بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: لجنة ادارة الحوزة العلمية بقم المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ولو توفي الرجل عن أولاد صغار بلا وصي ولا تعيين قيم لصغاره فعلى الحاكم الإسلامي تعيين القيم عليهم لئلا تضيع أموالهم ، وعندئذ يسأل فهل الاعتقاد بالأصل الكلي من صميم الدين ؟ وأنه يجب على المسلم أن يعتقد بأن من مات عن أولاد صغار يجب على الحاكم نصب من يلي أمورهم ؟ وعلى فرض كونه بصورته الكلية من صميمه ، فهل الاعتقاد بأن زيداً ولي الصغار عند نصب الحاكم له ، من صميم الدين ، أو أن المطلوب في الفروع هو العمل عند الابتلاء . وأما الاعتقاد التفصيلي بالكبريات والصغريات فغير لازم ؟

ج . مبدأ ظهور هذه العقيدة

لم يكن في عصور الخلفاء الثلاث أي أثر من هذه العقيدة ولم يكن يخطر ببال أحد من المهاجرين والأنصار أنه يجب الاعتقاد بخلافة هذا أو ذاك أو ذلك ، وأن من لم يكن معتقداً بخلافتهم يخرج عن صفوف المؤمنين ويلتحق بالمبدعين . وإنما أوجدت تلك الفكرة يد السياسة بهدف الإزراء بعلي ـ عليه السلام ـ ، وتصحيح خروج معاوية عليه لأخذ ثأر الخليفة . ولعلّ عمرو بن العاص هو أوّل من بذر تلك الفكرة .

ويدل على ذلك ما ذكره المسعودي في كتابه : قال : اجتمع عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل ، فجرى بينهما مناظرات وقد أحضر « عمرو » غلامه لكتابة ما يتفقان عليه ، فقال عمرو بن العاص ـ بعد الشهادة بتوحيده سبحانه ونبوة نبيه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : ونشهد أن أبا بكر خليفة رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) عمل بكتاب الله وسنة رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) حتى قبضه الله إليه ، وقد أدى الحق الذي عليه .

قال أبو موسى : اكتب ثم قال في عمر مثل ذلك ، فقال أبو موسى : اكتب ثم قال عمرو : واكتب : وأن عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) ورضاً منهم ، وأنه كان مؤمناً ، فقال أبو موسى الأشعري : ليس هذا مما قعدنا له ، قال عمرو : والله لا بد من أن يكون مؤمناً أو كافراً فقال أبو موسى : كان مؤمناً ،

٣٠١

قال عمرو : فمره يكتب . قال أبو موسى : اكتب قال عمرو : فظالماً قتل عثمان أو مظلوماً ؟ قال أبو موسى : بل قتل مظلوماً . قال عمرو : أو ليس قد جعل الله لولي المظلوم سلطاناً يطلب بدمه ؟ قال أبو موسى : نعم ، قال عمرو : فهل تعلم لعثمان ولياً أولى من معاوية ؟ قال أبو موسى : لا ، قال عمرو : أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتى يقتله أو يعجز عنه ؟ قال أبو موسى : بلى ، قال عمرو للكاتب : اكتب وأمره أبو موسى فكتب ، قال عمرو : فإنا نقيم البينة على أن علياً قتل عثمان . . . الخ (١) .

وهذا النص من حجة التاريخ وغيره يعرب عن أن الاعتقاد بخلافة الخلفاء إنما برز للوجود في جو مشحون بالعداء والبغضاء والمنافسة والمغالبة ، حتى جعل ذلك الداهية الماكر ، الاعتقاد بخلافة الشيخين وسيلة لانتزاع الإقرار بخلافة الثالث من الخلفاء ، ولم يكن الانتزاع مقصوداً بالذات بل كان أخذه ذريعة لانتزاع الاعترافات الأخرى من أنه قتل مظلوماً وأنه ليس له ولي يطلب بدمه أولى من معاوية وأن علياً هو القاتل . . . إلى آخره .

ثم إن الأجواء السياسية المخالفة لأمير المؤمنين عليه السلام أخذت تروج تلك العقيدة من أجل الإطاحة به عليه السلام وإثبات صحة قيام معاوية وصحة أعماله وقيامه ونصبه فصار ذلك المستمسك السياسي بمرور الزمان ، عقيدة دينية ، سقته الأوضاع السياسية الأموية والعباسية ، إلى أن ذكرت في الكتب والمؤلفات وعدّت من صميم الدين .

وقد استفحلت أهمية الإيمان بخلافة الخلفاء ولا سيما الثالث منهم في عهد معاوية عندما كتب إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته . فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرئون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاءً حينئذٍ أهل الكوفة لكثرة من فيها من شيعة علي ( عليه السلام ) فاستعمل معاوية عليهم زياد بن سمية وضم إليها البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي : ج ٢ ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧ .

٣٠٢

عارف ، لأنه كان منهم أيام علي ( عليه السلام ) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم .

وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه فلبثوا بذلك حيناً .

ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية . فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد إليهم من مناقب عثمان وفضله .

فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله (١) .

كل ذلك يثبت أن الإيمان بخلافتهم ولا سيما الثالث منهم ، كان وليد

____________________

(١) الشرح الحديدي : ج ١١ ص ٤٤ ـ ٤٥ نقله عن كتاب الأحداث لأبي الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني .

٣٠٣

سياسات غاشمة انطلقت من البيت الأموي وأشياعه ضد البيت العلوي وأتباعه . وبذلك يسهل تصديق ما ذكره الكاتب الكبير محمود أبو رية في كتابه القيم « أضواء على السنة المحمدية » : إن الأهواء الشخصية والأغراض المذهبية كان لها أثر بعيد في وضع الحديث على رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) لكي يؤيد كل فريق رأيه ، ويحقق مآربه بحق وبغير حق . . وبصدق وبغير صدق (١) .

