بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.

(٢)

عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

عدالة الصحابة كلّهم بلا استثناء ، ونزاهتهم من كلّ سوء هي أحد الأُصول التي يتديّن بها أهل الحديث ، وقد راجت تلك العقيدة بينهم حتى اتخذها الإمام الأشعري أحد الأُصول التي يبتني عليها مذهب أهل السنّة جميعاً (١) ، ونحن نعرض هذه العقيدة على الكتاب أوّلاً ، وعلى السنّة النبوية الصحيحة ثانياً ، وعلى التاريخ ثالثاً حتى يتجلّى الحقّ بأجلى مظاهره إن شاء اللّه تعالى ، ولكن قبل أن ندخل في صلب المسألة نقدّم تعريف الصحابي فنقول :

من هو الصحابي؟

إنّ هناك تعاريف مختلفة للصحابي نأتي ببعضها على وجه الإجمال :

١ ـ قال سعيد بن المسيب : « الصحابي ، ولا نعدّه إلاّ من أقام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين ».

٢ ـ قال الواقدي : رأينا أهل العلم يقولون : كلّ من رأى رسول اللّه وقد أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب رسول اللّه ، ولو

____________

١ ـ مقالات الإسلاميين : ج ١ص ٣٢٣ يقول : « ويعرفون حقّ السلف الذين اختارهم اللّه سبحانه بصحبة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عمّا شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم »; لاحظ أيضاً كتاب « السنّة » : ٤٩.

٢٠١

ساعة من نهار ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدّمهم في الإسلام.

٣ ـ قال أحمد بن حنبل : أصحاب رسول اللّه كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.

٤ ـ قال البخاري : من صحب رسول اللّه أو رآه من المسلمين فهو أصحابه.

٥ ـ وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب : لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة ، قليلاً كان أو كثيراً ، ثمّ قال : ومع هذا فقد تقرر للأُمّة عرف فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ فيمن كثرت صحبته ولا يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خطى ، أو سمع منه حديثاً فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم على من هذه حاله ، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول ومعمول به وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه إلاّ حديثاً واحداً ».

٦ ـ وقال صاحب الغوالي : لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثمّ يكفي في الاسم من حيث الوضع ، الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصصه بمن كثرت صحبته.

قال الجزري بعد ذكر هذه النقول ، قلت : وأصحاب رسول اللّه على ما شرطوه كثيرون فإنّ رسول اللّه شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء ، وجاء إليه « هوازن » مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم ، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً ، وكلّ من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلّهم لهم صحبة ، وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان ، وكذلك حجة الوداع ، وكلّهم له صحبة. (١)

ولا يخفى أنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعد عليه اللغة والعرف العام ، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن

__________________

١ ـ أُسد الغابة : ج ١ ص١١ ـ ١٢ ، طبع مصر.

٢٠٢

جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه مدّة مديدة ، فلا تصدق على من ليس له حظ إلاّالرؤية عن بعيد أو سماع الكلام أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة أو الإقامة معه زمناً قليلاً.

وأظن أنّ في هذا التبسيط والتوسع غاية سياسية ، لما سيوافيك أنّ النبي قد تنبّأ بارتداد ثلة من أصحابه بعد رحلته فأرادوا بهذاالتبسيط ، صرف هذه النصوص إلى الأعراب وأهل البوادي ، الذين لم يكن لهم حظ من الصحبة إلاّلقاء قصير وسيأتي أنّ هذه النصوص راجعة إلى الملتفين حوله الذين كانوا مع النبي ليلاً ونهاراً ، صباحاً ومساءً إلى حدّ كان النبي يعرفهم بأعيانهم وأشخاصهم وأسمائهم ، فكيف يصحّ صرفها إلى أهل البوادي والصحاري من الأعراب ، فتربّص حتى تأتيك النصوص.

وعلى كلّ تقدير فلسنا في هذا البحث بصدد تعريف الصحابة وتحقيق الحقّ بين هذه التعاريف غير أنّا نركز الكلام على أنّ أهل السنّة يقولون بعدالة هذا الجم الغفير المدعوين باسم الصحابة ، وإليك كلماتهم :

عدالة الصحابة جميعهم

قال ابن عبد البر : نثبت عدالة جميعهم. (١)

وقال ابن الأثير : إنّ السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال الحرام إلى غير ذلك من أُمور الدين ، إنّما تثبت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها. وأوّلهم والمقدّم عليهم أصحاب رسول اللّه ، فإذاجهلهم الإنسان كان بغيرهم أشدّجهلاً وأعظم إنكاراً ، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم ، هم وغيرهم من الرواة حتى يصحّ العمل بما رواه الثقاة منهم وتقوم به الحجّة ، فإنّ المجهول لا تصحّ روايته ولا ينبغي العمل بما رواه. والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاّفي الجرح والتعديل ، فإنّهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح ، لأنّ اللّه عزّوجلّ ورسوله زكياهم وعدلاهم ، وذلك مشهور

__________________

١ ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب : ج١ ص٢ في هامش « الإصابة ».

