بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.

العقائد وطرح قدم القرآن خاصة على بساط البحث مع أنّه لم يرد في ذلك نصّ عن النبي والصحابة.

قال « زهدي حسن » ـ عند البحث عن تأثير الديانات ـ في تكون العقائد : فمن أهل تلك الأديان من تركوا أديانهم ودخلوا في الإسلام. لكنّهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من عقائدهم القديمة ولم يتسن لهم أن يتجرّدوا من سلطانها ، لأنّ للمعتقدات الدينية على نفوس الناس قوة نافذة وهيمنة عظيمة فلا تزول بسهولة ولا تنسى بسرعة ، ولهذا فإنّهم نقلوا إلى الإسلام ـ عن غير تعمد أو سوء قصد ـ بعض تلك المعتقدات ونشروها بين أهله.

ومنهم ـ وهذا يصحّ عن الفرس كما سنرى ـ من اعتنق الإسلام لا عن إيمان به أو تحمس له وإنّما لغايات في نفوسهم فعل بعضهم ذلك طمعاً في مال يجنيه أو جاه يناله ، وأقدم البعض الآخر عليه بدافع الحقد على المسلمين الذين هزموا دينهم وهدموا ملكهم ، فأظهروا الإسلام وأبطنوا عداوته ودأبوا على محاربته والكيد له ، فكانوا خطراً عليه كبيراً ، وشراً مستطيراً ، لأنّهم ما انفكوا ينفثون فيه ما في صدورهم من الغل والغيظ ، ويروجون بين أبنائه من الأفكار والآراء ما لا تقره العقيدة الإسلامية حباً في تشويه تلك العقيدة ورغبة في إفسادها.

وكثيرون من غير المسلمين تمسكوا بأديانهم الأصلية ، لأنّ الإسلام منحهم حرية العبادة ، ولم يتدخل في شؤونهم الخاصة ما داموا يدفعون الجزية ، ولما توطدت أركان الدولة الإسلامية وتوسعت أعمالها في عهد بني أُمية ، ولما لم تكن للعرب الخبرة الكافية في أُمور الإدارة ، فإنّهم اضطروا إلى أن يعتمدوا في تصريف شؤون البلاد على أهل الأمصار المتعلمين الذين اقتبسوا مدنية الفرس وحضارة البيزنطيين ، فأسندوا إليهم أعمال الدواوين. وهكذا كانوا يحيون بين ظهراني المسلمين ، ويحتكون دوماً بهم ... والاحتكاك يؤدي إلى تبادل الرأي ، والآراء سريعة الانتقال شديدة العدوى.

وقال أيضاً : إنّ الأمويين قربوهم ( المسيحيين ) إليهم ، واستعانوا بهم ، وأسندوا إليهم بعض المناصب العالية ، فقد جعل معاوية بن أبي سفيان

١٠١

« سرجون بن منصور » الرومي المسيحي كاتبه وصاحب أمره (١) وبعد أن قضى معاوية بقيت لسرجون مكانته فكان يزيد يستشيره في الملمّات ويسأله الرأي. (٢) ثمّ ورث تلك المكانة ولده يحيى الدمشقي (٣) الذي خدم الأمويين زمناً ثمّ اعتزل العمل سنة ( ١١٢ / ٧٣٠ م ) والتحق بأحد الأديرة القريبة من القدس حيث قضى بقية حياته يشتغل في الأبحاث الدينية ويصنف الكتب اللاهوتية ، وليس من يجهل الأخطل الشاعر المسيحي الذي قدمه الأمويون وأغدقوا عليه العطايا وجعلوه شاعر بلاطهم. وكيف كان يزيد بن معاوية يعتمد عليه في الرد على أعداء بني أُمية وهجوهم. (٤)

إنّ احتكاك المسلمين بأُولئك المسيحيين لا يمكن أن يكون قد مضى دون أن يترك فيهم أثراً ، ولا سيما برجل ممتاز كيحيى الدمشقي الذي كان آخر علماء اللاهوت الكبار في الكنيسة الشرقية وأعظم علماء الكلام في الشرق المسيحي. (٥)

* * *

وقال أحمد أمين عندالبحث عن مصادر القصص في العصر الأوّل : ولا بدّ أن نشير هنا إلى منبعين كبيرين لهؤلاء القصص وأمثالهم (٦) ، تجد ذكرهما كثيراً في رواية القصص وفي التاريخ وفي الحديث وفي التفسير ، هما : وهب بن منبه ، وكعب الأحبار.

فأمّا وهب بن منبه فيمني من أصل فارسي ، وكان من أهل الكتاب الذين

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٦ص ١٨٣ وابن الأثير : ج ٤ص٧.

٢ ـ الطبري : ج٦ص ١٩٤ ـ ١٩٩ وابن الأثير : ج ٤ص١٧.

