : سلبي! فقلت : فهذه كبد حمزة! فأخذتها إلى فيها فمضغتها ثم لفظتها فلا أدري أقذرتها أم لم تسغها! ثمّ نزعت حليّها وثيابها! فأعطتنيه ثم قالت : إذا جئت مكّة فلك عشرة دنانير! ثمّ قالت : أرني مصرعه. فأريتها مصرعه ، فقطعت مذاكيره وجدعت أنفه وقطعت اذنيه ثمّ جعلتها معضدين وخلخالين ١ : ٢٨٥ و ٢٨٦.

وقال قبل ذلك : وكانت هند أوّل من مثّل بأصحاب النبيّ وأمرت النساء بالمثل : جدع الانوف والآذان! فلم تبق امرأة إلّا عليها معضدان وخلخالان ، ومثّل بهم كلّهم ، إلّا حنظلة ابن أبي عامر الراهب الفاسق لأنّه نادى فيها : يا معشر قريش : حنظلة لا يمثّل به وإن كان خالفكم وخالفني! فمثّل بالناس وترك فلم يمثّل به ١ : ٢٧٤.

(١) قيل : اصيب حمزة عليه‌السلام في الركن الجنوبي الشرقي من جبل الرماة ثم سقط شهيدا في الجهة الشرقية منه ودفن في موضعه كما في مقال عبد الرحمن خويلد في مجلة الميقات ٤ : ٢٦٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٨١. وفي مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٢ و ١٩٣.

٣١٦

وجعلتها خرصين (حلقتين) وشدّتهما في عنقها ، وقطعت يديه ورجليه (١).

مقتل حنظلة غسيل الملائكة :

ووقع إلى جانب حمزة حنظلة بن أبي عامر ، وقال القمّي في تفسيره عنه :

لمّا حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكرين ، فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس وسقط أبو سفيان إلى الأرض وصاح : يا معشر قريش ، أنا أبو سفيان وهذا حنظلة يريد قتلي! وعدا أبو سفيان ، وحنظلة في طلبه ، فعرض له رجل من المشركين فطعنه ، فمشى حنظلة مع طعنته إلى طاعنه فضربه فقتله ، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام (أبي جابر) وجماعة من الأنصار.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت الملائكة يغسّلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن من صحائف من ذهب! فكان يسمّى : غسيل الملائكة (٢).

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١١٧.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١١٨ ، الفقيه ١ : ١٥٩ ح ٤٤٥ ط. طهران. و ١ : ٩٧ ح ٤٦ ط. نجف. وقال ابن إسحاق : والتقى حنظلة بن أبي عامر الغسيل وأبو سفيان ، فلمّا استعلاه حنظلة بن أبي عامر رآه شدّاد بن الأسود بن شعوب ، فضربه فقتله. فقال رسول الله : إنّ صاحبكم (حنظلة) لتغسّله الملائكة. فاسألوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته (جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول) عنه فقالت : خرج حين سمع (الصيحة) وهو جنب ٣ : ٧٩.

وقال الواقدي : لمّا انكشف المشركون اعترض حنظلة بن أبي عامر لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس ووقع أبو سفيان إلى الأرض ، فجعل يصيح : يا معشر قريش ؛ أنا أبو سفيان بن حرب ؛ وحنظلة يريد ذبحه ، حتّى عاينه الأسود

٣١٧

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من ذلك الرجل الذي تغسله الملائكة في سفح الجبل؟ فسألوا امرأته ، فقالت : إنّه خرج وهو جنب! (١).

مقتل جمع من الشهداء :

أمّا عمرو بن الجموح فإنّه كان في الرعيل الأوّل ممّن ثاب من المسلمين بعد الانكشاف ، كان يعرج وهو يقول : والله أنا مشتاق إلى الجنّة ، وأخذ ابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعا (٢).

أمّا عبد الله بن جحش فإنّه قبل يوم احد بيوم قال لرسول الله : يا رسول الله ، إنّ هؤلاء قد نزلوا حيث نرى ، وقد سألت الله ـ عزوجل ـ فقلت : اللهم إنّي

__________________

ـ ابن شعوب فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه فيه ، فمشى حنظلة إليه بالرمح فجرحه به ثمّ ضربه الثانية فقتله. وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعضهم فردفه على فرسه ١ : ٢٧٣.

وقال رسول الله : إنّي رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضّة (لا الذهب) ثمّ أرسل إلى امرأته فسألها فأخبرته أنّه خرج وهو جنب! (بدون ذكر الصيحة).