٢٠٣

لا نحتاج لذكره. (١)

وقال الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث من الإصابة : اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة. وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك فقال : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل اللّه لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم ، ثمّ نقل عدّة آيات حاول بها إثبات عدالتهم وطهارتهم جميعاً إلى أن قال : روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسو لاللّه فاعلم أنّه زنديق ، وذلك أنّ الرسول حقّ ، والقرآن حقّ ، وما جاء به حقّ ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (٢)

هذه كلمات القوم وكم لها من نظائر نتركها طلباً للاختصار.

تقييم نظرية عدالة الصحابة كلهم

تقييم هذه النظرية يتم بتبيين أُمور :

١ ـ إنّ البحث عن عدالة الصحابي أو جرحه ليس لغاية إبطال الكتاب والسنّة ولا لإبطال شهود المسلمين ، لما سيوافيك من أنّ الكتاب شهد على فضل عدّة منهم ، وزيغ آخرين وهكذا السنّة ، إنّما الغاية في هذا البحث هي الغاية في البحث عن عدالة التابعين ومن تلاهم من رواة القرون المختلفة ، فالغاية في الجميع هي التعرّف على الصالحين والطالحين ، حتى يتسنّى لنا أخذ الدين عن الصلحاء والتجنب عن أخذه عن غيرهم ، فلو قام الرجل بهذا العمل وتحمل العبء الثقيل ، لما كان عليه لوم فلو قال أبو زرعة ـ مكان قوله الآنف ـ هذا القول : « إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد من أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه ، أو خيره أو شره ، حتى يأخذ دينه عن

__________________

١ ـ أُسد الغابة : ج ٢ص ٣.

٢ ـ الإصابة : ج ١ص ١٧.

٢٠٤

الخيرة الصادقين ، ويحترز عن الآخرين ، فاعلم أنّه من جملة المحقّقين في الدين والمتحرين للحقيقة » ، لكان أحسن وأولى بل هو الحسن والمتعيّن.

ومن غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً ، يريد التثبت في أُمور الدين ، والتحقيق في مطالب الشريعة ، بالزندقة وأنّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب والسنّة ، وما شهود المسلمين إلاّالآلاف المؤلّفة من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يضر بالكتاب والسنّة جرح لفيف منهم وتعديل قسم منهم ، وليس الدين القيم قائماً بهذا الصنف من المجروحين. ما هكذا تورد يا سعد الإبل!!.

٢ ـ إنّ هذه النظرية تكوّنت ونشأت من العاطفة الدينية التي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجرّتهم إلى تبنّي تلك الفكرة وقد قيل : من عشق شيئاً ، عشق لوازمه وآثاره.

إنّ صحبة الصحابة لم تكن بأكثر ولا أقوى من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط فما أغنتهما عن اللّه شيئاً ، قال سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثلاً لِلّذينَ كَفَرُوا امرأَةَ نُوح وَامرأَةَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيئاً وَقيلَ ادخُلا النّار مَعَ الدّاخلين ). (١)

إنّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بالزواج من النبي ، وقد قال سبحانه في شأن أزواجه : ( يا نِساءَ النَّبيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَة مُبَيِّنة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسيراً ). (٢)

٣ ـ إنّ أساتذة العلوم التربوية كشفوا عن قانون مجرب ، وهو أنّ الإنسان الواقع في إطار التربية ، إنّما يتأثر بعواملها إذا لم تكتمل شخصيته الروحية والفكرية ، لأنّ النفوذ في النفوس المكتملة الشخصية ، والتأثير عليها والثورة على أفكارها وروحياتها ، يكون صعباً جدّاً ( ولا أقول أمراً محالاً ) بخلاف ما إذا كان الواقع في إطارها صبياً يافعاً أو شاباً في عنفوان شبابه ، إذ عندئذ يكون قلبه

__________________

١ ـ سورة التحريم : الاية١٠.

٢ ـ سورة الأحزاب : الاية ٣٠.

٢٠٥

وروحه كالأرض الخالية تنبت ما ألقي فيها ، وعلى هذا الأساس لا يصحّ لنا أن نقول : إنّ الصحبة والمجالسة وسماع بعض الآيات والأحاديث ، أوجدت ثورة عارمة في صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأزالت شخصياتهم المكونة طيلة سنين في العصر الجاهلي ، وكونت منهم شخصيات عالية تعد مثلاً للفضل والفضيلة.

