لإخوانهم : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) ـ (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من عداوة محمد ويضمرونه من أنّ إظهارهم الإيمان به أمكن لهم من اصطلامه ، وإبادة أصحابه (وَما يُعْلِنُونَ) من الإيمان ظاهرا ليؤنسوهم ، ويقفوا به على أسرارهم فيذيعوها بحضرة من يضرّهم ، وإنّ الله لمّا علم ذلك دبّر لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم تمام أمره ، وبلوغ غاية ما أراده ببعثه ، وإنّه يتمّ أمره ، وإنّ نفاقهم وكيدهم لا يضرّه» (١).
وقال أبو عليّ الطّبرسيّ في (مجمع البيان) : روي عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام أنّه قال : «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين ، إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فنهاهم كبراؤهم عن ذلك ، وقالوا : لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمّد فيحاجّوكم به عند ربّكم ، فنزلت الآية» (٢).
س ٦٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (٧٨) [البقرة : ٧٨]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «قال الله عزوجل : يا محمّد ، من هؤلاء اليهود (أُمِّيُّونَ) لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون ، فالأمّي منسوب إلى أمّه ، أي هو كما خرج من بطن أمّه لا يقرأو لا يكتب (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) المنزّل من السّماء ولا المكذّب به ، ولا يميّزون بينهما (إِلَّا أَمانِيَ) أي إلا أن يقرأعليهم ، ويقال لهم : إن هذا كتاب الله وكلامه ، ولا يعرفون إن قرىء من الكتاب خلاف ما فيه (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ما يقول لهم
__________________
(١) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٢٩١ / ١٤٢.
(٢) مجمع البيان ١ : ٢٨٦.
رؤساؤهم من تكذيب محمد في نبوّته ، وإمامة عليّ سيّد عترته ، وهم ، يقلّدونهم مع أنّه محرّم عليهم تقليدهم» (١).
س ٦٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٧٩) [البقرة : ٧٩]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «قال الله عزوجل : [هذا] لقوم من هؤلاء اليهود كتبوا صفة زعموا أنّها صفة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهي خلاف صفته ، وقالوا للمستضعفين منهم : هذه صفة النبيّ المبعوث في آخر الزمان : أنّه طويل ، عظيم البدن والبطن ، أصهب (٢) الشعر ، ومحمّد خلافه ، وهو يجيء بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة. وإنّما أرادوا بذلك لتبقى لهم على ضعفائهم رئاستهم ، وتدوم لهم منهم إصابتهم ، ويكفوا أنفسهم مؤنة خدمة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وخدمة عليّ عليهالسلام وأهل خاصّته. فقال الله عزوجل : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) من هذه الصفات المحرّفات المخالفات لصفة محمّد وعلي عليهالسلام ، الشدّة لهم من العذاب في أشقّ بقاع جهنّم (وَوَيْلٌ لَهُمْ) من الشدّة في العذاب ثانية ، مضافة إلى الأولى (مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الأموال التي يأخذونها إذا أثبتوا عوامّهم على الكفر بمحمّد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والجحد بوصيّة أخيه عليّ وليّ الله» (٣).
__________________
(١) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٢٩٩ / ١٤٣.
(٢) الصهبة : الشقرة في شعر الرأس. «الصحاح ـ صهب ـ ١ : ١٦٦».
(٣) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٢٩٩ / ١٤٣ ـ ١٤٥.
س ٦٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٢) [البقرة : ٨٠ ـ ٨٢]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «قال الله عزوجل : (وَقالُوا) يعني اليهود المصرّون للشقاوة ، المظهرون للإيمان ، المسرّون للنفاق ، المدبّرون على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وذويه بما يظنّون أن فيه عطبهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وذلك أنّه كان لهم أصهار وإخوة رضاع من المسلمين ، يسترون كفرهم عن محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وصحبه ، وإن كانوا به عارفين ، صيانة لهم لأرحامهم وأصهارهم.
قال لهم هؤلاء : لم تفعلون هذا النفاق الذي تعلمون أنّكم به عند الله مسخوط عليكم معذّبون؟
أجابهم هؤلاء اليهود : بأنّ مدّة ذلك العقاب الذي نعذّب به لهذه الذنوب (أَيَّاماً مَعْدُودَةً) تنقضي ، ثمّ نصير بعد في النعمة في الجنان ، فلا نتعجّل المكروه في الدنيا للعذاب الذي هو بقدر أيّام ذنوبنا ، فإنّها تفنى وتنقضي ، ونكون قد حصّلنا لذّات الحريّة من الخدمة ، ولذّات نعم الدنيا ، ثمّ لا نبالي بما يصيبنا بعد ، فإنّه إذا لم يكن دائما فكأنّه قد فنى.
