مستمسك العروة الوثقى - ج ١٢

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٧٨

______________________________________________________

كل من الدعويين. وحينئذ يقع الكلام في أمور.

الأول : في أن الحكم الصادر من الحاكم ليس حكماً واقعياً عندنا ، لما يستفاد من النصوص : مثل قول أبي عبد الله (ع) في صحيح هشام ابن الحكم : « قال رسول الله (ص) : إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان ، وبعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً ، فإنما قطعت له به قطعة من النار » (١). فإنه كالصريح في أن حكم الحاكم لا يغير الواقع ولا يبدله الى حكم آخر ، فاذا حكم ببطلان الدعوى لم يكن ذلك موجباً لبطلانها واقعا ، بل الواقع بحاله.

ولأجل ذلك يقع الكلام في الأمر الثاني وهو : أنه إذا كان الأمر الواقعي بحاله باقياً ، يقع الإشكال في جواز الحكم في مورد التحالف ، للعلم بمخالفته للواقع ، فكيف يجوز له الحكم ببطلان كلتا الدعويين ، مع العلم بأن إحداهما ثابتة في الواقع؟! فالحكم المذكور مع هذا العلم حكم على خلاف الواقع. وقد تعرضوا لدفع الاشكال المذكور بوجوه مذكورة في مباحث حجية القطع.

ولعل الأسد أن يقال : إن ما دل على لزوم حسم النزاع ، والمنع من وقوع الفساد المترقب منه ، اقتضى جواز الحكم المذكور وإن كان على خلاف الواقع. مثل ما إذا توقف دفع اللص على دفع مقدار من المال إليه ، فإن وجوب الدفع لا يقتضي استحقاق اللص للمقدار المدفوع اليه ، ولا يخرج المدفوع من ملك مالكه ، ولا عن تحريم التصرف فيه بغير إذنه ، فيحرم على اللص التصرف فيه ، ويجب إرجاعه إلى الدافع ، وإن وجب دفعه اليه وتمكينه منه ، لدفع ضرره واتقاء شره ، مع بقاء المدفوع على ملك مالكه ، وترتب جميع احكامه عليه. ففي المقام يكون‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب كيفية القضاء حديث : ١.

١٨١

______________________________________________________

حكم الحاكم من هذا القبيل ، فإنه لا يوجب بطلان الدعويين واقعا وحقيقة ، وإنما يحكم ببطلانهما عملا ، بمعنى أنه لا يجور للمدعي مطالبة المنكر ، ولا الدعوى عليه ، ولا النزاع معه ، وإن كان المدعى به على ما هو عليه ، لا تغيير فيه ولا تبديل.

وبالجملة : المدعى به باق على ما هو عليه موضوعاً وحكماً ، إلا في هذه الجهة. وهي جواز المطالبة فيه والادعاء والنزاع ، نظير ما ذكرنا من المثال. فدليل نفوذ الحكم مخصص لدليل آثار الواقع في غير الأثر المذكور ، فيخرجه عن الدليل مع بقاء عموم الدليل لسائر الآثار الأخرى. إذ من جملة الأحكام الواقعية للمال مثلا جواز المطالبة ، فإذا حكم الحاكم انتفى الحكم المذكور واقعاً ، وبقيت الأحكام الأخرى بحالها ، وكذا بالنسبة إلى سائر موارد الدعاوي. وحينئذ لا مانع من جواز الحكم في مورد التحالف ، مع العلم الإجمالي بمخالفته للواقع في إحدى الدعويين ، بل بناء على القول بعدم جواز القضاء بعلم الحاكم وتعين الرجوع إلى البينة واليمين ، نقول : يقضي بالبينة أو اليمين ، وينفذ قضاؤه وإن علم بمخالفته للواقع. فالمحذور المذكور لا يصلح للمنع ، إذ لا مانع من تخصيص دليل الآثار بغير جواز المطالبة.

الثالث : أن حكم الحاكم من قبيل الامارة بالنسبة إلى من عداه من المكلفين فيكون طريقاً إلى ثبوت مؤداه في جميع الآثار غير الأثر المقصود ، فيجب على جميع المكلفين ترتيب آثار المحكوم به ظاهراً ، ويكون حجة على ذلك لما دل على عدم جواز رده ووجوب قبوله ، مثل ما في مقبولة عمر بن حنظلة من قول الصادق (ع) : « فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله تعالى ، وعلينا رد. والراد علينا الراد على الله تعالى ، وهو على حد الشرك بالله تعالى » (١) فيترتب عليه أحكام الأمارات من الحجية‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

١٨٢

______________________________________________________

في ظرف الشك ، وعدم الحجية في ظرف العلم بالواقع تفصيلا أو إجمالا إذا كان منجزا. وحينئذ يشكل الأمر في موارد التحالف ، فإنه يعلم بمخالفته إجمالا للواقع ، فلا مجال للاعتماد عليه ، فلا بد من الرجوع عند العلم بمخالفته للواقع إجمالا أو تفصيلا إلى ما تقتضيه القواعد بالنسبة إلى ذلك العلم ، فان كان العلم تفصيليا عمل بمقتضاه ، وإذا كان إجمالياً عمل بمقتضاه. فاذا ادعى رجل زوجية امرأة ، وأنكرت هي ذلك فحلفت ، وحكم الحاكم بنفي زوجيتها ، لا يجوز له أن يتزوج أمها أو بنتها أو أختها أو خامسة. وكل من علم بصدقه لا يجوز له أن يتزوجها. كما أنها لا يجوز لها أن تتزوج رجلا آخر إذا كان إنكارها جحوداً. وإذا اختلف المتبايعان في المبيع والثمن ، فقال البائع بعتك العبد بالدار ، فيقول المشتري : بعتني الجارية بالبستان ، وحلفا ، وحكم الحاكم بانتفاء البيعين ، فقد علم إجمالا بملك البائع للدار أو البستان ، وملك المشتري للعبد أو الجارية. وحينئذ لا يجوز شراء العبد أو الجارية من المشتري ولا من البائع ، وكذا لا يجوز شراء الدار أو البستان من كل منهما.