وفي الختام للقاریء الكريم أن يسأل من جعل الاعتقاد بخلافة الخلفاء الأربع من صميم الدين دون سواهم ، وأن يسأل عن وجه التفاضل والتمييز بينهم وبين سائر الخلفاء ، الذين تسلموا دفة الخلافة عن طريق الوراثة ، أو تنصيص سابق منهم على اللاحق ، أو ببيعة عدة من الشاميين وغيرهم . وهذا عمر بن عبد العزيز قد تسلم دفة الحكم بأحد هذه الطرق مع أنهم لا يجعلون الإيمان بخلافته من صميم الإيمان ، مع أنه من قريش وقال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان . وقال ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة (٢) .

اللهم إلا أن يعتذروا عن هذا التخصيص بأن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك » (٣) لكن في سنده سعيد بن جمهان ، قال أبو حاتم الرازي : « شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به » (٤) .

ثم إن هنا نكتتين نبه عليهما العلامة الروحاني في كتابه بحوث مع أهل السنة والسلفية : ( ص ٢٤ ـ ٢٥ ) نأتي بهما معاً :

____________________

(١) أضواء على السنة المحمدية .

(٢) جامع الأصول : ج ٤ ص ٤٣٧ ـ ٤٣٨ .

(٣) المصدر السابق .

(٤) الجرح والتعديل : ج ٤ ص ١٠ .

٣٠٤

١ ـ الحق الذي يراه المتتبع في التاريخ هو أن عقيدة خلافة الخلفاء الثلاث وقداستهم البالغة ، قد أقحمت في عقائد أهل السنة إقحاماً ، وإنما كان ذلك رد فعل ومحاكاة لعقيدة الشيعة في علي ( عليه السلام ) وأولاده الطاهرين ، ولذا صيغت هذه العقيدة أولاً عند أهل السنة في قالب الرد والمعارضة لعقيدة الشيعة فقط ، ثم ألحقوا علياً ( عليه السلام ) بهم في عصر متأخر .

وبتفصيل أكثر نقول : إن جعل خلافة الشيخين من العقائد ، لم يكن في القرن الأول . وغاية ما كان يقال فيهما هو أن خلافتهما كانت صحيحة .

هذا فضلاً عن عقيدتهم في خلافة عثمان وعلي ، بل إن عثمان لم يكن بذلك المرضي عند الناس .

ثم إن المرجئة كانت تشك في عدالة عثمان وعلي ، بل في إيمانهما (١) . ونحلة الإرجاء كانت شائعة في عامة الناس آنذاك قبل غلبة أهل الحديث ، بل لقد كان لهم القدح المعلى حتى بعد وجود أهل الحديث والسنة في كثير من البلاد . حتى قال الأمير نشوان الحميري : « وليس كورة من كور الإسلام إلّا والمرجئة غالبون عليها إلا القليل » (٢) .

٢ ـ تقرر الأمر في نحلة أهل الحديث على قبول خلافة علي ( عليه السلام ) بعد ما كانوا في الغالب من العثمانية ينكرون خلافة علي ويظهر أن قبول خلافة علی ( عليه السلام ) كان على يد الإمام أحمد بن حنبل ، فقد ذكر ابن أبي يعلى بالإسناد عن وديزة الحمصي قال : « دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي ـ رضي الله عنه ـ فقلت له : يا أبا عبد الله إن هذا لطعن على طلحة والزبير ، فقال : بئس ما قلت وما نحن وحرب القوم وذكرها ، فقلت : أصلحك الله إنما ذكرناها حين ربعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمة قبله ، فقال لي : وما يمنعني من ذلك ، قال : قلت : حديث ابن

____________________

(١) طبقات النساء : ج ٦ ص ١٥٤ .

(٢) الحور العين : ص ٢٠٣ .

٣٠٥

عمر (١) فقال لي : عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قد سمى نفسه أمير المؤمنين فأقول أنا ليس للمؤمنين بأمير . فانصرفت عنه » (٢) .

وهذا يعرب عن أن مسألة التربيع كانت مسألة ثقيلة على هذا المحدث وقد كان غير الكوفيين على هذا المذاق .

ومما يؤيد عدم كون خلافة الخلفاء من صميم الدين : أن أحمد بن حنبل في رسالته المؤلفة حول مذاهب أهل السنة لم يذكرها في عداد العقائد الإسلامية بل بعدما أكمل بيان العقائد قال : ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) والكف عما شجر بينهم ، فمن سب أصحاب رسول الله أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي ، حبهم سنة ، والدعاء لهم قربة ، والاقتداء بهم وسيلة ، والأخذ بآثارهم فضيلة ، وخير هذه الأمة ـ بعد نبيها ـ أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر عمر ، وخيرهم بعد عمر عثمان ، وخيرهم بعد عثمان علي رضوان الله عليهم خلفاء راشدون مهديون . . (٣) .

وأمّا البحث عن الدليل الدال على أفضلية بعضهم على بعض وفق تسلسل زمانهم فسيوافيك الكلام فيه في الجزء السادس .

*       *      *

( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

( فاطر : ٢٣ )

____________________

(١) الحديث المنسوب إلى ابن عمر هو « كنا نعد ورسول الله حيّ وأصحابه متوافرون : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت » .

(٢) طبقات الحنابلة : ج ١ ص ٣٩٣ .

(٣) كتاب السنة ص ٤٩ .

