بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: لجنة ادارة الحوزة العلمية بقم المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ولا يخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا .

١٢ ـ لا ينزل أحد من أهل التوحيد جنة ولا ناراً .

١٣ . لا يكفر أحد من أهل التوحيد بذنب ، وإن عملوا الكبائر .

١٤ . الكف عن أصحاب محمد ( صلی الله عليه وآله وسلم ) .

١٥ . أفضل الناس بعد رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي (١) .

وهذا النص يجمع السنة التي يدين بها أهل الحديث وقد اقتدى بهم الأشعري في أكثرها ، وقد تقدم الأصول التي نسبها الأشعري إلى أهل السنة . وهذه الأصول التي جاء بها محمد بن عكاشة ملفقة من أصول اتفق على صحتها أهل القبلة وأصول مختلف فيها ، وأصول مزورة ومختلقة ومكذوبة على الإسلام أساساً .

غير أننا نبحث عن بعض الأصول التي زعمها أهل الحديث أصولاً صحيحة وهي عندنا مفتعلة على الإسلام ومختلقة ، ونختار منها المواضيع التالية :

١ ـ إطاعة السلطان الجائر والصبر تحت لوائه .

٢ ـ عدالة الصحابة جميعاً .

٣ ـ الإيمان بالقدر خيره وشره .

٤ ـ الإيمان بخلافة الخلفاء .

____________________

(١) التنبيه والرد لأبي الحسين الملطي : ص ١٤ ـ ١٥ ومما يجب التعليق عليه : أن محمد بن عكاشة مرمي بالكذب ووضع الحديث ، فقد قال الرازي في كتاب « الجرح والتعديل » : محمد بن عكاشة الكرماني ، روى عبد الرزاق : حدثنا عبد الرحمن قال : سئل أبو زرعة عنه ؟ فقال : قد رأيته وكتبت عنه وكان كذاباً ، قدم علينا مع محمد بن رافع النيسابوري وكان رفيقه ، فأول ما أملى حديث كذب على الله عز وجل وعلى رسوله ( لاحظ الجرح والتعديل للحافظ أبي حاتم الرازي ج ٨ ص ٥٢ ط الهند ) .

١٨١

ومما يعجب القاریء في مثل هذه الكلمة قوله : « إن هؤلاء كلهم يقولون : رأينا أصحاب رسول الله كانوا يقولون » ، مع أنه ليس بين هؤلاء العلماء تابعي واحد حتى تصح منهم رؤية أصحاب رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا من أغرب الغرائب .

١٨٢



الموضوعات الهامة في عقائد أهل الحديث



١ ـ إطاعة السلطان الجائر والصبر تحت لوائه

٢ ـ عدالة الصحابة جميعاً

٣ ـ الإيمان بالقدر خيره وشره

٤ ـ الإيمان بخلافة الخلفاء

١٨٣

(١)

إطاعة السلطان بين الوجوب والحرمة

إطاعة الحاكم العادل من صميم الدين ، قال سبحانه : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) .

وليس المراد منه إطاعة مطلق ولاة الأمر بل المراد خصوص العدول منهم بقرينة النهي عن إطاعة المسرفين والغافلين عن ذكر الله سبحانه والمكذبين والآثمين وغيرهم ، قال سبحانه : ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) (٢) .

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) (٣) .

وقال سبحانه : ( فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) (٤) .

وقال تعالى : ( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ) (٥) .

____________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩ .

(٢) سورة الكهف : الآية ٢٨ .

(٣) سورة الأحزاب : الآية ١ .

(٤) سورة القلم : الآية ٨ .

(٥) سورة القلم : الآية ١٠ .

١٨٤

وقال سبحانه : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) (١) .

وقال تعالى : ( وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) (٢) .

إلى غير ذلك من الآيات الناهية عن طاعة الطغاة العصاة . فبقرينة هذه الآيات الناهية يصح أن يقال : إن المراد من الأمر بإطاعة أولي الأمر ، هو إطاعة العدول منهم .