لكن في الدروس في أواخر كتاب البيع قال : « إذا حلفا أو نكلا احتمل أن ينفسخ العقد ، إذ إمضاؤه على وفق اليمينين متعذر ، وعلى وفق أحدهما تحكم. ويحتمل أن يتزلزل فيفسخه المتعاقدان أو أحدهما أو يرضى أحدهما بدعوى الآخر ، أو يفسخه الحاكم إذا يئس من توافقهما وامتنعا من فسخه ، لئلا يطول النزاع. وعلى الانفساخ ينفسخ من حينه ، لا من أصله. ثمَّ إن توافقا على الفسخ أو فسخه الحاكم انفسخ ظاهراً وباطناً ، ولو بدر أحدهما فإن كان المحق فكذلك ، والا انفسخ ظاهراً ». وحكي الجزم بالانفساخ عن كثير من كتب الفاضلين والشهيدين ، وإن اختلفت عباراتهم في كون‌

١٨٣

______________________________________________________

الفسخ بعد التحالف من حينه أو من أصله ، كما عن اللمعة والروضة.

وفي الجواهر : « لا ريب أن المتجه على مقتضى الضوابط الشرعية عدم الانفساخ بالتحالف ، ولا يتسلط الحاكم على ذلك. هذا كله بحسب الواقع ». وهو في محله. والاستدلال عليه بالنبوي المذكور في الدروس : « إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا » ، كما ترى ، لقصوره عن إثبات ذلك دلالة ، لعموم الاختلاف لصورة التداعي وغيره ، ولذا قال في الدروس : « وعليه يحمل قول النبي (ص) ». وكذا سنداً ، وهو ظاهر. بل المروي لأصحاب السنن ـ أبي داود والترمذي والنسائي ـ هكذا : « إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان » أي : يتفاسخان العقد. وهو غير ما نحن فيه ، ولم يرد عن صحاحهم وسننهم غير ذلك.

وكيف كان : فالبناء على الانفساخ أو فسخ الحاكم غير ظاهر ، كما ذكر في الجواهر. واللازم على المتداعيين وعلى غيرهما العمل على مقتضى العلم الإجمالي أو التفصيلي ، على وجه لا يؤدي إلى الخصومة والنزاع ، لئلا يلزم رد الحكم وعدم قبوله.

لكن قال في الجواهر : « نعم قد يقال : إن للغير التصرف في كل من الثوبين نقلاً وشراءهما ، بل والثمن الذي يرجع الى المشتري منهما أيضا وإن علم أن الواقع ينافي ذلك ، إلا أن الظاهر عدم اعتبار مثل هذا العلم في المنع عن العمل بما يقتضيه الحكم في الظاهر. وله نظائر كثيرة في الفقه ، منها : العين المقسومة بين اثنين لتعارض البينتين مثلا ، بل ومع العلم بأنها لواحد منهما إذا لم نقل بالقرعة ، فإن للغير شراء الجميع من كل واحد منهما ، وإن علم أن أحدهما غير مالك للنصف ، إجراء للحكم الظاهري. بل إذا لم يكن إجماع جرى مثله في النكاح لو فرض التداعي‌

١٨٤

______________________________________________________

بين السيد وآخر في تزويج أمته ، فقال السيد هذه ، وقال الآخر بل هذه ، وتحالفا ، فان للغير التزويج بهما وإن علم أن إحداهما ذات زوج ، عملاً بالحكم الظاهري ».

وفيه : أنه مع الاعتراف بأنه حكم ظاهري كيف يجوز العمل به مع العلم التفصيلي بمخالفته للواقع؟! وهل هو إلا تناقض بين الحكمين؟!. وكذا الحكم مع العلم الإجمالي على التحقيق من كونه حجة على نحو يمنع من جعل الحكم الظاهري على خلافه في أحد الأطراف ، فضلا عن تمامها.

والحكم فيما ذكره من المثال من العين المقسومة بين المتداعيين لتعارض بينتيهما أيضاً كذلك ، فإنه لا يجوز البناء على كون القسمة ظاهرية ، وأنه يجوز العمل عليها حتى مع العلم بالمخالفة للواقع. نعم لا بأس إذا كانت القسمة واقعية ، بأن تكون البينتان سببا للاشتراك في العين ، فحينئذ يجوز ترتيب الآثار عليهما مطلقاً. لكن الدليل المتضمن للقسمة ظاهر في كونها لمحض حسم النزاع ودفع الفساد المترتب عليه ، وليس فيها تحليل الحرام وتحريم الحلال واقعا.