٣٠٦

خاتمة المطاف

فيها أمور :

الأول ـ المذهب الحنبلي في مجال العقائد والفقه

إن للمذهب السني على الإطلاق دعامتين :

١ ـ المذهب الفقهي

لم يكن لأهل السنة والجماعة في القرون الأولى إلى القرن السابع مذهب فقهي خاص يقتفون أثره بل كانت لهم مذاهب فقهية مختلفة متشتتة غير أن يد السياسة حصرت المذاهب الفقهية في الأربعة المعروفة وهي : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وألغت سائر المذاهب ولم تعترف بها . قال المقريزي : « استمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة ٦٦٥ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة ، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة ، بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم » (١) .

____________________

(١) الخطط المقريزية : ج ٢ ص ٣٣٣ و ٣٣٤ و ٣٤٤ .

٣٠٧

وهذه الكلمة الأخيرة أعني قوله : « وتحريم ما عداها » تكشف عن رزية فادحة ألمت بالإسلام حيث إن المسلمين قد عاشوا قرابة سبعة قرون ، ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلا خالقهم ولم يسمع أحد في القرنين الأولين اسم هذه المذاهب . ثم في ما بعدهما كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الشرعية في غاية من السعة والحرية وكان العامي يقلد من اعتمد من المجتهدين ، وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالكتاب والسنة ولم يعلم وجه لهذا الحصر وأنه ليس لأحد من المقلدين أو الفقيه المجتهد أن يخرج عن حد تقليد الأئمة الأربعة ، فبأي دليل شرعي صار اتباع المذاهب الأربعة واجباً مخيراً والرجوع إلى غيرها حراماً باتاً مع أنا نعلم أن هذه المذاهب نشرت في ما نشرت من المناطق بالقهر والغلبة من الحكومات الإسلامية فالحكومة التي كان يروقها الفقه الحنفي كانت تباشر نشره وتكبت غيره وتصد الطريق أمامه والحكومة التي كان يروقها غير الحنفي تعمل مثل عمل الحكومة الأولى وقد أشعلت السياسات الخادعة نيران العداء بين أتباع المذاهب الأربعة طول القرون (١) وعاد وعاظ السلاطين ينحتون لكل إمام من الأئمة الأربعة فضائل ومناقب صدرت عن النبي قبل ميلادهم وإمامتهم (٢) .

هذا حال الدعامة الأولى ولا نطيل البحث فيها ، والذي يجب أن يستنتج مما ذكرناه هو أن من يحلم بخلود الدين وبقاء قوانينه ويرغب في غضاضة الدين وطراوته وصيانته عن الاندراس وغناء المسلمين عن موائد الأجانب ، يجب عليه

____________________

(١) لاحظ تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلامة الطهراني : ص ١٤٠ والحوادث الجامعة لابن الفوطي : ص ٢١٦ في حوادث سنة ٦٤٥ واقرأ فيها ملحمة النزاع بين اتباع الأئمة الأربعة ، ولا تنس ما أنشده علي بن الجرجاني عن بعضهم :

مثل الشافعي في العلماء

مثل البدر  في نجوم السماء

قل لمن قاسه بنعمان جهلاً

أيقاس الضياء بالظلماء

تاريخ بغداد ج ٢ ص ٦٩ .

(٢) لاحظ تاريخ بغداد ج ١ ص ٤١ « مناقب أبي حنيفة » وج ٢ ص ٦٩ « مناقب الشافعي » وقد نقل أحاديث في مناقبهما ولم يكن من الإمامين أثر إلا في عالم الذر .

٣٠٨

السعي في فتح باب الاجتهاد سواء أوافق رأي الأئمة الأربعة أم خالفها (١) .

٢ ـ المذهب العقائدي

ونعني به الأصول التي يعتنقها أهل السنة في هذا الجيل والأجيال المتقدمة إلى زمن الإمام أحمد حول المبدأ والمعاد وأسمائه سبحانه وصفاته وما يرجع إلى الإنسان في عاجله وآجله .

ولا شك أن هذه الأصول قد دونت ورتبت في الكتب الكلامية للحنابلة بصورة بسيطة ، وفي كتب الأشاعرة بصورة علمية مبرهنة وقد قدمنا إليك عصارات مدوّنة من عقائدهم .

والذي نركز عليه هو أن هذه الأصول على اختلاف في عددها وإن صارت عقيدة لأهل السنة في هذه الأجيال ولكنها أصول اجتمعوا عليها منذ تصدر أحمد بن حنبل منصة الإمامة في العقائد والمعارف واستخرجها من السنة ودونها في رسائله وذكر أنها عقائد أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها ، المعروفين بها ، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي إلى يومنا هذا من علماء الحجاز والشام وغيرهم .

ولكن الحقيقة غير ذلك بل كان المسلمون أعني بهم أصحاب الحديث والسنة قبل تصدر أحمد لمنصة الإمامة في مجال العقائد على فرق وشيع ولم تكن هذه الأصول برمتها مقبولة عندهم وإنما الإمام أحمد وحدهم على تلك الأصول وقضى على سائر المذاهب الدارجة بين أهل الحديث أنفسهم ، فنسبة هذه الأصول إلى إمام الحنابلة أقرب إلى الحقيقة من نسبتها إلى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين . والغافل عن تاريخ حياة الإمام وتأثيره في نفوس المسلمين وما كسب بعد الإفراج من العطف والحنان يتخيل أن هذه الأصول مذهب أهل السنة مع أنه لم يكن لهذه الأصول بهذا النحو ، أثر قبله بل كان المحدثون

____________________

(١) لاحظ مفاهيم القرآن : ج ٣ ص ٢٩٠ ـ ٣٠٥ تجد فيها بغيتك .