وقد تضافرت الروايات على وجوب إطاعة السلطان العادل المعربة عن عدم وجوب إطاعة السلطان الجائر أو حرمتها . قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « السلطان العادل المتواضع ، ظل الله ورمحه في الأرض ويرفع له عمل سبعين صديقاً » (٣) .

وقال ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « ما من أحد أفضل منزلة من إمام ، إن قال صدق ، وإن حكم عدل ، وإن استرحم رحم » (٤) .

وقال ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم مجلساً ، إمام عادل ، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه ، إمام جائر » (٥) .

وقال ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « السلطان ظل الله في الأرض ، يأوي إليه الضعيف وبه ينصر المظلوم ، ومن أكرم سلطان الله في الدنيا أكرمه الله يوم القيامة » (٦) .

وقال ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « ثلاثة من كن فيه من الأئمة صلح أن يكون إماماً اضطلع بأمانته : إذا عدل في حكمه ، ولم يحتجب دون رعيته ، وأقام كتاب الله تعالى في القريب والبعيد » (٧) . . . إلى غير ذلك من الروايات

____________________

(١) سورة الإنسان : الآية ٢٤ .

(٢) سورة الشعراء : الآية ١٥١ .

(٣) كنز العمال : ج ٦ ، ص ٦ الحديث ١٤٥٨٩ .

(٤ و ٥ و ٦) المصدر السابق : الحديث ١٤٥٩٣ ، ١٤٦٠٤ ، ١٤٥٧٢ .

(٧) المصدر السابق : ج ٥ الحديث ١٤٣١٥ .

١٨٥

التي يقف عليها المتتبع في الجوامع الحديثية .

هذا من طريق أهل السنة وأمّا من طريق الشيعة فحدث عنه ولا حرج .

روى عمر بن حنظلة عن الصادق ( عليه السلام ) في لزوم طاعة الحاكم العادل : « من روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً ، فإني جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخف بحكم الله وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله » (١) .

ونكتفي ـ هنا ـ بقول الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في كتابه إلى أهل الكوفة حيث قال ( عليه السلام ) : « فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله » (٢) .

إذاً فوجوب إطاعة السلطان العادل مما لا شك فيه ولا يحتاج إلى إسهاب الكلام فيه ، ولكن الحنابلة ذهبوا إلى غير ذلك وإليك البيان .

إطاعة السلطان الجائر

فلقد اتفقت كلمة الحنابلة ومن لف لفهم على وجوب إطاعة السلطان الجائر وإليك نصوصهم :

قال أحمد بن حنبل في إحدى رسائله : « السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ، ومن ولي الخلافة فأجمع الناس ورضوا به ، ومن غلبهم بالسيف وسمي أمير المؤمنين ، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة ، البر والفاجر ، وإقامة الحدود إلى الأئمة وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم ، ودفع الصدقات إليهم جائز ، من دفعها إليهم أجزأت عنهم ، براً كان أو

____________________

(١) الوسائل الجزء ١٨ الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث : ١ .

(٢) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ١١٦ ، والطبري : ج ٤ أحداث سنة ٦٠ ص ٢٦٢ .

١٨٦

فاجراً ، وصلاة الجمعة خلفه وخلف كل من ولي ، جائزة إقامته ، ومن أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة .

ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وكان الناس قد اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه ، أكان بالرضا أو بالغلبة فقد شق الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله ، فإن مات الخارج عليه ، مات ميتة جاهلية » (١) .

هذا الرأي المنقول عن إمام الحنابلة لا يمكن إنكار صحة نسبته إليه ، ولأجل ذلك قال الأستاذ أبو زهرة : « ولأحمد رأي يتلاقى فيه مع سائر الفقهاء وهو جواز إمامة من تغلب ورضيه الناس وأقام الحكم الصالح بينهم ، بل إنه يرى أكثر من ذلك ، إن من تغلب وإن كان فاجراً تجب إطاعته حتى لا تكون الفتن » (٢) .

