التيسير في التفسير للقرآن - ج ١

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

قال الله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) الجزية ، أخزوا بها عند ربّهم وعند مؤمني عباده (وَالْمَسْكَنَةُ) هي الفقر والذّلّة (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) احتملوا الغضب واللعنة من الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قبل أن يضرب عليهم الذّلّة والمسكنة (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) كانوا يقتلونهم بغير حقّ ، بلا جرم كان منهم إليهم ، ولا إلى غيرهم.

(ذلِكَ بِما عَصَوْا) ذلك الخذلان الذي استولى عليهم حتى فعلوا الآثام التي من أجلها ضربت عليهم الذّلّة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يتجاوزون أمر الله تعالى إلى أمر إبليس (١).

س ٥٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) [البقرة : ٦٢]؟!

الجواب / قال الإمام العسكري عليه‌السلام : قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، وبما فرض الإيمان به من الولاية لعليّ بن أبي طالب والطيّبين من آله (وَالَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود (وَالنَّصارى) الذين زعموا أنّهم في دين الله متناصرون (وَالصَّابِئِينَ) الذين زعموا أنّهم صبؤوا (٢) إلى دين الله ، وهم بقولهم كاذبون.

(مَنْ آمَنَ بِاللهِ) من هؤلاء الكفّار ، ونزع من كفره ، ومن آمن من هؤلاء المؤمنين في مستقبل أعمارهم ، ووفى بالعهد والميثاق المأخوذين عليه

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٥٩ / ١٣١.

(٢) صبأ : خرج من دين إلى دين. «الصحاح ـ صبأ ـ ١ : ٥٩».

١٢١

لمحمّد وعليّ وخلفائه الطاهرين (وَعَمِلَ صالِحاً) من هؤلاء المؤمنين (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) ثوابهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الآخرة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) هناك حين يخاف الفاسقون (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إذا حزن المخالفون ، لأنّهم لم يعملوا من مخالفة الله ما يخاف من فعله ، ولا يحزن له.

ونظر أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى رجل [فرأى] أثر الخوف عليه ، فقال : ما بالك؟ فقال : إنّي أخاف الله. فقال : يا عبد الله ، خف ذنوبك ، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده ، وأطعه فيما كلّفك ، ولا تعصه فيما يصلحك ، ثمّ لا تخف الله بعد ذلك ، فإنّه لا يظلم أحدا ولا يعذّبه فوق استحقاقه أبدا ، إلّا أن تخاف سوء العاقبة بأن تغيّر أو تبدّل ، فإن أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة ، فاعلم أنّ ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه ، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره وإيّاك وحلمه عنك» (١).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : نحن باب حطّتكم» (٢).

س ٥٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٦٣) [البقرة : ٦٣]؟!

الجواب / قال الإمام العسكريّ عليه‌السلام : «قال الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا) واذكروا إذ أخذنا (مِيثاقَكُمْ) وعهودكم أن تعملوا بما في التوراة ، وما في الفرقان الذي أعطيته موسى مع الكتاب المخصوص بذكر محمد وعليّ والأئمّة الطيّبين من آلهما ، بأنّهم سادة الخلق ، والقوّامون بالحقّ.

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٥٩ / ١٣٣.

(٢) تفسير العيّاشي : ١ : ٤٥ / ٤٧.

١٢٢

وإذ أخذنا ميثاقكم أن تقرّوا به ، وأن تؤدّوه إلى أخلافكم ، وأن تأمروهم أن يؤدّوه إلى أخلافهم إلى آخر مقرّات في الدنيا ، ليؤمننّ بمحمّد نبيّ الله ، ويسلّمنّ له ما يأمرهم به في عليّ وليّ الله عن الله ، وما يخبرهم به من أحوال خلفائه بعده القوّامين بحقّ الله ، فأبيتم قبول ذلك ، واستكبرتموه.

(وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) الجبل ، أمرنا جبرئيل عليه‌السلام أن يقطع من جبل فلسطين قطعة على قدر معسكر أسلافكم فرسخا في فرسخ ، فقطعها ، وجاء بها ، فرفعها فوق رؤوسهم ، وقال موسى عليه‌السلام لهم : إمّا أن تأخذوا بما أمرتم به فيه ، وإمّا [أم] ألقي عليكم هذا الجبل ، وألجئوا إلى قبوله كارهين إلّا من عصمه الله من العباد (١) ، فإنه قبله طائعا مختارا ، ثمّ لمّا قبلوه سجدوا وعفّروا ، وكثير منهم عفّر خديه لا يريد الخضوع لله ، ولكن نظر إلى الجبل هل يقع أم لا ، وآخرون سجدوا طائعين مختارين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احمدوا الله ـ معاشر شيعتنا ـ على توفيقه إيّاكم ، فإنّكم تعفّرون في سجودكم لا كما عفّر كفرة بني إسرائيل ، ولكن كما عفّره خيارهم.