٣٠٩

مختلفين في كثير من هذه الأصول . فصار الإجماع والاتفاق من جانب الإمام سبباً لتناسي ما كانوا عليه من العقائد .

إن الإمام أحمد لما ظهر منه الصمود والثبات في طريق العقيدة ( عدم خلق القرآن وقدمه ) وتحمل المحنة (١) إلى أن أفرج عنه في أيام المتوكل وقربه الخليفة إلى بلاطه صار ذلك سبباً لشهرته وإمامته في مجال العقائد وقد جعلت المحنة من ذلك الرجل الصمود ، بطلاً سامياً تهوي إليه الأفئدة ، وتخضع له الأعناق أضف إليه أنه جند بلاط الخليفة جهوده لترويج أفكاره وآرائه فعند ذلك صار أحمد إمام السنة وناصرها فصارت السنة ما قاله أحمد ، والبدعة ما هجره أحمد ، وكأنهم نسوا أو تناسوا ما كان عليه أسلافهم من الفرق المختلفة .

وعلى ضوء هذا فليس المذهب الحنبلي العقائدي ، مذهباً لعامة أهل الحديث وأهل السنة وإنما هو مذهب الإمام أحمد وقد أخذت هذه الأصول بالانتشار والشيوع عندما انقلب الوضع أيام المتوكل وبعده لصالحه ولولا أن المحنة استبطلت الرجل وخلقت منه رجلاً مثالياً شجاعاً في طريق العقيدة لكان المذهب السني في الناحية العقائدية غير مجمع على هذه الأصول التي يتخيل أنها أصول اتفق عليها أصحاب النبي والتابعون لهم بإحسان إلى زمن إمامة أحمد .

وإن كنت في ريب مما ذكرنا ـ أي اختلاف آراء أهل الحديث وتشتت مذاهبهم في مجال العقائد ـ فاستمع لما يقوله السيوطي ويذكره في هذا المجال ونحن نأتي بملخص ما ذكره ذلك المحدث الخبير وهو يكشف عن وجود المسالك المختلفة والأهواء المتضادة عند أهل الحديث وأنهم لم يكونوا قط على وتيرة واحدة حسبما وحدهم إمام الحنابلة فهم كانوا بين :

مرجئي يرى أن العمل ليس جزءاً من الإيمان وأنه لا تضر معه معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ونقدم إليك بعض أسمائهم من الذين عاشوا قبل إمامة أحمد أو عاصروه ، نظراء :

____________________

(١) سيوافيك تفصيل ذلك في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة .

٣١٠

١ ـ إبراهيم بن طهمان ٢ ـ أيوب بن عائذ الطائي ٣ ـ ذر بن عبد الله المرهبي ٤ ـ شبابة بن سوار ٥ ـ عبد الحميد بن عبد الرحمن ٦ ـ أبو يحيى الحماني ٧ ـ عبد المجيد بن عبد العزيز ٨ ـ ابن أبي راود ٩ ـ عثمان بن غياث البصري ١٠ ـ عمر بن ذر ١١ ـ عمر بن مرة ١٢ ـ محمد بن حازم ١٣ ـ أبو معاوية الضرير ١٤ ـ ورقاء بن عمر اليشكري ١٥ ـ يحيى بن صالح الوحاظي ١٦ ـ يونس بن بكير .

إلى ناصبي لعلي وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام نظراء :

١ ـ إسحاق بن سويد العدوي ٢ ـ بهز بن أسد ٣ ـ حريز بن عثمان ٤ ـ حصين بن نمير الواسطي ٥ ـ خالد بن سلمة الفأفاء ٦ ـ عبد الله بن سالم الأشعري ٧ ـ قيس بن أبي حازم .

إلى متشيع يحب علياً وأولاده ويرى الولاء فريضة نزل بها الكتاب ويرى الفضيلة لعلي في الإمامة والخلافة نظراء :

١ ـ إسماعيل بن أبان ٢ ـ إسماعيل بن زكريا الخلقاني ٣ ـ جرير بن عبد الحميد ٤ ـ أبان بن تغلب الكوفي ٥ ـ خالد بن محمد القطواني ٦ ـ سعيد بن فيروز ٧ ـ أبو البختري ٨ ـ سعيد بن أشوع ٩ ـ سعيد بن عفير ١٠ ـ عباد بن العوام ١١ ـ عباد بن يعقوب ١٢ ـ عبد الله بن عيسى ١٣ ـ ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ١٤ ـ عبد الرزاق بن همام ١٥ ـ عبد الملك بن أعين ١٦ ـ عبيد الله بن موسى العبسي ١٧ ـ عدي بن ثابت الأنصاري ١٨ ـ علي بن الجعد ١٩ ـ علي بن هاشم بن البريد ٢٠ ـ الفضل بن دكين ٢١ ـ فضيل بن مرزوق الكوفي ٢٢ ـ فطر بن خليفة ٢٣ ـ محمد بن جحادة الكوفي ٢٤ ـ محمد بن فضيل بن غزوان ٢٥ ـ مالك بن إسماعيل أبو غسان ٢٦ ـ يحيى بن الخراز .

