بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.

الذي نتوخّاه في هذه الصحائف هو البحث عن الفرق الموجودة في الأوساط الإسلامية وهي عبارة عن هذه الفرق : أهل السنّة (١) بأصنافهم : أهل الحديث والأشاعرة والمعتزلة والخوارج ، والشيعة بفرقها الثلاث : الإمامية الاثني عشرية ، الزيدية ، الإسماعيلية.

وأمّا الفرق التي بادت واندثرت ، وقد أكل الدهر عليها وشرب ، فهي غير مطروحة لنا بل البحث عنها مفصلاً ضياع للوقت إلاّ على وجه الإشارة.

* * *

( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلكُمْ أَوْ يَلْبِسكُمْ شِيَعاً وَيُذيقَ بَعْضكُمْ بَأْسَ بَعْض انْظُر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون ).

(الأنعام : الآية ٦٥)

____________

١ ـ أهل السنّة لا يعتبرون الخوارج منهم ، بل لا يعتبرون المعتزلة منهم أيضاً ، ولكن المراد من أهل السنّة هنا هو المعنى الأعم ، أي غير الشيعة ، أي من يقول بكون الخلافة بالبيعة والشورى ، فكلّ من يقول بكون الإمامة مقاماً تنصيصيّاً يعد من الشيعة ، ومن يقول بكونها مقاماً انتخابياً فهو معدود من أهل السنّة ، فالملاك في التقسيم هو هذا لا المصطلح المعروف بين أهل الحديث والأشاعرة ، فلو خضعنا لمصطلح الأوّلين ، فهم ربما لا يعدّون الأشاعرة أيضاً منهم ، هذا ابن تيمية يكن العداوة للأشاعرة ولا يعدّهم منهم.

٤١
٤٢

الفصل الثاني

بدايات الاختلاف في عصر الرسالة

لا شكّ في أنّ المسلمين قد اختلفوا بعد لحوق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى إلى فرق مختلفة ، وسنبين جذور هذه الخلافات وحوافزها في الأبحاث الآتية.

إنّما الكلام في وضع المسلمين أيّام النبي الأكرم فهل كانوا محتفظين بوحدة كلمتهم ومستسلمين لأمر نبيّهم جميعاً كما أمر اللّه به سبحانه ، أم كان هناك بعض الاختلاف بينهم في جملة من المسائل؟

لا شكّ أنّ المسلم الحقيقي هو من يستسلم لأوامر اللّه ورسوله ولا يخالفه قيد شعرة آخذاً بقوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولهِِِ واتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليم ) (١). وقد فسر المفسرون قوله سبحانه : ( لا تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَي اللّه وَرَسُوله ) بقولهم : أي لا تتقدموا على اللّه ورسوله في كلّ ما يأمر وينهى ، ويؤيده قوله سبحانه في نفس السورة : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَو يُطِيعُكُمْ في كَثير مِنَ الأَمْرِلَعَنِتّم ). (٢)

وقال عزّ من قائل : ( فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرجاً مِمّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً ). (٣)

__________________

١ ـ سورة الحجرات : الآية ١.

٢ ـ سورة الحجرات : الآية ٧.

٣ ـ سورة النساء : الآية ٦٥.

٤٣

ومع ذلك كلّه فقد نجمت بين الصحابة والنبي الأعظم مشاجرات ومنازعات بين آونة وأُخرى قد ضبطها التاريخ وأصحاب السير. غير أنّ الشهرستاني يصر على أنّ أكثر الخلافات كان من جانب المنافقين وقال : « إنّ شبهات أُمّته في آخر زمانه ، ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الكفّار والملحدين ، وأكثرها من المنافقين ، وإن خفي علينا ذلك في الأُمم السالفة لتمادي الزمان ، فلم يخف في هذه الأُمّة أنّ شبهاتها نشأت كلّها من شبهات منافقي زمن النبي ، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى ، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى وسألوا عمّا منعوا من الخوض فيه والسؤال عنه ، وجادلوا بالباطل في ما لا يجوز الجدال فيه ».

