مستمسك العروة الوثقى - ج ١٢

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٧٨

______________________________________________________

كماله لا يكفي في ثبوت ضمانه. وعموم ما دل على احترام دم المسلم وماله (١) ظاهر في الحرمة التكليفية ، بمعنى : أنه لا يجبر المسلم على العمل ولا يقهر عليه ، ويكون ذلك حراماً ، لا أنه يكون مضموناً. ولو سلم فهو أعم من ضمان الآمر وغيره. وقد يدعى : أنه وجه الضمان أن الأمر بالعمل نظير الإباحة بالضمان والتمليك بالضمان ، فإنه استعمال بالضمان نافذ شرعاً كغيره. ويشكل بأنه لو سلم ذلك لم يجد مع قصد الآمر المجانية ، وسيشير إلى ذلك المصنف (ره) في المسألة الخامسة والعشرين.

وكأنه لذلك استشكل في مفتاح الكرامة في الضمان حيث قال : « لو لا اتفاق من تعرض لهذا الفرع على ثبوت الأجرة عند اجتماع الأمرين ( يعني : كون العمل ذا أجرة ، وكون العامل معتاداً في أخذ الأجرة ) إلا من قلّ ممن لا نعرفه لكان احتمال عدم الأجرة مطلقاً قوياً ، إذ لعله لا يقصر عن قوله : أعطني ما في يدك ، وأطعمني طعامك ، وأدّ عني ديني ، ولم يقل : وعليّ عوضه ، عند جماعة ونحو ذلك مما لا ضمان فيه ، لأنه مما يحتمل أن يكون بعوض وأن يكون بدونه ، والأصل براءة ذمته من لزومه. ولعلّ الذي دعاهم إلى ذلك استمرار السيرة ، ولكنها غير مستمرة فيما إذا لم يكن له عادة .. ».

أقول : قد ظهر لك : أن موضع الإشكال صورة قصد الآمر التبرع ، إذ مع قصده الأجرة يمكن أن يكون الضمان من جهة كون المورد إجارة أو جعالة فاسدتين ، وهما يقتضيان الضمان كالصحيحتين ، أو أن تكون معاملة مستقلة ، أعني : الاستعمال بشرط الضمان ، فلا وجه للرجوع إلى أصالة البراءة. أما إذا قصد الآمر التبرع ، فلا مجال لذلك. والضمان باليد والإتلاف قد عرفت إشكاله ، لكن التفصيل بين الصورتين خلاف‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة حديث : ١٢.

١٤١

عن جريان أصالة عدم التبرع [١]. ولا فرق في ذلك بين‌

______________________________________________________

ارتكاز العرف والمتشرعة ، والمناط الموجب للضمان عندهم موجود في الصورتين على حد واحد ، وهو استيفاء العمل غير المباح من العامل ، كما أشار إليه في المسالك وغيرها. فاذاً لا يبعد البناء على الضمان ، لبناء العرف والمتشرعة عليه ، وعدّهم لاستباحة العمل ظلماً وعدواناً. والمناط في حصول الاستيفاء الموجب للضمان ، أن يكون بعث وتحريض للعامل ، ولا فرق في البعث بين أن يكون بالقول كالأمر ، وأن يكون بالفعل كأن يدفع إلى الخياط الثوب ليخيطه ، أو الغسال ليغسله ، أو يجلس بين يدي الحلاق أو الدلاك فيحلق رأسه أو يدلك بدنه ، كما صرح به في جامع المقاصد ، فان ذلك بمنزلة الأمر في حصول الاستيفاء المقتضي للضمان.

هذا والظاهر أن الأجرة التي يضمن بها العمل : هي أجرة المثل كما صرح به جماعة. وما في كلام جماعة آخرين من أنها الأجرة المسماة لمثل ذلك العمل قرينة على تواطئهما عليها ، فتكون جعالة صحيحة لتعين الجعل. لكن ذلك إن تمَّ يختص بصورة علم الآمر ، لا مع جهله. كما أنه يمكن أن يكون المقام من باب الإجارة الصحيحة ، بأن يكون غرض الآمر توكيل العامل في تعيين الأجرة ، كما يتعارف ذلك في الشراء من مخازن البقالين والبزازين وغيرهم ، من دون تواطؤ على أجرة معينة ، فلا بد أن يكون مقصود المشتري توكيل البائع من بقال أو بزاز أو غيرهما في تعيين الثمن ، فيكون البيع صحيحاً ، لأنه يكفي في معرفة العوضين المعتبرة في البيع معرفة الوكيل. وكذا في المقام. لكنه يختص التوكيل بالمتعارف وهي أجرة المثل ، فلا يكون الضمان بالمسمى. وكذا في البيع. وبالجملة : الضمان بالمسمى غير ظاهر ، إلا أن يكون مفاد الأمر التوكيل المطلق.

[١] كأنه مبني على التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

١٤٢

أن يكون العامل ممن شأنه وشغله أخذ الأجرة وغيره ، إلا أن يكون هناك انصراف أو قرينة على كونه بقصد التبرع ، أو على اشتراطه.

( مسألة ٢٠ ) : كل ما يمكن الانتفاع به منفعة محللة مقصودة للعقلاء مع بقاء عينه يجوز إجارته. وكذا كل عمل محلل مقصود للعقلاء ـ عدا ما استثني ـ يجوز الإجارة عليه ، ولو كان تعلق القصد والغرض به نادراً لكن في صورة تحقق ذلك النادر [١]. بل الأمر في باب المعاوضات الواقعة على الأعيان أيضاً كذلك. فمثل حبة الحنطة لا يجوز بيعها ، لكن إذا حصل مورد يكون متعلقاً لغرض العقلاء ويبذلون المال في قبالها يجوز بيعها.