مع أنّهم كانوا متفاوتين في السن ومقدار الصحبة ، مختلفين في الاستعداد والتأثر ، وحسبك أنّ بعضهم أسلم وهو صبي لم يبلغ الحلم ، وبعضهم أسلم وهو في أوّليات شبابه ، كما أسلم بعضهم في الأربعينات والخمسينات من أعمارهم ، إلى أن أسلم بعضهم وهو شيخ طاعن في السن يناهز الثمانين والتسعين.

فكما أنّهم كانوا مختلفين في السن عند الانقياد للإسلام ، كذلك كانوا مختلفين أيضاً في مقدار الصحبة فبعضهم صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بدء البعثة إلى لحظة الرحلة ، وبعضهم أسلم بعد البعثة وقبل الهجرة ، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة وربما أدركوا من الصحبة سنة أو شهراً أو أيّاماً أو ساعة ، فهل يصحّ أن نقول : إنّ صحبة ما ، قلعت ما في نفوسهم جميعاً من جذور غير صالحة وملكات رديةوكونت منهم شخصيات ممتازة أعلى وأجل من أن يقعوا في إطار التعديل والجرح؟!

إنّ تأثير الصحبة عند من يعتقد بعدالة الصحابة كلّهم أشبه شيء بمادة كيمياوية تستعمل في تحليل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب ، فكأنّ الصحبة قلبت كلّ مصاحب إلى إنسان مثالي يتحلّى بالعدالة ، وهذا ممّا يردّه المنطق والبرهان ، وذلك لأنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز ( فَلَو شاء لَهَداكم أَجْمَعين ) (١) بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحقّ وصبهم في بوتقات الكمال مستعيناً بالأساليب الطبيعية والإمكانيات الموجودة كتلاوة القرآن الكريم ، والنصيحة بكلماته النافذة ، وسلوكه القويم وبعث رسله ودعاة دينه إلى الأقطار ونحو

____________

١ ـ سورة الأنعام : الاية ١٤٩.

٢٠٦

ذلك ، والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، فلا يصحّ لنا أن نرمي الجميع بسهم واحد.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي : أنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوّة الإيمان ورسوخ العقيدة إلى درجات عالية ، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة ، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.

هذا هو مقتضى التحليل حسب الأُصول النفسية والتربوية غير أنّ البحث لا يكتمل ، ولا يصحّ القضاء البات إلاّ بالرجوع إلى القرآن الكريم حتى نقف على نظره فيهم كما تجب علينا النظرة العابرة إلى كلمات الرسول في حقّهم ، وملاحظة سلوكهم وحياتهم في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده.

الصحابة في الذكر الحكيم

نرى أنّ الذكر الحكيم يصنف صحابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويمدحهم في ضمن أصناف نأتي ببعضها :

١ ـ السابقون الأوّلون

يصف الذكر الحكيم السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بأنّ اللّه رضي عنهم وهم رضوا عنه ، قال عزّمن قائل : ( وَالسّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنْصارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسان رَضَيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتَها الأَنْهارُ خالِدينَ فِيها أَبداً ذلِكَ الفَوزُ العَظيم ) (١).

__________________

١ ـ سورة التوبة : الاية ١٠٠.

٢٠٧

٢ ـ المبايعون تحت الشجرة

يصف سبحانه جماعة من الصحابة الذين بايعوه تحت الشجرة بنزول السكينة عليهم ، ويقول في محكم كتابه : ( لَقَدَ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنينَ إِذْيُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكينَة عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتحاً قَريباً ). (١)

٣ ـ المهاجرون

وهؤلاء هم الذين يصفهم تعالى ذكره بقوله : ( لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَموالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ). (٢)

٤ ـ أصحاب الفتح

هؤلاء هم الذين وصفهم اللّه سبحانه وتعالى في آخر سورة الفتح بقوله : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطأَهُ فَ آزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاع لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجراً عَظيماً ). (٣)

الأصناف الأُخر للصحابة

فالناظر المخلص المتجرّد عن كلّ رأي مسبق ، يجد في نفسه تكريماً لهؤلاء الصحابة غير أنّ القضاء البات في عامة الصحابة يستوجب النظر إلى كلّ الآيات

__________________

١ ـ سورة الفتح : الاية ١٨.

٢ ـ سورة الحشر : الاية ٨.

٣ ـ سورة الفتح : الاية ٢٩.

٢٠٨

القرآنية الواردة في حقّهم فعندئذ يتبيّن لنا أنّ هناك أصنافاً أُخرى من الصحابة غير ما سبق ذكرها ، تمنعنا من أن نضرب الكلّ بسهم واحد ، ونصف الكلّ بالرضا وبالرضوان. وهذا الصنف من الآيات يدلّ بوضوح على وجود مجموعات من الصحابة تضاد الأصناف السابقة في الخلقيات والملكات والسلوك والعمل ، وإليك لفيفاً منهم :

١ ـ المنافقون المعروفون

المنافقون المعروفون بالنفاق الذين نزلت في حقّهم سورة المنافقين ، قال سبحانه : ( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافقينَ لَكاذِبُونَ ... ). (١)

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن وجود كتلة قوية من المنافقين بين الصحابة آنذاك وكان لهم شأن فنزلت سورة قرآنية كاملة في حقّهم.