ثمّ ذكر الشهرستاني حديث ذي الخويصرة التميمي في تقسيم الغنائم إذ قال : اعدل يا محمد ، فإنّك لم تعدل ، حتى قال عليه الصلاة والسلام : « إن لم أعدل فمن يعدل ». (١)

إنّ ما ذكره الشهرستاني صحيح لا غبار عليه غير أنّ الاعتراض والخلاف لم يكن منحصراً بالكفار وإلمنافقين بل كان هناك رجال من المهاجرين والأنصار ، يعترضون على النبي في بعض الأُمور التي لا تروقهم ، وكأنّ الشهرستاني نسي قصة الحديبية حيث آثر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلح يوم الحديبية على الحرب وأمر به ، عملاً بما أوصى اللّه إليه ، وكانت المصلحة في الواقع وفي نفس الأمر توجبه لكنّها خفيت على أصحابه فطفق بعضهم ينكره والآخر يعارضه علانية بكلّ ما لديه من قوة. هذا هو عمر بن الخطاب فإنّه بعد ما تقرر الصلح بين الفريقين على الشروط الخاصة وقد أدركته الحمية ، فأتى أبا بكر وقد استشاط غضباً فقال : يا أبا بكر أليس برسول اللّه ؟ قال : بلى. قال : أو لسنا بالمسلمين؟ قال : بلى. قال : أوليسوا بالمشركين؟قال : بلى. قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ... الحديث. (٢)

وكأنّ الشهرستاني غفل أيضاً عن الجدال الشديد بين النبي وبعض

____________

١ ـ الملل والنحل : ج ١ص٢١.

٢ ـ السيرة النبوية لابن هشام : ج٣ص٣١٧.

٤٤

أصحابه في متعة الحج. قال الإمام القرطبي : « لا خلاف بين العلماء أنّ التمتع المراد بقوله تعالى : ( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدي ) (١) هو الاعتمار في أشهر الحجّ قبل الحجّ ، قلت : وهو فرض من نأى عن مكة بثمانية وأربعين ميلاً من كلّ جانب على الأصح ، وإنّما أضيف الحجّ بهذه الكيفية إلى التمتع أو قيل عنه : التمتع بالحج ، لما فيه من المتعة ، أي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخلّلة بين الإحرامين ، وهذا ما كرهه عمر وبعض أتباعه فقال قائلهم : أننطلق وذكورنا تقطر؟!

وفي « مجمع البيان » أنّ رجلاً قال : أنخرج حجاجاً ورؤوسنا تقطر؟ وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : « إنّك لن تؤمن بها أبداً ». (٢)

ولأجل هذه المكافحة التي نجمت في حياة النبي خطب عمر بن الخطاب في خلافته وقال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما. (٣)

وهذه الأُمور تسهل لنا التصديق بما رواه البخاري في إسناد عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن ابن عباس قال : « لما اشتد بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه قال : ايتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ». قال عمر : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غلبه الوجع ، وعندنا كتاب اللّه حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط. قال : « قوموا عنّي ، ولا ينبغي عندي التنازع ». فخرج ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين كتابه ». (٤)

كما تسهل لنا التصديق بخلافهم في حال حياته عندما أمرهم بقوله : « جهزوا جيش أُسامة لعن اللّه من تخلّف عنه » ، فقال قوم : يجب علينا امتثال

__________________

١ ـ سورة البقرة : الآية ١٩٦.

٢ ـ النص والاجتهاد : ص١٢٠ ، وقد نقل مصادر كلامه.

٣ ـ مفاتيح الغيب للرازي : ج ٣ص ٢٠١ في تفسير آية ٢٤من سورة النساء ; شرح التجريد للفاضل القوشجي : ٤٨٤.

٤ ـ صحيح البخاري : ج ١ص٣٠.

٤٥

أمره ، وأُسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتد مرض النبي عليه الصلاة والسلام فلا تسع قلوبنا مفارقته والحالة هذه ، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره. (١)

نعم كانت هناك هنابث ومشاجرات في أُمور لا تروق سليقة بعض النفوس وميولهم ، غير أنّ هذه الخلافات لم تكن على حدّتنشق بها عصا الوحدة وتنفصم بها عرى الأُخوة ، وأعظم خلاف بين الأُمّة هو الخلاف الذي نجم بعد لحوقه بالرفيق الأعلى ، وهو الخلاف في الإمامة وقد لمست الأُمة ضرره وخسارته حتى أنّ الشهرستاني أعرب عن عظم هذه الخسارة بقوله : « ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كلّ زمان ». (٢) وإليك بيان أساس هذا الاختلاف :

لما التحق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى صارت الأُمّة فرقتين باقيتين إلى الآن :

الأُولى : القائلون بأنّ منصب الإمامة منصب إلهي وأنّ الإمام يقوم بالوظائف التي كانت قد أُلقيت على عاتق النبي من تبيين الأحكام الشرعية وتفسير كتاباللّه وصيانة الدين عن النقص والزيادة والإجابة على الأسئلة الواردة والاعتراضات المتوجهة إلى الدين مضافاً إلى إدارة المجتمع البشري وسياسته التي يعبر عنها بالحكومة الإسلامية.

