التيسير في التفسير للقرآن - ج ١

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

آيَةٍ) أي نرفع حكمها (أَوْ نُنْسِها) بأن نرفع رسمها ، ونزيل عن القلوب حفظها ، وعن قلبك ـ يا محمّد ـ كما قال الله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ)(١) أن ينسيك ، فرفع ذكره عن قلبك (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) يعني بخير لكم ، فهذه الثانية أعظم لثوابكم ، وأجلّ لصلاحكم من الآية الأولى المنسوخة (أَوْ مِثْلِها) من مثلها في الصلاح لكم ، أي إنّا لا ننسخ ولا نبدّل إلّا وغرضنا في ذلك مصالحكم.

ثم قال : يا محمد (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإنه قدير يقدر على النسخ وغيره (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو العالم بتدبيرها ومصالحها ، وهو يدبّركم بعلمه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يلي صلاحكم إذ كان العالم بالمصالح هو الله عزوجل دون غيره (وَلا نَصِيرٍ) وما لكم من ناصر ينصركم من مكروه إن أراد الله إنزاله بكم ، أو عقاب إن أراد إحلاله بكم.

وقال محمّد بن علي الباقر عليهما‌السلام : وربّما قدّر الله عليه النسخ والتنزيل لمصالحكم ومنافعكم ، لتؤمنوا بها ، ويتوفّر عليكم الثواب بالتصديق بها ، فهو يفعل من ذلك ما فيه صلاحكم والخيرة لكم.

ثم قال : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملكهما بقدرته ، ويصلحهما بحسب مشيئته ، لا مقدّم لما أخّر ، ولا مؤخّر لما قدّم.

ثم قال الله تعالى : (وَما لَكُمْ) يا معشر اليهود ، والمكذّبين بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجاحدين لنسخ الشرائع (مِنْ دُونِ اللهِ) سوى الله تعالى (مِنْ وَلِيٍ) يلي مصالحكم ، إن لم يدلّكم ربّكم للمصالح (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم من دون الله ،

__________________

(١) الأعلى ٨٧ : ٦ و ٧.

١٨١

فيدفع عنكم عذابه» (١).

س ٨٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٠٨) [البقرة : ١٠٨]؟!

الجواب / قال عليّ بن محمّد بن علي بن موسى الرضا عليهم‌السلام : (أَمْ تُرِيدُونَ) بل تريدون ، يا كفّار قريش واليهود (أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) ما تقترحونه من الآيات التي لا تعلمون هل فيها صلاحكم أو فسادكم (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) واقترح عليه ، لمّا قيل له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ)(٢).

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) بعد جواب الرسول له : أنّ ما سأله لا يصلح اقتراحه على الله ، أو بعد ما يظهر الله تعالى له ما اقترح ، إن كان صوابا.

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) بأن لا يؤمن عند مشاهدة ما يقترح من الآيات ، أو لا يؤمن إذا عرف أنّه ليس له أن يقترح ، وأنّه يجب أن يكتفي بما قد أقامه الله تعالى من الدلالات ، وأوضحه من الآيات البيّنات ، فيتبدّل الكفر بالإيمان بأن يعاند ولا يلتزم الحجّة القائمة عليه (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أخطأ قصد الطريق المؤدّية إلى الجنان ، وأخذ في الطريق المؤدّية إلى النيران» (٣).

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٩١ / ٣١١.

(٢) البقرة ٢ : ٥٥.

(٣) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٩٦ / ٣١٣.

١٨٢

س ٨٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٩) [البقرة : ١٠٩]؟!

الجواب / قال الإمام الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام ، في قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً). «بما يوردونه عليكم من الشبهة (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) لكم ، بأن أكرمكم بمحمّد وعليّ وآلهما الطيبين (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) المعجزات الدالّات على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفضل عليّ عليه‌السلام وآلهما.

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) عن جهلهم وقابلوهم بحجج الله ، وادفعوا بها باطلهم (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فيهم بالقتل يوم فتح مكّة ، فحينئذ تحوّلونهم عن بلد مكّة وعن جزيرة العرب ، ولا تقرون بها كافرا :

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ولقدرته على الأشياء ، قدّر ما هو أصلح لكم في تعبّده إياكم من مداراتهم ومقابلتهم بالجدال بالتي هي أحسن» (١).

