موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

ينفق عليها من نصيبها (١).

وقال القمي في تفسيره : كانت عدّة النساء في الجاهلية إذا مات الرجل اعتدّت امرأته سنة ، فلمّا بعث رسول الله تركهم على عاداتهم ولم ينقلهم عن ذلك بل أنزل الله تعالى بذلك قرآنا فقال : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فكانت العدّة حولا. فلمّا قوي الإسلام أنزل الله : (الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فنسخت قوله : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ)(٢).

وهنا نتوقّف عن النظر في أخبار الآيات التالية من سورة البقرة ، لنعرّج على الخبر الآخر الواقع في شوّال من هذه السنة قبل البدء بأخبار بني القينقاع ، وهو الخبر عن :

قتل المحرّض على النبيّ ، نذرا :

روى الواقدي عن إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت الأنصاري ، عن أبيه عن جدّه عن زيد بن ثابت قال : كان في بني عمرو بن عوف شيخ كبير يدعى أبا عفك بلغ مائة وعشرين سنة لم يدخل في الإسلام بل كان يحرّض على عداوة النبيّ ، ولمّا خرج رسول الله إلى بدر ونصره الله حسده وقال شعرا :

لقد عشت حينا وما (إن) أرى

من الناس دارا ولا مجمعا

بأولى عقولا وآتى إلى

منيب سراعا إذا ما دعا

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٢٢ و ١٢٩ وروى مثله عن ابن أبي عمير عنه عليه‌السلام.

(٢) تفسير القمي ١ : ٦.

٢٠١

فسلّبهم أمرهم راكب

حراما حلالا لشتى معا

فلو كان بالملك صدّقتم

وبالنصر تابعتم تبّعا

فقال سالم بن عمير من بني النجار : عليّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه! وفي شوّال على رأس عشرين شهرا (من الهجرة) كانت ليلة صائفة (١) نام فيها ابو عفك بفناء بني عمرو بن عوف ، فأقبل سالم بن عمير حتى وضع السيف على كبده وحتى غرزه في الفراش ، وصاح الرجل ، وثاب إليه ناس فقبروه في منزله (٢).

غزوة قينقاع :

ويبدو أن حسد الرسول على نصر الله له ببدر والتحريض عليه لم يكن خاصا بهذا الشيخ من بني عمرو بن عوف.

فقد روى الواقدي عن ابن كعب القرظي قال : لما أصاب رسول الله أصحاب بدر وقدم المدينة ، بغت يهود (بني قينقاع) وقطعت ما كان بينها وبين النبي من عهد (٣). ثمّ لم يسم بغيهم وقطيعتهم ، ولكنه قال :

فبيناهم على ما هم عليه ... اذ جاءت امرأة من العرب كانت تحت رجل من الأنصار الى سوق بني قينقاع وجلست عند صائغ في حليّ لها ، وجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من ورائها وهي لا تشعر فربط درعها الى ظهرها بشوكة ، فلما قامت المرأة بدت عورتها فضحكوا منها.

__________________

(١) صائفة : شديدة الحر.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٤.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٧٦.

٢٠٢

فقام رجل من المسلمين واتّبع (الرجل اليهودي الذي فعل ذلك بها) فقتله! فاجتمعت بنو قينقاع على (المسلم) فقتلوه! و (بذلك) حاربوا رسول الله ونبذوا العهد بينهم وبينه (١).

قال القمي في تفسيره : فأتاهم رسول الله فقال : يا معشر اليهود ، قد علمتم ما نزل بقريش ، وهم اكثر عددا وسلاحا وكراعا منكم ، فادخلوا في الاسلام.

فقالوا : يا محمد ، انك تحسب حربنا مثل حرب قومك؟! قد والله لو لقيتنا للقيت رجالا (٢) وقد تضمّنت دعوته هذه لهم انذارا وتبشيرا : انذارا بحرب كحرب بدر لأنهم حاربوه ونقضوا عهده ، وتبشيرا بأنهم لو دخلوا في الاسلام فالاسلام يجبّ ما قبله ، فلا يطالبهم بالانتقام للمسلم المقتول الا قصاصا بل وعفوا.

وقال الواقدي : قالوا : ولقد كانوا أشجع اليهود ، وقد كان عبد الله بن ابيّ ابن سلول الخزرجي معهم في حلف سابق ، وهو الذي كان قد أمرهم أن يتحصّنوا ، وزعم لهم أنه سيدخل معهم ولم يدخل (٣).

فروى عن عروة قال : لما رجع رسول الله من بدر واظهر اليهود الغش ، نزل جبرئيل عليه‌السلام بالآيات : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٧٦ ، ١٧٧. وابن هشام في السيرة ٣ : ٥١.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩٧ واعلام الورى ١ : ١٧٥ بلفظ آخر والمناقب ١ : ١٩٠ مختصر الخبر وابن اسحاق في السيرة ٣ : ٥٠ والواقدي في المغازي ١ : ١٧٤.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

٢٠٣

لا يُعْجِزُونَ) فلما فرغ جبرئيل قال له رسول الله : فأنا أخافهم (١) الى قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) قال الواقدي : يعني قريظة والنضير فانهم قالوا : نحن نسلم ونتّبعك (٢).

فاستخلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، كما كان (٣) وسار إليهم حسب الآية فحاصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار (٤) وهم لزموا حصنهم فما رموا بسهم ولا قاتلوا (٥) إذ قذف الله في قلوبهم الرعب ، فقالوا : أفننزل وننطلق؟ قال رسول الله : لا ، الا على حكمي. فنزلوا على (٦) صلح رسول الله وحكمه ، على أن تكون أموالهم لرسول الله (٧) وكانوا صاغة ، فكانت لهم آلات صياغة وسلاح كثير ... ولم تكن لهم مزارع ولا أرضون (٨) فكانت أموالهم لرسول

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٨٠ و ١٧٧ و ١٣٥ ونقله الطوسي في التبيان ٥ : ١٤٦ وعنه في مجمع البيان ٤ : ٨٥٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٣٥ ونقله عنه الطوسي في التبيان ٥ : ١٥١ و ١٥٢. وهذا هو الذي يفسّر سرّ اختلاف الحال بينهم وبين قينقاع ، على أنهم كانوا حلفاء الأوس وهؤلاء حلفاء الخزرج بما بينهما من خلاف.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٨٠ عن أبي بكر بن حزم.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٧٧ وفي السيرة ٣ : ٥٢ ولم يعيّنا البداية والنهاية الا أن الواقدي أرّخ الغزوة : يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة ١ : ١٧٦ فتكون البداية أوائل شوال.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

(٦) مغازي الواقدي ١ : ١٧٧.

(٧) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

(٨) مغازي الواقدي ١ : ١٧٩.

٢٠٤

الله ، ولهم الذرية والنساء (١) فلما نزلوا وفتحوا حصنهم ، قبض محمد بن مسلمة أموالهم (٢) وأمر رسول الله المنذر بن قدامة السلمي أن يربطهم ، فكانوا يكتّفون كتافا.

فوثب ابن أبيّ الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأدخل يده في جيب درعه من خلفه وقال : يا محمد! أحسن الى مواليّ!

فتغيّر وجه النبيّ وأقبل عليه مغضبا وقال له : ويلك أرسلني!

فقال : لا ارسلك حتى تحسن في مواليّ ، أربعمائة دارع وثلاثمائة حاسر (٣) منعوني يوم بعاث ويوم الحدائق من الأحمر والأسود تريد أن تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله امرؤ أخشى الدوائر (٤) ، فلما تكلم ابن أبيّ فيهم تركهم رسول

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٨٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

(٣) وفي ابن هشام عن ابن اسحاق : أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع ٣ : ٥٢.

(٤) وفيه نزل بعد ذلك قوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) ، المائدة : ٥٢. وقد روى ابن اسحاق عن أبيه عن عبادة بن الوليد ابن عبادة بن الصامت عن أبيه الوليد : أنّ بني قينقاع لمّا حاربت رسول الله مشى أبوه عبادة ابن الصامت إلى رسول الله فخلعهم من حلفه وتبرّأ إليه منه ، ففيه وفي عبد الله بن ابي نزلت من سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الى قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) سيرة ابن هشام ٢ : ٥٢ ، ٥٣ وهذا في ذيله وشموله لآية الولاية والزكاة في الركوع معارض بالكثير الكثير من الحديث بشأن نزول الآية بسبب تصدق علي أمير

٢٠٥

الله من القتل ، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة (١). وأمر رسول الله عبادة بن الصامت أن يجليهم.

فجعلت قينقاع تقول له : يا أبا الوليد ، تفعل بنا هذا ونحن مواليك من بين الأوس والخزرج؟! فقال عبادة : لما حاربتم رسول الله جئت إليه وقلت له : اني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم. فقال ابن ابيّ : تبرّأت من حلف مواليك؟ ما هذه بيدهم عندك. وذكّره بمواطن بلائهم. فقال عبادة : أبا الحباب أما والله انك لمعصم بأمر سترى غبّه غدا ، فلقد محا الاسلام العهود.

فقالت قينقاع : يا محمد ، إن لنا دينا في الناس. وطلبوا التنفّس.

فقال عبادة : لكم ثلاث ، لا أزيدكم عليها ، وهذا أمر رسول الله ، ولو كنت أنا لما نفّستكم! (٢) فأخذوا بالخروج.

وجاء ابن أبي ببعضهم يريد أن يكلم رسول الله أن يقرّهم في ديارهم.