٣ ـ هو القديس يحيى الدمشقي ( ٨١ ـ ١٣٧ ٧٠٠ ـ ٧٥٤ م ) واسمه العربي منصور. كان يحيى الدمشقي عالماً كبير القدر من علماء الدين وقديساً محترماً في الكنيستين : الشرقية والغربية.

٤ ـ الأغاني : ج ١٤ص١١٧.

٥ ـ لاحظ كتاب « المعتزلة » : ص٢٣ ـ ٢٤ تأليف زهدي حسن جار اللّه ، طبع القاهرة سنة ١٣٦٦.

٦ ـ كذا في المصدر.

١٠٢

أسلموا ، وله أخبار كثيرة وقصص تتعلّق بأخبار الأول ومبدأ العالم وقصص الأنبياء ، وكان يقول : قرأت من كتب اللّه اثنين وسبعين كتاباً وقد توفي حوالي سنة ( ١١٠ ) بصنعاء. وأمّا كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهودي من اليمن كذلك ، ومن أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين ، أسلم في خلافة أبي بكر وعمر ـ على خلاف في ذلك ـ وإنتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثمّ إلى الشام ، وقد أخذ عنه اثنان ، هما أكبر من نشر علمه : ابن عباس ـ وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ وأبو هريرة ولم يؤثر عنه أنّه ألّف كما أثر عن وهب بن منبه ، ولكن كلّ تعاليمه ـ على ما وصل إلينا ـ كانت شفوية ، وما نقل عنه يدلّ على علمه الواسع بالثقافة اليهودية وأساطيرها.

جاء في « الطبقات الكبرى » حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد اللّه بن القيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ. (١) وقد لاحظ بعض الباحثين أنّ بعض الثقات كابن قتيبة والنووي ما رويا عنه أبداً. وابن جرير الطبري يروي عنه قليلاً ، ولكن غيرهم كالثعلبي والكسائي ينقل عنه كثيراً من قصص الأنبياء كقصة يوسف والوليد بن الريان وأشباه ذلك. ويروي « ابن جرير » أنّه جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام وقال له : اعهد ، فإنّك ميت في ثلاثة أيام. قال : وما يدريك؟ قال : أجده في كتاب اللّه عزّوجلّ في التوراة. قال عمر : إنّك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال : اللّهمّ لا ، ولكن أجد صفتك وحليتك وأنّه قد فني أجلك.

وهذه القصة إن صحت ، دلّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر ، ثمّ وضعها هو في هذه الصبغة الإسرائيلية ، كما تدلنا على مقدار اختلاقه فيما ينقل.

وعلى الجملة : فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم في عقيدتهم وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح. (٢)

__________________

١ ـ طبقات ابن سعد : ج ٧ص٧٩.

٢ ـ فجر الإسلام : طبع دار الكتاب العربي : ص ١٦٠ ـ ١٦١.

١٠٣

( وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ).

(آل عمران : ٦٩)

١٠٤

العامل الخامس

الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري

مضى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جوار ربّه وقام المسلمون بعده بفتح البلاد ومكافحة الأُمم المخالفة للإسلام والسيطرة على أقطارها ، وكانت تلك الأُمم ذات حضارة وثقافة في المعارف والعلوم والآداب ، وكان بين المسلمين رجال ذوو دراية ورغبة في كسب العلوم وتعلم ما في تلك الحضارات من آداب وفنون فأدّت هذه الرغبة إلى المذاكرة والمحاورة أوّلاً ، ونقل كتبهم إلى اللغة العربية ثانياً.

يقول بعض المؤرّخين في هذا الصدد : ولم تلبث كتب أرسطو ، وأنبذقليس ، وهرقليوس ، وسقراط ، وأبيقور ، وجميع أساتذة مدرسة الإسكندرية من الفلاسفة ، أن ترجمت إلى اللغة العربية وكان هناك ما جعل أمر تلك الترجمة سهلاً ، فقد كانت معارف اليونان والرومان منتشرة في بلاد الفرس وسوريا منذ أن وجد العرب في بلاد فارس وسوريا ، فلمّا استولى المسلمون على ما فيها من خزائن العلوم اليونانية قاموا بنقل ما هو باللغة السريانية إلى اللغة العربية.

وأعان على أمر الترجمة أنّه نقل عدّة من الأسرى إلى العواصم الإسلامية ، فصار ذلك سبباً لانتقال كثيرمن آراء الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي

١٠٥

وانتشارها بينهم ولا شكّ أنّ بين تلك المعارف ما كان يضاد مبادئ الإسلام وأُسسه وكان بين المسلمين من لم يتدرع في مقابلها ومنهم من لم يتورع في أخذ الفاسد منها.