والعبارة التي نقلناها عن إمام الحنابلة تكاد تعرب عن وجوب إطاعة الجائر ولو أمر بمعصية الخالق وهو أمر عجيب منه جداً مع أن أكثر الأشاعرة الذين يحرمون الخروج عليه ، لا يوجبون طاعته في هذا الحال كما يوافيك نصوصهم ، ولغرابة رأي ابن حنبل هذا ، ذيله أبو زهرة بقوله : « ولكنه ينظر في هذه القضية إلى مصلحة المسلمين وأنه لا بد من نظام مستقر ثابت وأن الخروج على هذا النظام يحل قوة الأمة ويفك عراها ، ولأنه رأى من أخبار الخوارج وفتنتهم ما جعله يقرر أن النظام الثابت أولى وأن الخروج عليه يرتكب فيه من المظالم أضعاف ما يرتكبه الحاكم الظالم .

ثمّ إنّه ينظر في القضية نظرة اتباع فإنّ التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه قد رأوا مظالم كثيرة ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين ، وكانوا ينصحون الخلفاء والولاة إن وجدوا آذاناً تسمع ، وقلوباً تفقه ، وفي كل حال لا يخرجون ولا يؤيدون خارجه » (٣) .

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة : ج ٢ ص ٣٢٢ .

(٢) المصدر السابق : ص ٣٢١ ولاحظ كتاب السنة لابن حنبل ص ٤٦ .

(٣) تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة : ج ٢ ص ٣٢٢ .

١٨٧

وهذا التوجيه من الأستاذ غريب جداً .

أما أولاً : فلأن الخروج على النظام الظالم إذا كان موجباً لحل قوة الأمة وفك عراها ، يكون الصبر تشويقاً لتماديه في الظلم وإكثار الضغط على الأمة وبالنتيجة : تحويل الدين وتحريفه عما هو عليه من الحق . . . فأي فائدة تكمن في حفظ قوة أمة ، انحرفت عن صراطها وتبدلت سننها وتغيرت أصولها . فإن الظالم لا يرى لظلمه حداً ولتعديه ضوابط ، فلو رأى أن الإسلام بواقعه يضاد آراءه الشخصية وميوله الخبيثة ، عمد إلى تغييره وتحويره فليس يقتصر ظلم الظالم على التعدي على النفوس والأموال ، بل الراكب على أعناق الناس يغير كل شيء كيفما يريد ، وحيثما يرى أنه لصالح شخصه ، والتاريخ شاهدنا الأصدق على ذلك .

وأما ثانياً : فإن الأستاذ أبا زهرة نسب إلى التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه بأنهم رأوا مظالم كثيرة ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين . . . ولكنه غفل عن قضية الحرة الدامية حيث كان الخارجون فيها على الحكومة الغاشمة هم الصحابة والتابعين . . .

وهذا المسعودي صاحب « مروج الذهب » ينقل إلينا لمحة عما جرى هناك ويقول :

« ولمّا انتهى الجيش من المدينة إلى الموضع المعروف بالحرة وعليهم « مسرف » خرج إلى حربه أهلها ، عليهم عبد الله بن مطيع العدوي وعبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري ، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس ، فقد قتل من آل أبي طالب اثنان : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب ، ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب : الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وحمزة بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب ، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش ومثلهم من الأنصار وأربعة آلاف من سائر

١٨٨

الناس ممن أدركه الأحصاء دون من لم يعرف » (١) .

هل نسي أبو زهرة ( أو لعله تناسى ) قضية دير الجماجم حيث قام ابن الأشعث التابعي في وجه الحجاج السفاك بالموضع المعروف بدير الجماجم فكان بينهم نيف وثمانون وقعة تفانى فيها خلق وذلك في سنة اثنين وثمانين (٢) .