( مسألة ٢١ ) : في الاستئجار للحج المستحبي أو الزيارة لا يشترط أن يكون الإتيان بها بقصد النيابة ، بل يجوز أن يستأجره لاتيانها بقصد إهداء الثواب إلى المستأجر أو الى ميته [٢] ويجوز أن يكون لا بعنوان النيابة ولا إهداء الثواب ، بل يكون المقصود إيجادها في الخارج من حيث أنها من الأعمال الراجحة فيأتي بها لنفسه أو لمن يريد نيابة أو إهداء.

______________________________________________________

[١] إذا كان الغرض النادر عاماً ، وكان العمل عزيز الوجود. وكذا الحال في الأعيان. فإذا كان الغرض خاصاً أو كان كثير الوجود لا يكون ذا مالية ، ولا يجوز بذل المال بإزائه ، لأنه أكل للمال بالباطل.

[٢] قد يشكل ذلك لعدم إحراز الموضوع ، لاحتمال كون العمل مقروناً بما يمنع من تحقق الثواب. والإجارة على الإهداء على تقدير وجود‌

١٤٣

( مسألة ٢٢ ) : في كون ما يتوقف عليه استيفاء المنفعة ـ كالمداد للكتابة ، والإبرة والخيط للخياطة مثلا ـ على المؤجر أو المستأجر قولان [١]. والأقوى وجوب التعيين ، إلا إذا كان هناك عادة ينصرف إليها الإطلاق ، وإن كان القول بكونه مع عدم التعيين وعدم العادة على المستأجر لا يخلو عن وجه‌

______________________________________________________

الثواب كما ترى ، لا يخرج عن كونه مشكوكاً ومع الجهل بثبوت العوض لا تصح الإجارة. مضافاً إلى أن المالية في الثواب ، لا في إهداء الثواب ، فلا يكون طرفاً للمعاوضة. اللهم إلا أن يقال : إنه يكفي في صلاحيته للعوضية كونه موصلاً إلى المال ، نظير الإجارة على البيع ، كما يتعارف عند الدلالين في البيع أو الإجارة أو نحوهما.

[١] في الشرائع وعن السرائر والتحرير والإرشاد : أنها على المؤجر واختاره في الجواهر ، لتوقف العمل المستأجر عليه على ذلك ، فيجب من باب المقدمة. وعن المسالك والروضة وغيرهما : أنها على المستأجر ، إلا أن تكون العادة على المؤجر ، لأن المقصود من الإجارة العمل ، أما الأعيان فلا تدخل في مفهوم الإجارة على وجه يجب أداؤها لأجلها ، إلا في شواذ تثبت على خلاف الأصل ، كالرضاع والاستحمام. ورده في الجواهر بأن عدم دخولها في مفهوم الإجارة لا ينافي وجوبها للمقدمية للواجب ، الذي الأصل فيه أن يكون واجباً مطلقاً لا مشروطاً. وعن مجمع البرهان : وجوب التعيين. وكأنه لا جمال المستأجر عليه من حيث الإطلاق والاشتراط ورده في الجواهر : بأنها من التوابع ، وليست من مورد الإجارة الذي يعتبر فيه المعلومية. وفيه : أن الإجمال في مورد الإجارة من حيث الإطلاق والاشتراط كما عرفت ، لا في التوابع.

هذا ولأجل ما ذكره في الجواهر ، من أصالة الإطلاق في العمل ،

١٤٤

أيضاً ، لأن اللازم على المؤجر ليس الا العمل [١].

______________________________________________________

تعرف أنه لا إجمال كي يحتاج إلى التعيين ، فيكون الأقوى أنها على المؤجر لا المستأجر ، إلا أن تكون قرينة على خلاف الإطلاق ، فيتعين العمل عليها. ولو أجمل المراد لوجود ما يصلح القرينية وجب التعيين ، وإلا بطلت الإجارة.

هذا ولكن قد يشكل ما في الجواهر : بأن إطلاق الوجوب يقتضي وجوب المقدمة ، أما أنها على وجه تكون ملكاً للمستأجر فليس مما يقتضيه الإطلاق. وبالجملة : إطلاق الوجوب يقتضي المبادرة إلى العمل ، ولا يقتضي تمليك الخيوط ـ مثلا ـ للمستأجر. وقاعدة السلطنة تقتضي بقاءها على ملك الأجير ، وحينئذ يجب دفع بدلها إلى الأجير. وهذا المعنى وإن كان مخالفاً للقول بأنها على المستأجر ، وللقول بأنها على الأجير ، لا بأس بالالتزام به إذا كان مقتضى الدليل. لكن هذا يختص بما إذا كان إطلاق للعمل المستأجر عليه ، أما إذا لم يكن لعدم تمامية مقدمات الحكمة ، فالعقد باطل ، لا جمال موضوعه وإهماله ، المانع ذلك من صحته ، إذ المهمل لا يمكن انطباقه على كل من الواجد للقيد والفاقد. من الافراد الخارجية والفرضية. ومن ذلك يظهر : أن قول المصنف (ره) : « والأقوى وجوب التعيين » مبني على إهمال العمل وعدم إطلاقه ، فإنه مع الإطلاق لا موجب للتعيين ، بل يؤخذ بمقتضى الإطلاق.