فأصبحوا مغمورين في هذه التيارات ، نظراء : ابن أبي العوجاء ، وحماد بن عجرد ، ويحيى بن زياد ، ومطيع بن أياس ، وعبد اللّه بن المقفع ، فهؤلاء وأمثالهم بين غير متدرع وغير متورع ، اهتموا بنشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الملاحدة والثنوية من الروم والفرس إلى أن عاد بعض المتفكّرين غير مسلمين للإسلام إلاّ بالقواعد الأساسية كالتوحيد والنبوة وإلمعاد وكانوا ينشرون آراءهم علناً ويهاجمون بها عقائد المؤمنين.

نحن نرى في التراث اليوناني بفضل التراجم التي وصلت إلينا أبحاثاً حول علمه سبحانه وإرادته وقدرته وأفعاله حتى مسألة الجبر والاختيار ، وقد كان لتلك الآراء تأثير عميق على عقول المسلمين وهم بين متدرّع بالحضارة الإسلامية يكافح الشبه ويميز الصحيح من الفاسد ، وبين ضعيف في التعقّل والتفكّر ليس له من الشأن إلاّ الأخذ ، فصارت تلك الآراء من مبادئ تكوّن الفرق واختلاق النحل.

دور أهل البيت في عصر الترجمة

وفي هذا الجو المشحون بالآراء والعقائد الصحيحة وغير الصحيحة ، قام أهل البيت بتربية جموع غفيرة من ذوي الاستعداد على المبادئ الأصيلة والمفاهيم الإسلامية وتعريفهم بالأُصول الدينية المستقاة من الكتاب والسنّة والعقل ، وصاروا يناظرون كلّ فرقة ونحلة بما فيهم الملاحدة والثنوية بأمتن البراهين وأسلمها.

وقد حفظ التاريخ أسماء طائفة منهم ، كهشام بن الحكم ، وأبي جعفر مؤمن الطاق ، وجابر بن يزيد ، وأبان بن تغلب البكري ، ويونس بن

١٠٦

عبد الرحمن ، وفضال بن الحسن بن فضال ، ومحمد بن خليل السكاك ، وأبي مالك الضحاك ، وآل نوبخت جميعاً ، إلى غير ذلك ممن برع في علم الكلام ، وناظر الفرق ، بين من تتلمذ على الأئمة ، أو من تتلمذ على خريجي مذهبهم ، وتواصلت حلقات مناظراتهم حتى القرون المتأخرة وألفت كتب في العقائد والكلام والملل والنحل ، يقف القارئ على تاريخهم في كتب الرجال والتراجم وقد حفظ الكثير من نصوص هذه المناظرات والاحتجاجات لحدّ الآن.

كما قامت المعتزلة بمقاومة هذه التيارات الإلحادية والثنوية ، وبإزالة الشبه بفضل الأُصول القرآنية والعقلية ، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً وإن لم يكونوا ناجحين في كلّ ما هو الحقّ من الأُصول والفروع الإسلامية.

وبما أنّ أهل الحديث لا يحسنون طريقة المعتزلة في الاحتجاج والبرهنة ، لذا كانوا يعادونهم ، كما أنّ الملاحدة والثنوية كانوا يعادونهم أيضاً ، لما يجدون فيهم من قوّة التفكير والقدرة على الاحتجاج والمناظرة. وعلى ذلك فقد وقعت المعتزلة بين عدوين : أحدهما من الداخل ، وهم أهل الحديث ، والآخر من الخارج ، وهم الملاحدة والثنوية.

نعم كان بين المسلمين من يأبى الخوض في المسائل العقلية ويكتفي بما وصل إليه من الصحابة ، ويقتصر على ما حصل عليه من الدين بالضرورة وهم الحشوية من أهل الحديث وأكثر الحنابلة ولما التحق الشيخ أبو الحسن الأشعري بالحنابلة لم يجد محيصاً في الدفاع عن عقائدهم عن الخوض في المسائل الكلامية ، فألّف رسالة أسماها « في استحسان الخوض في الكلام ».

١٠٧

العامل السادس

الاجتهاد في مقابل النص

إذا كانت العوامل الخمسة الماضية من عوامل تكون المذاهب الكلامية فالاجتهاد في مقابل النص ممّا يتكون به المذاهب الكلامية والفقهية.

روى الفريقان أنّ النبي (ص) كان مسجى على فراش الموت والحجرة غاصة بأصحابه فقال : « يا أيّها الناس يوشك أن أقبض سريعاً فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا أنّي مخلف فيكم كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي ». (١)

فجعل العترة أعدال كتاب اللّه وقرناءه كما أنّه (ص) جعلهم أمان الأُمّة من الاختلاف وسفينتها من الهلاك ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي ستمر عليك عند البحث عن الشيعة.

ومع ذلك استأثر القوم بالأمر يوم السقيفة وإوّلوا نصوصه لا يلوون على شيء وقد قضوا أمرهم بينهم دون أن يؤذنوا به أحداً من بني هاشم وأهل بيت النبوة وكأنّه عناهم الشاعر في المثل السائر حيث قال :

ويقضى الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأذنون وهم شهود

نرى أنّ الأُمّة بعد رسول اللّه (ص) رجعوا إلى كلّ صحابي وتابعي وإلى

__________________

١ ـ لاحظ ص ٣٦ من كتابنا هذا.