بل اللازم إيكال أمر عمل المتخاصمين بالنظر الى الواقع إلى علمهما. وكذلك عمل غيرهما ممن يكون مورداً للابتلاء. ولذا قال في الدروس في أواخر كتاب القضاء : « تتمة : لا يتغير الشي‌ء عما هو عليه بحكم الحاكم ، فلو حكم بشاهدي زور على عقد أو فسخ أو طلاق أو نكاح لم يستبح المحكوم به ، ولا يحل ـ للعلم بكذبهما ـ موافقة الحكم. وعلى المرأة الامتناع لو علمت بالتزوير ، فإن أكرهها أثم دونها ، ولها التزويج لغيره بعد العدة ، وللرجل إتيانها إذا كان محكوماً عليه بطلاقها ، وإن تزوجت بغيره بعد العدة ».

وقد اشتهر في كلامهم عدم وجوب العمل بالحكم إذا علم بمخالفته‌

١٨٥

______________________________________________________

للواقع ، بل الظاهر أنه لا كلام فيه ولا إشكال. فكيف يمكن جعل حكم الحاكم حجة حينئذ؟! وليس هو إلا كغيره من الحجج التي لا مجال للعمل بها مع العلم التفصيلي على خلافها ضرورة. وكذا مع العلم الإجمالي على خلافها على ما هو التحقيق عند المحققين من كونه منجزاً للواقع كالعلم التفصيلي. كما أنه يجب العمل به مع الشك والجهل بالواقع ، ولا فرق بين المتداعيين في ذلك وغيرهما ، لعموم قوله (ع) : « فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله سبحانه. » (١) ، الشامل للمتداعيين وغيرهما.

ومما يترتب على ذلك : أنه لو تمكن ذو الحق من المتداعيين من استنقاذ حقه من خصمه ، مع علمه بثبوت حقه ، جاز له ذلك وإن كان حكم الحاكم عليه لا له ، لعدم حجية الحكم عليه مع العلم ببطلانه ، وإن كان لا يجوز له المطالبة به والادعاء ، كما تقدم في الأمر الثاني من أن دليل نفوذ الحكم كما يدل على حجيته في ظرف الشك ، يدل على كونه فاصلاً للخصومة وحاسماً للنزاع. وترتب الأثر المذكور عليه ليس من باب الطريقية ، ليكون ملغياً مع العلم بالواقع ، بل من باب الموضوعية ، وإلا تعذر الفصل به غالباً ، لعلم كل من المتخاصمين بصحة دعواه نفياً أو إثباتاً ، فلو اختص بحال الشك لم يكن حاسما للنزاع مع العلم ، وهو خلاف المقطوع به من أدلة نفوذه.

نعم المذكور في كلام الأصحاب : أنه إذا كان حكم الحاكم مستندا إلى اليمين ، لم تجز لمن حكم عليه بالحق المقاصة من مال المحكوم له ، وإن علم بثبوت حقه. قال في الشرائع : « إذا حلف ـ يعني المدعى عليه ـ سقطت الدعوى. ولو ظفر المدعي بعد ذلك بمال الغريم لم تحل له المقاصة » : وفي المسالك : « هذا هو المشهور بين الأصحاب ، لا يظهر فيه مخالف » :

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

١٨٦

______________________________________________________

وفي الجواهر : « بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ».

وهذا وإن كان خلاف مقتضى الأدلة الأولية ، المقتضية لبقاء حقه وجواز استنقاذه بكل طريق شاء ، بلا مطالبة ولا منازعة إلا أن مستنده جملة من النصوص ، ادعي دلالتها عليه. منها. خبر عبد الله بن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله (ع) : « إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه ، فاستحلفه ، فحلف أن لا حق له قبله ، ذهبت اليمين بحق المدعي ، فلا دعوى له. قلت له : وإن كان عليه بينة عادلة؟ قال : نعم ، وإن أقام بعد ما استحلفه بالله تعالى خمسين قسامة ما كان له ، وكانت اليمين قد أبطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه » (١). وزاد في الفقيه : « قال رسول الله (ص) : من حلف لكم على حق فصدقوه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ذهبت اليمين بدعوى المدعي ولا دعوى له » (٢). وخبر خضر النخعي عن أبي عبد الله (ع) : « في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده قال (ع) : إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً ، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه » (٣) وخبر عبد الله بن وضاح : « قال : كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة ، فخانني بألف درهم ، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت أنه حلف يمينا فاجراً فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت أن اقتص الألف درهم التي كانت لي عنده ، وأحلف عليها ، فكتبت الى أبي الحسن (ع) فأخبرته أني قد أحلفته فحلف ، وقد وقع له عندي مال ، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت. فكتب (ع) : لا تأخذ منه شيئاً ، إن كان ظلمك فلا تظلمه ،

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب كيفية القضاء حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٩ من أبواب كيفية القضاء حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ١٠ من أبواب كيفية القضاء حديث : ١.

١٨٧

______________________________________________________

ولو لا أنك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه وقد ذهبت اليمين بما فيها. فلم آخذ منه شيئاً ، وانتهيت الى كتاب أبي الحسن (ع) » (١). وأما النبوي : « من حلف بالله فليصدق ، ومن لم يصدق فليس من الله ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله في شي‌ء » (٢) ، فليس مما نحن فيه لظهوره في الترغيب في الإذعان بمضمون الحلف.