وعلى كل تقدير فقد اقتفى أثر أحمد بن حنبل جماعة من متكلمي الأشاعرة وغيرهم وادعوا بأن هذه عقيدة إسلامية كان الصحابة والتابعون يدينون بها وأنه يجب الصبر على الطغاة الظلمة إذا تصدروا منصة الحكم ، نعم غاية ما يقولونه هو : إنه لا تجب إطاعتهم إذا أمروا بالحرام والفساد جاعلين قولهم هذا منعطفهم الوحيد عن قول ابن حنبل وبقية أهل الحديث ، وإليك نبذة من أقوال القوم :

١ ـ قال الإمام الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي ( المتوفى عام ٣٢١ ) في رسالته المسماة بـ « بيان السنة والجماعة » المشهور بـ « العقيدة الطحاوية » : « ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد إلا على من وجب عليه السيف ( أي سفك الدم بالنص القاطع كالقاتل والزاني المحصن والمرتد ) ولا نرى الخروج على أئمتنا ولا ولاة أمرنا وإن جاروا ولا ندعو على أحد منهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعات الله عز وجل فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية » (٣) .

٢ ـ قال الإمام الأشعري من جملة ما عليه أهل الحديث والسنة : « ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر . . . إلى أن قال : ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ، وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف ، وأن لا يقاتلوا في الفتن » (٤) .

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي : ج ٣ ص ٦٩ ـ ٧٠ طبع بيروت .

(٢) نفس المصدر السابق : ج ٣ ص ١٣٢ .

(٣) شرح العقيدة الطحاوية طبع دمشق : ص ١١٠ و ١١١ .

(٤) مقالات الإسلاميين : ص ٣٢٣ .

١٨٩

٣ ـ وقال الإمام أبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي : « الإمام إذا جار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم وهو المذهب المرضي . . . ثم قال : وجه قول عامة أهل السنة والجماعة إجماع الأمة ، فإنهم رأوا الفساق أئمة ، فإن أكثر الصحابة كانوا يرون بني أمية وهم بنو مروان حتى كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلفهم ويرون قضاياهم نافذة ، وكذا الصحابة والتابعون وكذا من بعدهم يرون خلافة بني عباس وأكثرهم فسّاق ، ولأن القول بانعزال الأئمة بالفسق ، إيقاع الفساد في العالم ، وإثبات المنازعات وقتل الأنفس ، فإنه إذا انعزل يجب على الناس تقليد غيره ، وفيه فساد كثير ثم قال : إذا فسق الإمام يجب الدعاء له بالتوبة ولا يجوز الخروج عليه وهذا مروي عن أبي حنيفة لأنّ الخروج إثارة الفتن والفساد في العالم » (١) .

٤ ـ وقال الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ( المتوفى عام ٤٠٣ هـ ـ ق ) في التمهيد : « إن قال قائل : ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم ؟ قيل له : يوجب ذلك أمور : منها : كفر بعد إيمان ، ومنها : تركه الصلاة والدعاء إلى ذلك ، ومنها : عند كثير من الناس فسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ، وقال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع بهذه الأمور ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله ، إذ احتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا بالأموال وأنه قال ( عليه السلام ) : واسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع ، ولو لعبد حبشي ، وصلوا وراء كل بر وفاجر . وروي أنه قال : وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك وأطيعوهم ما أقاموا الصلاة » (٢) .

٥ ـ وقال الشيخ نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي ( المتوفى عام ٥٣٧ ) فی العقائد النسفية : « ولا ينعزل الإمام بالفسق والجور . . . ويجوز

____________________

(١) أصول الدين للإمام البزدوي طبع القاهرة : ص ١٩٠ ـ ١٩٢ وهو من الماتريديه .

(٢) التمهيد طبع القاهرة : ص ١٨٦ .

١٩٠

الصلاة خلف كل بر وفاجر » وعلله الشارح التفتازاني بقوله : « لأنه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم » (١) .