١٠٨

من أدرك صحبة النبي شهراً أو أقلّ ومع ذلك أعرضوا عن أهل بيته وعترته وهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل ، وما هذا إلاّ اجتهاد في مقابل النصّ.

وأمّا المذاهب الفقهية التي أُسّست في ظل هذا العامل فحدث عنها ولا حرج ، ويكفي في ذلك المراجعة إلى الكتب الفقهية في المسائل التالية :

١ ـ إسقاط سهم المؤلّفة قلوبهم من الزكاة مع النص عليه في محكم الذكر.

٢ ـ إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بوفاة رسول اللّه مع النصّ عليه في محكمات الفرقان وصحاح السنن.

٣ ـ الحكم بعدم توريث الأنبياء مع ما في الذكرالحكيم من النصوص الصريحة في توريثهم.

٤ ـ النهي عن متعة الحجّ مع النصّ الوارد عليها في الآية (١٩٦) من سورة البقرة.

٥ ـ النهي عن متعة النساء مع النصّ عليه في محكم الذكر وصحاح الروايات.

٦ ـ إسقاط « حي على خير العمل » من الأذان والإقامة مع كونه جزءاً من كلّ منهما.

إلى غير ذلك من الموارد التي جمعها العلاّمة الأكبر السيد شرف الدين العاملي ( المتوفّى ١٣٧٧ ) في كتابه « النص والاجتهاد » وهو من الكتب الممتعة في ذلك الموضوع وفي آخر الكتاب فصل جمع فيه نصوص الإمامة المتوالية من مبدأ أمر الرسول إلى انتهاء عمره الشريف.

* * *

( ثُمَّ أَورَثنا الكِتابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسهِِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّه ذلِكَ هُوَ الفَضْلُ الْكَبير ).

(فاطر : ٣٢)

١٠٩
١١٠

الفصل الرابع

في معنى القدرية والمعتزلة والرافضة والحشوية

إنّ كتب الملل والنحل مشحونة باصطلاحات يستخدمونها في التعبير عن الفرق ويعبرون عن أكثرهم بإدخال ياء النسبة إلى أصحاب الرأي ، غير أنّ هناك اصطلاحات اختلفوا في معناها أو وقع لهم الاشتباه في تفسيرها ، فلنذكر هاهنا القسم الأخير :

١ ـ القدرية

قد تداول استعمال لفظ القدرية في علمي الملل والكلام ، فأصحاب الحديث كإمام الحنابلة ومتكلّمي الأشاعرة يطلقونها ويريدون منها « نفاة القدر ومنكريه » بينما تستعملها المعتزلة في مثبتي القدر والمقرين به ، وكلّ من الطائفتين ينزجر من الوصمة بها ويفر منها فرار المزكوم من المسك ; وذلك لما رواه أبو داود في سننه ، والترمذي في صحيحه ، من روايات في ذم القدرية والقدح فيهم. وإليك بيانها :

١ ـ عبد اللّه بن عمر : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : القدرية مجوس هذه الأُمّة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم.

٢ ـ عبد اللّه بن عباس : إنّ النبي قال : لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم. (١)

____________

١ ـ أي لا تحاكموهم وتناظروهم ولا تجادلوهم. وفي المصدر عمر بن الخطاب مكان « عبد اللّه بن عباس ».

١١١

٣ ـ عبد اللّه بن عباس قال : قال رسول اللّه : صنفان من أُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية. (١)

ولأجل هذه الروايات يتهم كلّ من الطائفتين ، الأُخرى بالقدرية لينزّه نفسه من ذلك العار والشنار.

ولا يخفى أنّ متون الأحاديث تعرب عن كونها موضوعة على النبي الأكرم ، خصوصاً الحديث الأخير فقد جاء فيه : المرجئة والقدرية معاً ، إذ إنّ هذين المصطلحين برزا بين المسلمين في النصف الثاني من القرن الأوّل عندما اتّهم معبد الجهني وتلميذه غيلان الدمشقي بالقدر والإرجاء ، وذاع هذان الاصطلاحان بين المسلمين إلى الآن ومن البعيد وجودهما في زمن الرسول الأعظم وشيوعهما في ذلك العصر ، وعند ذلك كيف يتكلّم الرسول بكلمات بعيدة عن أذهان أصحابه ، وغريبة على مخاطبيه ، كلّ ذلك يثير الشكّ أو سوء الظن بوضع هذه الأحاديث ودسّها بين المسلمين ، حتى يتسنّى لكلّ من الطائفتين ، تعيير الأُخرى بها والنيل من كرامتها ، وما ذكرناه من التشكيك وإن كان لا يخرج عن دائرة الاستحسان ، غير أنّ وقوع الضعاف في أسنادها يؤيد ذلك التشكيك ويقوّيه.