قال الله عزوجل : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) من هذه الأوامر والنواهي ، من هذا الأمر الجليل ، من ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ وآلهما الطيّبين (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) فيما آتيناكم ، اذكروا جزيل ثوابنا على قيامكم به ، وشديد عقابنا على إبائكم له (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تتّقون المخالفة الموجبة للعقاب ، فتستحقّون بذلك جزيل الثواب (٢).

__________________

(١) في طبعة : العناد.

(٢) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٦٦ / ١٣٤ ـ ١٣٥.

١٢٣

س ٥٦ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٤) [البقرة : ٦٤]؟!

الجواب / قال الإمام العسكري عليه‌السلام : قال الله عزوجل : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) يعني تولّى أسلافكم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عن القيام به ، والوفاء بما عاهدوا عليه (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) يعني على أسلافكم ، لو لا فضل الله عليهم بإمهاله إيّاهم للتوبة ، وإنظارهم لمحو الخطيئة بالإنابة (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) المغبونين ، قد خسرتم الآخرة والدنيا ، لأنّ الآخرة فسدت عليكم بكفركم ، والدنيا كان لا يحصل لكم نعيمها لاخترامنا (١) لكم ، وتبقى عليكم حسرات نفوسكم وأمانيكم التي اقتطعتم دونها ، ولكنّا أمهلناكم للتوبة ، وأنظرناكم للإنابة ، أي فعلنا ذلك بأسلافكم ، فتاب من تاب منهم ، فسعد ، وخرج من صلبه من قدّر أن تخرج منه الذرّية الطيّبة التي تطيب في الدنيا بالله معيشتها ، وتشرف في الآخرة بطاعة الله مرتبتها.

قال الحسين بن عليّ عليه‌السلام : أما إنّهم لو كانوا دعوا الله بمحمّد وآله الطيّبين بصدق من نيّاتهم ، وصحّة اعتقادهم من قلوبهم ، أن يعصمهم حتى لا يعاندوه بعد مشاهدة تلك المعجزات الباهرات ، لفعل ذلك بجوده وكرمه ، ولكنّهم قصّروا وآثروا الهوى بنا ، ومضوا مع الهوى في طلب لذّاتهم (٢).

__________________

(١) اخترمهم الدهر : أي اقتطعهم واستأصلهم. «الصحاح ـ خرم ـ ٥ : ١٩١٠».

(٢) نفس المصدر السابق : ص ٢٦٦ ، ح ١٣٦.

١٢٤

س ٥٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٦٦) [البقرة : ٦٥ ـ ٦٦]؟!

الجواب / قال الإمام العسكري عليه‌السلام : قال الله عزوجل : (لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) لمّا اصطادوا السمك فيه (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) مبعدين عن كلّ خير (فَجَعَلْناها) أي جعلنا تلك المسخة التي أخزيناهم ولعنّاهم بها (نَكالاً) عقابا وردعا (لِما بَيْنَ يَدَيْها) بين يدي المسخة من ذنوبهم الموبقات (١) التي استحقّوا بها العقوبات (وَما خَلْفَها) للقوم الذين شاهدوهم بعد مسخهم يرتدعون عن مثل أفعالهم لمّا شاهدوا ما حلّ بهم من عقابنا (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) يتّعظون بها ، فيفارقون المحرّمات ويعظون بها النّاس ، ويحذّرونهم المؤذيات (٢).

س ٥٨ : ما هي قصة الذين مسخوا إلى قردة خاسئين التي وردت في سورة البقرة في الآيتين السابقتين برقم [٦٥ ـ ٦٦]؟!

الجواب / قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : كان هؤلاء قوم يسكنون على شاطىء البحر ، نهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السّبت ، فتوصّلوا إلى حيلة ليحلّوا بها إلى أنفسهم ما حرّم الله ، فخدّوا أخاديد ، وعملوا طرقا تؤدّي إلى حياض ، يتهيّأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق ، ولا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالرجوع منها إلى اللّجج (٣).

__________________

(١) موبقات الذنوب : أي مهلكاتها. «مجمع البحرين ـ وبق ـ ٥ : ٢٤٣».

(٢) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٦٦ ، ١٣٧.

(٣) اللّجج : جمع لجّة ، ولجّة الماء : معظمه. «الصحاح ـ لجج ـ ١ : ٣٣٨».

١٢٥

فجاء الحيتان يوم السبت جارية على أمان الله لها ، فدخلت الأخاديد وحصّلت (١) في الحياض والغدران ، فلمّا كانت عشيّة اليوم همّت بالرجوع منها إلى اللّجج لتأمن من صائدها ، فرامت الرجوع فلم تقدر ، وبقيت ليلها في مكان يتهيّأ أخذها بلا اصطياد لاسترسالها فيه ، وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها ، فكانوا يأخذونها يوم الأحد ، ويقولون : ما اصطدنا يوم السّبت ، وإنّما اصطدنا في الأحد ، وكذّب أعداء الله ، بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السّبت حتّى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم ، وتنعّموا بالنّساء وغيرها لاتّساع أيديهم.