فقال الله عزوجل : (قُلْ) يا محمّد ؛ (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أنّ عذابكم على كفركم بمحمّد ودفعك لآياته في نفسه ، وفي عليّ وسائر خلفائه وأوليائه ، منقطع غير دائم؟ بل ما هو إلّا عذاب دائم لا نفاد له ، فلا تجترئوا على الآثام والقبائح من الكفر بالله وبرسوله وبوليّه المنصوب بعده على أمّته ،
ليسوسهم ويرعاهم بسياسة الوالد الشفيق الرّحيم الكريم لولده ، ورعاية الحدب (١) المشفق على خاصّته.
(فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) فكذلك أنتم بما تدّعون من فناء عذاب ذنوبكم هذه في حرز (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) اتّخذتم عهدا ، أم تقولون؟ بل أنتم ـ في أيّهما ادّعيتم ـ كاذبون».
ثمّ قال الله عزوجل : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
قال الإمام عليهالسلام : «السيئة المحيطة به هي التي تخرجه عن جملة دين الله ، وتنزعه عن ولاية الله ، وترميه في سخط الله ، وهي الشّرك بالله ، والكفر به ، والكفر بنبوّة محمّد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والكفر بولاية علي بن أبي طالب عليهالسلام ، كلّ واحدة من هذه سيّئة تحيط به ، أي تحيط بأعماله فتبطلها وتمحقها (فَأُولئِكَ) عاملوا هذه السيّئة المحيطة (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
ثمّ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ ولاية عليّ حسنة لا يضرّ معها شيء من السيّئات وإن جلّت ، إلا ما يصيب أهلها من التطهير منها بمحن الدنيا ، وببعض العذاب في الآخرة إلى أن ينجو منها بشفاعة مواليه الطيّبين الطاهرين ، وإنّ ولاية أضداد عليّ ومخالفة علي عليهالسلام سيّئة لا ينفع معها شيء إلّا ما ينفعهم لطاعتهم في الدنيا بالنعم والصحّة والسّعة ، فيردون الآخرة ولا يكون لهم إلّا دائم العذاب.
ثمّ قال : إنّ من جحد ولاية عليّ لا يرى الجنّة بعينه أبدا إلا ما يراه بما يعرف به أنّه لو كان يواليه لكان ذلك محلّه ومأواه ومنزله ، فيزداد حسرات وندامات ، وإنّ من توالى عليّا ، وبرىء من أعدائه ، وسلّم لأوليائه ، لا يرى
__________________
(١) حدب فلان على فلان ، فهو حدب : تعطّف ، وحنا عليه. «لسان العرب ـ حدب ـ ١ : ٣٠١». وفي «ط» نسخة بدل : الجدّ.
النّار بعينه أبدا إلّا ما يراه ، فيقال له : لو كنت على غير هذا لكان ذلك مأواك ، وإلا ما يباشره منها إن كان مسرفا على نفسه بما دون الكفر إلّا أن ينظّف بجهنّم ، كما ينظّف درنه بالحمّام الحامي ، ثمّ ينقل عنها بشفاعة مواليه» (١).
والشيخ في (أماليه) : بإسناده عن عليّ عليهالسلام ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه تلا هذه الآية : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قيل : يا رسول الله ، من أصحاب النّار؟ قال : «من قاتل عليّا بعدي ، فأولئك أصحاب النّار مع الكفّار ، فقد كفروا بالحقّ لمّا جاءهم ، ألا وإنّ عليّا بضعة منّي ، فمن حاربه فقد حاربني وأسخط ربّي». ثمّ دعا عليّا فقال : «يا عليّ ، حربك حربي ، وسلمك سلمي ، وأنت العلم فيما بيني وبين أمّتي» (٢).
وقال الشيخ الطوسي في التبيان : الآية الأخيرة متناولة لمن آمن بالله وصدق به ، وصدق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ في ولاية علي عليهالسلام ـ وعمل الصالحات التي أوجبها الله تعالى عليه ، فانه يستحق بها الجنة خالدا ابدا. وظاهرها يمنع من ان مرتكب الكبيرة مخلد في النار ، لأنه إذا كان مؤمنا مستحقا للثواب الدائم ، فلا يجوز ان يستحق مع ذلك عقابا دائما ، لأن ذلك خلاف ما اجمع المسلمون عليه ومتى عادوا إلى الأحباط ، كلموا فيه بينهم وبين بطلان قولهم.