أمّا الحديث الأوّل ، فقد رواه أبو داود في سننه بالسند التالي :

حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، قال : حدثني بمنى عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي. (٢)

ويكفي في ضعف الحديث ، أنّ أبا حازم سلمة بن دينار ، لم يدرك عبد اللّه بن عمر ، وقد روى عنه في مواضع بوسائط ، لا يثبت منها شيء. (٣)

وأمّا الحديث الثاني ، فقد رواه أيضاً بالسند التالي :

____________

١ ـ جامع الأُصول : ج ١٠ص ٥٢٦. راجع سنن أبي داود : ج ٤ باب في القدر ص ٢٢٢ ، الحديث ٦٤٩١ و ٦٤٩٢; سنن الترمذي : ج ٤ ، كتاب القدر باب ١٣ ، الحديث ٢١٤٩.

٢ ـ سنن أبي داود : ج ٤ص ٢٢٢ ، الباب في القدر ، الحديث ٤٦٩١.

٣ ـ جامع الأُصول قسم التعليق ج ١٠ ص ٥٢٦ واللآلي المصنوعة للسيوطي ج١ص٢٥٨.

١١٢

حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد اللّه بن يزيد المقري أبو عبد الرحمن ، قال حدثني سعيد بن أبي أيوب ، قال حدثني عطاء بن دينار ، عن حكيم بن شريك الهذلي ، عن يحيى بن ميمون الحضرمي ، عن ربيعة الجرشي ، عن أبي هريرة ، عن عمر بن الخطاب. (١)

ويكفي في ضعف الحديث أنّ في أسناده ، حكيم بن شريك الهذلي البصري الذي هو مجهول. (٢)

وأمّا الحديث الثالث ، فقد رواه الترمذي في سننه بالسند التالي :

حدثنا واصل بن عبد الأعلى الكوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن القاسم بن حبيب ، وعلي بن نزار ، عن نزار عن عكرمة. (٣)

ويكفي في ضعف الحديث أنّ قاسم بن حبيب ضعيف ، ونزار وابنه علي ، من المجاهيل.

أفيصح الاحتجاج بأحاديث هذه أسنادها؟

هذه حال الأحاديث الواردة في الصحاح. غير أنّ هناك أحاديث وردت في غيرها تختلف مع ما ورد فيها سنداً ، وإن كانت تتحد لفظاً. وقد جمعها السيوطي في كتابه « اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ». (٤)

مثلاً : روى ابن عدي ، بسند عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعاً : إنّ لكلّ أُمّة مجوساً ، وإنّ مجوس هذه الأُمّة القدرية ، فلا تعودوهم إذامرضوا ، ولا تصلّوا عليهم إذا ماتوا.

وفي سنده جعفر بن الحارث ، قال عنه السيوطي : ليس بشيء.

ورواه خيثمة بسند عن أبي هريرة ، وفي سنده غسان ، قال عنه السيوطي : مجهول.

__________________

١ ـ سنن أبي داود : ج٤ص٢٢٨ ، باب في القدر ، الحديث ٤٧١٠.

٢ ـ جامع الأُصول ، قسم التعليق ج١ص٥٢٦.

٣ ـ سنن الترمذي : ج٤ص٤٥٤ ، باب ما جاء في القدرية ، رقم الحديث ٢١٤٩.

٤ ـ لاحظ ج١ ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٦.

١١٣

ورواه الدارقطني ، بسند عن أبي هريرة ، وفيه مجاهيل ، حتى قال النسائي : هذا الحديث باطل كذب. (١)

ونكتفي بهذا المقدار في البحث عن سند الروايات.

هذا حال رجال الأحاديث المذكورة ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن الاحتجاج بأحاديث هذا شأنها ، وعلى فرض صحتها فالصحيح تفسير القدرية بمعنى مثبتي القدر والحاكمين به ، لا نفاته. فإنّ تلك الكلمة كأشباهها من العدلية وغيرها تطلق ويراد منها مثبتو مبادئها ، أعني : العدل ، لا نفاتها. وإطلاق تلك الكلمة وإرادة النفي منها من غرائب الاستعمالات.

نعم أخرج أبو داود في سننه (٢) ، عن حذيفة بناليمان قال : « قال رسول اللّه : لكلّ أُمّة مجوس ، ومجوس هذه الأُمّة الذين يقولون لا قدر ».