إلى قدري ينسب محاسن العباد ومساويهم ومعاصيهم إلى أنفسهم ولا يسند فعلهم إلى الله سبحانه نظراء :

١ ـ ثور بن زيد المدني ٢ ـ ثور بن يزيد الحمصی ٣ ـ حسان بن عطية

٣١١

المحاربي ٤ ـ الحسن بن ذكوان ٥ ـ داود بن الحصين ٦ ـ زكريا بن إسحاق ٧ ـ سالم بن عجلان ٨ ـ سلام بن مسكين ٩ ـ سيف بن سلمان المكي ١٠ ـ شبل بن عباد ١١ ـ شريك بن أبي نمر ١٢ ـ صالح بن كيسان ١٣ ـ عبد الله بن عمرو ١٤ ـ أبو معمر عبد الله بن أبي لبيد ١٥ ـ عبد الله بن أبي نجيح ١٦ ـ عبد الأعلى ابن عبد الأعلى ١٧ ـ عبد الرحمن بن إسحاق المدني ١٨ ـ عبد الوارث بن سعيد الثوري ١٩ ـ عطاء بن أبي ميمونة ٢٠ ـ العلاء بن الحارث ٢١ ـ عمرو بن زائدة ٢٢ ـ عمران بن مسلم القصير ٢٣ ـ عمير بن هاني ٢٤ ـ عوف الأعرابي ٢٥ ـ كهمس بن المنهال ٢٦ ـ محمد بن سواء البصري ٢٧ ـ هارون بن موسى الأعور النحوي ٢٨ ـ هشام الدستوائي ٢٩ ـ وهب بن منبه ٣٠ ـ يحيى بن حمزة الحضرمي .

إلى جهمي ينفي كل صفة لله سبحانه ويعتقد بخلق القرآن وحدوثه نظير : بشر بن السرى .

إلى خارجي ينكر على أمير المؤمنين مسألة التحكيم ويتبرأ منه ومن عثمان ومن طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة ومعاوية وغيرهم نظراء :

١ ـ عكرمة مولى ابن عباس ٢ ـ الوليد بن كثير .

إلى واقفي لا يقول في التحكيم أو في القرآن بشيء من الحدوث والقدم وإنه مخلوق أو غير مخلوق نظير : علي بن هشام .

إلى متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمة الجور ولا يباشره بنفسه نظير : عمران بن حطان (١) .

إلى غير ذلك من ذوي الأهواء والآراء الذين قضى عليهم الدهر وعلى آرائهم ومذاهبهم بعد ما وصل أحمد بن حنبل إلى قمة الإمامة في العقائد . فصار أهل الحديث مجتمعين تحت الأصول التي استخرجها أحمد وجعل الكل كتلة واحدة ، بعدما كانوا على سبل شتى .

____________________

(١) تدريب الراوي للسيوطي : ج ١ ص ٣٢٨ .

٣١٢

هذه ملحمة أهل الحديث وقصة مذهبهم الفقهي والعقائدي والأسف أن المفكرين من أهل السنة يتخيلون أن هذه الأصول التي يدينون بها باسم عقيدة السلف الإسلامية قبل التحاق الأشعري به وباسم عقيدة الإمام الأشعري بعد التحاقه هي نفس الأصول التي كان عليها المسلمون الأول إلى زمن الإمام أحمد وزمن الملتحق بهم الشيخ الأشعري .

وهذا التاريخ الواضح يفرض على المفكرين المتعطشين لمعرفة الحق دراسة هذه الأصول من رأس حتى لا يعبأوا بما جاء في هذه الكتب مما عليه ماركة « عقيدة السلف » أو « عقيدة الصحابة والتابعين » أو تابعي التابعين .

والذي يوضح ذلك هو أن كل واحد من هذه الأصول رد لمذهب نجم في القرون الأولى فلأجل التبرّي منه صار خلافه شعاراً لمذهب أهل السنة .

إمامة أحمد في الفقه

لا شك أن الفقه المنسوب إلى أحمد هو أحد المذاهب الفقهية المعروفة وتقتفيه جماعة كثيرة في الحجاز ونجد والشامات ولكن هذا الفقه المدون لا يمت إلى الفقه إلا بصلة ضعيفة وذلك لأن الإمام لم يكن إمام الفقه والاجتهاد بل كان إمام الحديث فكان يعد أكبر محدث في عصره وأعظم حافظ للسنة وأما الاجتهاد بالمعنى المصطلح الذي كان يتمتع به سائر الأئمة الأربعة فلم يكن متوفراً فيه إلا ببعض مراتبه الضئيلة التي لا يصح عده معها أحد الأئمة الفقهاء ، فإن للاجتهاد مؤهلات وشرائط محررة في محلها ، أعظمها وجود ملكة قدسية يقتدر معها الإنسان على استخراج الفروع عن الأصول وأما الإفتاء بالحكم في ضوء النص الصريح الوارد فيه فليس إلا مرتبة ضعيفة من الاجتهاد ، والاجتهاد المطلق يستدعي ذهناً وقاداً مشققاً للفروع ومستخرجاً إياها من الأصول إلى غير ذلك مما يقوم به أئمة الفقه والمعروف من الإمام أحمد غير ذلك فإن اجتهاده كان أشبه باجتهاد الأخباريين والمحدثين الذين يفتون بنص الحديث ويتوقفون في غير مورده .

وأما المذهب الفقهي الحنبلي الدارج بين الحنابلة فقد جمع أصوله تلميذ

٣١٣

الإمام « الخلال » من هنا وهناك ومن الفتاوى المتشتتة الموجودة بين أيدي الناس حتى جعله مذهباً للإمام أحمد وجاء من جاء بعده فاستثمرها واستغلها حتى صار مذهباً من المذاهب .

كلام للذهبي

قال : « وقد دون عنه كبار تلامذته مسائل وافرة في عدة مجلدات . ثم ذكر أسامي عدة من تلاميذه الذين جمعوا مسائل الإمام وفتاواه ، وقال : جمع أبو بكر الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد وفتاويه وكلامه في العلل والرجال والسند والفروع حتى حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرة ورحل إلى النواحي في تحصيله وكتب عن نحو من مائة نفس من أصحاب الإمام ثم كتب كثيراً من ذلك عن أصحاب أصحابه ، وبعضه عن رجل ، عن آخر ، عن آخر ، عن الإمام ثم أخذ في ترتيب ذلك وتهذيبه وتبويبه وعمل كتاب العلم وكتاب العلل وكتاب السنة ، كل واحد من الثلاثة في ثلاثة مجلدات » (١) .