وكانوا في المدينة نيفا وثمانين ألفا ، فعل هذا منهم سبعون ألفا ، وأنكر عليهم الباقون ، كما قصّ الله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ)(٢) الآية ، وذلك أنّ طائفة منهم وعظوهم وزجروهم ، ومن عذاب الله خوّفوهم ، ومن انتقامه وشديد بأسه حذّروهم ، فأجابوهم عن وعظهم : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) بذنوبهم هلاك الاصطلام (٣) : (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً).

أجابوا القائلين هذا لهم : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) إذ كلّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربّنا مخالفتنا لهم ، وكراهتنا لفعلهم ، قالوا : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٤) ونعظهم أيضا لعلّه تنجع (٥) فيهم

__________________

(١) حصّلت : تجمعت وثبتت. «القاموس المحيط ـ حصل ـ ٣ : ٣٦٨».

(٢) الأعراف ٧ : ١٦٣.

(٣) الاصطلام : الاستئصال. «الصحاح ـ صلم ـ ٥ : ١٩٦٧».

(٤) الأعراف ٧ : ١٦٤.

(٥) نجع فيه الخطاب والوعظ والدواء : أي دخل وأثر. «الصحاح ـ نجع ـ ٣ : ١٢٨٨».

١٢٦

المواعظ ، فيتّقون هذه الموبقة ، ويحذرون عقوبتها.

قال الله عزوجل : (فَلَمَّا عَتَوْا) حادوا وأعرضوا وتكبّروا عن قبوله الزّجر (عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(١) مبعدين عن الخير ، مقصين (٢).

قال : فلما نظر العشرة آلاف والنيّف أنّ السبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم ، ولا يحفلون (٣) بتخويفهم إيّاهم وتحذيرهم لهم ، اعتزلوهم إلى قرية أخرى قريبة من قريتهم ، وقالوا : نكره أن ينزل بهم عذاب الله ، ونحن في خلالهم ، فأمسوا ليلة ، فمسخهم الله تعالى كلّهم قردة ، وبقي باب المدينة مغلقا لا يخرج منه أحد ، ولا يدخل أحد.

وتسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم ، وتسنّموا (٤) حيطان البلد ، فاطّلعوا عليهم ، فإذا كلّهم رجالهم ونساؤهم قردة ، يموج بعضهم في بعض ، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم ، يقول المطّلع لبعضهم : أنت فلان أنت فلانة؟ فتدمع عينه ، ويومىء برأسه أن نعم.

فما زالوا كذلك ثلاثة أيّام ، ثمّ بعث الله عزوجل عليهم مطرا وريحا فجرفهم إلى البحر ، وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيّام ، وإنّما الذين ترون من هذه المصوّرات بصورها فإنّما هي أشباهها ، لا هي بأعيانها ، ولا من نسلها.

ثمّ قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : إنّ الله تعالى مسخ هؤلاء لاصطياد السمك ، فكيف ترى عند الله عزوجل يكون حال من قتل أولاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٦٦.

(٢) المقصى : المبعد. «الصحاح ـ قصا ـ ٦ : ٢٤٦٢».

(٣) لا يحفل : لا يبالي. «الصحاح ـ حفل ـ ٤ : ١٦٧١».

(٤) تسنّمه : علاه. «الصحاح ـ سنم ـ ٥ : ١٩٥٥».

١٢٧

وهتك حريمه؟! إنّ الله تعالى وإن لم يمسخهم في الدنيا ، فإنّ المعدّ لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب هذا المسخ.

فقيل : يا ابن رسول الله ، فإنّا قد سمعنا مثل هذا الحديث ، فقال لنا بعض النصّاب : فإن كان قتل الحسين باطلا ، فهو أعظم من صيد السّمك في السبت ، أفما كان يغضب الله على قاتليه كما غضب على صيّادي السمك؟!

قال علي بن الحسين عليه‌السلام : قل لهؤلاء النصّاب : فإن كان إبليس معاصيه أعظم من معاصي من كفر بإغوائه ، فأهلك الله من شاء منهم كقوم نوح وقوم فرعون ، فلم لم يهلك إبليس لعنه الله ، وهو أولى بالهلاك؟ فما باله أهلك هؤلاء الذين قصروا عن إبليس لعنه الله في عمل الموبقات ، وأمهل إبليس مع إيثاره لكشف المخزيات؟ ألا كان ربّنا عزوجل حكيما وتدبيره حكمة فيمن أهلك وفيمن استبقى ، وكذلك هؤلاء الصائدون في السّبت ، وهؤلاء القاتلون للحسين عليه‌السلام ، يفعل في الفريقين ما يعلم أنّه أولى بالصّواب والحكمة ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(١).