لكن الخبر الأول ظاهر في نفي جواز التداعي. والثاني غير بعيد. والواضح الدلالة الأخير. وهما وإن كانا ضعيفي السند ، لكن ضعفهما مجبور بالعمل. لكنهما مختصان بالدين والمقاصة من مال المحكوم له ، ولا يشمل أخذ العين نفسها إذا أمكن المحكوم عليه ، ولا المقاصة عنها. وقد عرفت أن مقتضى القواعد جواز ذلك ، والتعدي من مورد النصوص إلى ذلك غير ظاهر. وأشكل منه التعدي عن المقاصة إلى سائر التصرفات في العين من لبس ونحوه. وأشكل منه التعدي إلى التصرفات الاعتبارية ، مثل احتسابه زكاة ، وإبرائه منه ، وعتقه ، ووقفه ، ونحو ذلك ، فان ذلك كله بعيد عن مدلول النصوص المذكورة جداً ، فلا موجب فيه للخروج عن القواعد. نعم لا تبعد دعوى عموم النص للمقاصة عن العين بقرينة التعليل : « إن كان ظلمك فلا تظلمه » ، فان الظاهر أن المقصود من ظلمه أخذ ماله بغير اذنه من عين أو دين. فتأمل.

كما أن النصوص المذكورة مختصة باليمين ، فاذا كان مستند الحكم البينة أو النكول أو الإقرار لا مانع من المقاصة ، عملاً بالقواعد الأولية من دون مخرج عنها. والتعليل في خصوص الخبر الأخير غير واضح الانجبار‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب كيفية القضاء حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٦ من أبواب كتاب الايمان حديث : ١.

١٨٨

______________________________________________________

بالاعتماد ، لاقتصار كلماتهم على خصوص اليمين ، وظاهرهم الاعتماد على نصوص اليمين من حيث كونها يميناً ، ومن الجائز أن لا يكون اعتمادهم على هذا الخبر ، فلم يثبت انجباره ، ولا سيما بملاحظة ما دل على مشروعية المقاصة ، وعموم قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (١).

هذا والذي تحصل مما ذكرنا أمور :

( الأول ) : أن حكم الحاكم لا يغير الواقع ، بل هو محفوظ في نفسه وعلى حاله. ( الثاني ) : أن علم الحاكم إجمالاً لا ينافي حكمه بخلاف العلم. ( الثالث ) : أن حكم الحاكم فاصل للخصومة ومانع من النزاع وإن علم أحد الخصمين وكلاهما ببطلانه ، وأن هذا الأثر حكم واقعي. ( الرابع ) : أن حكم الحاكم بالنسبة إلى موادة حكم ظاهري ، لا يجوز العمل به مع العلم بخلافه إجمالاً أو تفصيلا ، وإنما يجب العمل به مع الشك. ولا فرق بين المتخاصمين وغيرهما من سائر المكلفين. ( الخامس ) : أن بناء جمع من الأصحاب على انفساخ العقد بعد التحالف ـ إذا كان النزاع في العقود ـ مما لا دليل عليه ، فلا مجال للبناء عليه. وكذا البناء على أن الحاكم له الولاية على الفسخ. ( السادس ) : يستثنى من جواز العمل بالعلم ـ إذا كان على خلاف الحكم ـ المقاصة ، فلا تجوز المقاصة من المحكوم عليه إذا كان عالما بثبوت حقه ، وكان مستند الحكم اليمين. ( السابع ) : أنه لا يلحق بالمقاصة أخذ العين نفسها ، ولا التصرف فيها بغير نحو المقاصة ، سواء كان التصرف خارجيا مثل اللبس ونحوه ، أم اعتبارياً مثل الإبراء والوقف. ( الثامن ) : أن حرمة المقاصة مختصة بما إذا كان مستند الحكم اليمين ، فلا مانع من المقاصة إذا كان مستند الحكم البينة ، أو النكول ، أو الإقرار خطأ أو اشتباهاً.

__________________

(١) البقرة : ١٩٤.

١٨٩

( مسألة ١٤ ) : كل من يقدم قوله في الموارد المذكورة عليه اليمين للآخر.

خاتمة

فيها مسائل :

( الأولى ) : خراج الأرض المستأجرة في الأراضي الخراجية على مالكها [١]. ولو شرط كونه على المستأجر

______________________________________________________

خاتمة‌

[١] لا ينبغي التأمل في أن الأرض الخراجية ـ وهي المحياة حين الفتح ـ ملك للمسلمين من ولد ومن لم يولد ، لا يملكها أحد غيرهم. وما ذكره جماعة من أنها تملك لآحاد الناس تبعا للآثار ، لا دليل عليه ، كما ذكرنا في حاشيتنا على مكاسب شيخنا الأعظم (ره). وما في مفتاح الكرامة من أن دعوى أن أرض الخراج لا تكون ملكا ، وهمٌ قطعاً ، فإن الأرض المفتوحة عنوة المحياة قبل الفتح إذا أذن الإمام لأحد بأن يبني فيها أو يغرس ، وأن يكون عليه خراجها ، ملك رقبتها أصالة أو تبعاً ـ على الخلاف ـ فاذا زالت آثاره زال ملكه. ( انتهى ). غير ظاهر ، فراجع. ولعل مقصود المتن من المالك : المؤجر الذي يملك منفعتها.

ثمَّ الظاهر أنه لا إشكال ظاهر فيما ذكره من أن الخراج على المالك لا على المستأجر ، لأنه موضوع على من بيده الأرض ، ومن جعل له سلطان التصرف فيها ، فلا يكون على المستأجر. ويظهر من كلماتهم في كتاب‌

١٩٠

صح على الأقوى. ولا يضر كونه مجهولا من حيث القلة والكثرة [١] ، لاغتفار مثل هذه الجهالة عرفاً ،

______________________________________________________

المزارعة التسالم على الحكم المذكور ، وإن اختلفت عباراتهم ، فمنهم من عبر بالمالك. وآخر بالصاحب. وثالث برب الأرض. والمراد به ما عرفت. ويشهد بالحكم المذكور خبر سعيد الكندي قال : « قلت لأبي عبد الله (ع) : إني آجرت قوماً أرضاً ، فزاد السلطان عليهم. فقال (ع) : أعطهم فضل ما بينهما. قلت : أنا لم أظلمهم ولم أزد عليهم. قال (ع) : إنهم إنما زادوا على أرضك » (١).