وهذا الحديث على فرض صحته يمكن أن يكون قرينة على تفسير القدرية في هذا المورد ، ويكشف عن أنّ ذلك الاستعمال البعيد عن الأذهان ، كان مقروناً بالقرينة. ولكن الاحتجاج بالحديث غير تام ، إذ في سنده عمر مولى غفرة ، عن رجل من الأنصار ، عن حذيفة ، فالراوي والمروي عنه مجهولان. (٣)

فقه الحديث

وبعد ذلك كلّه ، ففقه الحديث يقتضي أن نقول : إنّ المراد من القدرية هم مثبتو القدر ، لا نفاته ، بقرينة تشبيههم بالمجوس ، فإنّ المجوس معروفة بالثنوية ، وإنّ خالق الخير غير خالق الشر ، ومبدع النور غير مبدع الظلمة ، وإنّ هناك إلهين خالقين في عالم واحد ، يستقل كلّ في مجاله الخاص ، حسب ما يناسب ذاته.

والقائل بالقدر يحكّم القدر على أفعاله سبحانه وأفعال عباده ، فكأنّ

__________________

١ ـ اللآلي المصنوعة : ج١ص٢٥٨.

٢ ـ سنن أبي داود : ج ٤ص ٢٢٢ ح ٤٦٩٢.

٣ ـ الجرح والتعديل : ج ٦ص١٤٣.

١١٤

التقدير إله حاكم على أفعال اللّه وأفعالهم ، فإذا قدر شيئاً وقضى لا يمكن له نقض قضائه وقدره ، بل يجب عليهما أن يصيرا حسب ما قدر ، فالفواعل على هذا المعنى ـ سواء أكانت شاعرة عالمة بذاتها وأفعالها أو غير شاعرة وعالمة ـ مسيّرة لا مخيّرة ، لأجل حكومة القدر وسيادته على اللّه وأفعاله وعلى حرية عبده ، فأي إله أعلى وأسمى من القدر بهذا المعنى. فصحّ تشبيه القدرية ـ بهذا المعنى ـ بالمجوس القائلين بالثنوية وتعدد الإله.

وأمّا نفاة القدر الذين يقولون لا قدر ولا قضاء بل للّه الحكم في أوّله وآخره ، وأنّ عباده مخيّرون في أعمالهم وأفعالهم ، فهم أشبه بالموحدين من القائلين بالمعنى السابق الذكر.

نعم يمكن تقريب كون النفاة بحكم المجوس ببيان آخر وهو : أنّ تلك الفرقة يعتقدون بالتفويض ، وأنّ الإنسان مفوض إليه في فعله ، مستقل في عمله وكلّ ما يقوم به. فعند ذلك يكون الإنسان فاعلاً غير محتاج في فعله إلى خالقه وبارئه ، ويصير نداً له سبحانه وتعالى فكما هو مستقل في خلقه فذاك أيضاً مستقل في عمله.

وهذا الاعتقاد يشبه قول الثنوية ، من الاعتقاد بخالقين مستقلين : خالق النور وخالق الظلمة. وفي مورد البحث يعتقد نفاة القدر بخالقين : اللّه سبحانه بالنسبة إلى ما سواه غير أفعال الإنسان ، والإنسان في مجال أفعاله وأعماله ، فلكلّ مجال خاص ، وهذا الاعتقاد يخالف التوحيد في الخالقية والفاعلية ، وأنّه ليس هناك إلاّ خالق واحد ، كما أنّه ليس هناك فاعل مستقل. فكلّ ما في الوجود من الآثار مع استناده إلى مبادئها ومؤثراتها ، مستند إلى اللّه سبحانه ، وسيوافيك توضيحه عند البحث في القضاء والقدر.

ولا يخفى ما في هذا الوجه من الوهن ، لأنّ الحديث يركز على كونهم بمنزلة المجوس ، لأجل كونهم نافين للقدر ، لا لأجل كونهم قائلين بالتفويض ، وأنّ الإنسان بعد الوجود ، مفوض إليه فعله وعمله ، ولا صلة لفعله إلى اللّه سبحانه بوجه من الوجوه. وقولهم بالتفويض وإن كان يصحح ذلك ، لكنّه

١١٥

ليس مذكوراً في الحديث فالحقّ تفسير الحديث بالقائلين بالقدر والمثبتين له على الوجه الذي عرفته ، لا بنفاته.

هذا ، والقاضي عبد الجبار نقل حديثاً يوضح لنا مفاد هذا الحديث حيث قال : « لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً ، قيل له : ومن القدرية يا رسول اللّه؟ قال : « قوم يزعمون أنّ اللّه قدّر عليهم المعاصي وعذبهم عليها. والمرجئة قوم يزعمون أنّ الإيمان بلا عمل ». (١)

ونقل أيضاً قول الرسول : « لعن اللّه القدرية على لسان سبعين نبياً ، قيل : من القدرية يا رسول اللّه؟قال : « الذين يعصون اللّه تعالى ويقولون كان ذلك بقضاء اللّه وقدره ... وهم خصماء الرحمن وشهود الزور وجنود إبليس ». (٢)

وقد رواه بعض المفسرين أيضاً ، كالزمخشري في كشافه (٣) ، والرازي في مفاتيحه. (٤)

هذا وإنّ تنبّؤ النبي الأكرم عن طائفة باسمهم دون أن يذكر وصفهم بعيد جداً.

وهنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي أنّه لا شكّ أنّ للّه سبحانه قضاء وقدراً ، وانّه لا يمكن للمؤمن العارف بالكتاب والسنّة إنكار ذلك ، وقد قال سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا في أَنفُسِكُمْ إِلاّ في كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير ) (٥) وقال سبحانه : ( إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكة إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم ). (٦)

__________________

١ ـ المغني : ج ٨ ( المخلوق ) ص ٣٢٦.

٢ ـ شرح الأُصول الخمسة ص ٧٧٥ ، الطبعة الأُولى.

٣ ـ الكشاف : ج١ص ١٠٣.

٤ ـ المفاتيح : ج١٣ص١٨٤.

٥ ـ سورة الحديد : الآية ٢٢.

٦ ـ سورة الدخان : الآيتان ٣ و ٤.

١١٦

وهذه الآيات والأحاديث المتضافرة التي نقلها أصحاب الحديث لا تترك منتدحاً لمسلم أن ينكر القضاء والقدر ، نعم الكلام في تفسيرهما وتحديد معناهما على نحو لا يضاد ولا يخالف حاكمية اللّه واختياره أوّلاً ، ولا يزاحم حرية الإنسان وإرادته ثانياً ، إذ كما أنّ القدر والقضاء من الأُمور اليقينية ، فكذا حاكميته سبحانه واختياره ، وحرية العبد وإرادته من الأُمور اليقينية أيضاً وسوف يوافيك أنّ معنى القضاء والقدر الثابتين في الشرع ، ليس كما تصوّره أصحاب الحديث والأشاعرة : من تحكيم القدر على اختياره سبحانه ، وإرادة عباده. بل تقديره وقضاؤه لا يعني إبطال حرية الإنسان واختياره ، ولأجل كون المقام من مزال الأقدام ، نهى الإمام أمير المؤمنين البسطاء عن الخوض في القضاء والقدر ، فقال في جواب من سأله عن القدر : « طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسر اللّه فلا تتكلّفوه ». (١) ولكن كلامه عليه‌السلام متوجه إلى البسطاء من الأُمّة الذين لا يتحملون المعارف العليا ، لا إلى أهل المعرفة والنظر. ولأجل ذلك وردت جمل شافية في القضاء والقدر عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وسيوافيك شطر منها عند عرض مذهب أهل الحديث في هذا الموقف.

٢ ـ الاعتزال والمعتزلة

المعتزلة طائفة من العدلية نشأت في أوائل القرن الثاني الهجري ، ويرجع أصلها إلى « واصل بن عطاء » تلميذ الحسن البصري ، ولهم منهج كلامي خاص وأُصول معينة اتفقوا عليها ، وسوف نرجع إلى دراسة مذهبهم بعد الفراغ من دراسة مذهب أهل الحديث أوّلاً ، والأشاعرة ثانياً ، غير أنّ الذي نركز عليه هنا هو الوقوف على وجه تسميتهم بالمعتزلة تارة ، ووصف مدرستهم بالاعتزال أُخرى ، وهناك آراء ستة نشير إلى بعضها :

أ ـ دخل رجل على الحسن البصري ( المتوفّى عام ١١٠ ) فقال : يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده : قسم الحكم ، الرقم ٢٨٧.

١١٧

كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج ; وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان ، بل العمل ليس ـ على مذهبهم ـ ركناً من الإيمان ، ولا يضر مع الإيمان معصية ، كمالا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة الأُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب ، قال واصل بن عطاء ( تلميذه ) : أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ، ولا كافر مطلقاً ، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر.

ثمّ قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد ، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن ، فقال الحسن : اعتزل عنّا واصل ، فسمّي هو وأصحابه معتزلة. (١)

وقد كان لمسألة مرتكب الكبائر دوي عظيم في تلك العصور ، وهو أمر أحدثه الخوارج في البيئات الإسلامية تعييراً لعلي عليه‌السلام حيث إنّه بزعمهم ارتكب الكبيرة لمّا حكّم الرجال في أمر الدين ، وليس للرجال شأن في هذا المجال ، فعادوا يكفّرونه حسب معاييرهم الباطلة. ولأجل ذلك انتشر السؤال عن حكم مرتكب الكبيرة ، هل هو كافر أو مؤمن فاسق؟ فالتجأ واصل بن عطاء إلى القول بالمنزلة بين المنزلتين.

وظاهر الرواية ، أنّ واصل بن عطاء أجاب عن السؤال ارتجالاً وبلا تروّ ، غير أنّا نرى أنّ المعتزلة اتّخذوه أصلاً من الأُصول الخمسة التي لا يختلف فيها أحد منهم ، فيبدو أنّه انتهى إلى تلك النظرية عن تحقيق وتفكير وتبعه أصحابه طوال قرون من دون أن يكون هناك حافز سياسي أو داع غير إراءة الحقّ وإصابة الواقع.