فلو صح ما ذكره الذهبي فهو يعرب عن أن الإمام أحمد لم يكن رجلاً متربعاً على منصة دراسة الفقه وأصوله وقائماً بتربية الفقيه وأقصى ما كان يتمتع به هو الإجابة عن الأسئلة التي كانت ترد عليه من العراق وخارجه في ضوء النصوص الموجودة عنده فتفرقت الأجوبة طبق الأسئلة في البلاد وجمعها « الخلال » في كتاب خاص .

هذا ما ذكره الذهبي ولكن الظاهر عن غير واحد ممن ترجم الإمام أنه كان يتحفظ عن الفتيا ويتزهد عنه ولعله يرى مقام الإفتاء أرفع وأعلى من نفسه .

روى الخطيب في تاريخه بالإسناد قال : « كنت عند أحمد بن حنبل فسأله رجل عن الحلال والحرام فقال له أحمد : سل عافاك الله غيرنا . قال الرجل إنما نريد جوابك يا أبا عبد الله . قال : سل عافاك الله غيرنا سل الفقهاء سل أبا

____________________

(١) سير أعلام النبلاء : ج ١١ ص ٣٣٠ .

٣١٤

ثور » (١) وهذا يعرب عن أن ديدن الإمام في حياته هو التحفظ والتجنب عن الإفتاء إلا إذا قامت الضرورة أو كان هناك نصوص واضحة في الموضوع وهذا لا يجتمع مع ما نسب إليه الذهبي من أن « الخلال » كتب عنه الكتب التي ذكرها . وهناك تحقيق بارع للشيخ أبي زهرة في كتابه حول حياة ابن حنبل نذكر خلاصة ما جاء فيه :

« إن أحمد لم يصنف كتاباً في الفقه يعد أصلاً يؤخذ منه مذهبه ويعد مرجعه ولم يكتب إلا الحديث وقد ذكر العلماء أن له بعض كتابات في موضوعات فقهية منها المناسك الكبير والمناسك الصغير ورسالة صغيرة في الصلاة كتبها إلى إمام صلى هو وراءه فأساء في صلاته وهذه الكتابات هي أبواب قد توافر فيها الأثر وليس فيها رأي أو قياس أو استنباط فقهي بل اتباع لعمل ، وفهم لنصوص . ورسالته في الصلاة والمناسك الكبير والصغير هي كتب حديث وكتبه التي كتبها كلها في الحديث في الجملة وهي المسند والتاريخ والناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر في كتاب الله وفضائل الصحابة والمناسك الكبير والصغير والزهد وله رسائل يبين مذهبه في القرآن والرد على الجهمية والرد على الزنادقة .

وإذا كان أحمد لم يدون في الفقه كتاباً ولم تنشر آراؤه ولم يملها على تلامذته كما كان يفعل أبو حنيفة فإن الاعتماد في نقل فقهه إنما هو على عمل تلاميذه فقط وهنا نجد أن الغبار يثار حول ذلك النقل من نواح متعددة .

إن المروي عن ذلك الإمام الأثري ـ الذي كان يتحفظ في الفتيا فيقيد نفسه بالأثر ويتوقف حيث لا أثر ولا نص شاملاً عاماً ولا يلجأ إلى الرأي إلا حين الضرورة القصوى التي تلجئه إلى الإفتاء ـ كثير جداً والأقوال المروية عنه متضاربة وذلك لا يتفق مع ما عرف عنه من عدم الفتوى إلا فيما يقع من المسائل ولا يفرض الفروض ولا يشقق الفروع ولا يطرد العلل ولقد كان يكثر من قول « لا أدري » فهذه الكثرة لا تتفق مع المعروف منه من الإقلال في الفتيا والمعروف عنه من قول « لا أدري » ومع المشهور عنه من أنه لا يفتي بالرأي إلا للضرورة القصوى .

____________________

(١) تاريخ بغداد : ج ٢ ص ٦٦ .

٣١٥

إن الفقه المنقول من أحمد قد تضاربت أقواله فيه تضارباً يصعب على العقل أن يقبل نسبة كل هذه الأقوال إليه . وافتتح أي كتاب من كتب الحنابلة واعمد إلى باب من أبوابه تجده لا يخلو من عدة مسائل اختلفت فيها الرواية بين لا ونعم ـ أي بين النفي المجرد والإثبات المجرد ـ .

هذه نواح قد أثارت غباراً حول الفقه الحنبلي وإذا أضيف إليها أنّ كثيراً من القدامى لم يعدوا « أحمد » من الفقهاء فابن جرير الطبري لم يعده منهم و « ابن قتيبة » الذي كان قريباً من عصره جداً لم يذكره في عصابة الفقهاء بل عده في جماعة المحدثين ولو كانت تلك المجموعة الفقهية من أحمد ما ساغ لأولئك أن يحذفوا أحمد عن سجل الفقهاء (١) .

