بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.

النبي إذ ليس كلّ نجم هادياً للإنسان في البر والبحر ، بل هناك نجوم خاصة موجبة للاهتداء ، ولأجل ذلك قال سبحانه : ( وَعَلامات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون ). (١)

ولم يقل : وبالنجوم هم يهتدون ، ولو كان كلّ نجم هادياً للضال لكان الأنسب الإتيان بصيغة الجمع. ولو افترضنا صحّة الاهتداء بكلّ نجم في السماء ، أفهل يمكن أن يكون كلّ صحابي نجماً لامعاً في سماء الحياة ، هادياً للأُمّة؟!

هذا قدامة بن مظعون صحابي بدري يعد من السابقين الأوّلين ومن المهاجرين هجرتين ، روي أنّه شرب الخمر وأقام عليه عمر الحد. (٢) كما أنّ المشهور أنّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر. (٣)

وقد ارتد طليحة بن خويلد عن الإسلام وادّعى النبوة ، ومثله مسيلمة والعنسي الكذّابان وأمرهما أشهر من أن يذكر.

إنّ بعض الصحابة خضب وجه الأرض بالدماء ، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطأة حتى إنّه قتل طفلين لعبيد اللّه بن عباس!! وكم وكم بين الصحابة لدة هؤلاء من رجال العيث والفساد قد حفل التاريخ بضبط مساوئهم ، أفبعد هذه البينات يصح لأي ابن أُنثى أن يتقوّل بعدالة الصحابة مطلقاً ويتّخذها مذهباً ويرمي المخالف له ، بما هو بريء منه؟!

الموقف الصحيح من الصحابة

والنظرية القويمة المستقيمة هي نظرية الشيعة المنعكسة في الدعاء المروي عن الإمام الطاهر علي بن الحسين عليهما‌السلام ترى أن يدعو اللّه سبحانه في حقّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا لكلّهم ، بل للّذين أحسنوا

____________

١ ـ سورة النحل : الاية ١٦.

٢ ـ أُسد الغابة : ج ٤ص١٩٩ وسائر كتب التراجم.

٣ ـ أُسد الغابة : ج ٣ص٣١٢ ـ

٢٢١

الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، والذين عاضدوه وأسرعوا إلى وفادته وإليك تلك الكلمة المباركة من الصحيفة السجادية :

« اللّهمّ وأصحاب محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به ، ومن كانوا منطوين على محبته ، يرجون تجارة لن تبور في مودته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات ، إذ سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك ، وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك ، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم ، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم ، اللّهمّ وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا ... ». (١)

خاتمة المطاف

إنّ لأبي المعالي الجويني كلاماً حول الصحابة دعا فيه إلى أنّ الواجب ، الكف والإمساك عن الصحابة وعمّا شجر بينهم ، نقله الشارح الحديدي في شرحه على نهج البلاغة كما نقل نقد بعض الزيدية له الذي سمعه من أستاذه النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد وعنده جماعة وما نقله عن أُستاذه رسالة مبسوطة في الموضوع فيها نكات بديعة لا يسعنا إيرادها في المقام ، ولذلك نقتبس بعضها وقد نقل فيها قضايا تعرب عن جريان السيرة على النقد والرد والمشاجرة ، وإليك بعضها :

١ ـ هذه عائشة أُمّ المؤمنين خرجت بقميص رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت للناس : هذا قميص رسول اللّه لم يبل ، وعثمان قد أبلى

____________

١. الصحيفة السجادية : الدعاء الرابع مع شرحه ، في ظلال الصحيفة السجادية ص ٥٥ ـ ٥٩.

٢٢٢

سنته ، ثمّ تقول : اقتلوا نعثلاً قتل اللّه نعثلاً ، ثمّ لم ترض بذلك حتى قالت : أشهد أنّ عثمان جيفة على الصراط غداً.

٢ ـ هذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة ، ادّعي عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك ، فلم ينكر ذلك عمر ، ولا قال : هذا محال وباطل بحجّة أنّ هذا صحابي من صحابة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجوز عليه الزنا ، كما أنّ عمر لم ينكر على الشهود ولم يقل لهم : ويحكم هلا تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك ، فإنّ اللّه تعالى قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوجب الستر عليهم ، وهلاّ تركتموه لرسول اللّه في قوله : « دعوا لي أصحابي » بل ما رأينا عمر إلاّ قد انتصب لسماع الدعوى وإقامة الشهادة ، وأقبل يقول للمغيرة : يا مغيرة ذهب ربعك ، يا مغيرة ذهب نصفك ، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك ، حتى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة.و هلاّ قال المغيرة لعمر : كيف تسمع فيَّ قول هؤلاء وليسوا من الصحابة وأنا من الصحابة ورسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم! ما رأيناه قال ذلك ، بل استسلم لحكم اللّه تعالى.