فوجد على باب النبيّ عويم بن ساعدة ، فذهب ليدخل فردّه عويم وقال :

لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله. فدفعه ابن ابي ، فغلظ عليه عويم ودفعه فجرح وجهه وسال دمه ، فأخذ يمسح الدم عن وجهه ، وتصايح حلفاؤه من

__________________

ـ المؤمنين عليه‌السلام بخاتمه على المسكين في ركوع صلاته في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا نسلّم به ، ونحوّل البحث في ذلك الى الكثير الكثير مما كتب في ذلك من التفسير والعقائد والكلام في الامامة وفضائل الامام أمير المؤمنين علي ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وسورة المائدة من أواخر ما نزل وليس هنا. وقد روى خبر شفاعة ابن ابيّ لهم ونزول الآيات الى قوله «نادمين» اعلام الورى ١ : ١٧٥ والمناقب ١ : ١٩١.

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨ وفي السيرة ٣ : ٥١ ، ٥٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٩.

٢٠٦

اليهود؟! قالوا : يا أبا الحباب لا نقيم بدار أصاب وجهك فيها هذا ولا نقدر أن نغيره! فجعل ابن ابي يصيح عليهم يقول : ويحكم قرّوا! وجعلوا هم يتصايحون : لا نقيم بدار أصاب وجهك فيها هذا ولا نستطيع تغييره!

وقبض محمد بن مسلمة أموالهم (١) وخمّس رسول الله ما أصاب منهم (وهو أول خمس خمّسه بعد آية الخمس) وقسّم ما بقي على أصحابه. ووهب لمحمد بن مسلمة درعا من دروعهم ، وأعطى سعد بن معاذ درعا يقال لها السّحل .. وأخذ هو من سلاحهم ثلاث قسيّ : قوس تدعى الكتوم كسرت باحد ، وقوس تدعى الرّوحاء ، وقوس تدعى البيضاء. وأخذ من سلاحهم أيضا درعين : درعا يقال لها الصّغدية واخرى : فضة. وثلاثة أسياف : البتّار والقلعي (نسبة الى قلعة بالبادية) وثلاثة أرماح.

ولما مضت ثلاثة أيام خرج عبادة في آثارهم ، حتى بلغ بهم خلف دباب سالكين طريق الشام ، ثم رجع.

فلما نزلوا في يهود وادي القرى أقاموا فيهم شهرا ... وكانوا قد حملوا الذريّة والنساء على الابل وهم يمشون راجلين .. فحمل يهود وادي القرى من كان راجلا منهم ، وأعانوهم ، ثم ساروا حتى لحقوا بأذرعات ، ولم يبقوا بها الا قليلا (٢).

وقد روى القمي في تفسيره وابن اسحاق عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس وعنه في «التبيان» بأن الآيات التي نزلت في بني قينقاع هي الآيات من سورة آل عمران : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ* قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨ ـ ١٨٠. وأذرعات كانت أول بلدة بحدود الاردن من الحجاز.

٢٠٧

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(١).

وفي الآيات بوحدة سياقها قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) مما يومىء الى وقوع دعوة الرسول لفريق من أهل الكتاب (بني قينقاع) وتولّيهم وإعراضهم. فهي نزلت بعد الواقعة.

وفي تاريخ الغزوة قال الواقدي : حاصرهم النبيّ يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا (من الهجرة) الى هلال ذي القعدة (٢) وكان لواء رسول الله مع حمزة (٣) وفي ذي القعدة قعد النبيّ عن القتال ، ولعله كان من حوادث ما بعد بدر :

صفوان يريد اغتيال الرسول :

روى ابن اسحاق عن عروة بن الزبير : أن عمير بن وهب الجمحي كان شيطانا من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله وأصحابه ، ويلقون منه عناء وهو بمكة. وكان ممن حضر بدرا مع المشركين واسر ابنه وهب. وكان بعد بدر بيسير جالسا مع صفوان بن أميّة الجمحي ، في حجر الكعبة ، فذكر مصاب أهل بدر من قريش وأصحاب القليب منهم.

__________________

(١) تفسير القمي : ١ : ٩٧ وابن هشام ٣ : ٥١ وعنه في التبيان ٢ : ٤٠٦ وعنه في مجمع البيان ٢ : ٧٠٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٤.

(٣) الطبري ٢ : ٤٨١.

٢٠٨

فقال صفوان : والله لا خير في العيش بعدهم!

قال له عمير : صدقت والله ، أما والله لو لا دين عليّ ليس عندي ما يقضيه وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت الى محمد حتى أقتله ، ولي عندهم حجة فانّ ابني أسير في أيديهم.

فقال صفوان : دينك علي فانا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي ما بقوا.

فأمر عمير بسفه فشحذ وسمّ ، ثم انطلق حتى قدم المدينة.

فبينا عمر بن الخطّاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ، واذا بعمير بن وهب أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا سيفه. فقال عمر : هذا الكلب عدوّ الله عمير بن وهب ، والله ما جاء الا لشرّ ، وهو الذي حرّش بيننا يوم بدر.

