بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: لجنة ادارة الحوزة العلمية بقم المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فهل يصح للرسول أن يمنع عن تدوينه وكتابته أو مدارسته ومذاكرته ؟ .

وإذا كان الرسول منع دراسة الحديث ونقله ونشره وتدوينه فما معنى قوله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) في خطبته في منى عام حجة الوداع : « نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (١) . وما معنى قوله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما يسمع ، فرب مبلغ أوعى من سامع » (٢) . أو قوله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « اللهم ارحم خلفائي ، اللهم ارحم خلفائي ، اللهم ارحم خلفائي ، قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال : الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي » (٣) . كيف تصح نسبة المنع إلى الرسول الأعظم ، مع أن المستفيض منه خلافه ، وإليك بعض ما ورد عنه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) .

أمر الرسول بكتابة حديثه

١ ـ روى البخاري عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه ، فأخبر بذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فركب راحلته فخطب ، فقال : « إن الله حبس عن مكة القتل أو الفيل ( شك أبو عبد الله ) وسلط عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين . ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لأحد بعدي . ـ إلى أن قال ـ : فجاء رجل من أهل اليمن فقال : « اكتب لي يا رسول الله ؟ فقال : « اكتبوا لأبي فلان ـ إلى أن قال ـ : كتب له هذه الخطبة » (٤) .

٢ ـ وروي أن رجلاً من الأنصار كان يجلس إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيسمع من النبي الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : « يا رسول الله إني أسمع منك الحديث

____________________

(١) سنن الترمذي : ج ٥ ص ٣٤ ح ٢٦٥٧ ، ٢٦٥٨ .

(٢) سنن الترمذي : ج ٥ ص ٣٤ ح ٢٦٥٨ .

(٣) كنز العمال ج ١٠ ص ٢٢١ ، رقم الحديث ٢٩١٦٧ ، وبحار الأنوار : ج ٢ ص ١٤٥ ح ٧ .

(٤) صحيح البخاري باب كتابة العلم ، الحديث ٢ ص ٢٩ ـ ٣٠ .

٦١

فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : استعن بيمينك وأومأ بيده للخط » (١) .

٣ ـ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قلت : « يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم . قلت : في الرضا والسخط ؟ قال : نعم فإنه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلا حقاً » (٢) .

٤ ـ وعن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال : « اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق » (٣) .

٥ ـ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث لا نحفظها أفلا نكتبها ؟ قال : « بلى فاكتبوها » (٤) .

أضف أن الذكر الحكيم يحث المسلمين على كتابة ما يتداينون بينهم . قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ . . . ) ثم يعود ويؤكد على المؤمنين أن لا يسأموا من الكتابة فقال سبحانه : ( وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ . . . ) (٥) .

____________________

(١) سنن الترمذي : ج ٥ ص ٣٩ ، كتاب العلم ، باب ما جاء في الرخصة فيه ح ٢٦٦٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ٢ ص ٢٠٧ .

(٣) سنن الدارمي : ج ١ ص ١٢٥ باب من رخص في كتابة العلم ، وسنن أبي داود : ج ٢ ص ٣١٨ ، باب في كتابة العلم ، ومسند أحمد : ج ٣ ص ١٦٢ .

(٤) مسند أحمد : ج ٢ ص ٢١٥ .

(٥) سورة البقرة : الآية ٢٨٢ .

٦٢

فإذا كان المال الذي هو زينة الحياة الدنيا من الأهمية بهذه المنزلة فكيف بأقوال النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وأفعاله وتقاريره التي تعتبر تالي القرآن الكريم حجية وبرهاناً ؟ .

وهناك كلمة قيمة للخطيب البغدادي نأتي بها برمتها : « وقد أدب الله سبحانه عباده بمثل ذلك في الدين ، فقال عز وجل : ( وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ، ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ) (١) .

فلما أمر الله تعالى بكتابة الدين حفظاً له ، واحتياطاً عليه وإشفاقاً من دخول الريب فيه ، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدين ، أحرى أن تباح كتابته خوفاً من دخول الريب والشك فيه . بل كتابة العلم في هذا الزمان ، مع طول الاسناد ، واختلاف أسباب الرواية ، أحج من الحفظ ، ألا ترى أن الله عز وجل جعل كتب الشهادة فيما يتعاطاه الناس من الحقوق بينهم ، عوناً عند الجحود ، وتذكرة عند النسيان وجعل في عدمها عند المموهين بها أوكد الحجج ببطلان ما ادعوه فيها ، فمن ذلك أن المشركين لما ادعوا بهتاً اتخاذ الله سبحانه بنات من الملائكة أمر الله نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم : ( فأَتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (٢) .

ولما قالت اليهود : ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) (٣) وقد استفاض عنهم قبل ذلك للإيمان بالتوراة ، قال الله تعالى لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : قل لهم : ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) (٤) ، فلم يأتوا على ذلك ببرهان ، فأطلع الله على عجزهم عن ذلك بقوله : ( قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (٥) .