٢ ـ المنافقون المختفون

يدل بعض الآيات على أنّه كانت بين الأعراب القاطنين خارج المدينة ومن نفس أهل المدينة ، جماعة مردوا على النفاق وكان النبي الأعظم لا يعرف بعضهم ، ومن تلك الآيات قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ حَولَكُمْ مِنَ الأَعرابِ مُنافِقُونَ ومنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النّفاق (٢) لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ). (٣)

لقد أعطى القرآن الكريم عناية خاصة بعصبة المنافقين وأعرب عن نواياهم وندد بهم في السور التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمّد ، الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر ، والمنافقين.

__________________

١ ـ سورة المنافقون : الاية ١.

٢ ـ مردوا على النفاق : تمرّنوا عليه وتمارسوا عليه.

٣ ـ سورة التوبة : الاية ١٠١.

٢٠٩

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي ، بين معروف عرف بسمة النفاق ووصمة الكذب ، وغير معروف بذلك ، ولكن مقنّع بقناع التظاهر بالإيمان والحب للنبي ، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم ، وهناك ثلة من المحقّقين كتبوا حول النفاق والمنافقين رسائل وكتابات ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم ، فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم (١) ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على كثرة أصحاب النفاق وتأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي ، وعلى ذلك لا يصحّ لنا الحكم بعدالة كلّ من صحب النبي مع غض النظر عن تلك العصابة المجرمة ، المتظاهرة بالنفاق أو المختفية في أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ مرضى القلوب

وهذه المجموعة من الصحابة لم يكونوا من زمرة المنافقين بل كانوا يلونهم في الروحيات والملكات مع ضعف في الإيمان والثقة بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال سبحانه في حقّهم : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّغُرُوراً ). (٢)

فأنّى لنا أن نصف مرضى القلوب الذين ينسبون خلف الوعد إلى اللّه سبحانه وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتقوى والعدالة؟

٤ ـ السمّاعون

تلك المجموعة كانت قلوبهم كالريشة في مهب الريح تتمايل تارة إلى هؤلاء وأُخرى إلى أُولئك بسبب ضعف إيمانهم ، وقد حذّر الباري عزّوجلّ المسلمين منهم حيث قال عزّمن قائل ، واصفاً إيّاهم ب ـ « السمّاعون » لأهل

__________________

١ ـ النفاق والمنافقون : تأليف الأُستاذ إبراهيم علي سالم المصري.

٢ ـ سورة الأحزاب : الاية ١٢.

٢١٠

الفتنة : ( إِنَّمَا يَستأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَارتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَردَّدُونَ* ولو أرَادُوا الخُرُوجَ لأَعدُّوا لَهُ عُدَّّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبّطهُمْ وَقيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدينَ* لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّخَبَالاً ولأَوضَعوْا خِلاَلَكُمْ يَبغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَليمٌ بِالظّالِمِينَ ) (١) وذيل الآية دليل على كون السمّاعين من الظالمين لا من العدول.

٥ ـ خالطو العمل الصالح بغيره

وهؤلاء هم الذين يقومون بالصلاح والفلاح تارة ، والفساد والعيث مرّة أُخرى ، فلأجل ذلك خلطوا عملاً صالحاً بعمل سيِّء قال سبحانه : ( وَآخَرونَ اعْتَرفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ). (٢)

٦ ـ المشرفون على الارتداد

إنّ بعض الآيات تدلّ على أنّ مجموعة من الصحابة كانت قد أشرفت على الارتداد يوم دارت عليهم الدوائر ، وكانت الحرب بينهم وبين قريش طاحنة فأحسّوا بضعفهم وقد أشرفوا على الارتداد ، عرّفهم الحقّ سبحانه بقوله : ( وَطاِئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتهُمْ أَنْفُسهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِليَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شيء قُلْ إنِ الأَمْرَ كُلَّهُ للّهِ يخفونَ في أَنفُسِهِمْ ما لا يبدُونَ لكَ يَقُولُونَ لَو كانَ لَنا مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ ما قُتِلْنَا هَاهُنا ). (٣)

٧ ـ الفاسق

إنّ القرآن الكريم يحث المؤمنين وفي مقدّمتهم الصحابة الحضور ، على التحرز من خبر الفاسق حتّى يتبيّن ، فمن هذا الفاسق الذي أمر القرآن بالتحرّز منه؟ اقرأ أنت ما نزل حول الآية من شأن النزول واحكم بما هو الحقّ.

____________

١ ـ سورة التوبة : الاية ٤٥ ـ ٤٧.

٢ ـ سورة التوبة : الاية ١٠٢.

٣ ـ سورة آل عمران : الاية ١٥٤.