ثمّ قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : أمّا إنّ هؤلاء الذين اعتدوا في السّبت ، لو كانوا حين همّوا بقبيح أفعالهم ، سألوا ربّهم بجاه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله الطيّبين أن يعصمهم من ذلك لعصمهم ، وكذلك الناهون لهم لو سألوا الله عزوجل أن يعصمهم بجاه محمد وآله الطيّبين لعصمهم ، ولكنّ الله عزوجل لم يلهمهم ذلك ، ولم يوفّقهم له ، فجرت معلومات الله تعالى فيه على ما كانت مسطّرة في اللوح المحفوظ.

وقال الباقر عليه‌السلام : فلمّا حدّث عليّ بن الحسين عليه‌السلام بهذا الحديث ،

__________________

(١) الأنبياء : ٢٣.

١٢٨

قال له بعض من في مجلسه : يا ابن رسول الله ، كيف يعاقب الله ويوبّخ هؤلاء الأخلاف على قبائح أتى بها أسلافهم ، وهو يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١)؟!

فقال زين العابدين عليه‌السلام : إنّ القرآن نزل بلغة العرب ، فهو يخاطب العرب فيه ـ أهل اللسان ـ بلغتهم ، يقول الرجل التميمي وقد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه : أغرتم على بلد كذا وكذا ، وفعلتم كذا وكذا.

ويقول العربي أيضا : نحن فعلنا ببني فلان ، ونحن سبينا آل فلان ، ونحن خرّبنا بلد كذا ، لا يريد أنّهم باشروا ذلك ، ولكن يريد هؤلاء بالعذل ، وهؤلاء بالافتخار أنّ قومهم فعلوا كذا وكذا.

وقول الله عزوجل في هذه الآيات إنّما هو توبيخ لأسلافهم ، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين ، لأنّ ذلك هو اللغة التي بها نزل القرآن ، ولأنّ هؤلاء الأخلاف أيضا راضون بما فعل أسلافهم ، مصوّبون ذلك لهم ، فجاز أن يقال : أنتم فعلتم إذ رضيتم قبيح فعلهم» (٢).

س ٥٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤.

(٢) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٦٦ / ١٣٧ ـ ١٣٩.

١٢٩

عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٧٣) [البقرة : ٦٧ ـ ٧٣]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ رجلا من خيار بني إسرائيل وعلمائهم خطب امرأة منهم فأنعمت له (١) ، وخطبها ابن عمّ لذلك الرجل ، وكان فاسقا رديئا ، فلم ينعموا له ، فحسد ابن عمّه الذي أنعموا له ، فقعد له فقتله غيلة ، ثمّ حمله إلى موسى ، فقال : يا نبيّ الله ، هذا ابن عمّي قد قتل ، قال موسى : من قتله؟ قال : لا أدري.

وكان القتل في بني إسرائيل عظيما جدّا ، فعظم ذلك على موسى ، فاجتمع إليه بنو إسرائيل ، فقالوا : ما ترى ، يا نبيّ الله؟ وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة ، وكان له ابن بارّ ، وكان عند ابنه سلعة ، فجاء قوم يطلبون سلعته ، وكان مفتاح بيته تحت رأس أبيه ، وكان نائما ، فكره ابنه أن ينبّهه وينغّص عليه (٢) نومه ، فانصرف القوم ولم يشتروا سلعته. فلمّا انتبه أبوه ، قال له : يا بنيّ ، ماذا صنعت في سلعتك؟ قال : هي قائمة لم أبعها ، لأنّ المفتاح كان تحت رأسك ، فكرهت أن أنبّهك ، وأنغّص عليك نومك. قال له أبوه : قد جعلت هذه البقرة لك ، عوضا عمّا فاتك من ربح سلعتك ، وشكر الله لابنه ما فعل بأبيه.

فأمر موسى بني إسرائيل ، أن يذبحوا تلك البقرة بعينها ، فلمّا اجتمعوا

__________________

(١) أنعم له : أي قال له : نعم. «الصحاح ـ نعم ـ ٥ : ٢٠٤٣».

(٢) نغّص علينا : قطع علينا ما كنا نحب الاستكثار منه. «لسان العرب ـ نغص ـ ٧ : ٩٩».

١٣٠

إلى موسى ، وبكوا وضجّوا ، قال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فتعجّبوا (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) نأتيك بقتيل ، فتقول : اذبحوا بقرة! فقال لهم موسى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فعلموا أنهم قد أخطؤوا.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) الفارض : التي قد ضربها الفحل ، ولم تحمل ، والبكر : التي لم يضربها الفحل. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) أي شديدة الصفرة (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) إليها. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي لم تذلّل (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي ولا تسقي الزرع (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) أي لا بقع (١) فيها إلا الصفرة. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) هي بقرة فلان ، فذهبوا ليشتروها ، فقال : لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا.