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٨٢ .

(٢) سورة الصافات : الآية ١٥٧ .

(٣ ـ ٥) سورة الأنعام : الآية ٩١ .

٦٣

وقال تعالى ـ راداً على متخذي الأصنام آلهة من دونه ـ : ( أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ، ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا ، أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (١) . والأثارة والأثرة ، راجعان في المعنى إلى شيء واحد ، وهو ما أثر من كتب الأولين . وكذلك سبيل من ادعى علماً أو حقاً من حقوق الأملاك ، أن يقيم دون الإقرار برهاناً ، إمّا شهادة ذوي عدل أو كتاباً غير مموه ، وإلا فلا سبيل إلى تصديقه .

والكتاب شاهد عند التنازع . . . » إلى آخر ما ذكره (٢) .

نرى أنه سبحانه قد شرح دساتير وحيه وآي قرآنه بالأمر بالقراءة مبيناً أهمية القلم في التعليم والتعلم حيث قال عز من قائل : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) (٣) .

بل وعظم سبحانه القلم والكتابة تعظيماً ، حتى جعلها بمرتبة استحقاق القسم بها فهو جل وعلا يقول : ( ن ، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) (٤) .

أفهل يعقل معه أن ينهى رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) عن كتابة ما هو قرين القرآن وتاليه في الحجية ، أعني السنة الشريفة ؟ كلا .

أسطورة المنع عن كتابة الحديث

هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ما نسب إليه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) من النهي عن كتابة الحديث ، يخالف منطق الوحي والحديث والعقل ، وما هو إلا وليد الأوهام والسياسات التي أخذت تمنع نشر حديث الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وتدوينه لغايات سياسية لا تخفى على ذي

____________________

(١) سورة الأحقاف : الآية ٤ .

(٢) تقييد العلم : ص ٧٠ ـ ٧١ .

(٣) سورة العلق : الآية ١ ـ ٤ .

(٤) سورة القلم : الآية ١ .

٦٤

لب . فمثلاً روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده أن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه » (١) وفي رواية : « إنهم استأذنوا النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أن يكتبوا عنه فلم يأذنهم » (٢) .

وفي مسند أحمد أن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) نهى أن نكتب شيئاً من حديثه (٣) . وأيضاً ورد في مسند أحمد عن أبي هريرة أنه قال : « كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي فخرج علينا فقال : ما هذا تكتبون ؟ فقلنا : ما نسمع منك ، فقال : أكتاب مع كتاب الله ؟ فقلنا : ما نسمع . فقال : اكتبوا كتاب الله ، امحضوا كتاب الله ، أكتاب غير كتاب الله امحضوا أو خلصوه . قال : فجعلنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار » (٤) .

ثم إن القوم لم يكتفوا بما نسبوه إلى النبي في مجال كتابة الحديث ، بل ذكروا هناك أحاديث موقوفة على الصحابة والتابعين تنتهي إلى الشخصيات البارزة : كأبي سعيد الخدري ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وعبيدة ، وإدريس بن أبي إدريس ، ومغيرة بن ابراهيم إلى غير ذلك (٥) .

وروى عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال : « إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء

____________________

(١) سنن الدارمي : ج ١ ص ١١٩ ، مسند أحمد ج ٣ ص ١٢ .

(٢) سنن الدارمي : ج ١ ص ١١٩ .

(٣) مسند أحمد : ج ٥ ص ١٨٢ .

(٤) مسند أحمد : ج ٣ ص ١٢ .

(٥) جمع الخطيب في « تقييد العلم » : ص ٢٩ ـ ٢٨ ، الروايات المنسوبة إلى النبي والموقوفة على الصحابة والتابعين .

٦٥

أبداً » (١) .

وروى ابن جرير أن الخليفة عمر بن الخطاب كان كلما أرسل حاكماً أو والياً إلى قطر أو بلد ، يوصيه في جملة ما يوصيه : « جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمد وأنا شريككم » (٢) .

وكان عمر قد شيع قرظة بن كعب الأنصاري ومن معه إلى « صرار » على ثلاثة أميال من المدينة وأظهر لهم أن مشايعته لهم إنما كانت لأجل الوصية بهذا الأمر ، وقال لهم ذلك القول .

قال قرظة بن كعب الأنصاري : أردنا الكوفة فشيعنا عمر إلى « صرار » فتوضأ فغسل مرتين وقال : « تدرون لم شيعتكم ؟ فقلنا : نعم ، نحن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم . جردوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن رسول الله ، وامضوا وأنا شريككم (٣) » .

وقد حفظ التاريخ أن الخليفة قال لأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي الدرداء : « ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمد ؟ ! » (٤) .

وذكر الخطيب في « تقييد العلم » عن القاسم بن محمد : أن عمر بن الخطاب بلغه أن في أيدي الناس كتباً ، فاستنكرها وكرهها وقال : « أيها الناس إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها إلى الله ، أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلا أتاني به فأرى فيه رأيي . قال فظنوا أنه يريد ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب » (٥) .