٣ ـ وهاهنا ، من هو أمثل من المغيرة وأفضل ، كقدامة بن مظعون ، لمّا شرب الخمر في أيّام عمر ، فأقام عليه الحدّ ، وهو رجل من علية الصحابة ، ومن أهل بدر المشهود لهم بالجنة; فلم يرد عمر الشهادة ولا درأ عنه الحدّ بحجّة أنّه بدري ، ولا قال قد نهى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذكر مساوئ الصحابة ، وقد ضرب عمر أيضاً ابنه حداً فمات ، وكان ممّن عاصر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحدّ عليه.

٤ ـ كيف يصحّ أن يقول رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم؟! لأنّ هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحّ الخبر الصحيح أنّه ( صلَّى الله عليه وآله

٢٢٣

وسلَّم ( قال له : « تقتلك الفئة الباغية ». وقال اللّه سبحانه : ( فَقاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتّى تَفِيء إِلى أَمْرِ اللّه ) (١) فدلّ على أنّها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي فهي مفارقة لأمر اللّه ، ومن يفارق أمر اللّه لا يكون مهتدياً. وكان يجب أن يكون بسر بن أبي أرطأة الذي ذبح ولدي عبيد اللّه بن عباس الصغيرين ، مهتدياً ، لأنّ بسراً من الصحابة أيضاً وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللّذان كانا يلعنان علياً وولديه أ دبار الصلاة ، مهتديين ، وقد كان في الصحابة من يزني ، ومن يشرب الخمر ، كأبي محجن الثقفي ، ومن ارتد عن الإسلام ، كطليحة بن خويلد ، فيجب أن يكون كلّ من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهتدياً.

٥ ـ إنّ هذا الحديث « أصحابي كالنجوم » من موضوعات متعصبة الأموية ، فإنّ لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف ، وكذا القول في الحديث الآخر وهو قوله : « خير القرون القرن الذي أنا فيه » وممّا يدلّ على بطلانه أنّ القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة ، هو شرّ قرون الدنيا ، وهو أحد القرون التي ذكرها في النصّ وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين ، وأوقع بالمدينة ، وحوصرت مكة ، ونقضت الكعبة ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه المنتصبون في منصب النبوة ، الخمور وارتكبوا الفجور ، كما جرى ليزيد بن معاوية ولزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد ، وإريقت الدماء الحرام ، وقتل المسلمون وسبي الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك ، وإمرة الحجاج ، وإذا تأمّلت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية ، شراً كلّها ، لا خير فيها ولا في رؤسائها وأُمرائها ، والناس برؤسائهم وأُمرائهم. والقرن خمسون سنة فكيف يصحّ هذا الخبر؟

٦ ـ فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنين ) (٢) ، وقوله : ( محمّدٌ رسولُ اللّهِ والّذِينَ مَعهُ ... ) (٣) وقول

__________________

١ ـ سورة الحجرات : الاية ٩.

٢ ـ سورة الفتح : الاية ١٨.

٣ ـ سورة الفتح : الاية ٢٩.

٢٢٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ اللّه اطّلع على أهل بدر » إن كان الخبر صحيحاً ، فكلّه مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفاً غير معصوم ، بأنّه لا عقاب فيه فليفعل ما شاء.

٧ ـ من الذي يجترئ على القول بأنّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول اللّه تعالى للذي شرفوا برؤيته : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبِطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرين ). (١) وبعد قوله : ( قُلْ إِنّي أَخافُ إِنْ عَصَيتُ رَبّي عَذاب يَوم عَظيم ). (٢) وبعد قوله : ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاس بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبيلِ اللّه إِنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بما نَسُوا يَومَ الحِساب ). (٣) إلاّ من لا فهم له ولا نظر معه ولا تمييز عنده.