ما استدلوا به من روايات لإطاعة الجائر

وقد أيدت تلك العقائد بروايات ربما يتصور القاريء ان لها نصيباً من الحق أو حظاً من الصدق لكن الحق أن أكثرها مفتعلة على لسان رسول الله ( صلی الله عليه وآله ) قد أفرغها في قالب الحديث جمع من وعاظ السلاطين ومرتزقتهم تحفظاً على عروشهم وحفظاً لمناصبهم وإليك بعض تلك الروايات التي رواها مسلم في صحيحه :

١ ـ روى مسلم ، عن حذيفة بن اليمان ، قلت : يا رسول الله . . . إلى أن قال : قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم رجال ، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ، قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع » .

٢ ـ وروي عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة الجاهلية . . . إلى أن قال : ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه » .

٣ ـ روي عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله ( صلّی الله عليه وآله وسلم ) : « من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ، فميتته جاهلية » .

٤ ـ روي عنه أيضاً ، عن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « من

____________________

(١) شرح العقائد النسفية ص ١٨٥ و ١٨٦ .

١٩١

رأى من أميره شيئاً فليصبر فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية » .

٥ ـ روي عن عبد الله بن عمر ، أنه جاء إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال : « أخرجوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) يقوله : من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » .

وقد فسر ابن عمر قول رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) بلزوم بيعة يزيد وإطاعته حتى في مسألة الحرة .

٦ ـ روي عن أم سلمة ، أن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف بریء ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع . قالوا يا رسول الله : ألا نقاتلهم قال : لا ما صلوا » .

٧ ـ روي عن عوف بن مالك في حديث : « قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف ؟ فقال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعته » (١) .

وقد أورد ابن الأثير الجزري قسماً من هذه الأحاديث في جامع الأصول (٢) .

٨ ـ روى البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال : « قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : سيكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون ، ويفعلون بما يؤمرون وسيكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن أنكر عليهم بریء ومن أمسك يده سلم ولكن من رضي وتابع » (٣) .

____________________

(١) صحيح مسلم : باب الأمر بلزوم الجماعة ، وباب حكم من فارق أمر المسلمين ج ٦ ص ٢٠ ـ ٢٤ .

(٢) لاحظ جامع الأصول : ج ٤ الكتاب الرابع في الخلافة والأمارة ، الفصل الخامس ص ٤٥١ . . الخ .

(٣) السنن الكبرى : ج ٨ ص ١٥٨ .

١٩٢

٩ ـ وروى ابن عبد ربه ، عن عبد الله بن عمر : « إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر ، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر » (١) .

١٠ ـ وهذه الأحاديث تهدف إلى قول أحمد بن حنبل فقد عرفت ما في إحدى رسائله وهذا نصه : « السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف وسمي أمير المؤمنين ، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة » (٢) .

عرض أحاديث إطاعة الجائر على القرآن

وقبل كل شيء يجب علينا أن نعرض تلك الروايات على كتاب الله سبحانه فإنه المحك الأول لتشخيص الحديث الصحيح من السقيم .

قال سبحانه حاكياً عن العصاة والكفار : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) (٣) .

فهذا القسم من الآيات يندد بقول من يرى وجوب طاعة السلطان الظالم التي توجب ضلالة المطيع له عن السبيل السوي ، وثمة آيات تندد بعمل من يصبر على عمل الطاغية من دون أن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر وترى نفس السكوت والصبر على طغيان الطاغية جرماً وإثماً موجباً للهلاك وهذه الآيات هي الواردة حول قوم بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون قرب ساحل من سواحل البحر فتقسمهم إلى أصناف ثلاثة :

الأول : الجماعة المعتدية العادية التي رفضت حكم الله سبحانه حيث حرم عليهم صيد البحر يوم السبت قال سبحانه : ( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ

____________________

(١) العقد الفريد : ج ١ ص ٨ .

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية : ج ٢ ص ٣٢٢ .