الثاني ـ شكوى تاريخية للأشاعرة ضد الحنابلة

لم يزل النزاع قائماً على قدم وساق بين الحشوية والحنابلة من أهل الحديث من جهة ومتكلمي الأشاعرة من جهة أخرى ـ مع أن إمام الأشاعرة كان قد أعلن اقتفاء أثر إمام الحنابلة ـ ونار الجدال مسعرة بين الفريقين ، عبر العصور المختلفة وذلك أن الطائفة الأولى كانت متمسكة بروايات التشبيه والتجسيم ، ومثبتة لله سبحانه ما لا تصح نسبته إليه ، وكانت الطائفة الثانية تتبرأ من هذه الأمور ولقد بلغ السيل الزبى في عصر أبي نصر عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الكريم القشيري ، رئيس الأشاعرة في وقته فقام فطاحل الأشاعرة في عصره ، تعضيداً ومساندة لشيخهم برفع الشكوى إلى الوزير نظام الملك مما تبثه الحنابلة من سموم التشبيه والتجسيم وتمت الرسالة بتوقيع كثير من علمائهم التي تبين جوهر العقيدة الحنبلية في ذلك العصر .

أما الوالد فهو أبو القاسم القشيري النيشابوري وهو من أعاظم الأشاعرة في عصره ( ولد عام ٣٧٦ ) من العرب الذين وردوا خراسان وسكنوا النواحي

____________________

(١) ابن حنبل ، حياته وعصره تأليف محمد أبي زهرة ١٦٨ ـ ١٧١ .

٣١٦

كان يعرف الأصول على مذهب الأشعري والفقه على مذهب الشافعي ( توفي عام ٤٦٥ ) (١) .

وأما الولد فهو أبو نصر عبد الرحيم بن أبي القاسم القشيري ويعرّفه ابن عساكر بأنه إمام الأئمة وحبر الأمة تخرج على إمام الحرمين حتى حصل طريقته في المذهب وتوفي عديم النظير فريد الوقت سنة ٥١٤ (٢) يقول ابن عساكر :

وهذه الرسالة بخط بعض أصحاب الإمام أبي نصر عبد الرحيم ابن الأستاذ القشيري فيها خطوط الأئمّة بتصحيح مقاله وموافقته في اعتقاده على الوجه الذي هو مذكور في هذا الكتاب فأوقفنا عليه شيخنا أبو محمد القاسم واسمعناه وأمرنا بكتابته فاكتتبناه على ما هو عليه وأثبتناه في هذه الترجمة اللائقة به وقد رفع الإمام أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه هذا المحضر إلى نظام الملك منتصرين للشيخ أبي نصر بن القشيري فعاد جواب نظام الملك إلى فخر الدولة وإلى الإمام أبي إسحاق بإنكار ما وقع ، والتشديد على خصوم ابن القشيري وذلك سنة ٤٦٩ وإليك « المحضر » .

شكوى الأشاعرة من المتوسمين بالحنبلية

بسم الله الرحمن الرحيم يشهد من ثبت اسمه ونسبه وصح نهجه ومذهبه واختبر دينه وأمانته من الأئمة الفقهاء والأماثل العلماء وأهل القرآن والمعدلين الأعيان وكتبوا خطوطهم المعروفة بعباراتهم المألوفة مسارعين إلى إداء الأمانة وتوخوا في ذلك ما تحظره الديانة مخافة قوله تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ) إنّ جماعة من الحشوية والأوباش الرعاع المتوسمين بالحنبلية أظهروا ببغداد من البدع الفظيعة والمخازي الشنيعة ما لم يتسمح به ملحد فضلاً عن موحد ولا تجوز به قادح في أصل الشريعة ولا معطل ونسبوا كل من ينزه الباري تعالى وجل عن النقائص والآفات وينفي عنه الحدوث والتشبيهات

____________________

(١) التبيين ص ٢٧١ ـ ٢٧٦ .

(٢) المصدر السابق ص ٣٠٨ ـ ٣١٠ .

٣١٧

ويقدسه عن الحلول والزوال ويعظمه عن التغير من حال إلى حال وعن حلوله في الحوادث وحدوث الحوادث فيه إلى الكفر والطغيان ومنافاة أهل الحق والإيمان وتناهوا في قذف الأئمة الماضين وثلب أهل الحق وعصابة الدين ولعنهم في الجوامع والمشاهد والمحافل والمساجد والأسواق والطرقات والخلوة ، والجماعات .

ثم غرهم الطمع والإهمال ومدهم في طغيانهم الغي والضلال إلى الطعن فيمن يعتضد به أئمة الهدى وهو للشريعة العروة الوثقى ، وجعلوا أفعاله الدينية معاصي دنية وترقوا من ذلك إلى القدح في الشافعي رحمة الله عليه وأصحابه واتفق عود الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر ابن الأستاذ الإمام زين الإسلام أبي القاسم القشيري رحمة الله عليه من مكة حرسها الله فدعا الناس إلى التوحيد وقدس الباري عن الحوادث والتحديد ، فاستجاب له أهل التحقيق من الصدور الأفاضل السادة الأماثل ، وتمادت الحشوية في ضلالتها والإصرار على جهالتها وأبوا إلا التصريح بأن المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل ، وأنه ينزل بذاته ويتردد على حمار في صورة شاب أمرد بشعر قطط وعليه تاج يلمع وفي رجليه نعلان من ذهب وحفظ ذلك عنهم وعللوه ودونوه في كتبهم وإلى العوام ألقوه وأن هذه الأخبار لا تأويل لها وأنّها تجري على ظواهرها وتعتقد كما ورد لفظها وأنه تعالى يتكلم بصوت كالرعد وكصهيل الخيل وينقمون على أهل الحق لقولهم إن الله تعالى موصوف بصفات الجلال منعوت بالعلم والقدرة والسمع والبصر والحياة والإرادة والكلام ، وهذه الصفات قديمة وإنه يتعالى عن قبول الحوادث ولا يجوز تشبيه ذاته بذات المخلوقين ولا تشبيه كلامه بكلام المخلوقين .