ثم دخل عمر على رسول الله فقال له : يا نبيّ الله ، هذا عدوّ الله عمير بن وهب قد جاء متوشّحا سيفه. قال : فأدخله عليّ.

فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فلبّبه بها ، وقال لرجال من الأنصار كانوا معه : ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث فانه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله.

فلما رآه رسول الله قال : أرسله يا عمر. ثم قال لعمير : ادن يا عمير. فدنا وقال : انعموا صباحا.

فقال رسول الله : قد أكرمنا الله بتحيّة خير من تحيّتك يا عمير ، بالسلام تحية أهل الجنة.

فقال عمير : أما والله يا محمد ، إنّي لحديث عهد بها.

٢٠٩

قال : فما جاء بك يا عمير (١)؟

فقال : جئت في فكاك ابني (وهب).

فقال له : كذبت! بل قلت لصفوان بن أميّة وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم : والله للموت أهون علينا من البقاء مع ما صنع محمد بنا! وهل حياة بعد أهل القليب؟!

فقلت أنت : لو لا عيالي ودين علي لأرحتك من محمد!

فقال صفوان : عليّ أن أقضي دينك وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنّ ما يصيبهنّ من خير أو شر!

فقلت أنت فاكتمها علي وجهّزني حتى أذهب فأقتله! فجئت لتقتلني!

فقال : صدقت يا رسول الله ، فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله (٢).

فقال رسول الله : أطلقوا له أسيره ، وفقّهوه في دينه وأقرئوه القرآن.

فقال عمير : يا رسول الله ، إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله ، شديد الأذى لمن كان على دين الله عزوجل ، وأنا احب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم الى الله تعالى والى رسوله وإلى الاسلام ، لعلّ الله يهديهم ، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت اوذي أصحابك في دينهم؟

فأذن له رسول الله ، فلحق بمكة.

فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو الى الاسلام ويؤذي من خالفه أذى

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣١٦ ، ٣١٧ ومغازي الواقدي ١ : ١٢٥ ـ ١٢٨ بطريق آخر.

(٢) الاحتجاج على أهل اللجاج ١ : ٣٣٤ عن علي عليه‌السلام ، ورواه في بحار الأنوار ١٩ : ٣٢٦ عن المنتقى للكازروني عن ابن اسحاق. وفي ١٨ : ١٤٠ مختصر خبره عن مناقب آل أبي طالب للحلبي ١ : ١١٣.

٢١٠

شديدا. فأسلم على يديه ناس كثير (١).

وروى مثله الواقدي في «المغازي» بسنده عن عاصم بن عمر بن قتادة. ثم روى عن عبد الله بن عمرو بن أميّة قال : لما قدم عمير بن وهب نزل في أهله ولم يقرب صفوان بن أميّة ، وأظهر الاسلام ودعا إليه ، فبلغ صفوان .. ووقف عليه عمير وهو في الحجر فقال : أبا وهب! فأعرض صفوان عنه ، فقال عمير : أنت سيد من ساداتنا ، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر والذبح له؟ أهذا دين؟! أشهد أن لا إله الا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله! فلم يجبه صفوان بكلمة (٢).

زواج علي بالزهراء عليهما‌السلام (الزفاف):

مرّ أن الزهراء عقدت لعلي عليهما‌السلام لليلتين بقيتا من شهر صفر بعد الهجرة ، أي قبل تحول حول الهجرة ، فبعضهم قال : بعد سنة من الهجرة ، وبعضهم قال : في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة وهو يقصد البدء بالسنة الثانية من المحرم ، فكلاهما كان يقصد معنى واحدا.

وأما ـ على المصطلح العربي القديم ـ بناء علي عليه‌السلام بها أي الزفاف : فقد نقل الطبري عن الواقدي بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : إن علي بن أبي طالب بنى بفاطمة عليهما‌السلام في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا (٣) وقد روى صدره في موضع قبل هذا (٤) وبنفس السند والنص (تقريبا) رواه الدولابي في «الذرية

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣١٦ ـ ٣١٨ بتصرف.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٢٥ ـ ١٢٨.

(٣) الطبري ٢ : ٤٨٥ ، ٤٨٦.

(٤) الطبري ٢ : ٤١٠.

٢١١

الطاهرة» عن الصادق عليه‌السلام ، وعنه الأربلي في «كشف الغمة» وعنه المجلسي في «بحار الأنوار» (١).

أما عن اليوم فقد عيّنه المفيد في «مسارّ الشيعة» (٢) والطوسي في «المصباح» باليوم الأول منه (٣). وعليه فزفافها كان بعد قدوم اختها زينب زوجة أبي العاص بن الربيع الى المدينة اذ كان ذلك بعد بدر بشهر أو شيعه (٤) أي قريب منه.