س ٨٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٠) [البقرة : ١١٠]؟!

الجواب / قال الإمام العسكري عليه‌السلام : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بإتمام وضوئها وتكبيراتها وقيامها وركوعها وسجودها وحدودها (وَآتُوا الزَّكاةَ) مستحقيها ، لا تؤتوها كافرا ولا منافقا ـ وروي ولا ناصبا ـ ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المتصدّق

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥١٥ / ٣١٥.

١٨٣

على أعدائنا كالسارق في حرم الله (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) من مال تنفقونه في طاعة الله ، فإن لم يكن لكم مال ، فمن جاهكم تبذلونه لإخوانكم المؤمنين ، تجرّون به إليهم المنافع ، وتدفعون به عنهم المضارّ (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) ينفعكم الله تعالى بجاه محمد وعليّ وآلهما الطيّبين يوم القيامة ، فيحطّ به عن سيئاتكم ، ويضاعف به حسناتكم ، ويرفع به درجاتكم.

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم ليس يخفى عليه ظاهر بطن ، ولا باطن ظهر ، فهو يجازيكم على حسب اعتقاداتكم ونيّاتكم ، وليس هو كملوك الدنيا الذين يلبّس على بعضهم ، فينسب فعل بعض إلى غير فاعله ، وجناية بعض إلى غير جانيه ، فيقع ثوابه وعقابه ـ بجهله بما لبّس عليه ـ بغير مستحقّه ... (١).

س ٩٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١١١) [البقرة : ١١١]؟!

الجواب / «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (وَقالُوا) يعني اليهود والنصارى ، قالت اليهود : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) ، وقوله : (أَوْ نَصارى) يعني وقالت النّصارى : لن يدخل الجنّة إلا من كان نصرانيّا.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وقد قال غيرهم ، قالت الدّهريّة : الأشياء لا بدء لها ، وهي دائمة ، ومن خالفنا في هذا فهو ضالّ مخطىء مضلّ. وقالت الثّنويّة : النّور والظلمة هما المدبّران ، ومن خالفنا في هذا فقد ضلّ. وقال مشركو العرب : إنّ أوثاننا آلهة ، من خالفنا في هذا ضلّ. فقال الله تعالى :

__________________

(١) نفس المصدر السابق ، ٥٢٠ ، ٣١٨.

١٨٤

(تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) التي يتمنّونها (قُلْ) لهم : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على مقالتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ...)(١).

س ٩١ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١١٢) [البقرة : ١١٢]؟!

الجواب / قال الإمام العسكري عليه‌السلام : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا سمعوا براهينه وحججه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ) ثوابه (عِنْدَ رَبِّهِ) يوم فصل القضاء (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) حين يخاف الكافرون ممّا يشاهدونه من العذاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) عند الموت ، لأنّ البشارة بالجنان تأتيهم» (٢).

س ٩٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١١٣) [البقرة : ١١٣]؟!

الجواب / قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الله عزوجل : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) من الدّين ، بل دينهم باطل وكفر (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) من الدّين ، بل دينهم باطل وكفر (وَهُمْ) اليهود (يَتْلُونَ الْكِتابَ) التوراة».

فقال : «هؤلاء وهؤلاء مقلّدون بلا حجّة ، وهم يتلون الكتاب فلا

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٢٦ / ٣٢١.

(٢) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٢٦ / ٣٢٢.

١٨٥

يتأمّلونه ، ليعملوا بما يوجبه فيتخلّصوا من الضلالة ، ثم قال : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الحقّ ، ولم ينظروا فيه من حيث أمرهم الله ، فقال بعضهم لبعض وهم مختلفون ، كقول اليهود والنصارى بعضهم لبعض ، هؤلاء يكفّر هؤلاء ، وهؤلاء يكفّر هؤلاء.

ثم قال الله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في الدنيا يبيّن ضلالتهم وفسقهم ، ويجازي كلّ واحد منهم بقدر استحقاقه ... (١).

س ٩٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)) [البقرة : ١١٤]؟!