كما أن مما ذكرنا يظهر الفرق بين مثل الإبرة ، وبين مثل الخيوط والحبر ونحوهما مما لا تبقى عينه بيد المؤجر ، فإن الرجوع على المستأجر يختص به ، ولا يجري في مثل الإبرة ونحوها. وهذا فرق آخر بين هذا القول والقولين الآخرين ، فلاحظ.

[١] لكن عرفت أنه إذا وجب العمل وجبت مقدماته ، ولكن لا يجب بذلها مجانا.

١٤٥

( مسألة ٢٣ ) : يجوز الجمع بين الإجارة والبيع ـ مثلا ـ بعقد واحد [١] ، كأن يقول : بعتك داري وآجرتك حماري‌

______________________________________________________

[١] قال في الشرائع ـ في ذيل مسألة بيع الصاع من صبرة ـ : « لو جمع بين شيئين مختلفين في عقد واحد ـ كبيع وسلف ، أو إجارة وبيع ، أو نكاح وإجارة ـ صح ، ويقسط العوض على قيمة المبيع ، وأجرة المثل ، ومهر المثل ». وفي المسالك : « لا خلاف عندنا في ذلك كله ».

وفي الجواهر : « بلا خلاف أجده فيه ». ولكن قد يشكل ذلك من جهة عدم معلومية الثمن ولا الأجرة ، للجهل بالنسبة. وجواز ذلك في بيع الصفقة أو إجارة الصفقة لا يقتضي الجواز هنا ، لأجل أن الثمن أو الأجرة هناك معلوم ، وإن كان ما يقابل كل واحد من أبعاض المبيع أو المستأجر مجهولاً ، وهنا كل من الثمن والأجرة مجهول. اللهم إلا أن يقال : إن العمدة في دليل المنع مع الجهل هو الإجماع ، وهو منتف في المقام.

وفي الجواهر : حكى عن الأردبيلي التأمل في الصحة ، لما سبق ، وللشك في مثل هذا العقد. ودفع الأول بما أشرنا إليه من أن المعلوم من قدح الجهالة ما إذا كان البيع عقداً مستقلا. ودفع الثاني : بأنه خلاف الإطلاق ، وأنه لو بني على اختصاص العموم بالعقود المتعارفة ، فظهور اتفاق الأصحاب عليه يقتضي دخوله في المتعارف. انتهى. والأخير كما ترى ، فان كونه غير متعارف أمر وجداني لا يقبل الشك ، كي يكون اتفاق الأصحاب دليلاً على خلافه.

فالعمدة : منع الاختصاص بالمتعارف ، بل ضرورة الفقه على خلاف ذلك ، وإلا لزم تأسيس فقه جديد ، كما أشرنا إلى ذلك في غير مورد من مباحث هذا الشرح. ثمَّ إنه لو بني على وجود إطلاق يقتضي قادحية الجهالة في المقام ـ كما يقتضيه استدلال الأصحاب على ذلك بما ورد من‌

١٤٦

بكذا. وحينئذ يوزع العوض عليهما بالنسبة ، ويلحق كلاً منهما حكمه. فلو قال : آجرتك هذه الدار وبعتك هذا الدينار بعشرة دنانير ، فلا بد من قبض العوضين بالنسبة إلى البيع في المجلس ، وإذا كان في مقابل الدينار ـ بعد ملاحظة النسبة ـ أزيد من دينار أو أقل منه بطل بالنسبة إليه ، للزوم الربا [١]. ولو قال : أجرتك هذه الدار وصالحتك على هذا الدينار بعشرة دنانير مثلاً ، فان قلنا بجريان حكم الصرف من وجوب القبض في المجلس [٢] ، وحكم الربا في الصلح ، [٣] فالحال كالبيع وإلا فيصح بالنسبة إلى المصالحة أيضاً.

______________________________________________________

نهي النبي (ص) عن بيع الغرر (١) ـ فاتفاق الأصحاب على المقام يقتضي الخروج عنه ، فلاحظ.

[١] قد يشكل ذلك بأن الضميمة مانعة من تحقق الربا نصاً وفتوى ، فراجع كلماتهم في مبحث الحيل المانع من تحقق الربا.

[٢] لكن الظاهر عدم جريانه ، بل قيل : « لا خلاف فيه ظاهر ». ويقتضيه اختصاص نصوص الشرطية بالبيع ، الموجب للرجوع إلى إطلاق الصحة في غيره.

[٣] جريان حكم الربا في جميع العقود هو المشهور ، ويقتضيه إطلاق جملة من النصوص المتضمنة لتحريم الربا. ودعوى انصرافها إلى البيع غير ظاهرة. ومجرد الغلبة غير كاف فيه. نعم في صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر (ع) : « في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه؟ فقال كل واحد‌

__________________

(١) التذكرة : المسألة الثانية من الركن الثالث من الفصل الثاني من الإجارة.

١٤٧

______________________________________________________

منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي. فقال (ع) : لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت نفسهما بذلك » (١). وإطلاقه يقتضي الشمول لصورة العلم بالتفاضل ، فيدل على جواز الربا في الصلح. ومنع الإطلاق المذكور غير ظاهر ، ولا سيما مع غلبة الاختلاف. ولو سلم فهو كالصريح في عدم اعتبار العلم بالتساوي ، فيصح الصلح مع الجهل به. كما أن إطلاقه شامل لصورة العلم بزيادة أحدهما بعينه ، ومقتضاه الجواز فيها. وعلى هذا يقتصر في الخروج عن عمومات المنع على مورد الصحيح المذكور ، وفي غيره يرجع إلى العمومات المانعة.