س ٦٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣) [البقرة : ٨٣]؟!
الجواب / هنالك روايات عديدة وردت عن الإمام العسكري عليهالسلام نذكر منها هذه الرواية :
__________________
(١) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٣٠٣ / ١٤٦ ـ ١٤٨.
(٢) الأمالي ١ : ٣٧٤.
قال الإمام العسكريّ عليهالسلام : «قال الله عزوجل لبني إسرائيل : واذكروا (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عهدهم المؤكّد عليهم : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي بأن لا تعبدوا إلا الله ، أي لا تشبهوه بخلقه ، ولا تجوروه في حكمه ، ولا تعملوا بما يراد به وجهه تريدون به وجه غيره.
(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وأخذنا ميثاقهم بأن يعملوا بوالديهم إحسانا ، مكافأة عن إنعامهما عليهم ، وإحسانهما إليهم ، واحتمال المكروه الغليظ فيهم ، لترفيههما وتوديعهما (وَذِي الْقُرْبى) قرابات الوالدين بأن يحسنوا إليهم لكرامة الوالدين (وَالْيَتامى) أي وأن يحسنوا إلى اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين لهم أمورهم ، السائقين لهم غذاءهم وقوتهم ، المصلحين لهم معاشهم.
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ) الذين لا مؤونة لهم عليكم (حُسْناً) عاملوهم بخلق جميل (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الصلوات الخمس ، وأقيموا أيضا الصّلاة على محمّد وآل محمّد الطيّبين عند أحوال غضبكم ورضاكم ، وشدّتكم ورخائكم ، وهمومكم المعلّقة بقلوبكم.
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أيها اليهود عن الوفاء بما قد نقل إليكم من العهد الذي أدّاه أسلافكم إليكم (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) عن ذلك العهد ، تاركون له ، غافلون عنه» (١).
وقال الإمام الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) : «الوالدان محمّد وعلي عليهالسلام» (٢).
__________________
(١) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٣٢٦ / ١٧٤.
(٢) روضة الواعظين : ١ : ١٠٥.
أقول : قال علي بن أبي طالب عليهالسلام : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة ، ولحقّنا عليهم أعظم من حق والديهم ، فإنّا ننقذهم ـ إن أطاعونا ـ من النّار إلى دار القرار ، ولنلحقهم من العبودية بخيار الأحرار ... (تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٣٣٠ ، ١٨٩) ، وهذا القول لا يخالف الأول.
وقال أيضا عليهالسلام : إن الله بعث محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم بخمسة أسياف ، فسيف على أهل الذمّة ، قال الله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) نزلت في أهل الذمّة ، ثمّ نسختها أخرى ، قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(١) الآية» (٢).
س ٦٦ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٨٥) [البقرة : ٨٤ ـ ٨٥]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) واذكروا ـ يا بني إسرائيل ـ حين أخذنا ميثاقكم على أسلافكم ، وعلى كلّ من يصل إليه الخبر بذلك من أخلافهم الذين أنتم منهم (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) لا يسفك بعضكم دماء بعض (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم.
(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بذلك الميثاق ، كما أقرّ به أسلافكم ، والتزمتموه كما التزموه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بذلك على أسلافكم وأنفسكم (ثُمَّ أَنْتُمْ) معاشر اليهود (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) يقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) غصبا وقهرا (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) يظاهر بعضكم بعضا على إخراج
__________________
(١) التوبة : ٢٩.
(٢) تفسير العيّاشي : ج ١ ، ص ٤٨ ، ح ٦٦.
من تخرجونه من ديارهم ، وقتل من تقتلونه منهم بغير حقّ (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) بالتعدّي تتعاونون وتتظاهرون.
(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ) يعني هؤلاء الذين تخرجونهم ، أي ترومون إخراجهم وقتلهم ظلما ، إن يأتوكم (أُسارى) قد أسرهم أعداؤكم وأعداؤهم (تُفادُوهُمْ) من الأعداء بأموالكم (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) أعاد قوله عزوجل : (إِخْراجُهُمْ) ولم يقتصر على أن يقول : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) لأنّه لو قال ذلك لرأى أنّ المحرّم إنّما هو مفاداتهم.