فرجعوا إلى موسى فأخبروه ، فقال لهم موسى : لابدّ لكم من ذبحها بعينها ، فاشتروها بملء جلدها ذهبا ، (فَذَبَحُوها) ، ثم قالوا : ما تأمرنا ، يا نبيّ الله. فأوحى الله تعالى إليه : قل لهم : (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) وقولوا : من قتلك؟ فأخذوا الذنب فضربوه به ، وقالوا : من قتلك يا فلان؟ فقال : فلان بن فلان ، ابن عمّي ـ الذي جاء به ـ وهو قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٢).

__________________

(١) في طبعه : لا نقط.

(٢) تفسير القمّي ١ : ٤٩.

١٣١

س ٦٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤) [البقرة : ٧٤]؟!

الجواب / قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) عست (١) وجفّت ويبست من الخير والرحمة قلوبكم ، معاشر اليهود (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد ما بيّنت من الآيات الباهرات في زمان موسى عليه‌السلام ، ومن الآيات المعجزات التي شاهدتموها من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) اليابسة لا ترشح برطوبة ، ولا ينتفض منها ما ينتفع به ، أي أنّكم لا حقّ لله تردّون ، ولا من أموالكم ، ولا من حواشيها (٢) تتصدّقون ، ولا بالمعروف تتكرّمون وتجودون ، ولا الضيف تقرون (٣) ولا مكروبا تغيثون ، ولا بشيء من الإنسانية تعاشرون ، وتعاملون.

(أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) إنّما هي في قساوة الأحجار ، أو أشدّ قسوة ، أبهم على السامعين ، ولم يبيّن لهم ، كما قال القائل : أكلت خبزا أو لحما ، وهو لا يريد به : أنّي لا أدري ما أكلت ، بل يريد أن يبهم على السامع حتى لا يعلم ما أكل ، وإن كان يعلم أنّه قد أكل.

وليس معناه بل أشدّ قسوة ، لأنّ هذا استدراك غلط ، وهو عزوجل يرتفع عن أن يغلط في خبر ، ثمّ يستدرك على نفسه الغلط ، لأنّه العالم بما

__________________

(١) عسا الشّيء : يبس واشتدّ وصلب. «الصحاح ـ عسا ـ ٦ : ٢٤٢٥». وفي «ط» : غشت.

(٢) حواشي الأموال : صغار الإبل ، كابن المخاض وابن اللبون. «لسان العرب ـ حشا ـ ١٤ : ١٨٠». وفي طبعه : مواشيها.

(٣) قريت الضيف : أحسنت إليه. «الصحاح ـ قرا ـ ٦ : ٢٤٦١».

١٣٢

كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون ، وإنّما يستدرك الغلط على نفسه المخلوق المنقوص.

ولا يريد به أيضا فهي كالحجارة أو أشدّ ، أي وأشدّ قسوة ، لأنّ هذا تكذيب الأوّل بالثاني ، لأنّه قال : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في الشدّة لا أشدّ منها ولا ألين ، فإذا قال بعد ذلك : (أَوْ أَشَدُّ) فقد رجع عن قوله الأوّل : إنّها ليست بأشدّ.

وهو مثل أن يقول : لا يجيء من قلوبكم خير ، لا قليل ولا كثير ، فأبهم عزوجل في الأوّل حيث قال : (أَوْ أَشَدُّ) وبين في الثاني أنّ قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة ، لا بقوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ولكن بقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) أي فهي في القساوة بحيث لا يجيء منها الخير ، يا يهود ، وفي الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار ، فيجيء بالخير والغياث لبني آدم. (وَإِنَّ مِنْها) من الحجارة (لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) وهو ما يقطر منه الماء ، فهو خير منها ، دون الأنهار التي تتفجّر من بعضها ، وقلوبهم لا يتفجّر منها الخيرات ، ولا تشقّق فيخرج منها قليل من الخيرات ، وإن لم يكن كثيرا.

ثمّ قال الله عزوجل : (وَإِنَّ مِنْها) يعني من الحجارة (لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) إذا أقسم عليها باسم الله وبأسماء أوليائه محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والطيّبين من آلهم (صلّى الله عليهم) ، وليس في قلوبكم شيء من هذه الخيرات (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل عالم به ، يجازيكم عنه بما هو به عادل عليكم ، وليس بظالم لكم ، يشدّد حسابكم ، ويؤلم عقابكم ... (١).

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٨٣ / ١٤١.

١٣٣

س ٦١ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٧) [البقرة : ٧٥ ـ ٧٧]؟!

الجواب / قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «فلمّا بهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هؤلاء اليهود بمعجزته ، وقطع معاذيرهم بواضح دلالته ، لم يمكنهم مراجعته (١) في حجّته ، ولا إدخال التلبيس عليه في معجزته ، قالوا : يا محمّد ، قد آمنا بأنّك الرسول الهادي المهديّ ، وأنّ عليّا أخاك هو الوصيّ والوليّ.