ومع حضور اختها الاخرى أمّ كلثوم ، أما الاخرى : رقية زوجة عثمان ، فقد قالوا : انها مرضت قبل بدر وماتت بعد بدر وقبل رجوع الرسول الى المدينة ، أي قبل زفاف اختها فاطمة في أول ذي الحجة بأكثر من الأربعين يوما تقريبا.

ولكن سيأتي ترجيح أنها توفيت في ذي الحجة او محرم أي بعد زفاف فاطمة ، فهي أيضا كانت حاضرة شاهدة.

من سنن ليلة الزفاف :

من سننه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة زفاف ابنته عليها‌السلام ما رواه الخوارزمي في «المناقب» والكنجي الشافعي في «كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه‌السلام» عن الحافظ ابن بطة العكبري بسند وصفه بالحسن العالي عن ابن عباس قال :

__________________

(١) الذرية الطاهرة : ٩٣ وكشف الغمة ١ : ٣٦٤ وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٢ وراجع فصل زواجها من هذا الكتاب : ١٠٤.

(٢) مسارّ الشيعة : ٥٣ ولكنه يقصد العقد لا الزفاف ، وأما الزفاف فذكره في الواحد والعشرين من المحرم لسنة ثلاث من الهجرة : ٦١ ، ٦٢ ط قم. وكذلك في حدائق الرياض له نقله في الاقبال ونقله عنه في بحار الأنوار ٤٣ : ٩٢.

(٣) كما في بحار الأنوار ٤٣ : ٩٢.

(٤) ابن هشام ٢ : ٣٠٨.

٢١٢

إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل على النساء فقال لهن : اني قد زوّجت ابنتي لابن عمّي ، وقد علمتن منزلتها مني ، واني دافعها إليه ، ألا فدونكن ابنتكن.

فقمن فجعلن في بيتها فراشا ، حشوه ليف ، ووسادة ، وكساء خيبيريا ، ومخضبا وهو المركن (١) وصارت أم أيمن البوّابة. وقمن الى الفتاة فعلّقن عليها من حليهنّ وطيبنّها. ودعا رسول الله بلالا فقال له : اني قد زوّجت فاطمة ابنتي بابن عمي وأنا احب أن يكون من سنن امتي الطعام عند النكاح ، اذهب يا بلال الى الغنم وخذ شاتا وخمسة أمداد (٢) شعيرا ، واجعل لي قصعة (٣) فلعلّي أجمع عليها المهاجرين والأنصار! ففعل ذلك ، وأتاه بها حين فرغ فوضعها بين يديه ، فطعن في أعلاها وبرّك (من فمه) ثم قال : يا بلال ، ادع الناس من المسجد ، زفّة زفّة (٤).

فجعل الناس يزفّون ، كلما فرغت زفة وردت اخرى حتى فرغ الناس ، وفضل منها. فعمد النبيّ الى فضل ما فيها فبارك فيه (من فمه) ثم قال : يا بلال ، احمل الى امّهاتك فقل لهن : كلن وأطعمن من غشيكن. ففعل بلال ذلك.

ثم ان رسول الله جاء الى بيته ومعه علي عليهما‌السلام ، فهتف بفاطمة ، فلما أقبلت رأت زوجها مع رسول الله! فقال لها رسول الله : ادني مني. فدنت منه ، فأخذ بيدها ويد علي ، فلما أراد أن يجعل كفّها في كفّ علي ضاق صدرها ودمعت عيناها! فأشفق رسول الله أن يكون بكاؤها لأن عليا لا مال له! فرفع رسول الله رأسه وقال لها :

ما يبكيك؟! فو الله ما ألوتك (٥) في نفسي ، ولقد أصبت بك القدر وزوّجتك خير أهلي ، وأيم الله لقد زوجتك سيدا في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين.

__________________

(١) يغسل فيه الثياب.

(٢) المد : ثلاثة ارباع الكيلو أو أقل ، ولعله ٧٠٠ غراما.

(٣) القصعة : اناء كبير يسع لعشرة أشخاص.

(٤) جماعة ثمّ جماعة.

(٥) قصّرت عنك.

٢١٣

فلانت وأمكنته من كفّها (فجعل كفّها في كف علي) وقال لهما : اذهبا الى بيتكما (١) ، بارك الله لكما ، وأصلح بالكما ، ولا تهيجا شيئا حتى آتيكما.

فأقبلا حتى جلسا مجلسهما ، وحولهما امهات المؤمنين من وراء حجاب (٢).

ثم أقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى دقّ الباب فقالت أم أيمن : من هذا؟ فقال : أنا

__________________

(١) روى الطبرسي عن علي بن ابراهيم القمي خبرا عن حوادث أوائل ما بعد الهجرة ، وبناء المسجد النبوي الشريف فقال : وابتنى رسول الله منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وخطّ لاصحابه خططا فبنوا منازلهم فيها ... وخطّ لعلي بن ابي طالب عليه‌السلام مثل ما خطّ لهم ، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد. ثم روى سدّ الأبواب ، ثم زواج علي بالزهراء عليها‌السلام فقال : قال له رسول الله : هيّئ منزلا حتى تحوّل إليه فاطمة. فقال : يا رسول الله ما هاهنا منزل الّا منزل حارثة بن النعمان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله لقد استحيينا من حارثة! قد أخذنا عامة منازله!