الجواب / «قال الحسن بن عليّ عليهما‌السلام (٢) : لمّا بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة وأظهر بها دعوته ، ونشر بها كلمته ، وعاب أديانهم في عبادتهم الأصنام ، وأخذوه وأساءوا معاشرته ، وسعوا في خراب المساجد المبنيّة ، كانت لقوم من خيار أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيعة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ، كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون ، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها ، وأذى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر أصحابه ، وألجؤوه إلى الخروج من مكّة نحو المدينة ، التفت خلفه إليها ، فقال : الله يعلم أنّي أحبّك ، ولو لا أنّ أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلدا ، ولا ابتغيت عنك بدلا ، وإنّي لمغتم على مفارقتك.

__________________

(١) نفس المصدر السابق : ٥٤٤ ، ٣٢٦.

(٢) في طبعة : عليّ بن الحسين.

١٨٦

فأوحى الله تعالى إليه : يا محمّد ، إنّ العليّ الأعلى يقرأعليك السّلام ، ويقول : سأردّك إلى هذا البلد ظافرا غانما سالما قادرا قاهرا ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(١) يعني إلى مكّة ظافرا غانما ، وأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه ، فاتّصل بأهل مكّة ، فسخروا منه.

فقال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سوف أظفرك بمكّة ، وأجري عليهم حكمي ، وسوف أمنع من دخولها المشركين حتى لا يدخلها أحد منهم إلّا خائفا ، أو دخلها مستخفيا من أنّه إن عثر عليه قتل.

فلمّا حتم قضاء الله بفتح مكّة واستوسقت (٢) له ، أمّر عليهم عتّاب بن أسيد (٣) ، فلمّا اتصل بهم خبره ، قالوا : إنّ محمدا لا يزال يستخفّ بنا حتى ولّى علينا غلاما حدث السنّ ابن ثماني عشرة سنة ، ونحن مشايخ ذوو الأسنان ، وخدّام بيت الله الحرام ، وجيران حرمه الآمن ، وخير بقعة له على وجه الأرض.

وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعتّاب بن أسيد عهدا على [أهل] مكّة ، وكتب في أوّله : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمّد رسول الله إلى جيران بيت الله ، وسكّان حرم الله. أمّا بعد وذكر العهد وقرأه عتّاب بن أسيد على أهل مكّة.

ثم قال الإمام عليه‌السلام بعد ذلك : «ثمّ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعشر آيات من

__________________

(١) القصص ٢٨ : ٨٥.

(٢) استوسق لك الأمر : إذا أمكنك. «لسان العرب ـ وسق ـ ١٠ : ٣٨٠».

(٣) عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة ، وال أموي من الصحابة ، أسلم يوم فتح مكّة ، واستعمله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها عند مخرجه إلى حنين في ٨ ه‍ ، وأمّره أبو بكر ، فاستمر فيها إلى أن مات يوم مات أبو بكر في ١٣ ه‍ ، وقيل في ٢٣ ه‍. الكامل في التاريخ ٢ : ٢٦٢ ، الإصابة ٤ : ٢١١ / ٥٣٨٣ ، أعلام الزركلي ٤ : ١٩٩.

١٨٧

سورة براءة مع أبي بكر بن أبي قحافة ، وفيها ذكر نبذ العهود إلى الكافرين ، وتحريم قرب مكّة على المشركين ، وأمّر أبا بكر على الحجّ ، ليحجّ بمن ضمّه الموسم ، ويقرأالآيات عليهم ، فلمّا صدر عنه أبو بكر جاء المطوّق بالنور جبرئيل عليه‌السلام ، فقال : يا محمّد ، إن العليّ الأعلى يقرأعليك السّلام ، ويقول : يا محمّد ، إنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك ، فابعث عليّا ليتناول الآيات ، فيكون هو الذي ينبذ العهود ويقرأالآيات.

وقال جبرئيل : يا محمّد ، ما أمرك ربك بدفعها إلى عليّ عليه‌السلام ونزعها من أبي بكر سهوا ولا شكّا ، ولا استدراكا على نفسه غلطا ، ولكن أراد أن يبيّن لضعفاء المسلمين أنّ المقام الذي يقومه أخوك عليّ عليه‌السلام لن يقومه غيره سواك ـ يا محمد ـ وإن جلّت في عيون هؤلاء الضعفاء مرتبته ، وعرفت عندهم منزلته.

