التيسير في التفسير للقرآن - ج ١

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

الكلام في هذه الحالة لا تأثير له ، وما عليك إلّا أن تبلّغ الرسالة لا غير (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ).

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

هنا ينبغي الالتفات إلى عدّة أمور :

١ ـ يستفاد من الآية ضمنيّا لزوم تجنّب مجادلة المعاندين الذين لا يخضعون للمنطق السليم.

٢ ـ المقصود بالأميّين في هذه الآية هم المشركون ، والسبب في وصف المشركين بالأميّين في قبال أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ هو أنّ المشركين لم يملكوا كتابا سماويا حتى يكون حافزا لهم على تعلّم القراءة والكتابة.

٣ ـ يتّضح من هذه الآية بكلّ جلاء أنّ أسلوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أسلوب فرض الفكرة والعقيدة ، بل كان أسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام الناس ، ثم يتركهم وشأنهم لكي يتّخذوا قرارهم في اتّباع الحقّ بأنفسهم (١).

س ١٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١) [آل عمران : ٢١]؟!

الجواب / قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لمعاوية : «يا معاوية ، إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، ولم يرض لنا بالدنيا ثوابا. يا معاوية ، إنّ نبيّ الله زكريّا قد نشر بالمناشير ، ويحيى بن زكريا قتله قومه وهو يدعوهم إلى الله

__________________

(١) الأمثل : ج ٢ ، ص ٣١٧ ـ ٣١٨.

٣٢١

عزوجل «وذلك لهوان الدنيا على الله». إنّ أولياء الشيطان قد حاربوا أولياء الرحمن ، وقد قال الله عزوجل في كتابه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١).

س ٢٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٢) [آل عمران : ٢٢]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : (أُولئِكَ الَّذِينَ) كفروا بآيات الله ، وقتلوا الأنبياء ، والآمرين بالمعروف (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) يريد بأعمالهم ما هم عليه من ادعائهم التمسك بالتوراة ، وإقامة شريعة موسى عليه‌السلام. وأراد ببطلانها في الدنيا أنها لم تحقن دماءهم وأموالهم ، لم ينالوا بها الثناء والمدح. وفي الآخرة أنهم لم يستحقوا بها مثوبة ، فصارت كأنها لم تكن ، لأن حبوط العمل عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه الذي يستحق عليه الثواب والأجر والمدح وحسن الذكر ، وإنما تحبط الطاعة حتى تصير كأنها لم تفعل إذا وقعت على خلاف الوجه المأمور به. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنهم العذاب (٢).

س ٢١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤) [آل عمران : ٢٣ ـ ٢٤]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : لما قدم تعالى ذكر الحجاج ، بين أنهم

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس : ١٥٨.

(٢) مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٢٦٤.

٣٢٢

إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة ، وأعرضوا عن المحجة فقال : (أَلَمْ تَرَ) معناها : ينته علمك (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) أي : أعطوا نصيبا أي : حظا (مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ). اختلف فيه فقيل : معناه التوراة ، دعا إليها اليهود ، فأبوا لعلمهم بلزون الحجة لهم لما فيه من الدلالات على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدقه. وإنما قال : (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) لأنهم كانوا يعلمون بعض ما فيه. وقيل : معناه القرآن ، دعوا إلى القرآن لأن ما فيه موافق لما في التوراة ، من أصول الديانة ، وأركان الشريعة ، وفي الصفة التي تقدمت البشارة بها. (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) يحتمل ثلاثة أشياء أحدها : إن معناه ليحكم بينهم في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والثاني : إن معناه ليحكم بينهم في أمر إبراهيم ، وأن دينه الإسلام والثالث : معناه ليحكم بينهم في أمر الرجم. فقد روي عن بن عباس أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا ، وكانا ذوي شرف فيهم ، وكان في كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، ورجوا أن يكون عند رسول الله رخصة في أمرهما ، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله ، فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان بن أوفى ، وبحري بن عمرو : جرت عليهما يا محمد ، ليس عليهما الرجم فقال لهم رسول الله : بيني وبينكم التوراة. قالوا قد أنصفتنا. قال : فمن أعلمكم بالتوراة؟ قالوا رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا. فارسلوا إليه فقدم المدينة ، وكان جبرائيل قد وصفه لرسول الله ، فقال له رسول الله : أنت ابن صوريا؟ قال : نعم. قال : انت أعلم اليهود؟ قال : كذلك يزعمون. قال : فدعا رسول الله بشئ من التوراة فيهما الرجم مكتوب ، فقال له : إقرأ. فلم أتى على آية الرجم ، ثم قرأعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى اليهود ، بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا ، وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى ، انتظر بها حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باليهوديين فرجما. فغضب اليهود لذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآية. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ

٣٢٣

مِنْهُمْ) أي : طائفة منهم ، عن الداعي (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن إتباع الحق (ذلِكَ) معناه : شأنهم ذلك ، فهو خبر مبتدأ محذوف. فالله تعالى بين العلة في إعراضهم عنه ، مع معرفتهم به ، السبب الذي جرأهم على الحج والإنكار. (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي : لن تصيبنا النار (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وفيه قولان أحدهما : إنها الأيام التي عبدوا فيها العجل ، وهي أربعون يوما. إلا أن الحسن قال سبعة أيام. والثاني : إنهم أرادوا أياما منقطعة. (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) أي : أطمعهم في غير مطمع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : افتراءهم وكذبهم. واختلفوا في الإفتراء الذي غرهم على قولين أحدهما : قولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، والأخر : قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ، وهذا لا يدل على خلاف ما نذهب إليه من جواز العفو ، وإخراج المعاقبين من أهل الصلاة من النار ، لأنا نقول إن عقاب من ثبت دوام ثوابه بإيمانه ، لا يكون إلا منقطعا ، وإن لم يحط علما بقدر عقابه ، ولا نقول أيام عقابه بعدد أيام عصيانه ، كما قالوا (١).

س ٢٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٥) [آل عمران : ٢٥]؟!

ج : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابن مسعود : «يابن مسعود ، إذا تلوت كتاب الله تعالى فأتيت على آية فيها أمر ونهي ، فردّدها نظرا واعتبارا فيها ، ولا تسه عن ذلك ، فإنّ نهيه يدلّ على ترك المعاصي ، وأمره يدلّ على عمل البرّ والصّلاح ، فإن الله تعالى يقول : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٢٦٥.

(٢) مكارم الأخلاق : ص ٤٥٢.

٣٢٤

س ٢٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦) [آل عمران : ٢٦]؟!

الجواب / قال عبد الأعلى مولى آل سام ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أليس قد أتى الله عزوجل بني أميّة الملك؟

قال عليه‌السلام : «ليس حيث تذهب ، إنّ الله عزوجل أتانا الملك وأخذته بنو أميّة ، بمنزلة الرجل يكون له الثواب فيأخذه الآخر ، فليس هو للّذي أخذه» (١).

س ٢٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧) [آل عمران : ٢٧]؟!

الجواب / سئل الحسن بن علي بن محمد عليهم‌السلام عن الموت ، ما هو؟

قال عليه‌السلام : «هو التصديق بما لا يكون ، حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه الصادق عليه‌السلام قال : إنّ المؤمن إذا مات لم يكن ميّتا ، وإنّ الميّت هو الكافر ، إنّ الله عزوجل يقول : (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) يعني المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن» (٢).

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ٢٦٦ ، ح ٣٨٩.

(٢) معاني الأخبار : ص ٢٩٠ ، ح ١٠.

٣٢٥

س ٢٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨) [آل عمران : ٢٨]؟!

الجواب / أقول : تنهي الآية عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهيا شديدا ، واستثنت من ذلك حالة «التقية».

١ ـ قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا إيمان لمن لا تقيّة له ، ويقول : قال الله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(١).