٢١١

قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوماً بِجَهالة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ). (١)

فإنّ من المجمع عليه بين أهل العلم أنّه نزل في حقّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وذكره المفسرون في تفسير الآية فلا نحتاج إلى ذكر المصادر.

كما نزل في حقّه قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مَؤمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوونَ ) (٢) ، نقل الطبري في تفسيره بإسناده أنّه كان بين الوليد وعلي كلام ، فقال الوليد : أنا أبسط منك لساناً وأحد منك سناناً وأرد منك للكتيبة. فقال علي : « اسكت فإنّك فاسق » فأنزل اللّه فيهما : ( أَفَمَنْ كانَ مَؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُون ). (٣)

وقد نظم الحديث حسان بن ثابت ( شاعر عصر الرسالة ) وقال :

أنزل اللّه والكتاب عزيز

في علي وفي الوليد قرآناً

فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقاً

وعلي مبوّأ إيماناً

ليس من كان مؤمناً عرف

اللّه كمن كان فاسقاً خواناً

سوف يدعى الوليد بعد قليل

وعلي إلى الحساب عياناً

فعلي يجزى بذاك جناناً

ووليد يجزى بذاك هواناً (٤)

أفهل يمكن لباحث حر ، التصديق بما ذكره ابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر ، وفي مقدمتهم أبو زرعة الرازي الذي هاجم المتفحّصين المحقّقين في أحوال الصحابة واتّهمهم بالزندقة.

__________________

١ ـ سورة الحجرات : الاية ٦.

٢ ـ سورة السجدة : الاية ١٨.

٣ ـ تفسير الطبري : ج٢١ص ٦٢ ، وتفسير ابن كثير : ج٣ص ٤٥٢.

٤ ـ « تذكرة الخواص » سبط ابن الجوزي : ص ١١٥; « كفاية » الكنجي : ص ٥٥ و « مطالب السؤول » لابن طلحة : ص ٢٠ و « شرح النهج » ، الطبعة القديمة : ج٢ص١٠٣; « جمهرة الخطب » لأحمد زكي : ج٢ص٢٣. لاحظ « الغدير » : ج٢ص٤٢.

٢١٢

٨ ـ المسلمون غير المؤمنين

إنّ القرآن يعد جماعة من الأعراب الذين رأوا النبي وشاهدوه وتكلّموا معه ، مسلمين غير مؤمنين وأنّهم بعد لم يدخل الإيمان في قلوبهم قال سبحانه : ( قالَتِ الأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوآ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلتكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). (١)

أفهل يصحّ عدّ عصابة غير مؤمنين من العدول الأتقياء؟!

٩ ـ المؤلّفة قلوبهم

اتّفق الفقهاء على أنّ المؤّلفة قلوبهم ممّن تصرّف عليهم الصدقات قال سبحانه : ( إِنَّما الصَدقات لِلْفُقَراءِ وَالمَساكينَ وَالعامِلينَ عَلَيهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغارِمينَ وَفي سَبيلِ اللّهِ وَابنِ السَّبيل فَريضةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَليمٌ حَكيم ). (٢)

والمراد من « المؤلّفةِ قُلُوُبُهمْ » : الذين كانوا في صدر الإسلام ممّن يظهرون الإسلام ، يتألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم ، وهناك أقوال أُخر فيهم متقاربة والكلّ يهدف إلى الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلاّ بالعطاء. (٣)

١٠ ـ المولّون أمام الكفّار

إنّ التولي عن الجهاد والفرار منه ، من الكبائر الموبقة التي ندد بها سبحانه بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُولَّوهُمُ الأَدبَارَ * وَمَنْ يُولّهِمْ يَومئذ دُبُرَهُ إِلاّمُتَحَرِّفاً لّقِتَال أَوْ مُتَحْيّزاً إِلى فِئة فَقَدْ بَ آءَ بِغَضب مِنَ اللّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ). (٤)

__________________

١ ـ سورة الحجرات : الاية ١٤.

٢ ـ سورة التوبة : الاية ٦٠.

٣ ـ تفسير القرطبي : ج ٨ص١٨٧. لاحظ : المغني لابن قدامة : ج ٢ص٥٥٦.

٤ ـ سورة الأنفال : الاية ١٥ ـ ١٦.

٢١٣

إنّ التحذير من التولي والفرار من الزحف ، والحث على الصمود أمام العدو ، لم يصدر من مصدر الوحي إلاّ بعد فرار مجموعة كبيرة من صحابة النبي في غزوة « أُحد » و « حنين ».