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٦٦ ـ ٦٨ .

١٩٣

تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ . . . ) (١) .

الثاني : الجماعة الساكتة التي أهمتهم أنفسهم لا يرتكبون ما حرم الله وفي الوقت نفسه لا ينهون الجماعة العادية عن عدوانها ، بل كانوا يعترضون على الجماعة الثالثة التي كانت تقوم بواجبها الديني من إرشاد الجاهل والقيام في وجه العاصي والطاغي ، بقولهم : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) (٢) .

الثالث : الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر معتبرين ذلك وظيفة دينية عريقة ونصيحة لازمة للإخوان وقد حكى الله سبحانه عن لسانهم في محكم كتابه العزيز حيث قال : ( مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (٣) .

نرى أن الله سبحانه أباد الطائفتين الأوليين ، وأنجى الثالثة . قال سبحانه : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (٤) .

فالآية الأخيرة صريحة في حصر النجاة في الناهين عن السوء فقط وهلاك العادين والساكتين عن عدوانهم ، فلو كان السكوت والصبر على عدوان العادين أمراً جائزاً لماذا عم العذاب كلتا الطائفتين ؟ أو ما كان في وسع هؤلاء أن يعتذروا للقائمين بالأمر بالمعروف ، بأن في القيام والخروج وحتى في النصيحة بالقول ، تضعيفاً لقوة الأمة وفكاً لعراها ؟

فلو دلت الآية الأولى على حرمة طاعة الظالم في الحرام ودلت الآية الثانية على حرمة السكوت في مقابل طغيان العادين فهناك آية ثالثة تدل على حرمة الركون إلى الظالم يقول سبحانه : ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٥) .

____________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١٦٣ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٦٤ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٦٤ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ١٦٥ .

(٥) سورة هود : الآية ١١٣ .

١٩٤

أو ليس تأييد الحاكم الجائر والدعاء له في الجمعة والجماعات وإقامة الصلاة بأمره ، وإدارة كل شأن حول منه إليه ، يعد ركوناً إلى الظالم ؟ فما هو جواب هؤلاء المرتزقة في ما يسمى بالدول الإسلامية الذين يعترفون بجور حكامهم وانحرافهم عن الصراط السوي ومع ذلك يدعون لهم عقب خطب الجمعات بطول العمر ودوام السلامة ويديرون الشؤون الدينية حسب الخطط التي يرسمها ويصورها لهم أولئك الحكام ، الذين يعدهم هؤلاء المرتزقة محاور ومراكز ، ويعدون أنفسهم أقماراً تدور في أفلاكها ، اللهم إلا أن يعتذر هؤلاء بعدم التمكن مما يجب عليهم من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على مراتبها المختلفة ولكنه عذر لا يقبل في كثير من الأحيان وعلى ذلك الأساس فما قيمة تلك الروايات المعارضة لنصوص الكتاب وصريح الذكر الحكيم ؟ .

أحاديث معارضة لأحاديث طاعة الجائر

إن هناك روايات تنفي صحة الروايات السابقة وتجعلها في مدحرة البطلان وقد نقلها أصحاب الصحاح والسنن أيضاً وعند المعارضة يؤخذ من السنة الشريفة ما يوافق كتاب الله الحكيم . وإليك نزراً من تلك الروايات :

قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « اسمعوا : سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس مني ولست منه وليس بوارد علي الحوض » (١) .

هذا بعض ما لدى السنة من الروايات وأما ما لدى الشيعة فنأتي ببعضها :

١ ـ عن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « ألا ومن علق سوطاً بين يدي سلطان ، جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً يسلطه الله عليه في نار جهنم وبئس المصير » .

____________________

(١) جامع الأصول : ج ٤ ص ٧٥ نقلاً عن الترمذي والنسائي .

١٩٥

٢ ـ وعنه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ، ومن لاق لهم دواة أو ربط لهم كيساً ، أو مد لهم مدة قلم ، فاحشروهم معهم » .