٢ ـ قال علي بن إبراهيم : إنّ هذه الآية رخصة ، ظاهرها خلاف باطنها ، يدان بظاهرها ولا يدان بباطنها إلّا عند التقيّة ، لأنّ التقيّة رخصة للمؤمن يدين بدين الكافر ، ويصلي بصلاته ، ويصوم بصيامه إذا اتّقاه في الظاهر ، وفي الباطن يدين الله بخلاف ذلك (٢).

س ٢٦ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩) [آل عمران : ٢٩]؟!

الجواب / أقول : نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهيا شديدا ، واستثنت من ذلك حالة «التقية».

إلّا أنّ بعضهم قد يتّخذ من «التقية» في غير محلّها ذريعة لمدّ يد الصداقة إلى الكفّار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم. وبعبارة أخرى أنّهم قد يستغلّون

__________________

(١) تفسير العيّاشي : ج ١ ، ص ١٦٦ ، ح ٢٤.

(٢) تفسير القمّي : ج ١ ، ص ١٠٠.

٣٢٦

«التقية» ويتّخذونها مبرّرا لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام. فهذه الآية تحذّر أمثال هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم الله المحيط بأسرار القلوب والعالم بما ظهر وما خفي.

في الواقع أنّ هذه الآية لكي تنبّه الناس إلى إحاطة الله بأسرارهم الخفية ، تشير إلى أن معرفة الله بأسرارهم إنّما هي جانب صغير من مدى علمه اللا محدود الذي يسع السماوات والأرض. وهو إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة المذنبين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

س ٢٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠) [آل عمران : ٣٠]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي : ومعنى تجد النفس عملها يحتمل أمرين :

أحدهما : جزاء عملها من الثواب أو العقاب.

الثاني : تجد عملها بما ترى من صحائف الحسنات ، والسيئات.

وحكم الآية جار على فريقين ولي الله وعدوه ، فأحدها يرى حسناته ، والآخر يرى سيئاته. ويحتمل أيضا أن يكون متناولا لمن جمع بين الطاعة والمعصية ، فإن من جمع بينها فإنه يرى استحقاقه للعقاب على معاصيه حاصلا ، فإنه يود أيضا أنه لم يكن فعلها. والأمد الغاية التي ينتهي إليها ، قال الطرماح :

كل حي مستكمل عدة العمر

ومرد إذا انقضى أمده

٣٢٧

أي غاية أجله ، فإن قيل كيف يتصل التحذير بالرأفة؟.

قيل : قال الحسن : إن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه : ـ ومعنى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) عذابه ، ومعنى الرؤوف الرحيم بعباده (١).

وقال الشيخ المفيد في قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) : يريد نقمه وعقابه (٢).

س ٢٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢) [آل عمران : ٣١ ـ ٣٢]؟!

الجواب / قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قال الله في محكم كتابه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(٣) فقرن طاعته بطاعته ، ومعصيته بمعصيته ، فكان ذلك دليلا على ما فوّض إليه ، وشاهدا له على من اتّبعه وعصاه ، وبيّن ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم ، فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتّباعه ، والترغيب في تصديقه ، والقبول لدعوته :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فاتّباعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محبّة الله ، ورضاه غفران الذنوب ، وكمال الفوز ، ووجوب الجنّة ، وفي التولّي عنه والإعراض محادّة الله وغضبه وسخطه ، والبعد منه مسكن النار ، وذلك قوله :

__________________

(١) التبيان : ج ٢ الشيخ الطوسي ، ص ٤٣٦.

(٢) تصحيح اعتقادات الإمامية ، الشيخ المفيد ، ص ٨٠.

(٣) النساء : ٨٠.

٣٢٨

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)(١) يعني الجحود به والعصيان له» (٢).

وقال الباقر عليه‌السلام : «... وهل الدّين إلّا الحبّ ...» (٣).

س ٢٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٣) [آل عمران : ٣٣]؟!