____________________

(١) تقييد العلم : ص ٤٩ .

(٢) تاريخ الطبري : ج ٣ ص ٢٧٣ ، طبعة الأعلمي بالأفست .

(٣) طبقات ابن سعد : ج ٦ ص ٧ ، والمستدرك للحاكم ج ١ ص ١٠٢ .

(٤) كنز العمال : ج ١٠ ص ٢٩٣ ح ٢٩٤٧٩ .

(٥) تقييد العلم : ص ٥٢ .

٦٦

وقد صار عمل الخليفتين سنة ، فمشى عثمان مشيهما ، ولكن بصورة محدودة وقال على المنبر : « لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر » (١) .

كما أن معاوية اتبع طريقة الخلفاء الثلاث فخطب وقال : « يا ناس أقلوا الرواية عن رسول الله وإن كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر » (٢) .

حتى أن عبيد الله بن زياد عامل يزيد بن معاوية على الكوفة ، نهى زيد بن أرقم الصحابي عن التحدث بأحاديث رسول الله (٣) .

وبذلك أصبح ترك كتابة الحديث سنة إسلامية ، وعدت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها .

هذه هي بعض الأقاويل التي رواها أصحاب الصحاح والسنن وفي نفس الوقت نقلوا أحاديث تناقضها وتأمر بكتابة الحديث والسنة كما ستوافيك .

العقل والمنع عن كتابة الحديث

كيف يسمح العقل والمنطق أن يحكم بصحة الأحاديث الناهية عن الكتابة ، مع أن الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أمر في أخريات حياته أن يحضروا له قلماً ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ! وما كان المكتوب ( على فرض كتابته ) إلا حديثاً من أحاديثه فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : « لما اشتد بالنبي وجعه قال : ايتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، قال عمر : إنّ النبيّ ( صلّی الله عليه وآله وسلّم ) غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا . فاختلفوا وكثر اللغط قال : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس يقول : الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه » (٤) .

____________________

(١) كنز العمال ، ج ١٠ ص ٢٩٥ ، ح ٢٩٤٩٠ .

(٢) كنز العمال ، ج ١٠ ، ص ٢٩١ ، ح ٢٩٤٧٣ .

(٣) فرقة السلفية ص ١٤ ، نقلاً عن مسند الإمام أحمد .

(٤) البخاري ، كتاب العلم ، باب كتابة العلم : ج ١ ص ٣٠ .

٦٧

أفهل يجتمع هذا الأمر مع النهي عن تدوينه ؟ .

ثم إننا نرى أن الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قام يبعث كتابات إلى الملوك والساسة والأمراء والسلاطين وشيوخ القبائل ورؤسائها ناهز عددها ثلاثمائة كتاب في طريق الدعوة والتبليغ أو حول العهود والمواثيق وقد حفظ التاريخ متون هذه الرسائل التي جمع بعضها نخبة مع المحققين في كتب خاصة (١) .

والتاريخ يصرح بأن الرسول صلی الله عليه وآله وسلم كان يملي والكاتب يكتب ، فلما ازدادت الحاجة وكثرت العلاقات الاجتماعية أصبحت الحاجة إلى كتاب يمارسون عملهم ، فأدى ذلك إلى كثرة الكتاب فجعل لكل عمل كاتباً ولكل كاتب راتباً معيناً . وقد كان أكثرهم كتابة ، علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه فقد كان يكتب الوحي وغيره من العهود والمصالحات وقد أنهى المؤرخون كتّابه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) إلى سبعة عشر كاتباً .

فهل يجوز أن يكتب الرسول الأكرم ( صلی الله عليه وآله وسلم ) هذه المكاتبات والعهود والمصالحات إلى بطون القبائل ورؤساء العشائر وهو يعلم أنهم يحتفظون بهذه المكاتبات بحجة أنها من أوثق الوثائق السياسية والدينية ، ثم ينهى عن تسطير كلامه وحديثه ؟ فما هذان إلا نقيضان لا يجتمعان .

الغايات السياسة والأهداف الدينية

ومع ذلك كله فقد غلبت الغايات السياسية على الأهداف الدينية وقامت بكل قوة أمام حديث النبي ونشره وكتابته ، حتى إنّ الخليفة أبا بكر أحرق في خلافته خمس مائة حديث كتبه عن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) (٢) . ولما قام عمر بعده بالخلافة نهى عن كتابة الحديث وكتب إلى الأفاق : أن من كتب حديثاً فليمحه (٣) . ثم نهى عن التحدث ، فتركت عدة من الصحابة الحديث

____________________

(١) « كالوثائق السياسية » لمحمد حميد الله ، و « مكاتيب الرسول » للعلامة الأحمدي .

(٢) كنز العمال : ج ١٠ ص ٢٣٧ و ٢٣٩ .