أمّا الأوّل : فيكفيك قول ابن هشام في تفسير الآيات النازلة في أُحد : قال : ثمّ أنّبهم على الفرار عن نبيهم وهم يدعون ، لا يعطفون عليه لدعائه إيّاهم فقال : ( إِذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَى أحَد والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ ). (١)

وأمّا الثاني : فقد قال ابن هشام فيه أيضاً فلمّا انهزم الناس ورأى من كان مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جفاة أهل مكة ، الهزيمة تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وصرخ جبلة ابن حنبل : ألا بطل السحر اليوم ... (٢)

أفبعد هذا يصحّ أن يعد جميع الصحابة بحجة أنّهم رأوا نور النبوة ، عدولاً أتقياء؟!

قال القرطبي في تفسيره : قد فر الناس يوم « أحد » وعفا اللّه عنهم ، وقال اللّه فيهم يوم حنين : « ثمّ ولّيتم مُدبرين » ثمّ ذكر فرار عدّة من أصحاب النبي من بعض السرايا. (٣)

هذا الإمام الواقدي يرسم لنا تولّي الصحابة منهزمين ويقول : فقالت أُمّ الحارث : فمر بي عمر بن الخطاب فقلت له : يا عمر ما هذا؟ فقال عمر : أمر اللّه. وجعلت أمّ الحارث تقول : يا رسول اللّه من جاوز بعيري فأقتله. (٤)

__________________

١ ـ سورة آل عمران : الاية ١٥٣.

٢ ـ سيره ابن هشام : ج٣ص١١٤ ، و ج٤ص٤٤٤ ، ولاحظ التفاسير.

٣ ـ تفسير القرطبي : ج ٧ص٣٨٣.

٤ ـ مغازي الواقدي : ج ٣ص٩٠٤. إنّ تعليل الفرار من الزحف بقضاء اللّه يشبه تعليل عبّادَالأوثان شركهم به كما في قوله سبحانه حاكياً عن المشركين : ( لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا ) ( الأنعام : الاية ١٤٨ ) وتلزم من ذلك تبرئة العصاة والكفّار ، لأنّ أعمالهم كلّها بقضاء منه.

٢١٤

هذه هي الأصناف العشرة من صحابة النبي ممّن لا يمكن توصيفهم بالعدالة والتقوى ، أتينا بها في هذه العجالة مضافاً إلى الأصناف المضادة لها ، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة وسورة النساء وغيرها من الآيات القرآنية فترى فيها أنّ الإيمان بعدالة الصحابة مطلقاً خطأ في القول ، وزلة في الرأي ، يضاد نصوص الذكر الحكيم ولم تكن الصحابة إلاّ كسائر الناس فيهم صالح تقي ، بلغ القمة في التقى والنزاهة ، وفيهم طالح شقي ، سقط إلى هوة الشقاءوالدناءة.

ولكن الذي يميّز الصحابة عن غيرهم أنّهم رأوا نور النبوة وتشرّفوا بصحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشاهدوا معجزاته في حلبة المباراة بأُمّ أعينهم ، ولأجل ذلك تحمّلوا مسؤولية كبيرة أمام اللّه وأمام الأجيال المعاصرة لهم واللاحقة بهم ، فإنّهم ليسوا كسائر الناس ، فزيغهم وميلهم عن الحقّ أشدّ لا يعادل زيغ أكثر الناس وانحرافهم ، وقد قال سبحانه في حقّ أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : ( يا نِساءَ النَّبيَّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّساء ... ) (١) فلو انحرف هؤلاء فقد انحرفوا في حال شهدوا النور ، ولمسوا الحقيقة ، وشتان الفرق بينهم وبين غيرهم.

الصحابة في السنة النبوية

إذا راجعنا الصحاح والمسانيد نجد أنّ أصحابها أفردوا باباً بشأن فضائل الصحابة ، إلاّ أنّهم لم يفردوا باباً في مثالبهم بل أقحموا ما يرجع إلى هذه الناحية في أبواب أُخر ، ستراً لمثالبهم ، وقد ذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحيحه في باب الفتن ، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض ، والوضع الطبيعي لجمع الأحاديث وترتيبها ، كان يقتضي عقد باب مستقل للمثالب في جنب الفضائل حتى يطلع القارئ على قضاء السنّة حول صحابة النبي الأكرم.

__________________

١ ـ سورة الأحزاب : الاية ٣٢.

٢١٥

روى أبو حازم عن سهل بن سعد قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي فرطكم على الحوض من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم ... قال أبو حازم : فسمع النعمان بن أبي عياش وأناأحدّثهم بهذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول؟ فقلت : نعم قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول : إنّهم منّي فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم. (١)

وظاهر الحديث أنّ المراد بقرينة « بدّل بعدي » أصحابه الذي عاصروه وصحبوه وكانوا معه مدّة ثمّ مضوا.