فبلغ ذلك حارثة ، فجاء الى رسول الله فقال : يا رسول الله أنا ومالي لله ولرسوله ، والله ما شيء أحبّ إليّ من ما تأخذه ، والذي تأخذه أحبّ إليّ مما تترك.

فجزاه رسول الله خيرا.

وحوّلت فاطمة الى علي عليهما‌السلام في منزل حارثة. اعلام الورى ١ : ١٦١ والطبقات الكبرى لابن سعد ٨ : ١٤. ولكن فأين المنزل الذي خطّه لعلي عليه‌السلام؟ وما هي عامة منازل حارثة التي أخذها منه النبي؟ الا منزلين أنزل فيها صفية بنت حيّي بن اخطب بعد خيبر في اوائل السابعة ، وكذلك مارية القبطية أمّ ابراهيم قبل أن ينقلها الى المشربة ولم نعهد منزلا أخذه منه قبل هذا.

(٢) هذا ولم يجب الحجاب بعد. وفاصل بيتهما عن بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله قليل ، وليس في هذا الخبر المعتبر ما جاء في القصص من أراجيز النساء : سرن بعون الله جاراتي ، نقلها الحلبي في مناقب آل ابي طالب ٣ : ٤٠٣ عن كتاب مولد فاطمة للصدوق ، وفيه حضور سلمان وجعفر وعقيل! وهم يومئذ لم يكونوا بالمدينة قطعاً ، واُم سلمة وحفصة بوصف : نساء النبي صلّى الله عليه وآله ، ولم يتزوجها يومئذ ، ولم يذكر سند الخبر حتى ينظر فيه من أين هو؟

٢١٤

رسول الله. ففتحت له الباب وهي تقول : بأبي أنت وأمي. فقال لها رسول الله : أثمّ أخي يا أم أيمن؟ فقالت له : ومن أخوك؟ فقال : علي بن أبي طالب. فقالت : يا رسول الله هو أخوك وزوّجته ابنتك؟ فقال : نعم. فقالت : انما نعرف الحلال والحرام منك يا رسول الله.

ثم إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل ، فلما رآه النساء من وراء الستار وثبن وخرجن مسرعات ، فلما بصرت به (أسماء بنت عميس) تهيّأت للخروج ، فقال لها رسول الله : على رسلك ، من أنت؟

قالت : أنا التي أحرس ابنتك ، إن الفتاة ليلة يبنى بها لا بدّ لها من امرأة تكون قريبة منها إن عرضت لها حاجة أو أرادت شيئا أفضت بذلك إليها.

فقال لها رسول الله : فاني أسأل الله أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك ، وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم. ناوليني المخضب واملئيه ماء.

فنهضت (أسماء) فملأت المخضب ماء وأتته به ، فغسل النبيّ منه وجهه وقدميه ومجّ فيه. ثم دعا بفاطمة فقامت إليه وعليها ازارها والنقبة (١) فأخذ كفا من الماء فضرب به على رأسها وكفا بين يديها ، ثم رش منه على جيده وجلدها ، ثم قال : اللهم انها مني وأنا منها ، فكما أذهبت عني الرجس وطهرتني تطهيرا فطهّرها. ثم أمرها أن تشرب من الماء وتغسل وجهها وتتمضمض وتستنشق ، ثم دعا بمخضب آخر ودعا عليا وصنع به كما صنع بها ودعا له كما دعا لها ، ثم قال : جمع الله بينكما ، وبارك في نسلكما ، وأصلح بالكما ، قوما الى بيتكما.

ثم خرج وأغلق عليهما الباب وانطلق ، ودخل فاغلق عليه بابه.

ثم علق الكنجي على الخبر فقال : هكذا رواه الحافظ ابن بطة العكبري ، وهو حسن ، الا أن ذكر أسماء بنت عميس في هذا الحديث غير صحيح ، لأن أسماء

__________________

(١) هذا ولم يجب الحجاب بعد.

٢١٥

هذه امرأة جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام وكانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب بالحبشة في الهجرة الثانية ، وقدم بها يوم فتح خيبر سنة سبع ، وقال النبيّ : ما أدري أنا بأيهما أسرّ : بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ وكان زواج فاطمة عليها‌السلام بعد وقعة بدر بأيام يسيرة ، فما أرى نسبتها في هذا الحديث الا غلطا وقع من بعض الرواة ، نعم يصح أن أسماء المذكورة في هذا الحديث التي حضرت في عرس فاطمة انما هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري ، وهي لها أحاديث عن النبيّ ، وروى عنها شهر بن حوشب وغيره من التابعين (١).