(٣) مسند أحمد : ج ٣ ص ١٢ و ١٤ .

٦٨

عن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) (١) فلم يكتب الحديث ولم يدون إلّا في عهد المنصور عام ١٤٣ كما سيوافيك بيانه .

وقد بلغت جسارة قريش إلى ساحة النبي الأقدس أن منعوا عبد الله بن عمرو عن الاهتمام بحديث النبي وكتابته قائلاً بأنه بشر يغضب (٢) . أي والله إنه بشر يرضى ويغضب ولكن لا يرضى ولا يغضب إلا من حق ولا يصدر إلا عنه .

إن الرزية الكبرى هي أن يمنع التحدث بحديث رسوله وكتابته وتدوينه ويحل محله التحدث عن العهد القديم والجديد وعن الأحاديث الإسرائيلية والمسيحية والمجوسية (٣) فتمتلیء الأذهان والصدور بالقصص الخرافية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ولا يصدقها العقل والمنطق كما سيمر عليك شرح تلك الفاجعة العظمى التي ألمت بالإسلام والمسلمين .

فلو صح ما نقل عن أبي هريرة من جمع ما كتبه الصحابة عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) في مكان واحد وحرقه بالنار ، لوجب على المسلمين كافة أن يجمعوا كل مصادر أحاديث الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وعلى رأسها صحيح البخاري وصحيح مسلم وحرقها في مكان واحد وذلك اقتداء بالسلف الصالح ! ! ، وإذا صح فهل يبقى من الإسلام ما يرجع إليه في فهم القرآن الكريم وتمييز الحلال عن الحرام ؟ .

والذي أظنه ( وظن الألمعي صواب ) أن الذي منع من تدوين الحديث ونشره ومدارسته وكتابته بعد رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) ، هو الذي منع كتابة الصحيفة يوم الخميس عند احتضار النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم )

____________________

(١) مستدرك الحاكم : ج ١ ص ١٠٢ و ١٠٤ .

(٢) المصدر نفسه .

(٣) وقد أذن عمر بن الخطاب لتميم الداري النصراني الذي استسلم عام ٩ من الهجرة أن يقص كما في كنز العمال ج ١ ص ٢٨١ فالتحدث بحديث رسول الله يكون ممنوعاً و « الداري » وأمثاله يكونون أحراراً في بث الأساطير والقصص المحرفة ؟ ! .

٦٩

فالغاية بداية ونهاية وقبل رحلته ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وبعدها واحدة لم تتغير ، وأما حقيقة تلك الغاية فتفصيلها موكول إلى آونة أخرى ونأتي بمجملها :

كان رسول الله ( صلی الله عليه وآله ) منذ أن صدع بالدعوة ، وأجهر بها ، ينص على فضائل علي ومناقبه في مناسبات شتى ، فقد عرفه في يوم الدار الذي ضم فيه أكابر بني هاشم وشيوخهم ، بقوله : « إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا » .

وفي يوم الأحزاب بقوله : « ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين » .

وفي اليوم الذي غادر فيه المدينة متوجهاً إلى تبوك ، وقد ترك علياً خليفته على المدينة ، عرّفه بقوله : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » .

إلى أن عرفه في حجة الوداع في غدير خم بقوله : « من كنت مولاه ، فهذا علي مولاه » (١) .

وغير ذلك من المناقب والفضائل المتواترة ، وقد سمعها كثير من الصحابة فوعوها .

فكتابة حديث رسول الله بمعناها الحقيقي ، لا تنفك عن ضبط ما أثر عنه ( صلی الله عليه وآله ) في حق أول المؤمنين به ، وأخلص المناصرين له في المواقف الحاسمة ، وليس هذا شيئاً يلائم شؤون الخلافة التي تصدرها المانع عن الكتابة .

وهناك وجه آخر للمنع عنها ، هو أن علياً كان أحد المهتمين بكتابة حديث رسول الله وضبطه كما كان مولعاً بضبط الوحي وكتابته . وقد كتب من أحاديث رسول الله ما أملى عليه فصار له أذناً واعية ، وهو عليه السلام ،

____________________

(١) سيوافيك مصادر هذه الأحاديث عند البحث عن عقيدة الشيعة ومن أراد الوقوف فليرجع إلى كتب المناقب للإمام علی عليه السلام .

٧٠

بالنسبة إلى رسول الله كما قال هو نفسه : « إني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكت ابتدأني » (١) . وهو أول من ألف أحاديث رسول الله وكتب ، وهذه منقبة عالية لأمير المؤمنين دون غيره ، إلا أقل القليل . فاهتم مخالفوه بإخفاء هذه الفضيلة ، باختلاق حديث منع الكتابة ، فروى مسلم وغيره عنه ( صلی الله عليه وآله ) : « لا تكتبوا عني سوى القرآن ، ومن كتب فليمحه » (٢) وكانت الغاية من تلك المقالة ، الطمس على ما كتبه علي (ع) من الأحاديث .