[١] أشار بذلك إلى ما ذكر في المسالك في مبحث المزارعة من المنع عن الشرط المذكور. للجهالة القادحة. واستشكل فيه في الرياض. ودفعه المصنف باغتفار مثل هذه الجهالة عرفاً. وكأنه لأن الشرط تابع وليس مقوماً للعقد ، فالجهالة فيه ليست جهالة في العقد. ويشكل : بأن الشرط في ضمن العقد وإن لم يكن من مقومات كلي العقد ، لكنه من مقومات شخصه ، فالجهل فيه جهل بمضمون العقد الشخصي ، فيصدق على الإجارة الشخصية أنها غررية. نعم قد يصح ذلك في الشروط الملحوظة تبعاً لركن العقد ، مثل : اشتراط حمل الدابة وسرجها ولجامها ونحو ذلك مما كان معدوداً من توابع العوض.

هذا وفي الجواهر قال في مبحث المزارعة : « لعل الوجه في إطلاق النص والفتوى صحة هذا الشرط : أنه من اشتراط كون حق الخراج عليه نحو اشتراط حق الزكاة على مشتري الثمرة ، مع عدم العلم بمقدارها ، إذ ليس هو اشتراط قدر ، بل اشتراط حق ، وربما لا يؤدي عنه شيئاً ، ومرجعه إلى اشتراط كون الزارع كالمالك في تعلق هذا الحق ، الذي‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٦ من أبواب المزارعة حديث : ١٠.

١٩١

ولإطلاق بعض الأخبار [١].

______________________________________________________

لا إشكال في صحة اشتراطه ».

ويشكل : بأن اشتراط كون الحق عليه لا يخلو من إشكال في نفسه لأن موضوع حق الخراج هو المالك ، فكيف يمكن أن يجعل موضوعه غيره؟! فإن أمر موضوع الحق بيد جاعله ، ولا يكون بيد غيره ، فاشتراط ذلك غير معقول ، فضلا عن أن يكون صحته مما لا إشكال فيها. وكذا الحكم في اشتراط حق الزكاة ، فإن متعلقه عين النصاب ، وليس متعلقا بالمالك ليكون مما نحن فيه. نعم خطاب أداء الزكاة متعلق بالمالك ، واشتراط كونه على المشتري بحيث يخرج المالك عن موضوع الخطاب ، أيضاً غير معقول ، إذ ليس للمأمور صلاحية نقل الخطاب المتعلق به إلى غيره. هذا مضافاً إلى أن مقدار الخراج إذا كان مجهولاً كان الحق مجهولا. ومثله : أن يشترط عليه أن يملكه ما في الصندوق المردد بين القليل والكثير ، فالتقريب المذكور لا يرفع الإشكال.

فالعمدة ما عرفت في أول الكتاب من أنه لا دليل على قدح الجهالة كلية في عقد الإجارة. ودليل نفي الغرر مختص بالبيع. والإجماع على القدح غير حاصل.

[١] في صحيح داود بن سرحان عن أبي عبد الله (ع) : « في الرجل تكون له الأرض عليها خراج معلوم ، وربما زاد وربما نقص ، فيدفعها إلى رجل على أن يكفيه خراجها ، ويعطيه مائتي درهم في السنة. قال (ع) : لا بأس » (١). ونحوه صحيح يعقوب بن شعيب‌ (٢). وظاهرهما جواز شرط ذلك مع تردده بين الأقل والأكثر ، فالدلالة تكون بالظهور‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٧ من أبواب المزارعة حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ١٧ من أبواب المزارعة ملحق حديث : ١.

١٩٢

( الثانية ) : لا بأس بأخذ الأجرة على قراءة تعزية سيد الشهداء وسائر الأئمة صلوات الله عليهم [١] ، ولكن‌

______________________________________________________

لا بالإطلاق. نعم في صحيح يعقوب الآخر عن أبي عبد الله (ع) قال : « سألته عن الرجل تكون له الأرض من أرض الخراج ، فيدفعها إلى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدي خراجها ، فما كان من فضل فهو بينهما. قال (ع) : لا بأس » (١). لكن الظاهر منه المزارعة لا الإجارة. وخبر إبراهيم بن ميمون : « سألت أبا عبد الله (ع) عن قرية لأناس من أهل الذمة ، لا أدري أصلها لهم أم لا ، غير أنها في أيديهم وعليها خراج ، فاعتدى عليهم السلطان ، فطلبوا إلي فأعطوني أرضهم وقريتهم ، على أن أكفيهم السلطان بما قل أو كثر ، ففضل لي بعد ذلك فضل ، بعد ما قبض السلطان ما قبض. قال (ع) : لا بأس بذلك ، لك ما كان من فضل » (٢). ونحوه خبر أبي بردة (٣). وخبر أبي الربيع (٤). وهذه الروايات وإن كانت مطلقة ، لكنها ظاهرة في كون أداء الخراج عوضاً ، لا شرطاً في العقد.