روى البخاري ومسلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي ـ أو قال من أُمّتي ـ فيحلؤون عن الحوض فأقول يا ربّ أصحابي فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ». (٢)

ثمّ قال : وللبخاري : أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : « بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم فقال : هلم! فقلت : أين؟ فقال : إلى النار واللّه ، فقلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى; ثمّ إذا زمرة أُخرى ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين؟ قال : إلى النار واللّه ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلاّمثل همل النعم ». (٣)

وظاهر الحديث « حتى إذا عرفتهم » وقوله « ارتدّوا على أدبارهم

__________________

١ ـ جامع الأُصول لابن الأثير : ج ١١ كتاب الحوض في ورود الناس عليه ص١٢٠ ، رقم الحديث ٧٩٧٢. و « الفرط » : المتقدّم قومه إلى الماء ، ويستوي فيه الواحد والجمع ، يقال رجل فرط وقوم فرط.

٢ ـ جامع الأُصول ج ١١ص١٢٠ ، رقم الحديث ٧٩٧٣.

٣ ـ جامع الأُصول : ج ١١ص ١٢١ ، و « همل النعم » كناية عن أنّ الناجي عدد قليل ، وقد اكتفينا من الكثير بالقليل ، ومن أراد الوقوف على ما لم نذكره فليرجع إلى « جامع الأُصول ».

٢١٦

القهقرى » أنّ الذين أدركوا عصره وكانوا معه ، هم الذين يرتدّون بعده.

الصحابة والتاريخ المتواتر

كيف يمكن عدّالصحابة جميعاً عدولاً والتاريخ بين أيدينا نرى أنّ بعضهم ظهر عليه الفسق في حياة النبي وبعده ، كوليد بن عقبة. أمّا الأوّل فقد عرفت نزول الآية في حقّه; وأمّا الثاني فروى أصحاب السير والتاريخ أنّ الوليد بن عقبة أيّام ولايته بالكوفة شرب الخمر وقام ليصلي بالناس صلاة الفجر فصلّى أربع ركعات ، وكان يقول في ركوعه وسجوده : اشربي واسقني ، ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلم ، وقال : هل أزيدكم ... إلى آخر ما ذكروه. (١)

وبعضهم ظهرت عليه سمة الارتداد عندما بدت علائم الهزيمة عند المسلمين فقال : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر (٢) ، وقال الآخر : ألا بطل السحر. (٣)

وهذا رسول اللّه يخاطب ذي الخويصرة عندما قال للنبي في تقسيم غنائم « حنين » : اعدل ، بقوله : « ويحك إن لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟! ثمّ قال : فإنّه يكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة ». (٤)

وهذا أبو سفيان يضرب برجله قبر حمزة عليه‌السلام ويقول : ذق عقق إنّ الملك الذي كنّا نتنازع عليه أصبح اليوم بيد صبياننا. (٥)

__________________

١ ـ الكامل لابن الأثير : ج ٢ص٥٢ أُسد الغابة : ج ٥ص٩١ وغيرهما. وقد أقام الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عليه الحد في خلافة عثمان بإصرار من الناس وإلحاح منهم لئلاّ تتعطل الحدود.

٢ ـ سيرة ابن هشام : ج ٤ص ٤٤٣ والقائل أبو سفيان.

٣ ـ سيرة ابن هشام : ج ٤ص٤٤٤ والقائل كلدة بن الحنبل فقال له صفوان : اسكت فض اللّه فاك.

٤ ـ سيرة ابن هشام : ج ٤ص ٤٩٦.

٥ ـ قاموس الرجال : ج ١٠ص ٨٩ نقلاً عن الشرح الحديدي.

٢١٧

وهذا أبو سفيان عندما بويع عثمان ، دخل إليه بنو أبيه حتى امتلأت بهم الدار ثمّ أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان : أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا : لا. قال : يا بني أُميّة تلقّفوها تلقّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة. (١)

أفهل بعد هذه الكلمات الكاشفة عن الردة الخبيثة يصحّ لمسلم أن يعد هؤلاء وأمثالهم من صنف العدول وطبقة الصالحين ويعد جرحهم إبطالاً للكتاب والسنّة وتضعيفاً لشهود المسلمين؟!

آراء الصحابة بعضهم حول البعض

إنّ النظرة العابرة لتاريخ الصحابة تقتضي بأنّ بعضهم كان يتهم الآخر بالنفاق والكذب ، كما أنّ بعضهم كان يقاتل بعضاً ، ويقود جيشاً لمحاربته ، فقتل بين ذلك جماعة كثيرة ، أفهل يمكن تبرير أعمالهم من الشاتم والمشتوم ، والقاتل والمقتول وعدّهم عدولاً ومثلاً للفضل والفضيلة؟! وإليك نزراً يسيراً من تاريخهم ممّا حفظته يد النقل غفلة عن المبادئ العامة لأصحاب الحديث :

١ ـ روى البخاري مشاجرة سعد بن معاذ مع سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج ـ في قضية الإفك قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستعذر يومئذ من عبد اللّه بن أبي وهو على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، واللّه ما علمت على أهلي إلاّخيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي ».فقام سعد بن معاذ ، أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول اللّه أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ، ففعلنا أمرك.فقام رجل من الخزرج : وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ، ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد : كذبت لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.فقام أسيد بن حضير

__________________

١ ـ الشرح الحديدي : ج ٩ص ٥٣ نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري.