ومع ذلك كلّه نرى عبد الرحمن بدوي يعتبر تلك الفكرة منهم فكرة سياسية اتّخذوها ذريعة على ألاّ ينصروا أحد الفريقين المتنازعين ( أهل السنّة والخوارج ) حيث قال : وإنّما اختار المعتزلة الأوّلون هذا الاسم ، أو على الأقل

__________________

١ ـ الفرق بين الفرق ص ١١٨ الملل والنحل للشهرستاني ج ١ص ٤٨.

١١٨

تقبّلوه ، بمعنى المحايدين أو الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين ( أهل السنة والخوارج ) على الآخر في المسألة السياسيّة الدينية الخطيرة : مسألة الفاسق ما هو حكمه؟ هل هو كافر مخلّد في النار كما يقول الخوارج ، أو هو مؤمن يعاقب على الكبيرة بقدرها كما يقول أهل السنّة ، أو هو في منزلة بين المنزلتين وهو ما يقول به المعتزلة. (١)

ب. وهناك رأي ثان في وجه تسميتهم بها ، يظهر ممّا ذكره أبو الحسين محمد ابن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي ( المتوفّى عام ٣٧٧ ) حيث يقول : وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن علي عليه‌السلام معاوية وسلم إليه الأمر ، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس ، وقد كانوا من أصحاب علي ، ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا : نشتغل بالعلم والعبادة فسمّوا بذلك معتزلة. (٢)

وهذا الرأي قريب من جهة أنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل ، عن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام لأنّهم يقرّون بأنّ مذهبهم يصل إلى واصل بن عطاء ، وأنّ واصلاً يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام المعروف بابن الحنفية بواسطة ابنه أبي هاشم وأنّ محمداً أخذ عن أبيه ، وأنّ علياً أخذ عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

وعلى ذلك فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية.

والذي يبعد ذلك أنّ من الأُصول الاعتقادية للمعتزلة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى هذا الأصل خرجت أوائلهم على الوليد الفاسق بن يزيد ابن عبد الملك ونصروا يزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك الذي كان على خط

__________________

١ ـ مذاهب الإسلاميين للدكتور عبد الرحمن بدوي : ج١ص ٣٧.

٢ ـ التنبيه والرد : ص ٣٦.

٣ ـ رسائل الجاحظ تحقيق عمر أبي النصر ص ٢٢٨ ، وغيره ممّا كتب في تاريخ المعتزلة كطبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار ، والمنية والأمل لأحمد بن يحيى بن المرتضى.

١١٩

الاعتزال ، وقد فصّل الكلام فيه المسعودي في تاريخه (١) ، وعلى ذلك فلا يصح أن يقال إنّهم لزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة.

والحقّ أن يقال : إنّ هناك طائفتين سمّيتا بالمعتزلة ، لا صلة بينهما سوى الاشتراك في الاسم ، ظهرت إحداهما بعد تصالح الإمام الحسن بن علي عليهما‌السلام مع معاوية ، وهؤلاء طائفة سياسية بحتة. وطلعت الأُخرى في زمن الحسن البصري بعد اعتزال واصل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد ، وهؤلاء طائفة كلامية عقائدية.

هذا وإنّ المعروف في وجه التسمية هو الوجه الأوّل دون الثاني ودون سائر الوجوه البالغة ستة أوجه.

وسيوافيك بيان تلك الأوجه الستة عند بيان عقائد المعتزلة في الجزء الثالث من هذه الموسوعة.

٣ ـ الرفض والرافضة ووجه التسمية

الرفض : بمعنى الترك. قال ابن منظور في اللسان : « الرفض تركك الشيء تقول : رفضني فرفضته ، رفضت الشيء أرفضه رفضاً. تركته وفرقته ، والرفض ، الشيء المتفرق والجمع : أرفاض ».

هذا هو المعنى اللغوي وأمّا حسب الاصطلاح في الأعصار المتأخرة فهو يطلق على مطلق محبي أهل البيت تارة ، أو على شيعتهم جميعاً أُخرى ، أو على طائفة خاصة منهم ثالثة. وعلى كلّ تقدير فهذاالاصطلاح اصطلاح سياسي أُطلق على هذه الطائفة وهو موضوع لا كلام فيه ، إنّما الكلام في وجه التسمية ومبدأ نشوئها ، فإنّنا نرى ابن منظور يقول في وجه التسمية « الروافض : جنود تركوا قائدهم وانصرفوا ، فكلّ طائفة منهم رافضة ، والنسبة إليهم رافضي ، والروافض قوم من الشيعة سمّوا بذلك لأنّهم تركوا زيد بن علي ، قال الأصمعي : كانوا

__________________

١ ـ مروج الذهب : ج ٣ص ٢١٢ ـ ٢٢٦.

١٢٠