هذا ويمكن أن يقال : إن عمومات المنع مورد بعضها خصوص البيع ، ولا تشمل الصلح ، وظاهر بعضها الآخر خصوص المعاوضة بين العينين ولو كانت بطريق الصلح. أما إذا كان مفاد الصلح خالياً عن المعاوضة بين العينين ـ كما هو ظاهر مورد الصحيح المذكور ـ فلا عموم يقتضي المنع عنه. فاذا قال : صالحتم على أن تكون هذه العشرة بهذه الخمسة ، كان الصلح معاوضة بين العينين ، فلا يصح. وإذا قال : صالحتك على أن تكون هذه العشرة لي وهذه الخمسة لك ، لم يكن فيه معاوضة بين العينين ، فيصح عملاً بعمومات الصحة. وأما الآيات الشريفة ـ مثل قوله تعالى ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (٢) ، وقوله تعالى ( قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (٣) ، وقوله تعالى ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ .. ) (٤) ، وقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ) (٥) ، ونحوها ـ فلا تخلو من إجمال ، إذ ليس المراد‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٥ من أبواب الصلح حديث : ١.

(٢) البقرة : ٢٧٦.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤) البقرة : ٢٧٥.

(٥) البقرة : ٢٧٨.

١٤٨

( مسألة ٢٤ ) : يجوز استئجار من يقوم بكل ما يأمره من حوائجه [١] ، فيكون له جميع منافعه. والأقوى أن نفقته على نفسه لا على المستأجر [٢] ، إلا مع الشرط ، أو الانصراف من جهة العادة.

______________________________________________________

منها المعنى اللغوي ، والمراد الشرعي غير ظاهر ، فلا مجال للرجوع إليها في عموم المنع. فلا حظ وتأمل.

[١] قال في الجواهر : « ظاهر الأصحاب المفروغية عن جواز الاستئجار ، للإنفاذ في حوائجه على الاجمال ، اتكالاً على المعتاد المقدور له واللائق بحاله من ذلك ». أقول : ذلك مقتضى عمومات الصحة.

[٢] كما عن السرائر والتذكرة والمختلف وجامع المقاصد ، والروضة ومجمع البرهان وغيرها ، لعدم اقتضاء عقد الإجارة كونها على المستأجر ، وإن اختاره في الشرائع ، وحكى عن النهاية والقواعد والإرشاد والروض. وقد يستدل له بالصحيح عن سليمان بن سالم قال : « سألت أبا الحسن (ع) عن رجل استأجر رجلاً بنفقة ودراهم مسماة على أن يبعثه إلى أرض ، فلما أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر ، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه ، فكافأ به الذي يدعوه ، فمن مال من تكون تلك المكافأة؟ أمن مال الأجير أو من مال المستأجر؟ قال (ع) : إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله ، وإلا فهو على الأجير. وعن رجل استأجر رجلا بنفقة مسماة ولم يفسر شيئاً ، على أن يبعثه إلى أرض أخرى ، فما كان من مئونة الأجير من غسل الثياب والحمام فعلى من؟ قال (ع) : على المستأجر » (١). وفيه : أن مورده صورة كون النفقة‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب أحكام الإجارة حديث : ١.

١٤٩

وعلى الأول [١] : لا بد من تعيينها كماً وكيفاً [٢] ، إلا أن يكون متعارفا. وعلى الثاني : على ما هو المعتاد المتعارف. ولو أنفق من نفسه أو أنفقه متبرع يستحق مطالبة عوضها على الأول [٣] ، بل وكذا على الثاني ، لأن الانصراف بمنزلة الشرط.

( مسألة ٢٥ ) : يجوز أن يستعمل الأجير مع عدم تعيين الأجرة [٤] وعدم إجراء صيغة الإجارة ، فيرجع إلى أجرة المثل. لكنه مكروه [٥]. ولا يكون حينئذ من الإجارة المعاطاتية ، كما قد يتخيل ، لأنه يعتبر في المعاملة المعاطاتية‌

______________________________________________________

مأخوذة جزءاً من الأجرة ، وهو غير ما نحن فيه. وأيضاً : فإن مورده كون نظر المستأجر إلى منفعة خاصة استأجره عليها. لا إلى جميع المنافع كما هو محل الكلام.

[١] يعني : الشرط.

[٢] قد يظهر من الصحيح الاكتفاء بذكرها إجمالاً ، اعتماداً على التقدير الشرعي ، فلا يبعد حينئذ عدم اعتبار ذكرها تفصيلا للخبر المذكور ، ولا سيما مع ما عرفت من عدم وضوح الدليل على اعتبار العلم تفصيلاً بالأجرة ، بنحو لا يلزم الغرر ، فضلا عن مثل الشرط مما كان من التوابع كما مال إليه في الجواهر.

[٣] عملاً بالشرط الموجب للاستحقاق مع عدم المسقط. اللهم إلا أن يكون المتبرع قد تبرع عن المستأجر.

[٤] فإن الظاهر عدم الخلاف فيه ، كما عن مجمع البرهان. وفي مفتاح الكرامة : عدم وجدان القائل بالتحريم.