٢١٨

وهو ابن عمّ سعد ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.فثار الحيّان : الأوس والخزرج ، حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه قائم على المنبر ، فلم يزل رسول اللّه يخفضهم حتى سكتوا وسكت. (١)

اقرأ فاقض ، فإنّ هؤلاء يتّهم بعضهم بعضاً بالكذب والنفاق ، ونحن نعتبرهم عدولاً صلحاء ، والإنسان على نفسه بصيرة.

٢ ـ إنّ الحروب الدائرة بين الصحابة أنفسهم والثورة التي أقامها أصحاب النبي ومن اتّبعهم على عثمان بن عفان حتى جرّت إلى قتله ، أفضل دليل على أنّه لا يصحّ تعريف الصحابة وتوصيفهم بالعدالة والتقوى ، إذ كيف يصحّ أن يكون القاتل والمقتول كلاهما على الحقّ والعدالة؟!

وهذا هو طلحة وهذا الزبير قد جهّزا جيشاً جراراً لحرب الإمام علي عليه‌السلام وأعانتهما أمّ المؤمنين فقتلت جماعة كثيرة بين ذلك ، فهل يمكن تعديل كلّ هذه الجماعة حتّى الباغين على الإمام المفترض الطاعة بالنصّ أوّلاً ، وببيعة المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثانياً؟!

وهذا معاوية بن أبي سفيان يعدّ من الصحابة وقد صنع بالإسلام والمسلمين ما قد صنع ممّا هو مشهور في التاريخ ، ومن ذلك أنّه حارب الإمام عليّاً عليه الصلاة والسلام في حرب صفين ، وكان علي مع كلّ من بقي من البدريين وهم قريب من مائة شخص ، فهل من حارب هؤلاء الصحابة جميعاً بما فيهم سيد الصحابة علي عليه‌السلام يعدّ من أهل الفضل والصلاح والعدالة؟! فاقض ما أنت قاض.

لقد نقل صاحب المنار : أنّه قال أحد علماء الألمان في « الآستانة » لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة : إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية ابن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا « برلين ». قيل له : لماذا؟! قال :

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ج ٥ص ١١٨ ـ ١١٩ في تفسير سورة النور.

٢١٩

لأنّه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب ( الملك لمن غلب ) ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كلّه ، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب أوروبا عرباً مسلمين. (١)

هذا خال المؤمنين ومن يترحّم عليه خطباء الجمعة والجماعة ، فكيف حال غيره؟! أضف إليه ما له من الموبقات والمهلكات ممّا لا يمكن لأحد إنكاره.

والاعتذار منه في تبرير أعماله القاسية باجتهاده في ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية وإزهاق نفوس بريئة تعد بالآلاف المؤلّفة ، ليس إلاّ ضلالة وخداعاً للعقل ، فإنّه اجتهاد على خلاف ما يريده اللّه وضدّ رسوله ، وإلاّ يصحّ أن يعد جميع المناوئين للإسلام مجتهدين في صدر الإسلام ومؤخّره.

هذا مجمل القول في هذا الأصل الذي اتّخذه أصحاب الحديث أصلاً من أُصول الإسلام ثمّ أدخله الأشعري في الأُصول التي يتبنّاها أكثر أهل السنّة والجماعة.

التعذير التافه أو أسطورة الاجتهاد

وما أتفه قول من يريد تبرير عمل هؤلاء بالاجتهاد ، وأنّهم كانوا مجتهدين في أعمالهم وأفعالهم ، أفهل يصحّ تبرير عمل القتل والفتك والخروج على الإمام المفترض طاعته ، بالاجتهاد؟! ولو صحّ هذا الاجتهاد ( ولن يصحّ أبداً ) لصحّ عن كلّ من خالف الحقّ وحالف الباطل من اليهود وإلنصارى وغيرهم من الطغام اللئام.

أي قيمة للاجتهاد في قبال النص وصريح السنّة النبوية وإجماع الأُمّة؟! أي قيمة للاجتهاد الذي أباح دماء المسلمين ودمّر كيانهم وشقّ عصاهم وفك عرى وحدتهم ، أي ، وأي ، وأي؟!

إنّ القائلين بعدالة الصحابة يتمسّكون بما يروون عن النبي أنّه قال : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ». (٢) غير أنّ متن الحديث يكذب صدوره عن

__________________

١ ـ تفسير المنار : ج ١١ص ٢٦٩ في تفسير سورة يونس.

٢ ـ جامع الأُصول : ج ٩ص ٤١٠ رقم الحديث ٦٣٥٩ ، كتاب الفضائل.

٢٢٠