على أنهم لم يكتفوا بذلك ، فرووا عن علي أنه قال : « ليس عندنا كتاب سوى ما في قراب السيف » (٣) .

وروى البخاري عن أبي جحيفة ، « قال : قلت لعلي : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا ، إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ، قال : قلت : فما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر » (٤) .

مع أن الكتاب الذي كتبه علي بإملاء رسول الله ( صلی الله عليه وآله ) ، كتاب كبير رآه أئمة الشيعة ، وهو من مواريث النبوة وكان مشتملاً على أحاديث فقهية ، وغيرها . وقد نقل عنه مشايخنا المحدثون الأول في جوامعهم ، ولو صح وجود كتاب في قراب سيفه ، فهو لا يمت إلى هذا الكتاب بصلة .

وقد قام زميلنا العلامة الحجة الشيخ علي الأحمدي ، بجمع ما روى الأئمة عن هذا الكتاب من الأحاديث في موسوعته ، وأخرجها من الكتب الأربعة ، والجامع الأخير وسائل الشيعة (٥) .

إن الخسارات التي مني الإسلام والمسلمون بها من جراء مثل هذا المنع ،

____________________

(١) تاريخ الخلفاء : ص ١١٥ .

(٢) سنن الدارمي : ج ١ ص ١١٩ .

(٣) مسند أحمد : ج ١ ص ١١٩ .

(٤) صحيح البخاري ، باب كتابة العلم ، الحديث الأول ، ص ٢٩ .

(٥) لاحظ مكاتيب الرسول : ج ١ ص ٧٢ ـ ٨٩ .

٧١

كائناً ما كان سببه ، كانت وما تزال عظيمة ووخيمة وسنشير إلى بعضها في محلها إن شاء الله تعالى .

أعذار مفتعلة

إذا كان المنع من كتابة السنة أمراً عجيباً ، فتبرير هذا المنع بأنه كان لصيانة اختلاط الحديث بالقرآن الكريم أعجب منه ، وذلك لأن التبرير هذا أشبه بالاعتذار الأقبح من الذنب ، لأن القرآن الكريم في أسلوبه وبلاغته يغاير أسلوب الحديث وبلاغته ، فلا يخاف عليه من الاختلاط بالقرآن مهما بلغ من الفصاحة ، فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم وهدم أصوله من القواعد .

ومثله ، الأعذار المنحوتة الأخرى لتبرير هذا المنع ، كخوف الانكباب على دراسة غير القرآن ، الذي نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب على ما مر ، غير أن مرور الزمان أثبت خلاف تلك الفكرة لأن كتابة الحديث من عصر المنصور لم تؤثر في دراسة القرآن وحفظه وتعليمه وتعلمه . وهناك أعذار منحوتة أخرى لا تقصر في البطلان عن سابقيها ولم تخطر ببال المانع أو المانعين أبداً ، وإنما هي وليدة « حب الشيء الذي يعمي ويصم » بعد لأي من الدهر ، والهدف منه هو إسدال العذر على العمل السيیء ، أعاذنا الله منه .

وقد نحت الخطيب البغدادي مثل هذه الأعذار ، وقال : « قد ثبت أن كراهة من كره الكتابة من الصدر الأول ، إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره ، أو يشتغل عن القرآن بسواه . ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها ، وصحيحها من فاسدها . مع أن القرآن كفى منها ، وصار مهيمناً عليها ، ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته ، لقلة الفقهاء في ذلك الوقت ، والمميزين بين الوحي وغيره ، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ، ولا جالسوا العلماء العارفين ، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن . ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن » (١) .

____________________

(١) تقييد العلم ، للخطيب ، ص ٥٧ .

٧٢

وقد استمر المنع من تدوين الحديث إلى عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ( ٩٩ ـ ١٠١ ) فأحس بضرورة تدوين الحديث فكتب إلى أبي بكر بن حزم في المدينة : « انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه ، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ، ولا تقبل إلا أحاديث النبي ، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً » (١) .

ومع هذا الإصرار المؤكد من الخليفة ، صارت رواسب الحظر السابق المؤكد من قبل الخلفاء الماضين حائلة دون القيام بما أمر به الخليفة فلم يكتب شيء من أحاديث النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) بعد صدور الأمر منه ، إلا صحائف غير منظمة ولا مرتبة ، إلى أن دالت دولة الأمويين وقامت دولة العباسيين ، وأخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم ، فقام المحدثون في سنة مائة وثلاثة وأربعين بتدوين الحديث وفي ذلك قال الذهبي :

« وفي سنة مائة وثلاثة وأربعين شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة ، ومالك الموطأ بالمدينة ، والأوزاعي بالشام ، وابن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة وغيرهما في البصرة ، ومعمر باليمن ، وسفيان الثوري بالكوفة ، وصنف ابن اسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي إلى أن قال : وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة » (٢) .