ثم قال عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) وهو الذي أوجب عليكم المفاداة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو الذي حرّم قتلهم وإخراجهم ، فقال : فإذا كان قد حرّم الكتاب قتل النفوس والإخراج من الدّيار كما فرض فداء الأسراء ، فما بالكم تطيعون في بعض ، وتعصون في بعض ، كأنّكم ببعض كافرون ، وببعض مؤمنون؟!
ثمّ قال عزوجل : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) يا معشر اليهود (إِلَّا خِزْيٌ) ذلّ (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) جزية تضرب عليه ، ويذلّ بها (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) إلى جنس أشدّ العذاب ، يتفاوت ذلك على قدر تفاوت معاصيهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يعمل هؤلاء اليهود (١).
س ٦٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٨٦) [البقرة : ٨٦]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : ثم وصفهم ـ أي اليهود ـ فقال
__________________
(١) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٣٦٧ / ٢٥٧.
الله عزوجل : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) رضوا بالدنيا وحطامها بدلا من نعيم الجنان المستحقّ بطاعات الله (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لا ينصرهم أحد يرفع عنهم العذاب ... (١).
س ٦٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧) [البقرة : ٨٧]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «قال الله عزوجل ـ وهو يخاطب اليهود الذي أظهر محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم المعجزات لهم عند تلك الجبال ويوبّخهم ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة ، المشتمل على أحكامنا ، وعلى ذكر فضل محمّد وآله الطيّبين ، وإمامة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وخلفائه بعده ، وشرف أحوال المسلّمين له ، وسوء أحوال المخالفين عليه.
(وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) جعلنا رسولا في إثر رسول (وَآتَيْنا) أعطينا (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) الآيات الواضحات ، مثل : إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإنباء بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو جبرئيل عليهالسلام ، وذلك حين رفعه من روزنة (٢) بيته إلى السّماء ، وألقى شبهه على من رام قتله ، فقتل بدلا منه ، وقيل : هو المسيح».
وقال الإمام عليهالسلام : «ثمّ وجّه الله عزوجل العذل (٣) نحو اليهود
__________________
(١) نفس المصدر ، ٣٦٧ ، ٢٥٨.
(٢) الروزنة : الكوّة. «الصحاح ـ رزن ـ ٥ : ٢١٢٣».
(٣) العدل : الملامة. «الصحاح ـ عذل ـ ٥ : ١٧٦٢». وفي «ط» : العدل.
المذكورين في قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ)(١) فقال : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) فأخذ عهودكم ومواثيقكم بما لا تحبّون : من بذل الطاعة لأوليائه الله الأفضلين وعباده المنتجبين محمد وآله الطيّبين الطاهرين ، لما قالوا لكم ، كما أدّاه إليكم أسلافكم الذين قيل لهم : إنّ ولاية محمّد وآل محمّد هي الغرض الأقصى والمراد الأفضل ، ما خلق الله أحدا من خلقه ولا بعث أحدا من رسله إلّا ليدعوهم إلى ولاية محمّد وعليّ وخلفائه عليهمالسلام ويأخذ بها عليهم العهد ليقيموا عليه ، وليعمل به سائر عوامّ الأمم ، فلهذا (اسْتَكْبَرْتُمْ) كما استكبر أوائلكم حتّى قتلوا زكريّا ويحيى ، واستكبرتم أنتم حتّى رمتم قتل محمّد وعليّ عليهالسلام ، فخيّب الله تعالى سعيكم ، وردّ في نحوركم كيدكم.
وأمّا قوله عزوجل : (تَقْتُلُونَ) فمعناه : قتلتم ، كما تقول لمن توبّخه : ويلك كم تكذب وكم تخرّق (٢) ، ولا تريد ما لم يفعله بعد ، وإنّما تريد : كم فعلت وأنت عليه موطّن (٣)(٤).
وقال أبو جعفر : «ذلك مثل موسى والرّسل من بعده وعيسى (صلوات الله عليهم) ، ضرب مثلا لأمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال الله لهم : فإن جاءكم محمّد بما لا تهوى أنفسكم بموالاة عليّ استكبرتم ، ففريقا من آل محمّد كذّبتم ، وفريقا تقتلون ، فذلك تفسيرها في الباطن» (٥).
__________________
(١) البقرة ٢ : ٧٤.
(٢) التخرّق : لغة في التخلّق من الكذب. «الصحاح ـ خرق ـ ٤ : ١٤٦٧» ، وفي طبعه : تمخرق.
(٣) وطّن نفسه على الشيء : حملها عليه ومهّد لها. والمعنى وأنت على الكذب مستمر وثابت.