فلمّا انتزع عليّ عليه‌السلام الآيات من يده ، لقي أبو بكر بعد ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : بأبي أنت وأمّي ـ يا رسول الله ـ أنت أمرت عليّا أن يأخذ هذه الآيات من يدي؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ، ولكن العليّ العظيم أمرني أن لا ينوب عنّي إلّا من هو منّي ، وأمّا أنت فقد عوّضك الله بما حمّلك من آياته ، وكلّفك من طاعاته الدرجات الرفيعة ، والمراتب الشريفة ، أما إنّك إن دمت على موالاتنا ، ووافيتنا في عرصات القيامة ، وفيّا بما أخذنا به عليك من العهود والمواثيق ، [فأنت] من خيار شيعتنا ، وكرام أهل مودّتنا ، فسرّي (١) بذلك عن أبي بكر».

قال : «فمضى عليّ عليه‌السلام لأمر الله ، ونبذ العهود إلى أعداء الله ، وأيس

__________________

(١) سرّي عنه : تجلّى همّه. «لسان العرب ـ سرا ـ ١٤ : ٣٨٠».

١٨٨

المشركون من الدخول بعد عامهم ذلك إلى حرم الله ، وكانوا عددا كثيرا وجمّا غفيرا ، غشّاه الله نوره ، وكساه فيهم هيبة وجلالا ، لم يجسروا معها على إظهار خلاف ولا قصد بسوء ـ قال ـ : ولك قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).

وهي مساجد خيار المؤمنين بمكّة ، لمّا منعوهم من التعبّد فيها بأن ألجؤوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الخروج عن مكّة (وَسَعى فِي خَرابِها) خراب تلك المساجد لئلّا تعمر بطاعة الله ، قال الله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أن يدخلوا بقاع تلك المساجد في الحرم إلا خائفين من عذاب وحكمه النافذ عليهم ، إن يدخلوها كافرين ، بسيوفه وسياطه (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وهو طرده إيّام عن الحرام ، ومنعهم أن يعودوا إليه (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١).

س ٩٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١١٥) [البقرة : ١١٥]؟!

الجواب / وردت روايات عديدة في شأن هذه الآية الكريمة نذكر منها ما ورد عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام حيث قال : «أنزل الله هذه الآية في التطوّع خاصة (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) وصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيماء على راحلته أينما توجّهت به حين خرج إلى خيبر ، وحين رجع من مكّة ، وجعل الكعبة خلف ظهره» (٢).

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٥٤ / ٣٢٩ و ٥٥٨ / ٣٣٠.

(٢) تفسير العياشي : ١ : ٥٦ / ٨٠.

١٨٩

س ٩٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (١١٦) [البقرة : ١١٦]؟!

الجواب / «قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «سبحان الله» يعني : «تنزيهه» (١).

س ٩٦ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧) [البقرة : ١١٧]؟!

الجواب / سأل حمران بن أعين أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إن الله عزوجل ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله ، فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)(٢)» (٣).

س ٩٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١١٨) [البقرة : ١١٨]؟!

الجواب / «قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «يرتّلون آياته ، ويتفقّهون به ،

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٩٢ ، ح ١١.

(٢) هود : ٧.

(٣) بصائر الدرجات : ١٣٣ / ١.

١٩٠

ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه ، ما هو ـ والله ـ حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وإنما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ)(١)(٢).

وقال الصادق عليه‌السلام أيضا : «هم الأئمة عليهم‌السلام» (٣).

س ٩٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١١٩) [البقرة : ١١٩]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : بين الله سبحانه في هذه الآية تأييده نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحجج ، وبعثه بالحق ، فقال : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا محمد (بِالْحَقِ) قيل : بالقرآن ، وقيل : بالإسلام. وقيل : على الحق أي : بعثناك على الحق ، كقوله سبحانه (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي : على أنهما حق لا باطل. وقوله (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي : بشيرا من اتبعك بالثواب ، ونذيرا من خالفك بالعقاب. وقوله : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي : لا تسأل عن أحوالهم. وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قيل له : إنما أنت بشير ونذير ، ولست تسأل عن أهل الجحيم ، وليس عليك إجبارهم على القبول منك ، ومثله قوله (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ). وقيل : معناه لا تؤاخذ بذنبهم كقوله سبحانه : (عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ)

__________________

(١) ص : ٢٩.