الثانية : القائلون بأنّ منصب الإمامة منصب عادي يجب أن يقوم بها واحد من آحاد الأُمّة لتبرير أمر المجتمع سياسة واجتماعاً واقتصاداً وغير ذلك ، وأنّه لم يرد في أمر الخلافة نص على شخص ما وهؤلاء هم الموسومون بأهل السنّة.

* * *

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَميعاً ولا تَفَرَّقُوا ).

(آل عمران الآية ١٠٣)

__________________

١ و٢ ـ الملل والنحل : ١/٢٣ ـ ٢٤.

٤٦

الفصل الثالث

علل تكوّن الفرق الإسلامية

إنّ الوقوف على تاريخ الفرق الإسلامية ، وكيفية تكوّنها والعلل الباعثة على نشأتها ، من الأبحاث المهمة التي تعين الباحث في تقييم المذاهب الإسلامية ومدى إخلاص أصحابها في نشرها وبثها بين الأُمّة ، وهذه النقطة الحسّاسة من علم الملل والنحل ، قد أهملت في كثير من كتب الفرق والنحل إلاّ شيئاً قليلاً لا يشبع نهمة الطالب ، ونحن نأتي في هذه العجالة بإجمال ما وقفنا عليه في تاريخ تكوّنها والبواعث الموجدة لها ، وأمّا الإسهاب في البحث فموكول إلى آونة أُخرى.

لبّى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله دعوة ربّه وانتقل إلى جواره وترك لأُمّته ديناً قيماً عليه سمات من أبرزها « بساطة العقيدة ويسر التكليف » وأخذ المسلمون يفتحون البلاد بقوة المنطق أوّلاً وحدّالسلاح ثانياً ، وأخذت قوى الكفر والشر تنسحب أمام دعاة الإسلام وجنوده البواسل ، وتنصاع لهداه البلاد إثر البلاد.

ارتحل الرسول الصادع بالحق ، وترك بين أُمّته كتاب اللّه العزيز الذي فيه تبيان كل شيء (١) ، وسنّته الوضّاءة المقتبسة من الوحي (٢) السليم من الخطأ ،

__________________

١ ـ ( وَنَزَّلنا عَلَيْكَ الكِتاب تِبْياناً لِكُلِّ شَيْء ) ( سورة النحل الآية ٨٩ ).

٢ ـ ( إِنْ هُوَ اِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) ( سورة النجم الآية ٤ ).

٤٧

المصون من الوهن وعترته الطيبين الذين هم في لسان نبيّهم قرناء الكتاب. (١)

فالمسلمون الأوّلون في ضوء بساطة العقيدة وسهولة التشريع وفي ظل هذه الحجج والأدلة القويمة ، كانوا في غنى عن الخوض في أقوال المدارس العقلية والمناهج الكلامية التي كانت دارجة بين الأُمم المتحضّرة آنذاك ، فهم بدل الغور فيها ، كانوا يخوضون غمار المنايا ويرتادون ميادين الحروب في أقطار العالم وأرجاء الدنيا لنشر الدين والتوحيد ومكافحة شتى ألوان الشرك والثنوية ومحو العدوان والظلم عن المجتمع البشري.

نعم كان هذا وصفهم وحالهم إلاّ شذاذاً منهم من الانتهازيين ، عبدة المقام وعشاق المال ممن لم تهمّهم إلاّأنفسهم وإلاّعلفهم وماؤهم ، وقد قلنا إنّ بساطة التكليف كانت إحدى العوامل التي صرفت المسلمين عن التوجه والتعرض للمناهج الفلسفية الدارجة في الحضارات القائمة آنذاك ، فلأجل ذلك كانوا يكتفون مثلاً في معرفة اللّه سبحانه بقوله عزّمن قائل : ( أَفِي اللّه شَكٌّ فاطرِ السَّمواتِ والأَرضِ ) (٢) ، وقوله عزّجلّ : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخالِقُون ). (٣) وفي نفي الشرك والثنوية كانوا يكتفون بقوله سبحانه : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدتا ). (٤) وفي التعرّف على صفاته وأفعاله بقوله سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الَّذي لاإِلهَ إِلاّهُوَ عالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيم ) (٥) ، إلى آخر سورة الحشر. وفي تنزيهه عن التشبيه والتجسيم بقوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصير ) (٦) ،

__________________

١ ـ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض. والتثليث في كلامنا لا يعارض التثنية في كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ مرجع كلام العترة إلى سنّة الرسول التي أودعها في قلوبهم بإذن اللّه عزّ وجلّ.