ومعنى هذا ، أن العالم الإسلامي اندفع فجأة بعد مضي ١٤٣ سنة من هجرة النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) نحو هذا الأمر ، فاشتغل العلماء بجمع الأحاديث والفقه وتدوينهما ، وألفت كتب كثيرة في هذا المجال ، واستمرت تلك الحركة إلى حدود سنة ٢٥٠ ، فجمعت أحاديث كثيرة ، ودونت العقائد على طبق الأحاديث المضبوطة ، فإذا كان هذا هو تاريخ الحديث وتدوينه وانتشاره ، يتبين للقاریء بسهولة أن حديثاً لم يكتب طوال قرن ونصفه كيف تكون حاله مع أعدائه الذين كانوا له بالمرصاد ، وكانوا يكذبون عليه بما يقدرون ، وينشرون

____________________

(١) صحيح البخاري : ج ١ ص ٢٧ .

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ٢٦١ .

٧٣

كل غث وسمين باسم الدين وباسم الرسول ، كما سيوافيك بيانه ، وما قيمة العقائد التي دونت على أساس تلك الأحاديث ؟ .

نحن لا ننكر أن العلماء والمحدثين قاموا بوظيفتهم وواجبهم الديني تجاه السنة النبوية ، وكابدوا وتحملوا المشاق في استخراج الصحيح من السقيم ، لكن العثور على الصحيح بعد هذه الحيلولة الطويلة ، من أشق المشاكل وأصعب الأمور .

وبسبب هذه الحيلولة كلما بعد الناس عن عصر الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) ازداد عدد الأحاديث ، حتى أخرج محمد بن إسماعيل البخاري صحيحه عن ستمائة ألف ( ٦٠٠٠٠٠ ) ولأجل ذلك نرى أن هرم الأحاديث يتصل بزمن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وقاعدة ذلك الهرم تنتهي إلى القرون المتأخرة ، فكلما قربنا من زمن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) نجد الحديث قليلاً ، والعكس بالعكس . وهذا يدل على أن الأحاديث عالت حسب وضع الوضاعين وكذب الكذابين .

كلمتان قيمتان

١ ـ هناك كلمة للدكتور محمد حسين هيكل أماط الستر عن وجه الأحاديث المنسوبة إلى النبي الأكرم وقال :

« وسبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ، ونقده نقداً دقيقاً على الطريقة العلمية ، أن أقدمها ، كتب بعد وفاة النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) بمائة سنة أو أكثر ، وبعد أن فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية . كان اختلاق الروايات والأحاديث بعض وسائلها إلى الذيوع والغلب ، فما بالك بالمتأخر مما كتب في أشد أزمان التقلقل والاضطراب ؟ وقد كانت المنازعات السياسية سبباً فيما لقيه الذين جمعوا الحديث ونفوا زيفه ودونوا ما اعتقدوه صحيحاً منه ، من جهد وعنت أدى إليهما حرص هؤلاء الجامعين على الدقة في التمحيص حرصاً لا يتطرق إليه ريب . ويكفي أن يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاق وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية لجمع

٧٤

الحديث وتمحيصه ، وما رواه بعد ذلك من أنه ألفى الأحاديث المتداولة تربي على ستمائة ألف حديث لم يصح منها أكثر من أربعة آلاف . وهذا معناه أنه لم يصح لديه من كل مائة وخمسين حديثاً إلا حديث واحد .

أما أبو داود فلم يصح لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث . وكثير من هذه الأحاديث التي صحت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم من العلماء ، انتهى بهم إلى نفي كثير منها ، كما كان الشأن في مسألة الغرانيق . فإذا كان ذلك شأن الحديث ، وقد جهد فيه جامعوه الأولون ما جهدوا ، فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة ؟ وكيف يستطاع الأخذ به دون التدقيق العلمي في تمحيصه .

والواقع أن المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأول من الإسلام أدت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييداً لها . فلم يكن الحديث قد دون إلى عهد متأخر من عصر الأمويين . وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه ، ثم لم يجمع إلا في عهد المأمون ، بعد أن أصبح « الحديث الصحيح في الحديث الكذب ، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود » على قول الدارقطني » (١) .

٢ ـ وهناك كلمة أخرى للعلامة الأميني قال : « ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تأليفهم الصحاح والمسانيد من أحاديث كثيرة هائلة ، والصفح عن ذلك الهوش الهائش . قد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث وقال : انتخبته من خمسمائة ألف حديث (٢) . ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار ألفي حديث وسبعمائة وواحداً وستين حديثاً اختارها من زهاء ستمائة ألف حديث (٣) . وفي صحيح مسلم أربعة

____________________

(١) « حياة محمد » تأليف محمد حسين هيكل ص ٤٩ ـ ٥٠ من الطبعة الثالثة عشر .

(٢) طبقات الحفاظ للذهبي ، ج ٢ ص ١٥٤ ، تاريخ بغداد ج ٢ ص ٥٧ المنتظم لابن الجوزي ج ٥ ص ٩٧ .