[٥] كما هو المشهور الذي طفحت به عباراتهم. نعم عبر جماعة بأنه‌

١٥٠

اشتمالها على جميع شرائط تلك المعاملة عدا الصيغة ، والمفروض عدم تعيين الأجرة في المقام ، بل عدم قصد الإنشاء منهما [١] ولا فعل من المستأجر [٢]. بل يكون من باب العمل بالضمان [٣] ،

______________________________________________________

يستحب مقاطعة الأجير. ولعل مرادهم ذلك. وكيف كان : فيدل على الحكم صحيح سليمان الجعفري : « أن مولانا الرضا (ع) ضرب غلمانه وغضب غضباً شديداً ، حيث استعانوا برجل في عمل وما عينوا له أجرته ، فقال له سليمان : لم تدخل على نفسك؟ قال (ع) : قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرة ، واعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئاً من غير مقاطعة ، ثمَّ زدته على ذلك الشي‌ء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظن أنك قد أنقصته أجرته ، وإذا قاطعته ثمَّ أعطيته أجرته حمدك على الوفاء ، فاذا زدته حبة عرف ذلك لك. ورأى أنك قد زدته » (١). ومن التعليل يظهر تعين حمل نهيه على الكراهة ، وغضبه (ع) وضربه كان لمعصيته التي هي معصية لله سبحانه. كما يتعين أيضاً حمل خبر مسعدة : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعمل الأجير حتى يعلمه ما أجره » (٢) على الكراهة أيضاً.

[١] بعد أن كان كل منهما قاصداً للأجر ، وأنهما قد تبانيا على أمر واحد ، كيف لا يكونان قد قصدا الإنشاء؟! وسيأتي منه : أن ذلك من باب العمل بالضمان ، الذي لا يكون إلا مع قصد الإنشاء.

[٢] الأمر بالعمل من قبيل الفعل الدال على إنشاء المعاملة ، وقد عنون المصنف (ره) المسألة باستعمال الأجير ، ولا بد حينئذ من أن يصدر فعل أو قول من المستأجر ، ليتحقق به الاستعمال للأجير.

[٣] قد تقدم منه في المسألة التاسعة عشرة : أنه إذا أمر العامل بالعمل‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٣ من أبواب أحكام الإجارة حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٣ من أبواب أحكام الإجارة حديث : ٢.

١٥١

نظير الإباحة بالضمان كما إذا أذن في أكل طعامه بضمان العوض ونظير التمليك بالضمان كما في القرض ، على الأقوى من عدم كونه معاوضة. فهذه الأمور عناوين مستقلة غير المعاوضة [١] والدليل عليها السيرة ، بل الأخبار أيضاً [٢]. وأما الكراهة فللأخبار أيضاً [٣].

( مسألة ٢٦ ) : لو استأجر أرضا مدة معينة ، فغرس فيها أو زرع ما لا يدرك في تلك المدة ، فبعد انقضائها للمالك أن يأمره بقلعها. بل وكذا لو استأجر لخصوص الغرس أو لخصوص الزرع. وليس له الإبقاء ولو مع الأجرة [٤] ، ولا‌

______________________________________________________

ضمن أجرته ، إذا لم يقصد العامل التبرع وإن قصد الآمر التبرع. وما نحن فيه من ذلك الباب ، الذي قد عرفت أنه من قبيل الاستيفاء الموجب للضمان وإن قصد المستوفي التبرع. فجعله من باب آخر غير ظاهر.

[١] كما صرح به في الجواهر ، مستدلا عليه بالسيرة.

[٢] يعني : الصحيح والخبر المتقدمين.

[٣] كما عرفت.

[٤] وفي القواعد : « هو كالغاصب ». وكذا في مفتاح الكرامة عن المبسوط والتذكرة والتحرير وجامع المقاصد. ولم يحك فيه الخلاف من غيرها. ولكنه إنما يتم لو كان التقييد بالمدة يقتضي خروج ذلك عن مورد الإجارة ، ولازمه جواز منع المالك له من ذلك حين الزرع أو الغرس ، مع أنه استشكل فيه في القواعد. وظاهر جامع المقاصد : الميل إلى عدمه. وعن التذكرة : الأقرب العدم. وكذا عن التحرير. نعم عن المبسوط : أن له المنع ، لاحتياجه إلى المطالبة بالقلع ومثل ذلك‌

١٥٢

______________________________________________________

يشق. انتهى. وهو كما ترى ، ظاهر تعليله دخوله في مورد الإجارة. نعم ظاهر جامع المقاصد عدم تناول مورد الإجارة له. لكنه غير ظاهر في بعض الموارد. بل هو خلاف الإطلاق. وحينئذ يشكل الفرق بين المسألتين. ودعوى : أنه في هذه المسألة يكون الزارع مقدماً على الضرر : فلا مجال لتطبيق قاعدة نفي الضرر فيه ، لتكون حاكمة على عموم السلطنة ، بخلاف المسألة الثانية ، ممنوعة ، فإن الإقدام على الضرر يتوقف على علمه باستحقاق المالك للقلع ، وبنائه على ذلك. أما بدون ذلك فلا إقدام له على الضرر كالمسألة الثانية.

وتوضيح أحكام صور المسألة : أنه إذا استأجر أرضاً مدة معينة : فتارة : يذكر خصوص الزرع أو الغرس. وأخرى : لا يذكر انتفاع بعينه. وفي الأولى : تارة : يذكر زرع أو غرس ما لا يكمل في تلك المدة. وأخرى : يذكر ما يكمل فيها. وثالثة : يذكر مطلقاً. فان ذكر ما لا يكمل في المدة : فتارة : يتوقف الانتفاع به على كماله ، وأخرى لا يتوقف ، كما لو كان الزرع يمكن الانتفاع بفصيله والغرس يمكن قلعه وغرسه في موضع آخر. فان ذكر ما يتوقف الانتفاع به على كماله ، ففي صحة الإجارة وعدمها وجهان أو قولان. وعن الإيضاح وجامع المقاصد : أن الأقوى الصحة ، لأن العلم بحصول الانتفاع إلى آخر المدة ليس شرطاً في الصحة ، فما دام يحتمل الانتفاع به ولو للإبقاء بالأجرة تبرعاً أو صلحاً أو نحوهما تصح الإجارة ، لعدم المانع. ثمَّ إنه على تقدير الصحة : فهل يجب الإبقاء بالأجرة أو يجوز للمالك القلع؟ وجهان. قال في القواعد : « ولو استأجر مدة لزرع لا يكمل فيها ، فان شرط نقله بعد المدة لزم ، وإن أطلق احتمل الصحة مطلقا ، وبقيد إمكان الانتفاع ، فعلى الأول احتمل وجوب الإبقاء بالأجرة ». وعن جامع المقاصد والمسالك : أن عدم وجوب الإبقاء أقوى ،