ونقل الحديث عنه الأربلي في «كشف الغمة» ولكنه اختار وجها آخر : فقد نقل عن كتاب «الذرية الطاهرة» لأبي بشر بن حمّاد الأنصاري الدولابي : بسنده عن (أسماء بنت عميس) قالت : رهن علي عليه‌السلام درعه عند يهودي فأولم لفاطمة .. وكانت وليمته آصعا (٢) من شعير وتمر وحيس (٣).

قالت : ولقد جهّزت فاطمة بنت رسول الله الى علي بن أبي طالب عليهما‌السلام وما كان حشو فراشهما ووسائدهما الا ليفا!

ثم علق عليه فقال : قد تظاهرت الروايات ـ كما ترى ـ بأن (أسماء بنت عميس) حضرت زفاف فاطمة ... وأسماء كانت مهاجرة بأرض الحبشة مع

__________________

(١) كفاية الطالب : ٣٠٧.

(٢) جمع الصاع ٧٥٠ / ٢ كيلو غراما.

(٣) يبدو أنهم أعدّوا من الشعير خبزا ومن التمر حيسا ، ونجد معنى الحيس فيما رواه الخوارزمي في مناقبه بسنده عن علي عليه‌السلام : أن النبيّ أخذ دراهم فدفعها الي وقال : اشتر سمنا وتمرا وأقطا (لبنا مجفّفا متحجرا) فاشتريت واقبلت بها الى رسول الله ، فدعا بسفرة من أدم وحسر عن ذراعيه وجعل يشدخ التمر والسمن ويخلطهما بالاقط حتى اتخذه حيسا ـ كما في كشف الغمة ١ : ٣٦١.

٢١٦

زوجها جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولم تعد هي ولا زوجها الا يوم فتح خيبر وذلك في سنة ست من الهجرة ، ولم تشهد الزفاف لأنه كان في ذي الحجة من سنة اثنتين. والتي شهدت الزفاف (سلمى بنت عميس) اختها وهي زوجة حمزة بن عبد المطلب ، ولعلّ الاخبار عنها ، ولكن كانت أسماء أشهر من اختها عند الرواة فرووا عنها ، أو سهى راو واحد فتبعوه! (١).

وقد ورد التنبيه الى هذا في هامش النسخة الخطية من كتاب الدولابي المطبوع أيضا من دون الذيل (٢).

ولنا أن نجمع فنقول بحضور الاثنتين ، وقد يقرّب توجيه الاربلي بما مرّ عن أسماء أنها أجابت رسول الله : إن الفتاة ليلة يبنى بها لا بد لها من امرأة تكون قريبة منها (٣) على أن تكون قريبة من القرابة ـ لا من القرب ـ فان سلمى زوجة حمزة واخت أسماء زوجة جعفر تكون قريبة من الزهراء ، وليس كذلك اسماء بنت السكن الأنصارية.

ولكن محقق البحار المرحوم الرّباني الشيرازي رجّح توجيه الكنجي الشافعي (٤) لأنها كان يقال لها خطيبة النساء ، وكانت تكنى بام سلمة ، فما روي في قصة زفاف الزهراء عن أمّ سلمة انما هي أسماء بنت السكن لا أمّ سلمة التي تزوجها النبي بعد ذلك باكثر من سنة (٥). والحق معه.

__________________

(١) كشف الغمة ١ : ٣٦٦ ، ٣٦٧.

(٢) وتاريخ النسخة : ٦٦٩ ه‍ ووفاة الاربلي ٦٩٣ ه‍.

(٣) كشف الغمة ١ : ٣٥١.

(٤) بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٢.

(٥) بحار الأنوار ٤٣ : ١٣٢.

٢١٧

صباح النكاح :

ومن سنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله صباح النكاح : ما أخرجه ابن سعد في «الطبقات» بسنده عن (أسماء بنت عميس) قالت : كنت في زفاف فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما أصبحنا جاء النبيّ الى الباب فقال : يا أم أيمن ، ادعي لي أخي! قالت : هو اخوك وتنكحه ابنتك؟ قال : نعم ، يا أم أيمن. وسمعن النساء صوت النبيّ فتخبّأن ، واختبأت في ناحية.

فجاء علي ، فنضح النبيّ عليه من الماء ودعا له. ثم قال : ادعي لي فاطمة. فجاءته تمشي على استحياء وخجل ، فقال لها رسول الله : اسكني (اي اطمئني) فقد أنكحتك أحبّ أهل بيتي إليّ. ثم نضح النبيّ عليها من الماء ودعا لها ، ثم رجع.

فرآني بين يديه فقال : من هذا؟ قلت : أنا. قال : أسماء؟ قلت : نعم. قال : جئت تكرمين فاطمة بنت رسول الله في زفافها؟ قلت : نعم. فدعا لي (١).