الجواب / قال الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام : «نزل آل إبراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين فأسقطوا (آل محمد) من الكتاب» (٤).

أقول : «اصطفى» من الصفو ، وهو خلوص الشيء من الشوائب ، ومنه «الصفا» للحجارة الصافيه. وعليه فالإصطفاء هو تناول صفو الشيء. تقول الآية : إنّ الله أختار آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس جميعا. هذا الإختيار قد يكون «تكوينيا» وقد يكون «تشريعيا» أي أنّ الله قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقا متمّيزا ، وإن لم يكن في هذا الإمتياز ما يجبرهم على إختيارهم وحرّية إرادتهم اختاروه. غير أنّ ذلك التميّز أعدّهم للقيام بهداية البشر ثم على أثر إطاعتهم أوامر الله ، والتقوى والسعي في سبيل هداية الناس نالوا نوعا من التميّز الاكتسابي ، الذي امتزج بتميّزه الذاتي ، فكانوا من المصطفين.

__________________

(١) هود : ١٧.

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ٢٦ ، ح ٤.

(٣) المحاسن : ٢٦٢ ، ٣٢٧.

(٤) تفسير القمي : ج ١ ، ص ١٠٠.

٣٢٩

س ٣٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤) [آل عمران : ٣٤]؟!

الجواب / قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «من زعم أنّه قد فرغ من الأمر فقد كذب ، لأنّ المشيئة لله في خلقه ، يريد ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، قال الله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) آخرها من أوّلها ، وأوّلها من آخرها ، فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنّه كائن وكان في غيره منه ، فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه» (١).

س ٣١ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١) [آل عمران : ٣٥ ـ ٤١]؟!

الجواب / قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إن قلنا لكم في الرجل منّا قولا

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ، ص ١٦٩ ، ح ٣٢.

٣٣٠

فلم يكن فيه ، فكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك ، إنّ الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا مباركا يبرىء الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذني ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل ، فحدّث امرأته حنّة بذلك وهي أمّ مريم ، فلمّا حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما ذكرا ، فلمّا وضعتها أنثى (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) لأنّ البنت لا تكون رسولا ـ [قال الإمام الباقر عليه‌السلام : في رواية أخرى : إنّ امرأة عمران نذرت ما في بطنها محرّرا ، والمحرّر للمسجد يدخله ثمّ لا يخرج منه أبدا ...

فلما وضعتها أدخلتها المسجد ، فساهمت عليها الأنبياء ، فأصابت القرعة زكريّا ، فكفلها زكريّا ، فلم تخرج من المسجد حتّى بلغت ...](١) ـ

يقول الله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ).

فلمّا وهب الله لمريم عيسى عليه‌السلام كان هو الذي بشّر الله به عمران ووعده إيّاه ، فإذا قلنا لكم في الرجل منّا شيئا فكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

فلمّا بلغت مريم صارت في المحراب وأرخت على نفسها سترا وكان لا يراها أحد ، وكان يدخل عليها زكريّا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فكان يقول : (أَنَّى لَكِ هذا) فتقول : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ). والحصور : الذي لا يأتي النساء. قال : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) والعاقر : التي يئست من المحيض

__________________

(١) الكافي : ج ٣ ، ص ١٠٥ ، ح ٤.

٣٣١

(كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) قال زكريا : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) وذلك أنّ زكريّا ظنّ أن الذين بشّروه هم الشّياطين ، فقال : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) فخرس ثلاثة أيّام» (١).

س ٣٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢) [آل عمران : ٤٢]؟!

الجواب / قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «معنى الآية : اصطفاك من ذرّية الأنبياء ، وطهّرك من السّفاح ، واصطفاك لولادة عيسى عليه‌السلام من غير فحل» (٢).

س ٣٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤) [آل عمران : ٤٣ ـ ٤٤]؟!