١٥٣

مطالبة الأرش مع القلع ، لأن التقصير من قبله [١]. نعم لو استأجرها مدة يبلغ الزرع ، فاتفق التأخير لتغير الهواء أو غيره‌

______________________________________________________

لأنه دخل على أنه لاحق له بعد المدة. ( انتهى ). لكن في القواعد قال ـ قبل ذلك ـ : « فإن استأجر للزرع فانقضت المدة قبل حصاده ، فان كان لتفريط المستأجر ـ كأن يزرع ما يبقى بعدها ـ فكالغاصب » ، وهو بظاهره مناف لما ذكره. والفرق بين المسألتين غير واضح.

والتحقيق ما ذكره أولاً ، وتبعه عليه في جامع المقاصد والمسالك : من عدم وجوب الإبقاء ، لعدم المقتضي للوجوب. فقاعدة السلطنة تقتضي عدمه. وقاعدة الضرر لا مجال لها في أمثال المقام ، مما أقدم فيه المالك على ما لا حق له فيه ، فان الظاهر من دليل نفي الضرر اختصاصه بصورة ما إذا لزم الضرر من الحكم الشرعي عرفاً على نحو الاستقلال ، وفي المقام ينسب الضرر إلى إقدام المالك على مالا حق له فيه ، كما ذكر في المسالك وغيرها. وأظهر من ذلك الصورة الثانية وهي : ما إذا كان يمكن الانتفاع بالزرع أو الغرس قبل كماله ، إذ حينئذ يكون ترك الإبقاء مؤديا إلى فوات نفع زائد ، وقاعدة الضرر إنما تنفي الضرر ولا تثبت النفع. ومثلهما في ذلك الصورة الثالثة وهي : ما إذا ذكر الزرع أو الغرس مطلقاً ، الشامل لما لا ينتفع به قبل كماله ، فان الحكم فيها هو الحكم في الصورتين. وأما الصورة الرابعة ـ وهي : ما إذا ذكر ما يكمل في المدة فاتفق عدم كماله ـ : فسيأتي في كلام المصنف (ره) التعرض له.

[١] يشير به إلى ما عرفت من أنه أقدم على ما لا حق له فيه ، وفي مثله لا مجال لتطبيق دليل نفي الضرر ، لانصرافه عن مثله ، كما يظهر من ملاحظة كثير من نظائره ، التي لا ريب عند المتشرعة في بقاء سلطنة المالك على ماله أو نفسه بحالها. وما يجري على لسان جماعة من التعبير بأنه أقدم‌

١٥٤

أمكن أن يقال : بوجوب الصبر على المالك مع الأجرة ، للزوم الضرر [١] ، إلا أن يكون موجبا لتضرر المالك [٢].

______________________________________________________

على الضرر ، يراد به هذا المعنى ، وإلا فليس هو مقدم على الضرر ضرورة ، لكونه أقدم برجاء إقدام صاحبه على الاذن له في البقاء ، على حسب رغبته.

[١] يعني : يرجع الى قاعدة الضرر ، الحاكمة على عموم قاعدة السلطنة.

[٢] يعني : يمتنع الرجوع الى قاعدة نفي الضرر حينئذ ، لأن تطبيقها بالنسبة إلى ضرر الزارع ليس أولى بالنسبة إلى ضرر المالك ، ومع عدم المرجح تسقط بالإضافة إليهما معا ، فيرجع الى قاعدة السلطنة. وقد يتوهم ترجيح الضرر الأقوى. وفيه : أن زيادة الضرر لا توجب تأكد النفي ، إذ لا تأكد في الاعدام. كما أنه لا مجال للتخيير مع تساوي الضررين. لأنه لا معنى للتخيير بالإضافة إلى الشخصين ، لأنه إذا اختار كل منهما الاعمال بالنسبة إلى ضرره يرجع التنافي ، وإن اختار ضرر غيره كان إقداماً على الضرر ، وهو مانع من تطبيق القاعدة كلية. وأما تخيير المفتي في المسألة الأصولية : فلا دليل عليه ، لاختصاص دليل التخيير بالدليلين المتعارضين ، فلا يشمل الدليل الواحد بلحاظ فردين ، كما في المقام. ولأجل ذلك وغيره تعين عند تعارض الضررين سقوط قاعدة الضرر ، والرجوع إلى غيرها من القواعد المتأخرة عنها ، كقاعدة السلطنة في المقام. والله سبحانه هو العالم ، ومنه نستمد الاعتصام.

١٥٥

فصل في التنازع‌

( مسألة ١ ) : إذا تنازعا في أصل الإجارة قدم قول منكرها مع اليمين [١] ، فان كان هو المالك استحق أجرة المثل دون ما يقوله المدعي.