[١] لا ينبغي التأمل في صحة ذلك ، لكونه عملاً له منفعة معتد بها دنيوية وأخروية. نعم قد يشكل ما هو المتعارف ، من جهة أنه لا بد من تعيين العمل بالخصوصيات التي تختلف بها الرغبات والمالية ، لاختلاف مالية القراءة بلحاظ اختلاف المضامين ، واختلاف كيفية الأداء. واختلاف المدة ، فإذا لم يكن تعيين بطلت الإجارة. نعم إذا كانت الإجارة واقعة‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب المزارعة حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ١٧ من أبواب المزارعة حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ١٧ من أبواب المزارعة حديث : ٣.

(٤) الوسائل باب : ١٧ من أبواب المزارعة حديث : ٤.

١٩٣

لو أخذها على مقدماتها من المشي إلى المكان الذي يقرأ فيه كان أولى [١].

( الثالثة ) : يجوز استئجار الصبي المميز من وليه الإجباري أو غيره ـ كالحاكم الشرعي ـ لقراءة القرآن أو التعزية والزيارات [٢]. بل الظاهر جوازه لنيابة الصلاة عن الأموات بناء على الأقوى من شرعية عباداته [٣].

______________________________________________________

على كلي القراءة ومسمى ذكر المصاب ، صحت وإن لم يكن تعيين. وحينئذ لا بد في تصحيح الإجارة من وقوعها على النحو المذكور ، وحينئذ يستحق الأجرة بمجرد ذلك.

[١] كأنه ليكون أبعد عن شبهة منافاة قصد أخذ الأجرة للإخلاص.

[٢] الأمور الثلاثة وأمثالها : تارة : يحصل المقصود منها بمجرد وجودها ، سواء كانت عبادة أم لا ، وحينئذ لا شبهة في صحة إجارة الصبي عليها ، كسائر الأعمال غير العبادية مثل الخياطة والنساجة ونحوهما. وأخرى : لا يحصل المقصود منها إلا بوقوعها على وجه العبادة ، فقد تشكل الإجارة عليها بناء على أن عبادات الصبي تمرينية لا شرعية. إلا أن يقال : إن الخلاف المذكور يختص بالعبادات الوجوبية ، لأن حديث رفع القلم عن الصبي يختص برفع الوجوب. لكن الظاهر منهم عموم الخلاف ، بناء منهم على أن أدلة التشريع العامة غير شاملة للصبي ، فينحصر تشريع عباداته بدليل آخر غيرها. ولذلك جعلوا مبنى الخلاف المذكور : أن الأمر بالأمر هل هو أمر أو لا؟ فعلى الأول : تكون مشروعة ، وعلى الثاني : لا تكون. ولا فرق في ذلك بين الواجبات والمستحبات.

[٣] قد تكرر مراراً في هذا الشرح التعرض لهذه المسألة. وقد ذكرنا فيما سبق أن أدلة التشريع عامة للبالغ وغير البالغ. وليس ما يستوجب رفع‌

١٩٤

( الرابعة ) : إذا بقي في الأرض المستأجرة للزراعة بعد انقضاء المدة أصول الزرع فنبتت ، فان لم يعرض المستأجر عنها كانت له [١] ،

______________________________________________________

اليد عن العموم المذكور الا حديث رفع القلم عن الصبي ، لكن الجمع العرفي بينه وبين الأدلة العامة بحمله على رفع الإلزام ، فيكون ترخيصاً في مخالفة الوجوب والحرمة ، كما يشهد به ذكره في سياق النائم ، فإنه أحد الثلاثة الذين رفع عنهم القلم ، ولا ريب أنه لا يسقط عنه التكليف بالمرة ، وإنما يسقط عنه اللزوم العقلي ، فراجع مبحث المرتد في باب نجاسة الكافر وغيره من المباحث.

ثمَّ إن الظاهر أن صحة النيابة عن الأموات لا تبتني على شرعية عبادة النائب ، فإن الفقير غير المستطيع يجوز نيابته عن الميت في حج الإسلام ، والمسافر تشرع له النيابة عن الميت في صلاة التمام ، والحاضر تشرع له النيابة عن الميت في صلاة القصر. وهكذا. إذ اللازم في صحة النيابة في العبادة مشروعية العبادة في حق المنوب عنه ، لأن النائب يمتثل الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، فاذا لم يكن المنوب عنه مأموراً لم تمكن النيابة عنه. وأما النائب فلا يعتبر في صحة نيابته توجه أمر إليه بالفعل المنوب فيه ، نعم يعتبر وجود عموم يدل على مشروعية النيابة من الصبي ، كما لو شك في مشروعية نيابة الذكر عن الأنثى وبالعكس. والظاهر ثبوت هذا العموم ، لعموم بناء العقلاء ، وعموم الأخبار المتقدمة في مباحث النيابة.

[١] قال في التذكرة في كتاب المزارعة : « إذا زارع رجلاً في أرضه فزرعها ، وسقط من الحب شي‌ء ونبت في ملك صاحب الأرض عاماً آخر ، فهو لصاحب البذر عند علمائنا أجمع. وبه قال الشافعي ». وقال في كتاب العارية : « لو حمل السيل حب الغير أو نواه أو جوزه‌

١٩٥

______________________________________________________

أو لوزه إلى أرض آخر ، كان على صاحب الأرض رده على مالكه إن عرفه ، وإلا كان لقطة. فإن نبت في أرضه وصار زرعاً أو شجراً ، فإنه يكون لصاحب الحب والنوى والجوز واللوز ، لأنه نماء أصله ، كما أن الفرخ لصاحب البيض. ولا نعلم فيه خلافاً ». وفي القواعد في كتاب المزارعة : « ولو تناثر من الحاصل حب فنبت في العام الثاني ، فهو لصاحب البذر. ولو كان من مال المزارعة فهو لهما » ونحوه كلام غيره. ومثله مفروض المتن. والحكم فيه كما ذكر المصنف (ره). ووجهه ما أشار إليه في التذكرة من أن النماء تابع الأصل ، فيملكه مالك الأصل.