٣ ـ وعنه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « من خف لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار » .

٤ ـ وقال ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « ما اقترب عبد من سلطان جائر إلا تباعد من الله » .

٥ ـ وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السلام ) أنه قال : « من أحب بقاء الظالمين ، فقد أحب أن يعصى الله » .

٦ ـ وعنه ( عليه السلام ) أنه قال : « من سود اسمه في ديوان الجبارين . . . حشره الله يوم القيامة حيراناً » .

٧ ـ وعنه ( عليه السلام ) أنه قال : « من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج عن الإسلام » .

٨ ـ وعن الإمام الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) أنه قال : « ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وأن لي ما بين لابتيها ، لا ، ولا مدة بقلم ، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يفرغ الله من الحساب » (١) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته المعصومين ( عليهم السلام ) الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر ، والحاثة على زجره ودفعه ، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة ، فهذه الأحاديث تدل على أن ما مر من الروايات الحاثة على السكوت عن الحاكم الظالم ، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه ، والرضا بجوره ، جميعها

____________________

(١) راجع لمعرفة هذه الأحاديث وسائل الشيعة : ج ١٢ الباب ٤٢ ، الأحاديث : ٦ ، ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٤ ، ١٥ والباب ٤٤ الحديث ٥ و ٦ .

١٩٦

مما لفقه رواة السوء والجور بإيعاز من السلطات الحاكمة في تلك العصور المظلمة ، فنسبوه إلى النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وهو ـ روحي فداه ـ منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادیء الكتاب والسنة الصحيحة .

ولو لم يكن في المقام إلا قول علي ( عليه السلام ) في خطبته : « . . . وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم . . . الخ » (١) لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبي ( صلی الله عليه وآله ) .

*       *      *

وفي ختام الكلام نلفت نظر القاریء الكريم إلى ما قاله الإمام أبو الشهداء الحسين بن علي ( عليهما السلام ) لأهل الكوفة حيث خطب أصحابه وأصحاب الحر ( قائد جيش عبيد الله بن زياد آنذاك ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أيها الناس إن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غيري » (٢) .

وهذه النصوص الرائعة المؤيدة بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين قاموا في وجه الطغاة من بني أمية وبني العباس ، تشهد بأن ما نسب إلى الصحابة والتابعين من الاستسلام والسكوت على ظلم الظالمين لكون ذلك من عقيدتهم الإسلامية ما هو إلا بعض مفتعلات أصحاب العروش وقد وضعها وعاظهم ومرتزقتهم وإلا فالطيبون من الصحابة والتابعين بريئون من هذه النسبة .

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٣ .

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ حوادث سنة ٦١ ص ٣٠٤ .

١٩٧

صراع بين العقيدة والوجدان

نرى أن بعض الشباب المسلم في البلاد الإسلامية ، قد انخرطوا في الأحزاب السياسية ، ورفضوا الدين من أساسه ، ولعل بعض السبب هو أنهم وجدوا في أنفسهم صراعاً بين العقيدة والوجدان . فمن جانب ، توحي إليهم فطرتهم وعقيدتهم الإنسانية السليمة ، أنّه تجب مكافحة الظالمين ، والخروج عليهم ، ونصرة المظلومين وانتزاع حقوقهم من أيدي الظالمين ، ومن جانب آخر يسمعون من علماء الدين أو المتزيين بلباسهم ، أنه لا يجوز الخروج على السلطان ، بل تجب طاعته ، وإن أمر بالظلم والعدوان . فحينئذٍ يقع الشاب في حيرة من أمره بين اتباع الفطرة والعقل السليم ، واتباع كلام هؤلاء العلماء الذين ينطقون باسم الدين خصوصاً إذا كان المتكلم رجلاً يكيل له المجتمع الاحترام والإكبار ، ويعرفه التاريخ بالخطيب الزاهد كالحسن البصري فإنّه عندما سئل عن مقاتلة الحجاج ـ ذلك السيف المشهر على الأمة والإسلام ـ فأجاب : أرى أن لا تقاتلوه فإنّه إن يكن عقوبة من الله ، فما أنتم براديها ، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين . فخرج السائلون من عنده وهم يقولون مستنكرين ما سمعوا منه : أنطيع هذا العلج . ثم خرجوا مع ابن الأشعث إلى قتال الحجاج (١) .