ولمّا قتل حنظلة مرّ عليه أبوه أبو عامر وهو مقتول إلى جنب حمزة بن عبد المطّلب وعبد الله بن جحش ، فقال : والله إن كنت لبرّا بالوالد شريف الخلق في حياتك ، وإنّ مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم. وإن كنت احذّرك هذا الرجل من قبل هذا المصرع! ثمّ نادى : يا معشر قريش حنظلة لا يمثّل به وإن كان خالفني وخالفكم ، فمثّل بالناس وترك فلم يمثّل به ١ : ٢٧٤.

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٦٤ و ٢٦٥.

٣١٨

اقسم عليك أن نلقى العدوّ غدا فيقتلونني ويبقرونني ويمثّلون بي ، فألقاك مقتولا قد صنع بي ذلك فتقول : فيم صنع بك هذا؟ فأقول : فيك. وأنا أسألك ـ يا رسول الله ـ اخرى ، وهي أن تلي تركتي بعدي. فقال رسول الله : نعم.

فبرز يوم احد فقاتل حتى قتل ، ومثّل به كلّ المثل (١).

وقال الواقدي : قالوا : مرّ مالك بن الدخشم على خارجة بن زيد بن أبي زهير ـ وهو قاعد وبه ثلاثة عشر جرحا كلّها قد خلصت إلى مقتل ـ فقال له : أما علمت أنّ محمّدا قد قتل! فقال خارجة : فإن كان قد قتل فإنّ الله حيّ لا يموت ، فقد بلّغ محمّد ، فقاتل عن دينك!

ومرّ على سعد بن الربيع ـ وبه اثنا عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل ـ فقال له : أما علمت أنّ محمّدا قد قتل! فقال سعد بن الربيع : أشهد أنّ محمّدا قد بلّغ رسالة ربّه ، فقاتل عن دينك ، فإنّ الله حيّ لا يموت.

ومرّ أنس بن النضر بن ضمضم ـ عم أنس بن مالك ـ على رهط من المسلمين قعود وفيهم عمر بن الخطّاب ، فقال لهم : ما يقعدكم؟ قالوا : قتل رسول الله ، قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثمّ قاتل حتى قتل.

وأقبل ثابت بن الدحداحة والمسلمون أوزاع (متفرّقون) قد سقط في أيديهم ، فجعل يصيح : يا معشر الأنصار ، إليّ إليّ أنا ثابت بن الدّحداحة ، إن كان محمّد قد قتل فإنّ الله حيّ لا يموت ، فقاتلوا عن دينكم ، فإنّ الله مظهركم وناصركم! فنهض إليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه من المسلمين على المشركين ، فوقفت لهم منهم كتيبة خشناء فيها رؤساؤهم : خالد بن الوليد ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٩١.

٣١٩

وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطّاب (أخو عمر) ، فجعلوا يناوشونهم حتى قتل من مع ثابت من الأنصار ، وحمل خالد على ثابت بالرمح فطعنه فأنفذه فوقع ميّتا. فهؤلاء آخر من قتل من المسلمين. ولم يكن بعدهم قتال.

ووصل حينئذ رسول الله مع أصحابه إلى الشعب .. فتوقّف القتال (١).

نهايات الحرب :

وتراجع المنهزمون من أصحاب رسول الله فصاروا على الجبل .. وصعدت جماعة من قريش على الجبل فيهم أبو سفيان ، فنادى : أعل هبل (أي أعل دينك يا هبل).

قال القمّي في تفسيره : فقال رسول الله لأمير المؤمنين عليهما‌السلام : قل له : الله أعلى وأجلّ. فقال عليّ ذلك ، فقال أبو سفيان : يا عليّ ، إنّه قد أنعم علينا : فقال عليّ عليه‌السلام ، بل الله أنعم علينا.

ثمّ قال أبو سفيان : يا عليّ ، أسألك باللات والعزّى هل قتل محمّد؟

فقال له عليّ عليه‌السلام : لعنك الله ولعن الله اللات والعزّى معك ، والله ما قتل محمّد ، وهو يسمع كلامك (٢). ثمّ نادى أبو سفيان : موعدنا وموعدكم في عام قابل.

فقال رسول الله لعليّ عليه‌السلام : قل : نعم (٣).

وروى الطوسي في «التبيان» عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : لمّا أصاب

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١١٧.

(٣) تفسير القمّي ١ : ١٢٤.

٣٢٠