(٢) إرشاد القلوب : ٧٨.

(٣) الكافي : ج ١ ، ص ١٦٨ ، ح ٤.

١٩١

أي : فعليه الإبلاغ ، وعليكم القبول (١).

س ٩٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١٢٠) [البقرة : ١٢٠]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : كانت اليهود والنصارى يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الهدنة ، ويرونه أنه إن هادنهم ، وأمهلهم اتبعوه ، فآيسه الله تعالى من موافقتهم ، فقال : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). وقيل أيضا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مجتهدا في طلب ما يرضيهم ، ليدخلوا في الإسلام ، فقيل له : دع ما يرضيهم إلى ما أمرك الله به من مجاهدتهم. وهذا يدل على أنه لا يصح إرضاء اليهود والنصارى على حال ، لأنه تعالى علق رضاءهم بأن يصير عليه‌السلام يهوديا أو نصرانيا ، وإذا استحال ذلك استحال إرضاؤهم ، يعني أنه لا يرضي كل فرقة منهم إلا أن يتبع ملتهم أي : دينهم. وقيل : قبلتهم. (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي : قل يا محمد لهم إن دين الله الذي يرضاه هو الهدى أي : الدين الذي أنت عليه. وقيل : معناه إن هدى الله ويعني القرآن ، هو الذي يهدي إلى الجنة ، لا طريقة اليهود والنصارى. وقيل : معناه إن دلالة الله هي الدلالة ، وهدي الله هو الحق ، كما يقال : طريقة فلان هي الطريق. وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي : مراداتهم. وقال بن عباس : معناه إن صليت إلى قبلتهم (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : من البيان من الله تعالى. وقيل : من الدين (ما لَكَ) يا محمد (مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ)

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٦٨.

١٩٢

يحفظك من عقابه (وَلا نَصِيرٍ) أي : معين وظهير يعينك عليه ، ويدفع بنصره عقابه عنك. وهذه الآية تدل على أن من علم الله تعالى منه ، أنه لا يعصي ، يصح وعيده ، لأنه علم أن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يتبع أهواءهم ، فجرى مجرى قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) والمقصود منه التنبيه على أن حال أمته فيه أغلظ من حاله ، لأن منزلتهم دون منزلته. وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد أمته (١).

س ١٠٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٢١) [البقرة : ١٢١]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي : أعطيناهم (الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) اختلف في معناه على وجود أحدها : إنه يتبعونه ، يعنى التوراة ، حق اتباعه ، ولا يحرفونه ، ثم يعملون بحلاله ، ويقفون عند حرامه ، ومنه قوله (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي : تبعها. إلا أن المراد به القرآن. وثانيها : إن المراد به : يصفونه حق صفته في كتبهم لمن يسألهم من الناس ، وعلى هذا تكون الهاء راجعة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وثالثها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إن حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار ، يسأل في الأولى ، ويستعيذ من الاخرى. ورابعها : إن المراد : يقرأونه حق قراءته ، يرتلون ألفاظه ، ويفهمون معانيه وخامسها : إن المراد : يعملون حق العمل به ، فيعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي : بالكتاب ، عن أكثر المفسرين. وقيل :

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

١٩٣

بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) وهم اليهود. وقيل : هم جميع الكفار وهو الأولى لعمومه. (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا أنفسهم ، وأعمالهم. وقيل : خسروا في الدنيا الظفر والنصر وفي الآخرة ما أعد الله للمؤمنين من نعيم الجنة (١).