فإذا سمع الشاب الثوري هذه الكلمة من عميد الدين وخطيبه ـ كما يقال ـ عاد يصف جميع رجال الدين بما وصف به الحسن البصري وبالتالي يخرج من الدين ويتركه ويصف الدين سناداً للظالم وملجأ له .

وفي الختام نوجه نظر الأعلام من السنة إلى خطورة الموقف في هذه الأيام ، وأن أعداء الإسلام لبالمرصاد يصطادون الشباب بسهام الدعاية الكاذبة ، ويعرفون الإسلام بأنه سند الظالمين وركن الجائرين بحجة أنه ينهى عن الخروج على السلطان الجائر .

____________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد : ج ٧ ص ١٦٤ .

١٩٨

والمسلم غير العارف بالدين وما ألصق به ، لا يميز بين الحقيقة الناصعة وبين ما ألبس عليها من ثوب رديء قاتم .

وليس هذا أول ولا آخر مورد يجد الشاب الثوري صراعاً في نفسه بين العقلية الإنسانية والدعاية الكاذبة عن الإسلام ، فيختار وحي الفطرة ويصبح ثائراً على القوى الطاغية ، ويظن أنه ترك الإسلام بظن أن المتروك هو الدين الحقيقي الذي أنزله الله تعالى على النبي محمد ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وهذه الجريمة متوجهة بالدرجة الأولى إلى هذا النمط من العلماء .

فواجب علماء الدين أن يرجعوا إلى المصادر الإسلامية الصحيحة في تشخيص ما هو من صميم الدين عما ألصق به ، ولا يقتنعوا بما كتب باسم الدين عن السلف الصالح ، وليس كل ما نسب إلى السلف الصالح ، أو قالوا به من صميم الدين ، كما أنه ليس كل سلف صالحاً بل هم بين صالح وطالح ، وسعيد وشقي ، وعالم وجاهل وليس كل سلف أفضل وأتقى وأعلم من كل خلف فليذكروا المثل السائر « كم ترك الأول للآخر » ، فليدرسوا الأصول المسلمة من رأس ، نعم لا أنكر أن هناك أناساً واقفين على الحقيقة ولكنهم يكتمونها لأن مصالحهم الشخصية لا تقتضي إظهارها وقد نزل فيهم قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (١) كما أن بينهم شخصيات لامعة جاهروا بالحقيقة وأصحروا بها واشتروا رضا الرب بأثمان غالية وتضحيات ثمينة .

فهذا إمام الحرمين يقول : « إن الإمام إذا جار وظهر ظلمه وغشمه ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه ، فلأهل الحل والعقد ، التواطؤ على ردعه ، ولو بشهر السلاح ونصب الحروب » (٢) .

في الختام نعطف نظر القاریء الكريم إلى قوله سبحانه عندما يأمر

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٥٩ .

(٢) شرح المقاصد : ج ٢ ص ٢٧٢ .

١٩٩

المؤمنات بالبيعة مع النبي ويقول : ( وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) (١) فيقيد إطاعة النبي وحرمة مخالفته بما إذا أمر بالمعروف ومن المعلوم أن النبي الأكرم معصوم لا يأمر بالمنكر أبداً وإنّما هو لتعليم غيره فهل يجوز لمسلم أن يقول بوجوب طاعة السلطان الجائر إذا أمر بالجور والمنكر ؟ .

*       *      *

( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) .

( الأحزاب : الآية ٦٧ ـ ٦٨ )

____________________

(١) سورة الممتحنة : الآية ١٢ .

٢٠٠