الجواب / قال الحكم بن عيينة ، سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله في الكتاب : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ)(٣) اصطفاها مرّتين ، والاصطفاء إنّما هو مرّة واحدة؟ قال عليه‌السلام : «يا حكم ، إنّ لهذا تأويلا وتفسيرا».

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ، ص ١٠١.

(٢) مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٧٤٦.

(٣) آل عمران : ٤٢.

٣٣٢

فقال الحكم : فسّره لنا ، أبقاك الله. قال : «يعني اصطفاها أوّلا من ذرّية الأنبياء المصطفين المرسلين ، وطهّرها من أن يكون في ولادتها من آبائها وأمّهاتها سفاح ، واصطفاها بهذا في القرآن (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) شكرا لله.

ثمّ قال لنبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بما غاب عنه من خبر مريم وعيسى : يا محمّد (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) في مريم وابنها وبما خصّهما الله به وفضّلهما وأكرمهما حيث قال : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) يا محمّد ، يعني بذلك لربّ الملائكة (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) حين أيتمت من أبيها» (١).

وقال أبا جعفر عليه‌السلام : «أوّل من سوهم عليه مريم بنت عمران ، وهو قول الله عزوجل : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) والسّهام ستّة» (٢).

س ٣٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥) [آل عمران : ٤٥]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : «أي ذا وجه وجاه» (٣).

س ٣٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤٦) [آل عمران : ٤٦]؟!

الجواب / أقول : تشير هذه الآية إلى تكلّم عيسى عليه‌السلام وهو في المهد.

__________________

(١) تفسير العيّاشي : ج ١ ، ١٧٣ ، ٤٧.

(٢) الخصال : ١٥٦ ، ١٩٨.

(٣) تفسير القمي : ج ١ ، ص ١٠٢.

٣٣٣

فقد جاء في سورة مريم أنّه لدفع التهمة عن أمّة تكلّم في المهد كلاما فصيحا أعرب فيه عن عبوديّته لله ، وعن كونه نبيّا.

ولمّا لم يكن من الممكن أن يولد نبيّ من رحم غير طاهرة ، فإنّه يؤكد بهذا الإعجاز طهارة أمّه.

«المهد» هو كلّ مكان يعدّ لنوم المولود حديثا ، سواء أكان متحرّكا أم ثابتا.

وتشير الآية كذلك إلى أنّ المسيح لا ينطق إلّا بالحق منذ ولادته حتى كهولته ، وأنّه يواصل الدعوة إلى الله وإرشاد الناس ولا يفتر عن ذلك لحظة واحدة.

«الكهولة» هي متوسط العمر ، وقيل إنّها الفترة ما بين السنة الرابعة والثلاثين حتى الحادية والخمسين ، وما قبلها «شاب» وما بعدها «شيخ».

ولعلّ إيراد هذا التعبير عن المسيح ضرب من التنبّؤ بعودة المسيح إلى الدنيا ، إذ أننا نعلم من كتب التاريخ أنّ عيسى عليه‌السلام قد رفع من بين الناس إلى السماء وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وهذا يتّفق مع كثير من الأحاديث الواردة عن عودة المسيح في عهد الإمام المهدي عليه‌السلام ويعيش معه بين الناس ويؤيّده. وبعد ذكر مناقب المختلفة يضيف إليها (وَمِنَ الصَّالِحِينَ). ومن هذا يتّضح أنّ الصلاح من أعظم دواعي الفخر والاعتزاز ، وتنضمّ تحت لوائه القيم الإنسانية الأخرى.

س ٣٦ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧) [آل عمران : ٤٧]؟!

الجواب / أقول : إنّنا نعلم أنّ هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب ، وأنّ

٣٣٤

الله قد دبّر أمر الخلق بحيث إنّ خلق كلّ كائن يتمّ ضمن سلسلة من العوامل. فلكي يولد إنسان قرّر الله أن يكون ذلك من طريق الاتّصال الجنسي ، ونفوذ الحيمن في البويضة. لذلك حقّ لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدّم بسؤالها : كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها ولد بغير أن يكون لها أيّ اتصال جنسي مع أيّ بشر؟ (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ).