(٣) إرشاد الساري ج ١ ص ٢٨ وصفة الصفوة ج ٤ ص ١٤٣ .

٧٥

آلاف حديث أصول ، دون المكررات صنفها من ثلاثمائة ألف (١) . وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث ، وقد انتخبها من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث ، وكان يحفظ ألف ألف حديث (٢) . وكتب أحمد بن الفرات ( المتوفّى ٢٥٨ ) ألف ألف وخمسمائة ألف حديث ، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيرها (٣) .

هذا كلام إجمالي عن الحديث ، والتفصيل في تاريخ الحديث وتطوره يترك إلى الكتب المختصة بذلك ، غير أن الذي نركز القول عليه هو الآثار السلبية التي خلفها هذا المنع في المجتمع الإسلامي يوم ذاك ، حتى يقف القاریء على علل تكوّن المذاهب وتشعب الفرق ، وإن من الآثار المهمة حرمان الأمة عن السنة النبوية الصحيحة قرابة قرن ونصف ، وعول الأحاديث حسب جعل الوضاعين والكذابين ، وبالتالي تكوّن العقائد والمذاهب حسبها .

____________________

(١) المنتظم لابن جوزي ج ٥ ص ٣٢ وطبقات الحفاظ للذهبي ج ٢ ص ١٥١ ـ ١٥٧ ، شرح صحيح مسلم للنووي ج ٢١ ص ٣٦ .

(٢) ترجمة أحمد المنقولة من طبقات ابن السبكي المطبوعة في آخر الجزء الأول من مسنده . طبقات الذهبي ج ٢ ص ١٧ .

(٣) خلاصة التهذيب ص ٩ ، ولاحظ الغدير ج ٥ ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣ .

٧٦



العامل الرابع

فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدث عن العهدين

لقد خسر الإسلام والمسلمون من جراء حظر تدوين الحديث ونشره ، خسارة عظمى لا يمكن تحديدها بالأرقام والأعداد . كيف ، وقد انتشرت الفوضى في العقائد ، والأعمال ، والأخلاق ، والآداب ، وصميم الدين ، ولباب الأصول ، كنتيجة لهذا المنع ، لأن الفراغ الذي خلفه هذا العمل ، أوجد أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ، وسخافات مسيحية ، وأساطير مجوسية ، خاصة من ناحية كهنة اليهود ، ورهبان النصارى ، الذين افتعلوا أحاديث كثيرة ونسبوها إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما افتعلوا على لسان النبي الأكرم ( صلی الله عليه وآله وسلم ) من الأساطير وقد وقف على ذلك عدة من الأجلة .

١ ـ يقول الشهرستاني : « وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام ، أحاديث متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه ، وهي كلها مستمدة من التوراة » (١) .

٢ ـ ويظهر من المقدسي وجود تلك العقائد في العرب الجاهليين ، يقول في « البدء والتاريخ » عند الكلام عن شرائع أهل الجاهلية : « كان فيهم من كل ملة ودين وكانت الزندقة والتعطيل في قريش والمزدكية والمجوسية في تميم

____________________

(١) الملل والنحل : ج ١ ص ١١٧ .

٧٧

واليهودية والنصرانية في غسان والشرك وعبادة الأوثان في سائرهم » (١) .

٣ ـ نعم كان لليهود المتظاهرين بالإسلام دور كبير في بث هذه العقائد ، يقول الكوثري : « إن عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤابذة المجوس أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ثم أخذوا بعدهم في بث ما عندهم من الأساطير » (٢) .

٤ ـ قال ابن خلدون ، عندما تكلم عن التفسير النقلي وأنه كان يشتمل على الغث والسمين والمردود : « والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية . وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى ، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل كذلك ، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو مما كانوا يفترون » (٣) .

٥ ـ قال الإمام محمد عبده : « قد وضع الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشاً ونفاقاً وقصدهم بذلك إفساد الدين ، وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين . وقال حماد ابن زيد : وضعت الزنادقة أربعة عشر ألف حديث وهذا بحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبها ، وإلا فقد نقل المحدثون أن زنديقاً واحداً وضع هذا المقدار . قالوا : لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه ، قال وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل الحرام » (٤) . وابن أبي العوجاء هو ربيب حماد بن سلمة المحدث الشهير الذي ينقل الذهبي عن ابن الثلجي قال سمعت عباد بن صهيب

____________________

(١) البدء والتاريخ : ج ٤ ص ٣١ .

(٢) مقدمة تبيين المفتري : ص ٣٠ .

(٣) مقدمة ابن خلدون ، ص ٤٣٩ .

(٤) المنار : ج ٣ ص ٥٤٥ ، ونقله في الأضواء : ص ١١٥ ولعل في قوله « هذا المقدار » تصحيفاً .

٧٨

يقول : إن حماداً كان لا يحفظ وكانوا يقولون إنها دست في كتبه . وقد قيل إن ابن أبي العوجاء كان ربيبه فكان يدس في كتبه (١) .