س ١٠١ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٢٢) [البقرة : ١٢٢]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : هذه الآية قد تقدم ذكر مثلها في رأس نيف وأربعين آية ، ومضى تفسيرها. وقيل في سبب تكريرها ثلاثة أقوال أحدها : إن نعم الله سبحانه لما كانت أصول كل نعمة ، كرر التذكير بها مبالغة في استدعائهم إلى ما يلزمهم من شكرها ، ليقبلوا إلى طاعة ربهم المظاهر نعمه عليهم. وثانيها : إنه سبحانه لما ذكر التوراة ، وفيها الدلالة على شأن عيسى ومحمد عليه‌السلام ، في النبوة ، والبشارة بهما ، ذكرهم نعمته عليهم بذلك ، وما فضلهم به ، كما عدد النعم في سورة الرحمن. وكرر قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). فكل تقريع جاء بعد تقريع ، فإنما هو موصول بتذكير نعمة غير الأولى ، وثالثة غير الثانية ، إلى آخر السورة ، وكذلك الوعيد في سورة المرسلات بقوله (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، إنما هو بعد الدلالة على أعمال تعظم التكذيب بما تدعو إليه الادلة (٢).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٧٠ ـ ٣٧١.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٧١.

١٩٤

س ١٠٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (١٢٣) [البقرة : ١٢٣]؟!

الجواب / في بداية الأمر نذكر بأن هذه الآية الكريمة قد مر ذكرها في نفس السورة برقم (٤٨) ، ...

أما العدل فمعناه ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : العدل : الفريضة (١).

س ١٠٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤) [البقرة : ١٢٤]؟!

الجواب / قال المفضّل بن عمر ، سألت الصّادق عليه‌السلام ، عن قول الله عزوجل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ما هذه الكلمات؟

قال عليه‌السلام : «هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، وهو أنّه قال : يا ربّ ، أسألك بحقّ محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ ، فتاب الله عليه إنّه هو التّواب الرحيم».

فقلت له : يابن رسول الله ، فما يعني عزوجل بقوله : (فَأَتَمَّهُنَّ)؟

قال عليه‌السلام : «يعني فأتمّهنّ إلى القائم عليه‌السلام اثني عشر إماما ، تسعة من ولد الحسين عليه‌السلام ..... (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام أيضا : «قد كان إبراهيم نبيّا وليس بإمام حتى قال

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٥٧ ، ح ٨٧.

(٢) الخصال : ص ٣٠٤ ، ح ٨٤.

١٩٥

الله له : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فقال الله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما» (١).

س ١٠٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥) [البقرة : ١٢٥]؟!

الجواب / قال الصادق عليه‌السلام : «يعني نحّيا عنه المشركين».

وقال : «لمّا بنى إبراهيم البيت وحجّ الناس ، شكت الكعبة إلى الله تبارك وتعالى ما تلقاه من أيدي المشركين وأنفاسهم ، فأوحى الله إليهما ، قرّي كعبتي ، فإنّي أبعث في آخر الزّمان قوما يتنظّفون بقضبان الشّجر ويتخلّلون» (٢).

س ١٠٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٢٦) [البقرة : ١٢٦]؟!

الجواب / قال علي بن الحسين عليه‌السلام : «قول إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ) إيّانا عنى بذلك وأولياءه وشيعة وصيّه».

قال : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) قال : عنى

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ١٣٣ ، ح ١.

(٢) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٥٩.

١٩٦

بذلك من جحد وصيّه ولم يتّبعه من أمّته ، وكذلك والله حال هذه الأمّة» (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : «أنّ المراد بذلك أنّ الثمرات تحمل إليهم من الآفاق».

وروي عنه أيضا عليه‌السلام أنّه قال : «إنّما هي ثمرات القلوب ، أي حبّبهم إلى الناس ليثوبوا ـ أي يجتمعوا ـ إليهم» (٢).

س ١٠٦ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩) [البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٩]؟!

الجواب / قال أبو عمرو الزبيريّ ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن أمّة محمّد (عليه الصلاة والسّلام) من هم؟ قال : «أمّة محمّد بنو هاشم خاصّة».

قلت : فما الحجّة في أمّة محمد إنّهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟

قال عليه‌السلام «قول الله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٨] فلمّا أجاب

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٥٩ ، ح ٩٦.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٨٧.