وحدّث سبط ابن الجوزي في «تذكرة الامة» عنه عن الخطيب القزويني صاحب «المناقب» وبسنده عن عبد الرزاق عن معمر بن راشد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما زوّج رسول الله فاطمة من علي عليهم‌السلام

__________________

(١) الطبقات ٨ : ٢٤ وابن حنبل في الفضائل في موضعين برقمي : ٩٥٨ و ١٣٤٢ والدولابي في الذرية الطاهرة : ٩٦ ، ٩٧ وعنه في كشف الغمة ١ : ٣٦٦ وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ١٣٧ والبحراني في العوالم ١١ : ١٦٨. ويبدو لي أن هذا النص هو الاصل فيما مرّ عن الخوارزمي في المناقب والكنجي الشافعي في كفاية الطالب عن ابن عباس ، وفيه أن الوليمة كانت من النبيّ خلافا للسنة ، وفيه تجاهل للفاصل الزمني الطويل : عشرة أشهر بين عقد الزواج والزفاف ، بل تجاهل للعقد أصلا وبلا ائتمار من الزهراء عليها‌السلام ، ومستبعدات أخر أيضا ، فراجع.

٢١٨

قالت له : يا رسول الله ، زوّجتني من عائل لا شيء له؟

فقال لها رسول الله : أما ترضين أن يكون الله اطلع على أهل الأرض فاختار منهم رجلين : أحدهما : أبوك ، والآخر بعلك؟!

ثم علّق عليه فقال : قد تكلّموا في هذا الحديث وقالوا : رواه عبد الرزاق وكان منسوبا الى التشيع!

ثم قال : وقد ذكرنا أن عبد الرزاق هذا من كبار العلماء وأنه شيخ أحمد بن حنبل وقد أخرج عنه الشيخان في الصحيحين ، فلا يلتفت الى من تكلم فيه لغرض فاسد! (١).

غزوة السّويق (٢) :

روى ابن اسحاق بسنده عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري : أن أبا سفيان حين رجع الى مكة ، ورجعت فلول المنهزمين من قريش من بدر ، نذر أن لا يمسّ رأسه ماء من جنابة (٣) حتى يغزو محمدا ـ صلى الله عليه (وآله) وسلم ـ.

فخرج في أربعين راكبا (٤) أو مائتين ، ليبرّ يمينه. فسلك الطريق النجدية (صحراء نجد) حتى نزل على قناة الى جبل ثيب ، على نحو بريد (٥) من المدينة.

__________________

(١) تذكرة الامة : ٣٠٨ ، ٣٠٩.

(٢) السّويق : قمح أو شعير يقلى ثم يطحن زادا للمسافر يخلطه بلبن أو بسمن أو عسل أو ماء فيأكله. وسميت الغزوة به لكثرة ما طرح منه المشركون في انصرافهم يتخفّفون منه.

(٣) كان الاغتسال من الجنابة من بقايا الحنفيّة الابراهيمية في الجاهلية ، كما قاله في الروض الانف.

(٤) كما عن محمد بن كعب القرظي في الواقدي ١ : ٤٧.

(٥) تساوي ٢٢ كيلومترا.

٢١٩

ثم خرج ليلا حتى أتى الى حييّ بن أخطب من رءوس بني النضير ، فطرق عليه بابه ، فخافه وأبى أن يفتح عليه ، فانصرف عنه الى سلّام بن مشكم صاحب كنزهم (١) فأذن له وسقاه وقراه وأعلمه بأسرار الأخبار ثم رجع الى أصحابه.

ثم بعث رجالا من قريش الى ناحية العريض من المدينة ، فوجدوا بها رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما ، فقتلوهما وحرّقوا حرثهما أو صغار النخل ، ثم رجعوا.

فاستعمل رسول الله على المدينة أبا لبابة بشير بن عبد المنذر (كما كان من قبل) ثم خرج في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر (بناحية المعدن تبعد عن المدينة ثمانية برد) وفاته أبو سفيان وأصحابه ، فرجع. فقال أصحابه : أنطمع أن تكون لنا غزوة؟

قال : نعم. فسمّوها : غزوة السّويق ، لأنهم رأوا سويقا كثيرا قد طرحه المشركون يتخفّفون منه ليسرعوا هربا. وكان ذلك في ذي الحجة (٢). يوم الأحد لخمس ليال خلون من ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا ، فغاب خمسة أيام (٣) ومعنى هذا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله رجع الى المدينة ليلة عيد الأضحى.

عيد الأضحى :

وفي عيد الأضحى روى النميري البصري بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كان أول أضحى رآه المسلمون صبيحة عشر من ذي الحجة بعد

__________________

(١) بيت مالهم.

(٢) ابن هشام ٣ : ٤٧ ، ٤٨ وإعلام الورى ١ : ١٧٢ والمناقب ١ : ١٩٠ مختصرا.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٨١.

٢٢٠