فجاءتها الملائكة بأمر ربّها تخبرها بأنّ الله يخلق ما يشاء وكيفما يشاء ، فنظام الطبيعة هذا من خلق الله وهو يأتمر بأمره ، والله قادر على تغيير هذا النظام وقتما يشاء ، فيخلق وفق أسباب وعوامل أخرى غير عادية ما يشاء : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

ثم لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

إنّ تعبير «كن فيكون» إشارة إلى سرعة الخلق.

بديهيّ أن لفظة «كن» تشير في الحقيقة إلى إرادة الله الحاسمة التي لا يعتريها الأخذ والرد.

أي أنّه ما إن يشاء أمرا يصدر أمره بالخلق حتى تتحقّق مشيئته في عالم الوجود.

من الجدير بالالتفات أنّه بشأن خلق عيسى قال : «يخلق» ولكنّه بشأن خلق يحيى قبل بضع آيات قال : «يفعل». ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير ناشىء من اختلاف طريقة خلق هذين النبيّين ، فأحدهما خلق بطريقة طبيعية ، والآخر خلق بطريقة خارقة للطبيعة.

٣٣٥

س ٣٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٤٨) [آل عمران : ٤٨]؟!

الجواب / قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوتيت القرآن ومثليه» ، قالوا : أراد به السّنن ، وقيل : أراد به جميع ما علّمه من أصول الدين (١).

س ٣٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩) [آل عمران : ٤٩]؟!

الجواب / قال الإمام الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ).

قال : «فإن عيسى عليه‌السلام كان يقول لبني إسرائيل : إنّي رسول الله إليكم (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) الأكمه هو الأعمى ، قالوا : ما نرى الذي تصنع إلّا سحرا فأرنا آية نعلم أنّك صادق؟

قال : أرأيتم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ، يقول : ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا ، وما ادّخرتم إلى الليل ، تعلمون أني صادق؟

قالوا : نعم. فكان يقول للرجل : أكلت كذا وكذا ، وشربت كذا وكذا ، ورفعت كذا وكذا. فمنهم من يقبل منه فيؤمن ، ومنهم من ينكر فيكفر ، وكان

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٧٥٢.

٣٣٦

لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين» (١).

س ٣٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (٥٠) [آل عمران : ٥٠]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كان بين داود وعيسى بن مريم أربع مائة سنة ، وكانت شريعة عيسى أنّه بعث بالتوحيد والإخلاص ، وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيّين ، وشرع له في الكتاب إقام الصلاة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحريم الحرام وتحليل الحلال.

وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ، وليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ، ولا فرض مواريث ، وأنزل عليه تخفيف ما كان نزل على موسى عليه‌السلام في التوراة ، وهو قول الله تعالى في الذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وأمر عيسى من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل» (٢).

س ٤٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١) [آل عمران : ٥١]؟!

الجواب / أقول : يتّضح من هذه الآية ومن آيات أخرى أنّ السيد المسيح ، لكي يزيل كلّ إبهام وخطأ فيما يتعلّق بولادته الخارقة للعادة ، ولكي لا يتّخذونها ذريعة لتأليهه ، كثيرا ما يكرّر القول (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) و (إِنِّي

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ، ص ١٠٢.

(٢) تفسير العيّاشي : ج ١ ، ص ١٧٥ ، ح ٥٢.

٣٣٧

عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)(١) ، بخلاف ما نراه في الأناجيل المحرّفة الموجودة التي تنقل عن المسيح أنّه كان يستعمل «الأب» في كلامه عن الله ، إنّ القرآن يذكر «الرب» بدلا من ذلك : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ). وهذا أكثر ما يمكن أن يقوم به المسيح في محاربة من يدّعي بألوهيّته. بل لكي يكون التوكيد على ذلك أقوى يقول للناس (فَاعْبُدُوهُ) أي اعبدوا الله ولا تعبدوني ، وأنّ الصراط المستقيم هو هذا التوحيد وعبادة الواحد الأحد : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

س ٤١ : لم سمّي الحواريّون حواريين ، كما جاء في قوله تعالى :

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٥٢) [آل عمران : ٥٢]؟!