(٤) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٣٧١ / ٢٦٠ و : ٣٧٩ / ٢٦٤.
(٥) تفسير العيّاشي : ١ : ٤٩ / ٦٨.
س ٦٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) (٨٨) [البقرة : ٨٨]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «قال الله عزوجل : (وَقالُوا) يعني هؤلاء اليهود الذي أراهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المعجزات المذكورات عند قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ)(١) الآية (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أوعية للخير والعلوم ، قد أحاطت بها واشتملت عليها ، ثمّ هي مع ذلك لا تعرف لك ـ يا محمّد ـ فضلا مذكورا في شيء من كتب الله ، ولا على لسان أحد من أنبياء الله.
فقال الله تعالى ردّا عليهم : (بَلْ) ليس كما يقولون أوعية للعلوم ، ولكن قد (لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم الله من الخير (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) قليل إيمانهم ، يؤمنون ببعض ما أنزل الله ، ويكفرون ببعض ، فإذا كذّبوا محمّدا في سائر ما يقول : فقد صار ما كذّبوا به أكثر ، وما صدّقوا به أقلّ.
وإذا قرىء (غُلْفٌ)(٢) فإنّهم قالوا : قلوبنا غلف في غطاء ، فلا نفهم كلامك وحديثك ، نحو ما قال الله عزوجل : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ)(٣) وكلا القراءتين حقّ ، وقد قالوا بهذا وبهذا جميعا ... (٤).
__________________
(١) البقرة ٢ : ٧٤.
(٢) القراءة المشهورة (غلف) بسكون اللّام ، وروي في الشواذ «غلف» بضمّ اللام ، والأولى جمع (الأغلف) مثل (أحمر وحمر) ، والثانية جمع (غلاف) مثل (حمار وحمر). «مجمع البيان للطبرسيّ ١ : ٣٠٨».
(٣) فصلت ٤١ : ٥.
(٤) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٣٩٠ / ٢٦٦.
س ٧٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩) [البقرة : ٨٩]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «ذمّ الله اليهود ، فقال : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) يعني هؤلاء اليهود الذي تقدّم ذكرهم ، وإخوانهم من اليهود ، جاءهم (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) القرآن (مُصَدِّقٌ) ذلك الكتاب (لِما مَعَهُمْ) من التوراة التي بيّن فيها أنّ محمدا الأمّي من ولد إسماعيل ، المؤيّد بخير خلق الله بعده : عليّ وليّ الله (وَكانُوا) يعني هؤلاء اليهود (مِنْ قَبْلُ) ظهور محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم بالرسالة (يَسْتَفْتِحُونَ) يسألون الله الفتح والظفر (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من أعدائهم والمناوئين لهم ، وكان الله يفتح لهم وينصرهم.
قال الله عزوجل : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) جاء هؤلاء اليهود (ما عَرَفُوا) من نعت محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وصفته (كَفَرُوا بِهِ) جحدوا نبوّته حسدا له ، وبغيا عليه ، قال الله عزوجل : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(١).
وقال الإمام الصادق عليهالسلام : «كان قوم فيما بين محمّد وعيسى (صلوات الله عليهما) ، كانوا يتوعّدون أهل الأصنام بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويقولون : ليخرجنّ نبيّ ، وليكسّرنّ أصنامكم ، وليفعلنّ بكم ما يفعلنّ ، فلمّا خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كفروا به» (٢).
وقال الإمام الباقر عليهالسلام : «تفسيرها في الباطن : لمّا جاءهم ما عرفوا في
__________________
(١) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٣٩٣ / ٢٦٨.
(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ٣١٠ ، ح ٤٨٢.
عليّ عليهالسلام كفروا به ، فقال الله فيهم : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) في باطن القرآن». قال أبو جعفر عليهالسلام : «يعني بني أميّة ، هم الكافرون في باطن القرآن» (١).
س ٧١ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٩٠) [البقرة : ٩٠]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «ذمّ الله تعالى اليهود وعاب فعلهم في كفرهم بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي اشتروها بالهدايا والفضول (٢) التي كانت تصل إليهم ، وكان الله أمرهم بشرائها من الله بطاعتهم له ، ليجعل لهم أنفسهم والانتفاع بها دائما في نعيم الآخرة فلم يشتروها ، بل اشتروها بما أنفقوه في عداوة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليبقى لهم عزّهم في الدنيا ، ورئاستهم على الجهّال ، وينالوا المحرّمات ، وأصابوا الفضولات من السفلة وصرفوهم عن سبيل الرّشاد ، ووقفوهم على طريق الضلالات.