١٩٧

الله إبراهيم وإسماعيل ، وجعل من ذرّيّتهم أمّة مسلمة ، وبعث فيها رسولا منها ـ يعني من تلك الأمّة (١) ـ يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، ردف إبراهيم عليه‌السلام دعوته الأولى بدعوته الأخرى ، فسأل لهم تطهيرا من الشّرك ومن عبادة الأصنام ، ليصحّ أمره فيهم ، ولا يتّبعوا غيرهم ، فقال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢) ففي هذه دلالة على أنّه لا تكون الأئمّة والأمّة المسلمة التي بعث فيها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا من ذريّة إبراهيم عليه‌السلام ، لقوله : (اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)(٣).

س ١٠٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢) [البقرة : ١٣٠ ـ ١٣٢]؟!

الجواب / قال الصادق عليه‌السلام ـ في حديث له [ذكر فيه الكلمات التي ابتلى الله بهنّ إبراهيم عليه‌السلام] : «ثمّ استجابة الله دعوته حين قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى)(٤) وهذه آية متشابهة ، ومعناها أنّه سأل عن الكيفيّة ، والكيفيّة من فعل الله عزوجل ، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب ، ولا

__________________

(١) قال علي بن إبراهيم : يعني من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، فلذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا دعوة أبي إبراهيم عليه‌السلام» (تفسير القمي : ج ١ ، ص ٦٢).

(٢) إبراهيم : ٣٥ ـ ٣٦.

(٣) تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٦٠ ، ح ١٠١.

(٤) البقرة : ٢٦٠.

١٩٨

عرض في توحيده نقص ، فقال الله عزوجل : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى)(١) ، هذه شرط عامّ ، لمن آمن به ، حتى سئل واحد منهم : أولم تؤمن؟ وجب أن يقول : بلى ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام ، ولمّا قال الله عزوجل لجميع أرواح بني آدم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)(٢) ، ، كان أوّل من قال بلى ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصار يسبقه إلى بلى سيد الأولين والآخرين ، وأفضل النبيّين والمرسلين ، فمن لم يجب عن هذه المسألة بجواب إبراهيم فقد رغب عن ملّته ، قال الله عزوجل : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).

ثمّ اصطفاء الله عزوجل إيّاه في الدنيا ، ثمّ شهادته له في العاقبة أنّه من الصالحين في قوله عزوجل : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). والصالحون هم النبيّ والأئمة (صلوات الله عليهم) الآخذون عن الله أمره ونهيه ، والملتمسون الصلاح من عنده ، والمجتنبون للرأي والقياس في دينه في قوله عزوجل : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

ثم اقتداء من بعده من الأنبياء عليهم‌السلام به في قوله عزوجل (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(٣).

وقال الباقر عليه‌السلام : بولاية علي عليه‌السلام (٤) ، وروي ـ لولاية علي عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) الأعراف : ١٧٢.

(٣) الخصال : ٣٠٨ / ٨٤.

(٤) شرح الأخبار : ج ١ ، ص ٢٣٦ ، ح ٢٣٨.

(٥) المناقب : ج ٣ ، ص ٩٥.

١٩٩

س ١٠٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤) [البقرة : ١٣٣ ـ ١٣٤]؟!

الجواب / قال جابر سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن تفسير هذه الآية ، فقال عليه‌السلام : «جرت ـ أي سنة يعقوب في بنيه ـ في القائم عليه‌السلام» (١).

وقيل سبب نزولها كان جمع من اليهود يعتقدون أن يعقوب عند ما حضرته الوفاة ، أوصى بنيه أن يعتنقوا اليهودية (بتحريفاتها السائدة خلال عصر البعثة المباركة) ، والله سبحانه أنزل هذه الآية (٢).

وقال صاحب تفسير الأمثل (٣) : كما رأينا في سبب النزول ، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضا ، كان جمع من منكري الإسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النبي يعقوب ، والقرآن يرد عليهم بالقول : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ)؟!

هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح ، بل الذي حدث آنذاك (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)؟

في الجواب (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

من الآية يبدو أن قلقا ساور يعقوب لدن أن حضرته الوفاة بشأن مستقبل

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٦١ ، ح ١٠٢.

(٢) تفسير أبي الفتوح الرازي.

(٣) الأمثل : ج ١ ، ص ٣٤٠ ـ ٣٤١.

٢٠٠