الجواب / قال الحسن بن علي بن فضال ، قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : لم سمي الحواريون الحواريين؟

قال : أما عند الناس فإنّهم سموا حواريين لأنّهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل ، وهو اسم مشتق من الخبز الحوار ، وأما عندنا فسمي الحواريون الحوار لأنّهم كانوا مخلصين في أنفسهم ، ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير» (٢).

س ٤٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥٣) [آل عمران : ٥٣]؟!

الجواب / أقول : بعد أن قبل الحواريّون دعوة المسيح إلى التعاون معه

__________________

(١) مريم : ٣٠.

(٢) علل الشرائع : الصدوق ، ج ١ ، ص ١٣٩.

٣٣٨

واتّخاذه شاهدا عليهم في إيمانهم ، اتّجهوا إلى الله يعرضون عليه إيمانهم قائلين : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ). ولكن لمّا كانت دعوى الإيمان لا تكفي وحدها ، فقد اتّبعوا ذلك بقيامهم يتنفيذ أوامر الله واتّباع رسوله المسيح ، وقالوا مؤكدين : (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ).

عندما يتغلغل الإيمان في روح الإنسان لا بدّ أن ينعكس ذلك على عمله ، فبدون العمل يكون ادّعاؤه الإيمان تقوّلا ، لا إيمانا حقيقيا.

بعد ذلك طلبوا من الله قائلين (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ). والشاهدون هم أولئك الذين لهم صفة قيادة الأمم ، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس الحسنة والسيئة. وقال الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام : «نحن هم ، نشهد للرسل على أممها» (١).

س ٤٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤) [آل عمران : ٥٤]؟!

الجواب / قال الحسن بن فضّال ، سألت الرضا عليه‌السلام عن قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) ، فقال عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لا يمكر ، ولكنه عزوجل يجازيهم جزاء المكر» (٢).

أقول : والمقصود من الآية هو أن أعداء المسيح وضعوا الخطط الشسطانية للوقوف بوجه هذه الدعوة الإلهية. ولكنّ الله لكي يحفظ حياة نبيّه ويصون الدعوة مكر أيضا فأحبط كلّ ما مكروه وجازاهم جزاء مكرهم.

__________________

(١) المناقب : ٤ : ٢٨٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ : ١٢٦ / ١٩ ، التوحيد : ١٦٣ / ١.

٣٣٩

س ٤٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥٥) [آل عمران : ٥٥]؟!

الجواب / قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ عيسى عليه‌السلام وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء ، وهم اثنا عشر رجلا ، فأدخلهم بيتا ثمّ خرج عليهم من عين في زاوية البيت ، وهو ينفض رأسه من الماء فقال : إنّ الله أوحى إليّ أنّه رافعي إليه الساعة ، ومطهّري من اليهود ، فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ، ويصلب ، ويكون معي في درجتي؟ فقال شاب منهم : أنا يا روح الله ، قال : فأنت هوذا.

فقال لهم عيسى عليه‌السلام : إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. فقال له رجل منهم : أنا هو يا نبيّ الله. فقال عيسى عليه‌السلام : أتحسّ بذلك في نفسك؟ فلتكن هو.

ثمّ قال لهم عيسى عليه‌السلام : إنّكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق ، فرقتين مفتريتين على الله في النار ، وفرقة تتّبع شمعون صادقة على الله في الجنّة. ثمّ رفع الله تعالى عيسى عليه‌السلام إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه».

ثمّ قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى عليه‌السلام من ليلتهم ، فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى : إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة ، وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى عليه‌السلام ، فقتل وصلب ، وكفّر الذي قال له عيسى : تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة» (١).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ، ص ١٠٣.

٣٤٠