______________________________________________________

فصل في التنازع‌

[١] كما في جملة من الكتب. وفي مفتاح الكرامة : « طفحت بذلك عباراتهم ـ خصوصاً المتأخرين ـ من غير خلاف ، إلا من المهذب والخلاف ». ثمَّ نقل عن الأول قوله : « إذا سكن دار غيره فقال الساكن : سكنت بغير أجرة ، وقال المالك : استأجرتها ، كان القول قول صاحبها مع يمينه » : ونقل عن الخلاف قوله : « إذا زرع أرض غيره فقال الزراع : أعرتنيها ، وقال رب. الأرض : أكريتكها ، حكم بالقرعة ».

أقول : ظاهر الخلاف أن فرضه من قبيل المسألة الآتية ، لا من قبيل هذه المسألة التي كان النزاع فيها للاختلاف بينهما في الإجارة وعدمها ، على أن يكون المتصرف معترفاً بعدم بذل المالك للمنفعة على وجه المجانية. ولعل كلام المهذب وارد في إثبات أصل الاستحقاق للأجرة والعوض ، لا في إثبات الأجرة المسماة ، وإلا فلا وجه له ظاهر ، إذ لا ريب في كون المالك المدعي للإجارة مدعياً ، فيكون عليه البينة ، لا أنه يسمع قوله بيمينه.

وتوضيح ذلك : أنه وان اختلفت كلماتهم في تفسير المدعي ، فبعضهم فسره : بمن لو ترك الخصومة لترك. وآخر : بمن يدعي خلاف الأصل‌

١٥٦

______________________________________________________

الظاهر. وثالث : بمن يذكر أمراً خفياً بحسب الظاهر. ورابع : وهو من يدعي خلاف الأصل أو الظاهر ، أو يذكر أمراً خفياً بحسب الظاهر. وخامس : وهو من يكون في مقام إثبات قضية على غيره. وربما ذكر غير ذلك ، والظاهر أن الاختلاف المذكور ليس اختلافا في المفهوم ، بل هو اختلاف في مقام بيان المفهوم مساهلة منهم في التحديد ، إذ لا يظن من أحد من هؤلاء المفسرين الالتزام بما يلزم التعريف الذي ذكر من اللوازم.

والمتعين تعريفه بمن كان قوله يخالف الحجة التي يرجع إليها في تعيين الوظيفة الشرعية ، أمارة كانت أو أصلاً. وكأن وجه تسميته بالمدعي في النصوص المتضمنة : « البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه » ـ وكذا في اللغة والعرف ـ : أن المدعي اسم فاعل : « ادعى » ، وهو افتعال من الدعاء الذي هو الطلب بالقول ونحوه ، وطلب الشي‌ء إنما يصح إذا لم يكن حاضراً عند الطالب ، فكأن الشي‌ء الذي قامت عليه الحجة حاضر لدى الشخص ، فلا مجال لطلبه ، ولا معنى لدعائه وادعائه ، والشي‌ء الذي لم تقم عليه الحجة غير حاضر لديه ، فيصح دعاؤه وادعاؤه. هذا هو المفهوم منه لغة وعرفاً.

ثمَّ إن المراد من كون قوله مخالفاً للحجة : أنه مخالف للحجة التي يلزم الرجوع إليها في نفس الدعوى لو لا المعارضة ، فلو كان كل منهما قوله مخالفاً للحجة في مورد الدعوى ، لكنها كانت معارضة بالحجة الجارية في مورد دعوى خصمه ، فهما متداعيان ، وإن كان مقتضى العلم الإجمالي بكذب إحدى الدعويين بطلان الأصلين معاً ، لكن ذلك لا يقدح في صدق المدعي ، ويكونان بذلك متداعيين.

وعلى هذا فثبوت الإجارة لما كان على خلاف الأصل العملي ، كان المخبر عنه مدعياً ، والمنكر له مدعى عليه. وهذا مما لا إشكال فيه.

١٥٧

______________________________________________________

نعم هنا شي‌ء وهو : أن المعيار في تطبيق المدعي والمدعى عليه ، هل هو مصب الدعوى وعبارة المتنازعين ، أو هو الغرض المقصود للمتنازعين؟. وتحرير هذا الخلاف في كتب القدماء والمتأخرين مما لم أقف عليه ، لكن يستفاد ذلك من تعليلاتهم في كثير من الموارد لكون الحكم هو التحالف الذي هو من أحكام التداعي ، أو كون البينة من أحدهما واليمين من الآخر الذي هو من أحكام المدعي والمنكر ، فان من ذكرهم للوجوه المختلفة يفهم خلافهم في ذلك. نعم صرح في الجواهر بوقوع الخلاف المذكور ، واختار الوجه الأول في صدر كلامه في مبحث الاختلاف في العقود من كتاب القضاء ، وكذا في صدر كلامه فيما لو اختلف المتبايعان في قدر الثمن ، فإنه ـ بعد ما نقل عن المختلف القول بأن القول قول المشتري ـ قال (ره) : « إلا أنه لا يخفى عليك ضعفه في خصوص المقام ، لما سمعت ( يعني : من النص ) ، نعم لا بأس به في غيره ، لو أبرزت الدعوى باشتغال الذمة بالزائد إنكاره. أما لو أبرزت في تشخيص سبب الشغل ، بحيث يكون الاستحقاق تبعياً ، فقد يمنع تقديم قول المشتري فيه ، ضرورة كون كل منهما مدعياً ومنكراً. ففي المقام ـ مثلا ـ يدعي البائع أن ما وقع ثمناً في عقد البيع المخصوص مائة ، والمشتري خمسون ، فنزاعهما في تشخيص العقد المشخص في الواقع ، ولا ريب في كون كل منهما مدعياً فيه ومنكراً. ولعله لذا احتمل التحالف الفاضل في كثير من كتبه ، بل عن ولده أنه صححه ، والشهيد الأول اختياره في قواعده وإن نسبه في الدروس إلى الندرة ، بل مال اليه هنا في جامع المقاصد ». وفي مفتاح الكرامة ـ في مسألة ما لو اختلفا في قدر الأجرة فقال : آجرتك سنة بدينار ، فقال : بل بنصفه ـ نسب إلى المهذب القول بالتحالف ، وإلى جامع المقاصد أنه قال : « لا ريب في قوة التحالف » ، وإلى المختلف أنه قال : « أنه متجه » ‌