وكانوا إذا خلوا باليهود الآخرين يقولون لهم : إنّ إظهارنا له الإيمان به أمكن لنا على دفع مكروهه ، وأعون لنا على اصطلامه (٢) واصطلام أصحابه ، لأنّهم عند اعتقادهم أنّنا معهم يقفوننا على أسرارهم ، ولا يكتموننا شيئا ، فنطلع عليهم أعداءهم ، فيقصدون أذاهم بمعاونتنا ومظاهرتنا ، في أوقات اشتغالهم واضطرابهم ، وفي أحوال تعذّر المدافعة والامتناع من الأعداء عليهم.

وكانوا مع ذلك ينكرون على سائر اليهود إخبار النّاس عمّا كانوا يشاهدونه من آياته ، ويعاينونه من معجزاته ، فأظهر الله تعالى محمّدا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سوء اعتقادهم ، وقبح دخائلهم ، وعلى إنكارهم على من اعترف بما شاهده من آيات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواضح بيّناته ، وباهر معجزاته.

__________________

(١) راجعه الكلام مراجعة : حاوره إيّاه. «لسان العرب ـ رجع ـ ٨ : ١١٦».

(٢) الاصطلام : الاستئصال. «الصحاح ـ صلم ـ ٥ : ١٩٦٧».

١٣٤

فقال عزوجل : يا محمّد (أَفَتَطْمَعُونَ) أنت وأصحابك من عليّ وآله الطيّبين (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) هؤلاء اليهود الذين هم بحجج الله قد بهرتموهم ، وبآيات الله ودلائله الواضحة قد قهرتموهم (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ويصدّقوكم بقلوبهم ، ويبدوا في الخلوات لشياطينهم شريف أحوالكم.

(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني من هؤلاء اليهود من بني إسرائيل (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) في أصل جبل طور سيناء ، وأوامره ونواهيه (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) عمّا سمعوه ، إذا أدّوه إلى من ورائهم من سائر بني إسرائيل (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) وعلموا أنهم فيما يقولونه كاذبون (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنّهم في قيلهم كاذبون.

وذلك أنّهم لمّا صاروا مع موسى إلى الجبل ، فسمعوا كلام الله ، ووقفوا على أوامره ونواهيه ، رجعوا فأدّوه إلى من بعدهم فشقّ عليهم ، فأمّا المؤمنون منهم فثبتوا على إيمانهم ، وصدقوا في نيّاتهم ، وأمّا أسلاف هؤلاء اليهود الذين نافقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه القصّة ، فإنّهم قالوا لبني إسرائيل : إنّ الله تعالى قال لنا هذا ، وأمرنا بما ذكرناه لكم ونهانا ، وأتبع ذلك بأنّكم إن صعب عليكم ما أمرتكم به فلا عليكم أن لا تفعلوه ، وإن صعب عليكم ما عنه نهيتكم فلا عليكم أن ترتكبوه وتواقعوه ، وهم يعلمون أنّهم بقولهم هذا كاذبون.

ثمّ أظهر الله على نفاقهم الآخر مع جهلهم ، فقال الله عزوجل : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) كانوا إذا لقوا سلمان والمقداد وأبا ذرّ وعمّارا ، قالوا : آمنّا كإيمانكم ، آمنّا بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقرونة بالإيمان بإمامة أخيه عليّ بن أبي طالب ، وبأنّه أخوه الهادي ، ووزيره الموالي ، وخليفته على أمّته ، ومنجز عدته ، والوافي بذمّته ، والناهض بأعباء سياسته ، وقيّم الخلق ، الذائد لهم عن سخط الرّحمن ، الموجب لهم ـ إن أطاعوه ـ رضا الرّحمن ، وأنّ خلفاءه من بعده هم النجوم الزاهرة ، والأقمار المنيرة ، والشّمس المضيئة الباهرة ، وأنّ

١٣٥

أولياءهم أولياء الله ، وأنّ أعداءهم أعداء الله.

ويقول بعضهم : نشهد أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب المعجزات ، ومقيم الدلالات الواضحات ، هو الذي لمّا تواطأت قريش على قتله ، وطلبوه فقدا لروحه ، يبّس الله أيديهم فلم تعمل ، وأرجلهم فلن تنهض ، حتى رجعوا عنه خائبين مغلوبين ، ولو شاء محمّد وحده قتلهم أجمعين ، وهو الذي لمّا جاءته قريش ، وأشخصته إلى هبل ليحكم عليه بصدقهم وكذبه خرّ هبل لوجهه ، وشهد له بنبوّته ، ولعليّ أخيه بإمامته ، ولأوليائه من بعده بوراثته ، والقيام بسياسته وإمامته. وهو الذي لمّا ألجأته قريش إلى الشّعب (١) ، ووكّلوا ببابه من يمنع من إيصال قوت ، ومن خروج أحد عنه ، خوفا أن يطلب لهم قوتا ، غذا هناك كافرهم ومؤمنهم أفضل من المنّ والسّلوى ، وكلّ ما اشتهى كلّ واحد منهم من أنواع الأطعمات الطيّبات ، ومن أصناف الحلاوات ، وكساهم أحسن الكسوات.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرهم إذ يراهم وقد ضاقت لضيق فجّهم (٢) صدورهم ، قال بيده (٣) هكذا بيمناه إلى الجبال ، وهكذا بيسراه إلى الجبال ، وقال لها : اندفعي ، فتندفع وتتأخّر حتّى يصيروا بذلك في صحراء لا ترى أطرافها ، ثمّ يقول بيده هكذا ، ويقول : أطلعي ـ يا أيّتها المودعات لمحمد وأنصاره ـ ما أودعكها الله من الأشجار والأثمار والأنهار وأنواع الزهر والنبات ، فتطلع الأشجار الباسقة ، والرياحين المونقة والخضروات النزهة ما تتمتّع به القلوب والأبصار ، وتنجلي به الهموم والغموم والأفكار ، وهم