ثمّ قال الله عزوجل : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً) أي بما أنزل الله على موسى عليهالسلام من تصديق محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم بغيا (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).
قال : «وإنما كان كفرهم لبغيهم وحسدهم له ، لما أنزل الله من فضله عليه ، وهو القرآن الذي أبان فيه نبوّته ، وأظهر به آيته ومعجزته ، ثم قال :
__________________
(١) تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٥٠ ، ح ٧٠.
(٢) فضول الغنائم : ما فضل منها حين تقسم.
(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) يعني رجعوا وعليهم الغضب من الله على غضب في إثر غضب ـ قال ـ : «والغضب الأوّل حين كذّبوا بعيسى بن مريم عليهالسلام ، والغضب الثاني حين كذّبوا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم».
قال : «والغضب الأوّل أن جعلهم قردة خاسئين ، ولعنهم على لسان عيسى عليهالسلام ، والغضب الثاني حين سلّط الله عليهم سيوف محمّد وآله وأصحابه وأمّته حتى ذلّلهم بها ، فإمّا دخلوا في الإسلام طائعين ، وإمّا أدّوا الجزية صاغرين وآخرين (١)» (٢).
وقال أبو جعفر عليهالسلام : «نزلت هذه الآية على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم [هكذا] : بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله في عليّ بغيا ، وقال الله في عليّ عليهالسلام : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني عليّا ، قال الله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) يعني بني أميّة (وَلِلْكافِرِينَ) يعني بني أمية (عَذابٌ مُهِينٌ)(٣).
س ٧٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩١) [البقرة : ٩١]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : (وَإِذا قِيلَ) لهؤلاء اليهود الذين تقدّم ذكرهم (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) على محمّد من القرآن المشتمل على
__________________
(١) الدّخور : الصغار والذّل.
(٢) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٤٠١ / ٢٧٢.
(٣) تفسير العياشي ١ : ٥٠ / ٧٠.
الحلال والحرام ، والفرائض والأحكام (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يعني ما سواه ، لا يؤمنون به (وَهُوَ الْحَقُ) والذي يقول هؤلاء اليهود : إنّه وراءه ، هو الحقّ ، لأنّه هو الناسخ والمنسوخ الذي قدّمه الله عزوجل.
قال الله تعالى : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ) أي : لم كان يقتل أسلافكم (أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالتوراة ، أي ليست التوراة الآمرة بقتل الأنبياء ، فإذا كنتم (تَقْتُلُونَ) الأنبياء ، فما آمنتم بما أنزل عليكم من التوراة ، لأنّ فيها تحريم قتل الأنبياء ، كذلك إذا لم تؤمنوا بمحمّد ، وبما أنزل عليه وهو القرآن ، وفيه الأمر بالإيمان به ، فأنتم ما آمنتم بعد بالتوراة.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أخبر الله تعالى أنّ من لا يؤمن بالقرآن ، فما آمن بالتوراة ، لأنّ الله تعالى أخذ عليهم الإيمان بهما ، لا يقبل الإيمان بأحدهما إلا مع الإيمان بالآخر. فكذلك فرض الله الإيمان بولاية علي بن أبي طالب كما فرض الإيمان بمحمّد ، فمن قال : آمنت بنبوّة محمّد وكفرت بولاية عليّ بن أبي طالب ، فما آمن بنبوّة محمد ... (١).
س ٧٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٩٢) [البقرة : ٩٢]؟!
الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم حكى سبحانه عنهم ما يدل على قلة بصيرتهم في الدين ، وضعفهم في اليقين ، فقال : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) الدالة على صدقه ، والمعجزات المؤيدة لنبوته ، كاليد البيضاء وانبجاس الماء من الحجر وفلق البحر وقلب العصا حية والطوفان والجراد
__________________
(١) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٤٠٣ / ٢٧٥.
والقمل والضفادع والدم ، وسماها بينات لظهورها ، وتبينها للناظرين إليها أنها معجزة يتعذر الإتيان بها على كل بشر. وقوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) يعني اتخذتم العجل إلها ، وعبدتموه (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد موسى لما فارقكم ، ومضى إلى ميقات ربه. ويجوز ان يكون الهاء كناية عن المجئ ، فيكون التقدير : ثم اتخذتم العجل من بعد مجئ البينات. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم بكفركم وعبادتكم العجل ، لأن العبادة لا تكون لغير الله (١).