٢ ـ سورة إبراهيم : الآية ١٠.

٣ ـ سورة الطور : الآية ٣٥.

٤ ـ سورة الأنبياء : الاية ٢٢.

٥ ـ سورة الحشر : الاية ٢٢.

٦ ـ سورة الشورى : الآية١١.

٤٨

وبقوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار ). (١) وفي سعة قدرته : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ). (٢) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول المبدأ والمعاد وما يرجع إليهما من الأبحاث الكلامية الغامضة ، فلكلّ واحدة من هذه المسائل نصوص في الكتاب والسنّة وهي أغنتهم عن الرجوع إلى غيرهم.

نعم إنّ مفاهيم هذه الآيات على بساطتها تهدف إلى معان بعيدة الأغوار ، عالية المضامين ، فالكلّ يستفيد منها حسب مقدرته واستعداده فهي هادية لكلّ البشر ومفيدة لجميع الطبقات من ساذجها إلى متعلّمها ، إلى معلمها ....

وهذه الميزة يختصّ بها القرآن الكريم ويتميّز فيها عن غيره ، فهو مع كونه هدى للناس عامة ، خير دليل للمفكّرين صغارهم وكبارهم.

هذا هو الكتاب ، وأمّا السنّة فهي عبارة عمّا ينسب إلى النبي من قول أو فعل أو تقرير ، نازلة منزلة التفسير والتبيين لمعاني الكتاب الحكيم ، مبينة لمجمله ، شارحة لمعانيه كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (٣) ، أي لا لتقرأ فقط ، بل لتبيّن وتشرح ما نزل ، بقولك وفعلك وتقريرك.

وأمّا العترة فيكفي في عصمتهم وحجية أقوالهم ، حديث الثقلين الذي تواتر نقله ، وقام بنقله أكابر المحدّثين في العصور الإسلامية كلّها.

وكان اللائق بالمسلمين والواجب عليهم مع الحجج الإلهية ، التمسّك بالعروة الوثقى ورفض الاختلاف ، ولكن يا للأسف تفرقوا إلى فرق وفرق لعلل نشير إليها.

إنّ لتكوّن المذاهب الإسلامية ـ أُصولاً وفروعاً ـ عللاً وأسباباً ومعدات وممهدات ولا يقوم بحقّ بيانها الباحث إلاّ بإفراد كتاب خاص في هذا الموضوع ،

__________________

١ ـ سورة الأنعام : الآية ١٠٣.

٢ ـ سورة الأنعام : الآية ٩١.

٣ ـ سورة النحل : الآية ٤٤.

٤٩

ولكن نشير في هذه العجالة إلى العوامل الرئيسية في تكوّن الفرق ونشوئها في المجتمع الإسلامي وهي أُمور :

١ ـ الاتجاهات الحزبية والتعصبات القبلية.

٢ ـ سوء الفهم واعوجاجه في تحديد الحقائق الدينية.

٣ ـ المنع عن كتابة حديث رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ونقله والتحدّث به كما سيجيء.

٤ ـ فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدّث عن قصص الأوّلين والآخرين.

٥ ـ الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري بين المسلمين وغيرهم من الفرس والروم والهنود.

٦ ـ الاجتهاد في مقابل النصّ.

وإليك البحث في كلّ واحد من هذه العوامل حسب ما يقتضيه المجال.

* * *

( وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعظُونَ بِهِ لَكانَ خَيراً لَهُمْ وَأَشدَّ تَثْبيتاً )

(النساء الآية ٦٦)

٥٠

العامل الأوّل

الاتجاهات الحزبيةُ والتعصّبات القبلية

إنّ أعظم خلاف بين الأُمّة هو الخلاف في قضية الإمامة ، إذ ما سل سيف قطّ في الإسلام وفي كلّ الأزمنة على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة ، وقد كان الشقاق بين المسلمين في تلك المسألة أوّل شقاق نجم بينهم وجعلهم فرقاً أو فرقتين. فمن جانب نرى علياً صلوات اللّه عليه ورجال البيت الهاشمي ركنوا إلى النص وقالوا : إنّ الإمامة شأنها شأنالنبوة لا تكون إلاّ بالنصّ. وإنّ هذا النصّ قد صدر عن النبي في مواطن شتى ، آخرها واقعة الغدير المشهورة بين كافّة الناس حينما قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في محتشد عظيم وقال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ... ». (١)