نعم قال في التذكرة أيضاً : « لو كان المحمول بالسيل ما لا قيمة له كنواة واحدة وحبة واحدة فنبت ، احتمل أن يكون لمالك الأرض إن قلنا لا يجب عليه ردها إلى مالكها لو لم تثبت ، لانتفاء حقيقة المالية فيها ، والتقويم إنما حصل في أرضه. وهو أحد وجهي الشافعية. وأن يكون لمالكها إن قلنا بتحريم أخذها ووجوب ردها قبل نباتها. فعلى هذا في قلع النابت وجهان ». ولا ينبغي التأمل في أن الأصح الاحتمال الثاني ، فإن الملكية ليست متقومة بالمالية ، فإن المالية تابعة لتنافس العقلاء على موضوعها ، والتنافس إنما يكون مع الاعتداد بمرتبة المالية ، فإذا لم تكن بمرتبة معتد بها لم يكن موضوعها. وليست الملكية كذلك ، فإنها تابعة لأسباب أخرى عرفية أو شرعية ، فيصح اعتبارها مع وجود السبب ، ولو لم تكن للعين مالية. فالمالية والملكية متباينان مفهوماً ، وبينهما عموم من وجه مورداً.

نعم الأدلة اللفظية مثل : « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه » (١) ، ومثل : « فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه » (٢) إنما يدلان على حرمة التصرف في مال الغير ، ولا يدلان‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٣ من أبواب مكان المصلي حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٣ من أبواب الأنفال حديث : ٦.

١٩٦

وإن أعرض عنها وقصد صاحب الأرض تملكها كانت له [١].

______________________________________________________

على حرمة التصرف في ملك الغير. لكن الظاهر التسالم على حرمة التصرف في ملك الغير كماله. يظهر ذلك من كلمات أصحابنا ، وغيرهم من المخالفين. ويكفي في إثباته كونه ظلماً وعدواناً ، فيدل على حرمته ما دل على حرمة الظلم والعدوان. وقد أشار المصنف (ره) إلى شي‌ء من ذلك في مبحث التيمم في مسألة ما إذا حبس في مكان مغصوب.

[١] المنسوب الى المشهور : أن مجرد إعراض المالك عن المملوك يجعله كالمباح بالأصل ، فيجوز لكل تملكه.

قال في السرائر ـ بعد ما روى عن الشعيري : « قال : سئل أبو عبد الله (ع) عن سفينة انكسرت في البحر ، فأخرج بعضه بالغوص ، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها. فقال (ع) : أما ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه لهم ، وأما ما خرج بالغوص فهو لهم وهم أحق به » (١) : ـ « قال محمد بن إدريس : وجه الفرق في هذا الحديث : أن ما أخرجه البحر فهو لأصحابه ، وما تركه أصحابه آيسين منه ، فهو لمن وجده أو غاص عليه ، لأنه صار بمنزلة المباح. ومثله من ترك بعيره من جهد في غير كلاء ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنه خلاه آيسا منه ، ورفع يده عنه ، فصار مباحا. وليس هذا قياساً ، لأن مذهبنا ترك القياس ، وإنما هذا على جهة المثال ، والمرجع فيه إلى الإجماع وتواتر النصوص ، دون القياس والاجتهاد. وعلى الخبرين إجماع أصحابنا منعقد ».

قال في الجواهر ـ بعد نقل بعض كلامه هذا ـ : « قلت : لعل ذلك هو العمدة في تملك المعرض عنه. مضافاً الى السيرة في حطب المسافر ونحوه ، وإلا فمن المعلوم توقف زوال الملك على سبب شرعي ،

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب اللقطة حديث : ٢.

١٩٧

______________________________________________________

كتوقف حصوله ، ولا دليل على زوال الملك بالاعراض ، على وجه يتملكه من أخذه كالمباح. ومن هنا احتمل جماعة إباحة التصرف في المال المعرض عنه دون الملك ، بل عن ثاني الشهيدين : الجزم بذلك. وعن بعض : أنه لا يزول الملك بالإعراض ، إلا في الشي‌ء اليسير كاللقمة ، وفي التالف كمتاع البحر ، وفي الذي يملك لغاية قد حصلت كحطب المسافر. وعن آخر : اعتبار كون المعرض عنه في مهلكة ، ويحتاج الاستيلاء عليه الى الاجتهاد ـ كغوص وتفتيش ونحوهما ـ في حصول التملك به. وربما استظهر من عبارة ابن إدريس المتقدمة : اعتبار اليأس ، زيادة على الاعراض فيه أيضاً. إلى غير ذلك من كلماتهم ، التي مرجعها الى تهجس في ضبط عنوان لذلك. مع أن السيرة عليه في الجملة ، وليس في النصوص غير ما عرفت التعرض له ».