١٥٨

______________________________________________________

انتهى. والثاني منسوب إلى المشهور. لكن عرفت أن الوجه في النسبة : استفادة ذلك من بنائهم على إجراء حكم المدعي والمنكر في كثير من موارد النزاع ، والا فقد عرفت أنه لا تصريح منهم بذلك.

وكيف كان : فما يتفرع على الخلاف المذكور أنه إذا قال المالك : آجرتك الدار بعشرة ، فقال الآخر : آجرتنيها بخمسة ، فعلى الأول : أنهما متداعيان لاختلافهما في المدعى لكل منهما ، وعلى الثاني : أنهما مدع ومنكر ، لأن غرض الأول استحقاق العشرة ، وغرض خصمه نفي استحقاق الخمسة الزائدة على الخمسة التي يعترف بها ، وهذا النفي مقتضى الأصل ، فمدعي خلافه مدع ، ومدعيه منكر.

هذا ، والتحقيق هو القول المنسوب إلى المشهور ، كما اختاره في الجواهر في آخر كلامه المتقدم ، وكذلك في مبحث الإجارة فيما لو اختلفا في قدر الأجرة ، وجعل القول بالتحالف فيها ضعيفا. ونسب إلى شيخنا الأعظم (ره) في قضائه ، لأنه منصرف الأدلة ، فإن المقصود من نزاع المتخاصمين أولى بالملاحظة في ذلك ، وأولى أن يكون من وظيفة القاضي البت به والحكم فيه ، ولا معنى لملاحظة أمر آخر ، بل الدعوى التي لا يترتب عليها غرض لا يجب سماعها.

وعلى هذا فقد يتوجه الاشكال على ما ذكره الجماعة في مفروض المتن من إطلاق القول : بأن القول قول منكر الإجارة ، بأنه لا يتم على المشهور ، إذ اللازم عليه التفصيل بين ما إذا كانت أجرة المثل أكثر ، فالقول قول مدعي الإجارة ، وبين ما إذا كانت أقل ، فالقول قول منكر الإجارة ، لأنه في الأول مدعي الإجارة ينفي استحقاق الزائد ، فيطابق قوله الأصل ، وفي الثاني يكون مدعي الإجارة مدعياً لاستحقاق الزائد فيكون مدعياً ، وخصمه ينفي استحقاق الزائد فيكون منكراً. نعم يتم كلامهم على المذهب‌

١٥٩

ولو زاد عنها لم يستحق تلك الزيادة [١] ، ووجب على المدعي المتصرف إيصالها اليه [٢]. وإن كان المنكر هو المتصرف فكذلك لم‌

______________________________________________________

الآخر ، لأن مصب الدعوى ثبوت الإجارة وعدمها ، فمدعي الأول مدع وخصمه منكر على كل حال.

لكن يدفع الاشكال المذكور : أن المراد من كون المدار على مقصود المتنازعين أن ينظر إلى مقصودهما ، فان كان كل منهما مخالفاً للأصل كانا متداعيين ، وإذا كان مقصود أحدهما موافقاً للأصل ، ومقصود خصمه مخالفاً للأصل كان أحدهما مدعياً والآخر منكراً ، سواء كان الأصل المثبت لأحدهما النافي للآخر. أو النافي لهما معا جارياً في أحدهما أم فيهما بلا واسطة ، أم كان جارياً بواسطة كما في الأصل السببي ، كما في المقام ، فإن أجرة المثل إذا كانت أكثر من الأجرة المسماة ، فالأكثر مما يثبته الأصل بالواسطة ، لأن أصالة عدم الإجارة تثبت أجرة المثل وإن كانت هي الأكثر ، لأن كل منفعة مستوفاة على وجه الضمان مضمونة بأجرة المثل ، إذا لم تكن أجرة مسماة ، فيكون الضمان بأجرة المثل ـ التي هي الأكثر ـ من آثار نفي الأجرة المسماة بالأصل. وليس المراد من كون المدار على مقصود المتنازعين : أنه لا بد من الأصول الجارية في نفس المقصود بلا واسطة ، يعني مع قطع النظر عن السبب وعن الأصل السببي الجاري فيه. فان ذلك مما لا مجال للقول به ، لأن الأصل السببي إذا كان قد اجتمعت شرائط حجيته لم يكن وجه لطرحه بالإضافة إلى الأثر المسبب ، فيكون مدعي الأثر منكراً حينئذ. فلا مجال للإشكال على ما ذكره الجماعة من إطلاق : أن القول قول منكر الإجارة ، فإنه في محله على المذهبين.

[١] يعني : ليس له المطالبة بها ، لاعترافه بعدم استحقاقها.

[٢] إذا كان يرى استحقاق المالك لها.

١٦٠