__________________

(١) الشعب : الطريق في الجبل ، أو ما انفرج بين جبلين ، والمقصود هنا شعب أبي يوسف بمكّة.

(٢) الفجّ : الطريق الواسع بين الجبلين : «الصحاح ـ فجج ـ ١ : ٣٣٣».

(٣) قال بيده : أشار بها. وفي «ط» نسخة بدل : شال.

١٣٦

يعلمون أنّه ليس لأحد من ملوك الأرض مثل صحرائهم ، على ما تشتمل عليه من عجائب أشجارها ، وتهدّل (١) ثمارها ، واطّراد أنهارها ، وغضارة رياحينها ، وحسن نباتها.

ومحمد هو الذي لمّا جاءه رسول أبي جهل (٢) يتهدّده ويقول : يا محمّد ، إنّ الخيوط التي في رأسك هي التي ضيّقت عليك مكّة ، ورمت بك إلى يثرب ، وإنّها لا تزال بك حتّى تنفّرك وتحثّك على ما يفسدك ويتلفك ، إلى أن تفسدها على أهلها ، وتصليهم حرّ نار تعدّيك طورك ، وما أرى ذلك إلّا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد بقصد آثارك ، ودفع ضررك وبلائك ، فتلقاهم بسفهائك المغترّين بك ، ويساعدك على ذلك من هو كافر بك ومبغض لك ، فيلجئه إلى مساعدتك ومضافرتك خوفه لأن يهلك بهلاكك ، وتعطب (٣) عياله بعطبك ، ويفتقر هو ومن يليه بفقرك ، وبفقر شيعتك ، أو يعتقدون أنّ أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرّقوا بين من والاك وعاداك ، واصطلموهم باصطلامهم لك ، وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب ، كما يأتون على أموالك وعيالك ، وقد أعذر من أنذر (٤) ، وبالغ من أوضح.

أدّيت هذه الرسالة إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بظاهر المدينة ، بحضرة كافّة أصحابه ، وعامّة الكفّار من يهود بني إسرائيل ، وهكذا أمر الرسول ، ليجنّبوا المؤمنين ، ويغرّوا بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين ، فقال رسول

__________________

(١) تهدّلت أغصان الشجرة : تدلّت. «مجمع البحرين ـ هدل ـ ٥ : ٤٩٧».

(٢) في «ط» نسخة بدل : أبي لهب.

(٣) العطب : الهلاك. «الصحاح ـ عطب ـ ١ : ١٨٤».

(٤) أعذر من أنذر. مثل معناه : من حذرك ما يحلّ بك فقد أعذر إليك ، أي صار معذورا عندك. «مجمع الأمثال ٢ : ٢٩».

١٣٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرسول : قد أطريت مقالتك ، واستكملت رسالتك؟ قال : بلى.

قال : فاسمع الجواب : إنّ أبا جهل بالمكاره والعطب يهدّدني ، وربّ العالمين بالنصر والظفر يعدني ، وخبر الله أصدق ، والقبول من الله أحقّ ، لن يضرّ محمّدا من خذله ، أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله ، ويتفضّل بجوده وكرمه عليه ، قل له : يا أبا جهل ، إنّك راسلتني بما ألقاه في خلدك (١) الشيطان ، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرّحمن ، إنّ الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسعة وعشرين يوما ، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي ، وستلقى أنت وعتبة وشيبة والوليد وفلان وفلان ـ وذكر عددا من قريش ـ في قليب بدر (٢) مقتّلين ، أقتل منكم سبعين ، وآسر منكم سبعين ، أحملهم على الفداء الثقيل.

ثمّ نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود والنصارى وسائر الأخلاط : ألا تحبّون أن أريكم مصرع كلّ واحد من هؤلاء؟ هلمّوا إلى بدر ، فإنّ هناك الملتقى والمحشر ، وهناك البلاء الأكبر ، لأضع قدمي على مواضع مصارعهم ، ثمّ ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ، ولا تتغيّر ولا تتقدّم ولا تتأخّر لحظة ، ولا قليلا ولا كثيرا ، فلم يخف ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وحده ، وقال : نعم ، بسم الله ، فقال الباقون : نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ، فلا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيّام.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسائر اليهود : فأنتم ، ماذا تقولون؟ قالوا : نحن نريد أن نستقرّ في بيوتنا ، ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادّعائه محيل.