أقول : مثل خبر الشعيري خبر السكوني ، عن أبي عبد الله (ع) عن أمير المؤمنين (ع) ـ في حديث ـ : « قال : وإذا غرقت السفينة وما فيها فأصابه الناس ، فما قذف به البحر على ساحله فهو لأهله وهم أحق به ، وما غاص عليه الناس وتركه صاحبه فهو لهم » (١). ولا يخفى أن الخبرين المذكورين لا دلالة فيهما على أن الوجه في جواز تملك الغواص لما أخرجه. هو يأس المالك ، أو إعراضه ، أوهما ، أو شي‌ء آخر غيرهما ، إذ هو حكم في واقعة خاصة ، لا تعرض فيهما لمناطه.

لكن ربما يستفاد منهما ومن غيرهما من النصوص المذكورة في مبحث اللقطة : أن المال المملوك إذا صار بحال يؤدي الى ضياعه وتلفه ، فاستنقذه شخص آخر من الضياع والتلف ، كان ملكا له ، نظير : « من‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب اللقطة حديث : ١.

١٩٨

______________________________________________________

أحيا أرضاً مواتاً فهي له » (١) ففي صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) : « من أصاب مالاً أو بعيراً في فلاة من الأرض ، قد كلت وقامت وسيبها صاحبها لما لم تتبعه ، فأخذها غيره ، فأقام عليها وأنفق نفقة حتى أحياها من الكلال ومن الموت ، فهي له ولا سبيل له عليها وانما هي مثل الشي‌ء المباح » (٢). وخبر مسمع عن أبي عبد الله (ع) قال : « إن أمير المؤمنين (ع) كان يقول في الدابة إذا سرحها أهلها أو عجزوا عن علفها أو نفقتها فهي للذي أحياها. قال : وقضى أمير المؤمنين (ع) في رجل ترك دابة بمضيعة ، قال : إن كان تركها في كلاء وماء وأمن ، فهي له يأخذها متى شاء ، وإن كان تركها في غير كلاء ولا ماء ، فهي لمن أحياها » (٣). وصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) « قال : جاء رجل الى النبي (ص) فقال : يا رسول الله إني وجدت شاة. فقال رسول الله (ص) : هي لك أو لأخيك أو للذئب. فقال : يا رسول الله (ص) إني وجدت بعيراً فقال (ص) : معه حذاؤه وسقاؤه ، ـ حذاؤه : خفه وسقاؤه : كرشه ـ فلا تهجه » (٤). ونحوها غيرها. فان الظاهر من الجميع : أن الاستنقاذ من التلف في ظرف عجز المالك ـ سواء كان ملتفتا إلى ذلك وترك المال عجزاً منه ، أم غير ملتفت اليه ، كما في مورد النصوص الأخيرة ـ مملك. وعليه فان أمكن العمل بالنصوص تعين القول بذلك. ولا دخل للاعراض وعدمه ولا لإباحة المالك وعدمها في جواز التملك من المنقذ ، وإن لم يمكن العمل بالنصوص ـ لإعراض المشهور عنها ـ فاللازم‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١ من أبواب إحياء الموات حديث : ٥ ، ٦.

(٢) الوسائل باب : ١٣ من أبواب اللقطة حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ١٣ من أبواب اللقطة حديث : ٣.

(٤) الوسائل باب : ١٣ من أبواب اللقطة حديث : ١.

١٩٩

______________________________________________________

القول بعدم جواز التملك بمجرد ذلك وغيره.

وفي الجواهر قال : « وأما المال الذي امتنع على صاحبه تحصيله بسبب من الأسباب ـ كغرق أو حرق ونحوهما ـ فيشكل تملكه بالاستيلاء عليه ، خصوصاً مع عدم العلم باعراض صاحبه عنه على وجه يقتضي إنشاء إباحة منه لمن أراد تملكه ، أو رفع يده عن ملكيته ، وإنما هو للعجز عن تحصيله ، نحو المال الذي يأخذه قطاع الطريق والظلمة ». أقول : قد عرفت أن موضوع النصوص المال الذي بحال ينتهي إلى التلف لا المال الذي امتنع على صاحبه تحصيله ، فلا يدخل فيه المال الذي يأخذه قطاع الطريق والظلمة.

والانصاف يقتضي جواز العمل بالنصوص المذكورة ، ولم يتحقق من المشهور الاعراض عنها ، وقد تعرضوا لمضمونها في لقطة الحيوان الذي لا يمتنع من السباع والضياع ، وفي حكم السفينة إذا انكسرت وغرق ما فيها.

لكن إثبات القاعدة الكلية ، وأن كل ما يؤدي بقاؤه إلى التلف لو لم يؤخذ يجوز أخذه وتملكه ، غير ظاهر. ولا سيما أن نصوص الشاة لم يعمل بظاهرها عند المشهور ، لبنائهم على جواز أخذها مع الضمان ، على اختلاف منهم في معنى الضمان ، وأنه فعلي فتكون في الذمة كسائر الديون ، أو على تقدير المطالبة ، كبنائهم على وجوب التعريف ، وإن كان الأظهر عدم الضمان ، وعدم لزوم التعريف ، أخذاً بظاهر النصوص المشار إليها وحملا لما دل على الضمان أو التعريف على غير الالتقاط في الفلاة ، بقرينة لزوم التعريف الذي لا يكون في الفلاة. كما أشرنا إلى ذلك في مباحث اللقطة.

هذا ، وأما إعراض المالك : فلا يظهر من الأدلة كونه موجباً لخروج المال عن ملك مالكه ، وصيرورته من قبيل المباحات الأصلية ، كما عرفت نسبته إلى المشهور ، بل يظهر من كلماتهم المتعرضة لحكم الحب‌

٢٠٠