س ٧٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩٣) [البقرة : ٩٣]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «قال الله عزوجل : واذكروا إذ فعلنا ذلك بأسلافكم لمّا أبوا قبول ما جاءهم به موسى عليهالسلام من دين الله وأحكامه ، ومن الأمر بتفضيل محمّد وعليّ (صلوات الله عليهما) وخلفائهما على سائر الخلق.
(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) قلنا لهم : خذوا ما آتيناكم من هذه الفرائض (بِقُوَّةٍ) قد جعلناها لكم ، ومكّنّاكم بها ، وأزحنا عللكم في تركيبها فيكم (وَاسْمَعُوا) ما يقال لكم ، وتؤمرون به (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك ، أي إنّهم عصوا بعد ، وأضمروا في الحال أيضا العصيان (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أمروا بشرب العجل الذي كان قد ذرّيت سحالته (٢) في الماء الذي أمروا بشربه ، ليتبيّن من عبده ممّن لم يعبده (بِكُفْرِهِمْ) لأجل كفرهم ،
__________________
(١) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٠٦.
(٢) السّحالة : ما سقط من الذهب والفضة ونحوهما كالبرادة. «الصحاح ـ سحل ـ ٥ : ١٧٢٧».
أمروا بذلك.
(قُلْ) يا محمّد (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بموسى كفركم بمحمد وعليّ وأولياء الله من آلهما (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بتوراة موسى ، ولكن معاذ الله ، لا يأمركم إيمانكم بالتوراة الكفر بمحمّد وعليّ عليهالسلام.
قال الإمام العسكري عليهالسلام : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : إنّ الله تعالى ذكّر بني إسرائيل في عصر محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أحوال آبائهم الذين كانوا في أيّام موسى عليهالسلام ، كيف أخذ عليهم العهد والميثاق لمحمّد وعليّ وآلهما الطيّبين المنتجبين للخلافة على الخلائق ، ولأصحابهما وشيعتهما وسائر أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) اذكروا لمّا أخذنا ميثاق آبائكم (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) الجبل ، لمّا أبوا قبول ما أريد منهم والاعتراف به (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أعطيناكم (بِقُوَّةٍ) يعني بالقوّة التي أعطيناكم تصلح لذلك (وَاسْمَعُوا) أي أطيعوا فيه.
(قالُوا سَمِعْنا) بآذاننا (وَعَصَيْنا) بقلوبنا ، فأمّا في الظاهر فأعطوا كلّهم ، الطاعة داخرين صاغرين ، ثمّ قال : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) عرّضوا لشرب العجل الذي عبدوه حتّى وصل ما شربوه [من] ذلك إلى قلوبهم».
وقال : «إنّ بني إسرائيل لمّا رجع إليهم موسى وقد عبدوا العجل تلقّوه بالرجوع عن ذلك ، فقال لهم موسى : من الذي عبده منكم حتّى أنفّذ فيه حكم الله؟ خافوا من حكم الله الذي ينفّذه فيهم ، فجحدوا أن يكونوا عبدوه ، وجعل كلّ واحد منهم يقول : أنا لم أعبده ، وإنّما عبده غيري ، ووشى (١) بعضهم
__________________
(١) وشى به : أي سعى. «الصحاح ـ وشى ـ ٦ : ٢٥٢٤».
ببعض ، فذلك ما حكى الله عزوجل عن موسى من قوله للسامريّ : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(١) فأمره الله ، فبرده بالمبارد ، وأخذ سحالته فذرّاها في البحر العذب ، ثمّ قال لهم : اشربوا منه ، فشربوا ، فكلّ من كان عبده اسودّت شفتاه وأنفه ممّن كان أبيض اللون ، ومن كان منهم أسود اللون أبيضّت شفتاه وأنفه ، فعند ذلك أنفذ فيهم حكم الله» (٢).
س ٧٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٩٦) [البقرة : ٩٤ ـ ٩٦]؟!
الجواب / قال الإمام العسكري عليهالسلام : «قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام : إنّ الله تعالى لمّا وبّخ هؤلاء اليهود على لسان رسوله محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وقطع معاذيرهم ، وأقام عليهم الحجج الواضحة بأنّ محمدا سيّد النبيّين ، وخير الخلائق أجمعين ، وأنّ عليّا سيّد الوصيّين ، وخير من يخلّفه بعده في المسلمين وأنّ الطيّبين من آله هم القوّام بدين الله ، والأئمّة لعباد الله عزوجل ، وانقطعت معاذيرهم ، وهم لا يمكنهم إيراد حجّة ولا شبهة ، فجاءوا إلى أن تكاثروا ، فقالوا : ما ندري ما نقول ، ولكنّا نقول : إنّ الجنّة خالصة لنا من دونك ـ يا محمّد ـ ودون عليّ ، ودون أهل دينك وأمّتك ، وإنا بكم مبتلون
__________________
(١) طه : ٩٧.