٦ ـ قال السيد المرتضى : « لما قبض محمد بن سليمان ، وهو والي الكوفة من قبل المنصور ، عبد الكريم بن أبي العوجاء وأحضره للقتل وأيقن بمفارقة الحياة قال : لئن قتلتموني فقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة » (٢) .

٧ ـ يقول ابن الجوزي : « إن عبد الكريم كان ربيباً لحماد بن سلمة وقد دس في كتب حماد بن سلمة » (٣) .

نرى أن المحدثين يروون باسنادهم عن حماد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مرفوعاً : « رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء » . وفي رواية أخرى : « إنّ محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد ، دونه ستر من لؤلؤ قدميه أو رجليه في خضرة » (٤) .

٨ ـ وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري المصري في تقديمه على كتاب « الأسماء والصفات » للحافظ أبي بكر البيهقي : « إن مرويات حماد بن سلمة في الصفات ، تجدها تحتوي على كثير من الأخبار التافهة تتناقلها الرواة طبقة عن طبقة ، مع أنه قد تزوج نحو مائة امرأة ، من غير أن يولد له ولد منهن ، وقد فعل هذا الزواج والنكاح فعله ، بحيث أصبح في غير حديث « ثابت البناني » لا يميز بين مروياته الأصليّة وبين ما دسه في كتبه ربيبه ابن أبي العوجاء ، وربيبه الآخر زيد المدعو بـ « ابن حماد » ، فضلّ بمروياته الباطلة كثير من البسطاء . ويجد المطالع الكريم نماذج شتى من أخباره الواهية في باب التوحيد من كتب الموضوعات المبسوطة وفي كتب الرجال ، وفعلت مرويات نعيم بن

____________________

(١) ميزان الاعتدال : ج ١ ص ٥٩٣ ، ومات حماد عام ١٦٧ .

(٢) أمالي المرتضي : ج ١ ص ١٢٧ ـ ١٢٨ .

(٣) الموضوعات : ص ٣٧ طبع المدينة ، ولاحظ تهذيب التهذيب : ج ٣ ص ١١ ـ ١٦ .

(٤) ميزان الاعتدال : ج ١ ص ٥٩٣ ـ ٥٩٤ ، وهذه الأساطير المزخرفة من مفتعلات الزنادقة نظراء : ابن أبي العوجاء دسوها في كتب المحدثين الإسلاميين ، تعالى عما يقول الظالمون .

٧٩

حماد مثل ذلك ، بل تحمّسه البالغ أدّى به إلى التجسيم ، كما وقع ذلك لشيخ شيخه مقاتل بن سليمان ، وتجد آثار الضرر الوبيل في مروياتهما في كتب الرواة الذين كانوا يتقلدونها من غير معرفة منهم لما هناك وإليك كتاب « الاستقامة » لخشيش بن أصرم ، والكتب التي تسمى « السنة » لعبد الله ( ابن أحمد بن حنبل ) وللخلال ، و « التوحيد » لابن خزيمة وغيرهم مما تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل ، ولا سيما كتاب « النقض » لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسم فإنّه أوّل من اجترأ بالقول « إنّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلّت به بقدرته فكيف على عرش عظيم » هذا بعض ما لعب به أعداء الإسلام في أصول الدين (١) . ولا يقصر عنها كتاب « العلو » للذهبي .

٩ ـ وقال الدكتور أحمد أمين : « اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه ، وكعب الأحبار ، وعبد الله بن سلام ، واتصل التابعون بابن جريج ، وهؤلاء كانت لهم معلومات رووا عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها ، فلم ير المسلمون بأساً من أن يقصوها بجانب آيات القرآن ، فكانت منبعاً من منابع التضخيم » (٢) .

١٠ ـ قال أبو رية : « لما قويت شوكة الدعوة المحمدية ، واشتد ساعدها ، وتحطمت أمامها كل قوة تنازعها ، لم ير من كانوا يقفون أمامها ، ويصدون عن سبيلها ، إلا أن يكيدوا لها عن طريق الحيلة والخداع ، بعد أن عجزوا عن النيل منها بعدد القوة والنزاع . ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ، لم يجدوا بداً من أن يستعينوا بالمكر ، ويتوسلوا بالدهاء ، لكي يصلوا إلى ما يبتغون فهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهروا بالإسلام ، ويطووا نفوسهم على دينهم ، حتى يخفى كيدهم ، ويجوز على المسلمين مكرهم » (٣) .

أوليس ذلك الاستغلال والسيطرة على عقول المسلمين ، هو نتيجة

____________________

(١) نظرة في كتاب « الأسماء والصفات » للبيهقي مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري : ص ٥ ، وقال بمقالة السجزي ابن تيمية في كتابه « غوث العباد » المطبوع بمصر مطبعة الحلبي عام ١٣٥١ .

(٢) ضحى الإسلام : ج ٢ ص ١٣٩ .

(٣) أضواء على السنة المحمدية : ص ١٣٧ .

٨٠