__________________

(١) الخلد : البال يقال : وقع ذلك في خلدي : أي في روعي وقلبي. «الصحاح ـ خلد ـ ٢ : ٤٦٩».

(٢) القليب : البئر ، وبدر : ماء مشهور بين مكّة والمدينة أسفل وادي الصفراء. «معجم البلدان ١ : ٣٥٧».

١٣٨

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نصب عليكم في المسير إلى هناك اخطوا خطوة واحدة فإن الله يطوي الأرض لكم ، ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك ، فقال المؤمنون : صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلنتشرّف بهذه الآية ، وقال الكافرون والمنافقون : سوف نمتحن هذا الكذب لينقطع عذر محمّد ، وتصير دعواه حجّة عليه ، وفاضحة له في كذبه».

قال : «فخطا القوم خطوة ، ثمّ الثانية ، فإذا هم عند بئر بدر فعجبوا من ذلك ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اجعلوا البئر العلامة ، واذرعوا من عندها كذا ذراعا ، فذرعوا ، فلمّا انتهوا إلى آخرها ، قال : هذا مصرع أبي جهل ، يجرحه فلان الأنصاري ، ويجهز عليه عبد الله بن مسعود أضعف أصحابي.

ثمّ قال : اذرعوا من البئر من جانب آخر ، ثمّ جانب آخر ، كذا وكذا ذرعا ، وذكر أعداد الأذرع مختلفة ، فلمّا انتهى كلّ عدد إلى آخره قال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا مصرع عتبة ، وذاك مصرع شيبة ، وذاك مصرع الوليد ، وسيقتل فلان وفلان ـ إلى أن سمّى تمام سبعين منهم بأسمائهم ـ وسيؤسر فلان وفلان ، إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم ، ونسب المنسوبين إلى الآباء منهم ، ونسب الموالي منهم إلى مواليهم.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوقفتم على ما أخبرتكم به قالوا : بلى ، قال : وإنّ ذلك لحقّ كائن بعد ثمانية وعشرين يوما ، في اليوم التاسع والعشرين ، وعدا من الله مفعولا ، وقضاء حتما لازما.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر المسلمين واليهود ، اكتبوا ما سمعتم ، فقالوا : يا رسول الله ، قد سمعنا ووعينا ولا ننسى.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الكتابة أفضل وأذكر لكم ، فقالوا : يا رسول الله ، وأين الدواة والكتف؟

١٣٩

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك للملائكة ، ثمّ قال : يا ملائكة ربّي ، اكتبوا ما سمعتم من هذه القصّة في أكتاف ، واجعلوا في كمّ (١) كلّ واحد منهم كتفا من ذلك.

ثمّ قال : معاشر المسلمين ، تأمّلوا أكمامكم وما فيها ، وأخرجوه وأقرءوه ، فتأمّلوها فإذا في كمّ كلّ واحد منهم صحيفة ، قرأها ، وإذا فيها ذكر ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك سواء ، لا يزيد ولا ينقص ، ولا يتقدّم ولا يتأخّر.

فقال : أعيدوها في أكمامكم تكن حجّة عليكم ، وشرفا للمؤمنين منكم ، وحجّة على أعدائكم ، فكانت معهم ، فلمّا كان يوم بدر جرت الأمور كلّها ببدر ، ووجدوها كما قال لا تزيد ولا تنقص ، ولا تتقدّم ولا تتأخّر ، قابلوا بها ما في كتبهم فوجدوها كما كتبته الملائكة فيها ، لا تزيد ولا تنقص ، ولا تتقدّم ولا تتأخّر ، فقبل المسلمون ظاهرهم ، ووكلوا باطنهم إلى خالقهم.

فلمّا أفضى بعض هؤلاء اليهود إلى بعض ، قال : أيّ شيء صنعتم؟ أخبرتموهم (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) من الدلالات على صدق نبوّة محمّد ، وإمامة أخيه علي (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) بأنكم كنتم قد علمتم هذا وشاهدتموه ، فلم تؤمنوا به ولم تطيعوه ، وقدّروا بجهلهم أنّهم إن لم يخبروهم بتلك الآيات لم يكن له عليهم حجّة في غيرها.

ثمّ قال عزوجل : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنّ هذا الذي تخبرونهم به ممّا فتح الله عليكم من دلائل نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة عليكم عند ربّكم؟!

قال الله تعالى : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) ـ يعني أولا يعلم الناس القائلون

__________________

(١) الكم : الردن. «مجمع البحرين ـ كمم ـ ٦ : ١٥٩».

١٤٠