ومن جانب آخر نرى الأنصار تجتمع في سقيفة بني ساعدة قبل تجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواراته ، يبحثون عن قضية الإمامة أو الخلافة ، فيرى سيدهم أنّ القيادة حقّ للأنصار رافعاً عقيرته بقوله : يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست في العرب ، إنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وقلع الأنداد

____________

١ ـ راجع في تواتره وكثرة رواته في جميع العصور الإسلامية من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ، ودلالته على الولاية الكبرى للإمام أمير المؤمنين ، كتاب الغدير : الجزء الأوّل ، ولأجل ذلك طوينا الكلام عن نقل مصادره.

٥١

والأوثان ، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أن يعزوا دينه ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به ، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة ، فرزقكم اللّه الإيمان به ورسوله والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ، فكنتم أشدّ الناس على عدّوه منكم وأثقله على عدوه من غيركم ، حتى استقامت العرب لأمر اللّه طوعاً وكرهاً ـ إلى أن قال ـ : استبدوا بهذا الأمر دون الناس. فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت ، نولّيك هذا الأمر فإنّك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضى. (١)

هذا منطق الأنصار ورئيس جبهتهم ترى أنّه يجر النار إلى قرصه وحزبه بحجّة أنّهم آمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصروه وآووه ، إلى غير ذلك من الحجج التي ذكرها سعد بن عبادة ، رئيس الخزرج في جبهة الأنصار.

ومن جهة ثالثة نرى بعض المهاجرين الذين اطّلعوا على اجتماع الأنصار في السقيفة ، يتركون تجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومواراته ويسرعون إلى السقيفة ويحضرون في جمعهم ويناشدونهم ويعارضون منطقهم بقولهم : إنّ المهاجرين أوّل من عبد اللّه في الأرض وآمن باللّه وبرسوله ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم في ذلك إلاّظالم ـ إلى أن قال ـ : من ذا ينازعهم في سلطان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمارته وهم أولياؤه وعشيرته ، إلاّ مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة. (٢)

وهذا منطق بعض المهاجرين لا يقصر في الصلابة أو الوهن عن منطق الأنصار ، والكلّ يدّعي أنّ الحقّ له ولحزبه ، من دون أن يتفكّروا في مصالح الإسلام والمسلمين ، ومن دون أن يتفكّروا في اللياقة والكفاءة في القائد ، ومن دون أن يرجعوا إلى الكتاب والسنّة وإحراز المعايير التي يجب وجودها في القائد ، فيشبه منطق هؤلاء منطق المرشحين من سرد الثناء على أنفسهم وحزبهم لرئاسة الجمهورية أو عضوية المجلس الوطني.

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ حوادث سنة ١١ ص ٤٥٦.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ حوادث سنة ١١ ص ٤٥٧.

٥٢

وكلّ يدّعي وصلاً بليلى

وليلى لا تقر لهم بذاكا

نعم كان هذا التشاجر قائماً بينهم على قدم وساق إلى أن تغلب جناح هذا الصنف من المهاجرين على جبهة الأنصار بإعانة بعض الأنصار وهو « بشير بن سعد » وهو ابن عم « سعد بن عبادة » ، فبايع أبا بكر حتى يكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا أمرهم ، ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ـ وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء ـ : واللّه لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه وبايعوه. (١)

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين في تقييم احتجاج الأنصار والمهاجرين نقلها الشريف الرضي في نهج البلاغة ، قال :

لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أنباء السقيفة ، بعد وفاة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال عليه‌السلام : « ما قالت الأنصار؟ » قالوا : قالت : منّا أمير ومنكم أمير.

قال عليه‌السلام : « فهلا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم »!

قالوا : وما في هذا من الحجّة عليهم؟.

فقال عليه‌السلام : « لو كانت الإمارة فيهم ، لم تكن الوصية بهم ».

ثمّ قال عليه‌السلام : « فماذا قالت قريش؟ ».

قالوا : احتجت بأنّها شجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال عليه‌السلام : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ». (٢)

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ حوادث سنة ١١ ص ٤٥٨.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة٦٤.