(٢) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٤٢٤ ، ٢٩٠ و ٢٩١.
ممتحنون ، ونحن أولياء الله المخلصون ، وعباده الخيّرون ، ومستجاب دعاؤنا ، غير مردود علينا شيء من سؤالنا ربّنا.
فلمّا قالوا ذلك ، قال الله تعالى لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قل : يا محمّد ، لهؤلاء اليهود : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) الجنّة ونعيمها (خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) محمد وعلي والأئمّة ، وسائر الأصحاب ومؤمني الأمّة ، وأنّكم بمحمّد وذرّيّته ممتحنون ، وأنّ دعاءكم مستجاب غير مردود (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) للكاذبين منكم ومن مخالفيكم.
فإنّ محمدا وعليّا وذرّيّتهما يقولون : إنّهم هم أولياء الله عزوجل من دون النّاس الذين يخالفونهم في دينهم ، وهم المجاب دعاؤهم ، فإن كنتم ـ يا معشر اليهود ـ كما تزعمون ، فتمنّوا الموت للكاذبين منكم ومن مخالفيكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنّكم أنتم المحقّون المجاب دعاؤكم على مخالفيكم ، فقولوا : اللهمّ أمت الكاذب منّا ومن مخالفينا ، ليستريح منه الصادقون ، ولتزداد حجّتكم وضوحا بعد أن صحّت ووجبت.
ثمّ قال لهم رسول الله محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد ما عرض هذا عليهم : لا يقولها أحد منكم إلّا غصّ بريقه فمات مكانه ، وكانت اليهود علماء بأنّهم هم الكاذبون ، وأنّ محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّا عليهالسلام ومصدّقيهما هم الصادقون ، فلم يجسروا أن يدعوا بذلك ، لعلمهم بأنّهم إن دعوا فهم الميّتون.
فقال الله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني اليهود ، لن يتمنّوا الموت بما قدّمت أيديهم من الكفر بالله ، وبمحمّد رسوله ونبيّه وصفيّه ، وبعليّ أخي نبيّه ووصيّه ، وبالطاهرين من الأئمّة المنتجبين.
قال الله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) اليهود ، أنّهم لا يجسرون أن يتمنّوا الموت للكاذب ، لعلمهم أنّهم هم الكاذبون ، ولذلك آمرك أن تبهرهم
بحجّتك ، وتأمرهم أن يدعوا على الكاذب ، ليمتنعوا من الدّعاء ، ويبيّن للضعفاء أنّهم هم الكاذبون.
ثمّ قال : يا محمّد (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) يعني تجد هؤلاء اليهود (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وذلك ليأسهم من نعيم الآخرة ، لانهماكهم في كفرهم ، الذين يعلمون أنّهم لا حظّ لهم معه في شيء من خيرات الجنّة.
(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قال تعالى : هؤلاء اليهود (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وأحرص (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على حياة ـ يعني المجوس ـ لأنّهم لا يرون النعيم إلّا في الدنيا ، ولا يأملون خيرا في الآخرة ، فلذلك هم أشدّ النّاس حرصا على حياة.
ثم وصف اليهود فقال : (يَوَدُّ) يتمنّى (أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ) التعمير ألف سنة (بِمُزَحْزِحِهِ) بمباعده (مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) تعميره.
وإنّما قال : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) ولم يقل : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) فقط ، لأنه لو قال : وما هو بمزحزحه من العذاب والله بصير ، لكان يحتمل أن يكون (وَما هُوَ) يعني ودّه وتمنّيه (بِمُزَحْزِحِهِ) فلمّا أراد وما تعميره ، قال : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ)(١) ثم قال : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فعلى حسبه يجازيهم ، ويعدل فيهم ولا يظلمهم» (٢).
__________________
(١) هو : كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره ، أن يعمّر : في موضع رفع بأنه فاعل تقديره : وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره. كما يقال : مررت برجل معجب قيامه. أنظر «مجمع البيان للطبرسي ١ : ٣٢٢».
(٢) تفسير الإمام العسكري عليهالسلام : ٤٤٢ / ٢٩٤.