ومن المشهور المعلوم : أن الأئمة الفقهاء على اختلاف مذاهبهم في الفروع كانوا يصرحون بهذا الاعتقاد ويدرسونه ظاهراً مكشوفاً لأصحابهم ومن هاجر من البلاد إليهم ولم يتجاسر أحد على إنكاره ولا تجوز متجوز بالرد عليهم دون القدح والطعن فيهم وإن هذه عقيدة أصحاب الشافعي رحمة الله عليه يدينون الله تعالى بها ويلقونه باعتقادها ويبرأون إليه من سواها من غير شك ولا

٣١٨

انحراف عنها وما لهذه العصابة مستند ولا للحق مغيث يعتمد إلا الله تعالى ورأفة المجلس السامي الأجلي العالمي العادلي القوامي النظامي الرضوي أمتعه الله بحياة يأمن خطوبها باسمة فلا يعرف قطوبها فإن لم ينصر ما أظهره ويشيد ما أسسه وعمره بأمر جزم وعزم حتم يزجر أهل الغواية عن غيهم ويردع ذوي العناد عن بغيهم ويأمر بالمبالغة في تأديبهم رجع الدين بعد تبسمه قطوباً وعاد الإسلام كما بدأ غريباً وعيونهم ممتدة إلى الجواب بنيل المأمول والمراد وقلوبهم متشوفة إلى النصرة والإمداد فإن هو لم ينعم النظر في الحادث الذي طرقهم ويصرف معظم هممه العالية إلى الكارث الذي أزعجهم وأقلقهم ويكشف عن الشريعة هذه الغمة ويحسم نزغات الشيطان بين هذه الأمة ، كان عن هذه الظلامة يوم القيامة مسؤولاً .

إذ قد أديت إليه النصائح والأمانات من أهل المعارف والديانات وبرئوا من عهدة ما سمعوه بما أدوه إلى سمعه العالي وبلغوه والحجة لله تعالى متوجهة نحوه بما مكنه في شرق الأرض وغربها وبسط قدرته في عجمها وعربها وجعل إليه القبض والإبرام واصطفاه من جميع الأنام فما ترد نواهيه وأوامره ولا تعصى مراسمه وزواجره ، والله تعالى بكرمه يوفقه ويسدده ويؤيد مقاصده ويرشده ويقف فكرته وخواطره على نصرة ملته وتقوية دينه وشريعته بمنه ورأفته وفضله ورحمته .

صورة الخطوط

١ ـ الأمر على ما ذكر في هذا المحضر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري أكثر الله في أئمة الدين مثله من عقد المجالس وذكر الله عز وجل بما يليق به من توحيده وصفاته ونفي التشبيه عنه وقمع المبتدعة من المجسمة والقدرية وغيرهم ولم أسمع منه غير مذهب أهل الحق من أهل السنة والجماعة وبه أدين الله عز وجل وإياه اعتقد وهو الذي أدركت أئمة أصحابنا عليه واهتدى به خلق كثير من المجسمة وصاروا كلهم على مذهب أهل الحق ولم يبق من المبتدعة إلا نفر يسير فحملهم الحسد والغيظ على سبه وسب الشافعي وأئمة أصحابه ونصار مذهبه وهذا أمر لا يجوز الصبر عليه

٣١٩

ويتعين على المولى أعز الله نصره التنكيل بهذا النفر اليسير الذين تولوا كبر هذا الأمر وطعنوا في الشافعي وأصحابه لأن الله عز وجل أقدره وهو الذي برأ في هذا البلد بإعزاز المذهب بما بنى فيه من المدرسة التي مات كل مبتدع من المجسمة والقدرية غيظاً منها وبما يرتفع فيها من الأصوات بالدعاء لأيامه ، استجاب الله فيه صالح الأدعية ومتى أهمل نصرهم لم يكن له عذر عند الله عز وجل . وكتب إبراهيم بن علي الفيروزآبادي .

٢ ـ الأمر على ما ذكر في هذا المحضر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري جمل الله الإسلام به وكثر في أئمة الدين مثله من عقد المجالس وذكر الله عز وجل بما وصف به نفسه من التنزيه ونفي التشبيه عنه وقمع المبتدعة من المجسمة والقدرية وغيرهم ولم نسمع منه غير مذهب أهل الحق من أهل السنة والجماعة وبه ندين الله عز وجل وهو الذي كان عليه أئمة أصحابنا واهتدى به خلق كثير من المجسمة واليهود والنصارى فصاروا أكثرهم على مذهب أهل الحق ولم يبق من المبتدعة إلا نفر يسير فحملهم الحسد والغيظ على سبه وسب الشافعي رضي الله عنه ونصار مذهبه حتى ظهر ذلك بمدينة السلام وهذا أمر لا يحل الصبر عليه ويتعين على من بيده قوام الدين والنظر في أمور المسلمين أن ينظر في هذا ويزيل هذا المنكر فإن من يقدر على إزالته ويتوقف فيه يأثم ولا نعلم اليوم من جعل الله سبحانه أمر عباده إليه إلا المولى أعز الله أنصاره فيتعين عليه الإنكار على هذه الطائفة والتنكيل بهم لأن الله سبحانه أقدره على ذلك وهو المسؤول عنه غداً إن توقف فيه وصار قصد المبتدعة أكثره معاداة الفقهاء الذين هم سكان المدرسة الميمونة فإنهم يموتون غيظاً منهم لما هم عليه من مذاكرة علم الشافعي وإحياء مذهبه . وكتب الحسين بن محمد الطبري .

٣ ـ الأمر على ما شرح في صدر هذا المحضر . وكتب عبيد الله بن سلامة الكرخي ـ

٤ ـ الأمر على ما ذكر في هذا المحضر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري أدام الله حراسته من عقد المجالس

٣٢٠