٥٣

وفي كلمة قصيرة عن الإمام عليه‌السلام ، قال : « واعجباه تكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالصحابة والقرابة ».

قال الرضي ، وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو :

فإن كنت بالشورى ملكت أُمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقرب (١)

وبتلك المعايير وإلمبررات تمت البيعة للخليفة ، والكلّ أشبه بالمكافحات الحزبية أو القبلية التي لا تمت إلى الإسلام وأهله بصلة.

فعند ذلك أخذ هؤلاء المهاجرون بزمام الحكم واحداً بعد واحد إلى أن تربّع ثالث القوم عثمان بن عفان على منصة الحكم فحدثت في زمانه حوادث مؤلمة وبدع كثيرة أدّت إلى الفتك به والإجهاز عليه.

غير أنّ عليّاً صلوات اللّه عليه وبني هاشم وعدّة من المهاجرين والبدريين وعدّة من أكابر الأنصار تمسّكوا بالنصّ النبوي وبقوا على ما فارقهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه ، كما أنّ رئيس الأنصار الخزرجيين وداعميه لم يبايعوا أبا بكر ولا عليّاً.

هذا تحليل تكوّن أوّل تفرّق حدث في الإسلام; فجعل الأُمّة فرقتين : فرقة تشايع الخلفاء ، وفرقة تشايع عليّاً عليه‌السلام إلى اليوم الحاضر.

والذين شايعوا عليّاً عليه‌السلام وتابعوه لم يكن ذلك منهم إلاّتمسكاً بالدين مذعنين بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نصّ عليه من دون أن يكون هناك اندفاع حزبي أو علاقة شخصية أو قبلية ، بل تسليماً لقوله سبحانه : ( وَما كانَ لِمُؤمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرهِمْ ). (٢)

وأمّا غيرهم فقد عرفت المعايير التي استندوا إليها في تقديمهم على غيرهم ، فالكلّ معايير قبلية أو شخصية.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، طبعة عبده ، قسم الحكم ، الرقم١٩٠. وفي المطبوع تحريف ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٢ ـ الأحزاب : الآية ٣٦.

٥٤

العامل الثاني

سوء الفهم واللجاج في تحديد الحقائق

إذا كانت الدعايات الحزبية أوّل عامل لتكوّن الفرق ، فهناك عامل ثان لتفريق المسلمين وتبديدهم إلى فرق متباعدة ، وهو سوء الفهم ـ عن تقصير ـ في تحديد العقائد الدينية من بعضهم ، وقلة العقل وخفّته في بعض آخر منهم ، وقد كان هذا عاملاً قويّاً لتكوّن الخوارج التي كانت من أخطر الفرق على الإسلام والمسلمين ، لولا أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام استأصلهم وبدد شملهم ، ومع ذلك بقيت منهم حشاشات تنجم تارة وتخفق أُخرى في الأجيال والقرون ، وإليك شرحه :

لقد ثار أهل العراق والحجاز ومصر على عثمان نتيجة الأحداث المؤلمة التي ارتكبها عماله في هذه البلاد وانتهى الأمر إلى قتله وتنصيب علي عليه‌السلام مكانه لما عرفت الأُمّة من علمه وفضله وسابقته وجهاده المنقطع النظير ، وقام علي عليه‌السلام بعزل الولاة والعمال الذين نصبهم عثمان على رقاب الناس ، وقد انتهت أعمالهم الإضرارية من جانب ، وإصرار الخليفة على إبقائهم من جانب آخر ، إلى قتله.

قام علي عليه‌السلام بعزل الولاة آنذاك ، ونصب العمال الأتقياء الزهّاد الكفاة مكانهم ، وعند ذلك طمع الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّه في العراقين ، وطلبا منه أن يولي أحدهما على الكوفة والآخر على البصرة ، والمألوف من طريقة علي عليه‌السلام في تنصيب العمال اشتراط شروط ، تخالف ما كان عليه

٥٥

الرجلان وقد قال في حقّهما كلمة : « وإنّي أخاف شرهما على الأُمّة وهما معي ، فكيف إذا فرقتهم في البلاد ». (١)

فعند ذلك ثارا على الإمام علي عليه‌السلام وخرجا عليه واتّهماه لتبرير موقفهما ـ بقتل عثمان أو إيواء قتلته ، وكانت نتيجة ذلك اشتعال نار الحرب بين الإمام والرجلين في نواحي البصرة « حرب الجمل » وقتل الرجلين بعد أن أُريقت دماء الأبرياء.

ثمّ إنّ معاوية قد عرف موقف علي عليه‌السلام بالنسبة إلى عمال الخليفة « عثمان » ، ومع هذا طلب من الإمام إبقاءه والياً على الشام ، فرفض الإمام ذلك لما يعرف من نفسية معاوية وانحرافه ، ونشبت من ذلك « حرب صفين » ولما ظهرت بوادر الفتح المبين لعلي وجيشه ، التجأ معاوية وحزبه إلى خديعة رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن بين الطرفين ، فصار ذلك نواة لحدوث الاختلاف في جبهة علي عليه‌السلام. فمن قائل : نستمر في الحرب وهذه خدعة ومكر ، ومن قائل : نجيبهم إلى ما دعونا إليه. وقد أمر الإمام بمواصلة الحرب ، وقام بتبيين الخدعة ، غير أنّ الظروف الحاكمة السائدة على جيش الإمام ألجأته إلى قبول وقف الحرب وإدلاء الأمر إلى الحكمين وإعلان الهدنة ، وكتب هناك كتاباً حول هذا.

ومن العجيب أنّ الذين كانوا يصرون على إيقاف الحرب ندموا على ما فعلوا فجاءوا إلى الإمام يصرّون على نقض العهد ، والهجوم على جيش معاوية من جديد ، غير أنّ الإمام وقف في وجههم بصمود لما يتضمن من نقض العهد ( وَكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُولاً ). (٢)

وعند ذلك نجمت فرقة باسم الإسلام من جيش علي عليه‌السلام وطلع قرن الشيطان ، فعادت تلك الجماعة خارجة عن إطاعة إمامهم ، رافضة لحكومته ، ومبغضة إيّاه كما أبغضت عثمان وعماله ، وهذه الفرقة هي فرقة الخوارج وما زالوا

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١١ص١٦.

٢ ـ الأحزاب : الآية ١٥.

٥٦

مبدأ أحداث وعقائد في التاريخ. وكان الحافز القوي على تكوّن هذه الفرقة هو سوء الفهم واعوجاج السليقة ، وقد عرّفهم الإمام بقوله ـ عندما شهروا سيوفهم عليه في النهروان ـ : « فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط على غير بيّنة من ربّكم ولا سلطان مبين معكم ، قد طوّحت بكم الدار واحتبلكم المقدار ، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين ، حتى صرفت رأيي إلى هواكم وأنتم معاشر أخفّاء الهام ، سفهاء الأحلام ». (١)

وللإمام كلمة أُخرى يشير فيها إلى السبب الذي فارقوا به عن الحقّ قال صلوات اللّه عليه : « لا تقتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه » ( يعني معاوية وأصحابه ).

قال الإمام عبده : والخوارج من بعده وإن كانوا قد ضلّوا بسوء عقيدتهم فيه إلاّأنّ ضلّتهم لشبهة تمكّنت في نفوسهم ، فاعتقدوا أنّ الخروج عن طاعة الإمام ممّا يوجبه الدين عليهم ، فقد طلبوا حقّاً وأرادوا تقريره شرعاً ، فأخطأوا الصواب فيه. (٢)

وقد زعموا أنّ مسألة التحكيم تخالف قوله سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاّللّه ). (٣)

وسيوافيك مفاد الآية ومقالة المحتجين بها ـ عند البحث عن عقائد تلك الفرقة ـ كي يظهر مدى اعوجاج فهم القوم.

ظهور المرجئة

قد كان لظهور الخوارج أثر بارز في حدوث الفتن وظهور الحوادث الأُخر في المجتمع الإسلامي ، وقد نجمت المرجئة من تلك الناحية حيث إنّ الإرجاء

__________________

١ ـ نهج البلاغة شرح محمد عبده : ج١ص٨٢ ، الخطبة ٣٥.

٢ ـ نهج البلاغة شرح محمد عبده : ج ١ص١٠٣ الخطبة ٥٨.

٣ ـ سورة يوسف : الآية ٤٠.

٥٧

بمعنى التأخير قال سبحانه : ( أَرْجه وَأَخاهُ وَأَرسل فِي المدَائنِ حاشِرين ). (١)

ولهذه الفرقة ( المرجئة ) آراء خاصة نشير إليها في محلّها ، غير أنّ اللبنة الأُولى لظهورها هي اختلافهم في أمر علي وعثمان ، فهؤلاء ( الخوارج ) كانوا يحترمون الخليفتين أبا بكر وعمر ويبغضون علياً وعثمان ، على خلاف أكثرية المسلمين ، ولكن المرجئة الأُولى لما لم يوفقوا لحلّ هذه المشكلة التجأوا إلى القول بالإرجاء فقالوا : نحن نقدّم أمر أبي بكر وعمر ، ونؤخّر أمر الآخرين إلى يوم القيامة ، فصارت المرجئة فرقة نابتة من خلاف الخوارج في أمر الخليفتين ، مع فوارق بينهم وبين المرجئة التي تأتي في محلّها ، والعامل لتكوّنها كأصلها ، هو سوء الفهم واعوجاج التفكير.

هذا هو أصل الإرجاء ، ولبنته الأُولى ، ولكنّه قد نسي في الآونة الأخيرة; وأخذ الأصل الآخر مكانه ، وهو كون العمل داخلاً في الإيمان أو لا؟ وبعبارة أُخرى : هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو لا؟

ذهبت الخوارج إلى دخول العمل في صميم الإيمان ، فصار مرتكب الكبيرة كافراً.

واختارت المعتزلة كون مرتكب الكبيرة غير مؤمن ولكنّه ليس بكافر ، بل هو في منزلة بين المنزلتين.

وذهبت المرجئة الأُولى إلى خروج العمل من الإيمان ، وأنّ إيمان مرتكب الكبيرة ، كإيمان الملائكة والأنبياء بحجّة عدم دخالة العمل في الإيمان. فاشتهروا بالقول : « قدّموا الإيمان وأخّروا العمل » فصار هذا أصلاً وأساساً ثانوياً للمرجئة. فكلّما أطلقت المرجئة لا يتبادر منها إلاّ هؤلاء.

إنّ الاكتفاء في تفسير الإيمان بالشهادة اللفظية أو المعرفة القلبية ، وأنّ عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً ، وانّ النار للكافرين (٢) واقتحام الكبائر لا يضر أبداً ،

__________________

١ ـ سورة الأعراف : الآية ١١١.

٢ ـ شرح المقاصد للتفتازاني : ج ٢ص ٢٢٩ ولاحظ أيضاً ص ٢٣٨.

٥٨

فكرة خاطئة تسير بالمجتمع وخصوصاً الشباب فيه إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي وترك القيم.

وعلى كلّ تقدير إنّ نظرية الإرجاء في كلا الموضعين نظرية باطلة نشأت من الاعوجاج في فهم المعارف والانحراف في تفسير الذكر الحكيم ، والحديث المأثور عن النبي الأكرم (ص).

ولما كان مذهب الإرجاء لصالح السلطة الأموية أخذت تروّجه وتسانده حتى لم يلبث أن فشا في الإرجاء ، ولم تبق كورة إلاّ وفيها مرجئي ، كما سيوافيك ذلك عند البحث عن عقائد هذه الفرقة.

وليس ظهور الخوارج أو المرجئة وحدهما نتاج الإعوجاج الفكري ، بل هناك مذاهب أُخرى نجمت من هذا المنشأ. عصمنا اللّه جميعاً من الزلل في القول والعمل.

* * *

( ادعُ إِلى سَبيلِ رَبّكَ بِالحكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وَجادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَن ).

( النحل : الآية ١٢٥ )

٥٩

العامل الثالث

المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل التحدّث عنه

إنّ هنا عاملاً ثالثاً لتكوّّن الفرق ونشوء الفوضى في العقائد والأُصول ، وهو المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل التحدّث عنه بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عهد المنصور العباسي.

توضيحه : الحديث عبارة عمّا ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول أو فعل أو تقرير نازل منزلة التفسير لمعاني الكتاب الحكيم ، مبيّن لمجمله ، شارح لمعانيه ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ). (١)

أي لا لتقرأ فقط ، بل تبيّن وتشرح ما نزل ، بقولك وفعلك وتقريرك.

إذا كانت السنّة هي في الدرجة الثانية من الدين بعد القرآن الكريم في الحجية والاعتبار ، حتى إنّك لا تجد فيها شيئاً إلاّ وفي القرآن أُصوله وجذوره ، ولا إسهاباً إلاّ وفيه مجمله وعناوينه.

وإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصدر في قوله وكلامه إلاّ بإيحاء من اللّه سبحانه كما يصرح بذلك قوله سبحانه : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى* وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ). (٢)

__________________

١ ـ سورة النحل : الآية ٤٤.

٢ ـ سورة النجم : الآيات ٢ ـ ٤.

٦٠