٨ ـ والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث إذ يجادلون في معاصي الأنبياء ويثبتون أنّهم عصوا اللّه تعالى ، وينكرون على من ينكر ذلك ويطعنون فيه ، ويقولون : قدري ، معتزلي ، وربما قالوا : ملحد مخالف لنصّ الكتاب ، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب ، فتارة يقولون : إنّ يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة ، وتارة يقولون : إنّ داود قتل أوريا لينكح امرأته ، وتارة يقولون : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كافراً ضالاً قبل النبوة وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر ، فأمّا قدحهم في آدم عليه‌السلام وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من ينكر ذلك ، فهو رأيهم وديدنهم ، فإذا تكلّم واحد في عمرو بن العاص ومعاوية ، وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح احمرّت وجوههم ، وطالت أعناقهم وتخازرت أعينهم ، وقالوا : مبتدع رافضي ، يسب الصحابة ويشتم السلف ، فإن قالوا : إنّما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب. قيل لهم : فاتّبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب ، فإنّه تعالى قال : ( لا تَجِد

__________________

١ ـ سورة الزمر : الاية ٦٥.

٢ ـ سورة الأنعام : الاية ١٥.

٣ ـ سورة ص : الاية ٢٦.

٢٢٥

قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللّهَ وَرَسُولَه ). (١) وقال : ( فَإِنْ بَغَتْ إِحداهُما عَلَى الأُخرى فَقاتِلُوا الَّتي تَبغِي حَتّى تفيَ إلى أَمْرِ اللّه ). (٢) وقال : ( أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٣) (٤).

قتل الخليفة

قد تصافق أهل السير والتاريخ أنّ عثمان بن عفان قد حوصر ثمّ هوجم وقتل في عاصمة الإسلام ، قد قتله الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، حتّى منعوا عن تجهيزه وتغسيله ودفنه والصلاة عليه ، وهذا إمام المؤرّخين يتلو علينا كيفية الإجهاز عليه والهجوم على داره بعد محاصرته قرابة أربعين يوماً :

يقول الطبري : دخل محمّد بن أبي بكر على عثمان فأخذ بلحيته ... ثمّ دخل الناس ، فمنهم من يجأه بنعل سيفه ، وآخر يلكزه ، وجاءه رجل بمشاقص معه فوجأه في ترقوته ، ودخل آخرون فلمّا رأوه مغشياً عليه جرّوا برجله ، وجاء التجيبي مخترطاً سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة فقطع يدها ، واتكأ بالسيف عليه في صدره ، وقتل عثمان رضي‌الله‌عنه قبل غروب الشمس.

وفي نصّ آخر يقول : طعن محمد بن أبي بكر جنبيه بمشقص في يده ، وضرب كنانة بن بشر مقدم رأسه بعمود ، وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خرّ لجبينه ، ووثب عمرو بن الحمق فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات إلى آخر ما ذكره. (٥)

وقد وقعت الواقعة بمرأى ومسمع من معظم الصحابة وليس لأحد أن يتفوّه أنّهم لم يكونوا عالمين بها ، فإنّها ما كانت مباغتة ولا غيلة حتى يكونوا في غفلة

__________________

١ ـ سورة المجادلة : الاية ٢٢.

٢ ـ سورة الحجرات : الاية ٩.

٣ ـ سورة النساء : الاية ٥٩.

٤ ـ الشرح الحديدي : ج٢٠ ص ١٢ ـ ٣٣ ، والرسالة مبسوطة مفصّلة أخذنا المهم منها.

٥ ـ تاريخ الطبري : ج٣ص ٤٢٣.

٢٢٦

عنها ، وقد استمر الحوار أكثر من شهرين والحصر حوالي أربعين يوماً ، كلّ ذلك يعرب عن أنّهم كانوا راضين بهاتيك الأحدوثة ، لو لم نقل إنّهم كانوا بين مباشر لها ، إلى خاذل للمودى به ، إلى مؤلّب عليه ، إلى راض بما فعلوا ، إلى محبذ لتلك الأحوال كما هو واضح لمن قرأ تاريخ الدار وقتل الخليفة ، متجرداً عن أهواء وميول أموية.

فعندئذ يدور الأمر بين أمرين ، بأيّهما أخذنا يبطل الأصل المزعوم من عدالة الصحابة أجمع.

فإن كان الخليفة قائماً على جادة الحقّ غير مائل عن الطريقة المثلى ، فالمجهزون على قتله والناصرون لهم فسّاق إن لم نقل إنّهم مراق عن الدين لخروجهم على الإمام المفترضة طاعته.

وإن كان مائلاً عن الحقّ ، منحرفاً عن الطريقة ، مستحقاً للقتل فما معنى القول بعدالة الصحابة كلّهم من إمامهم إلى مأمومهم.

وأمّا تبرير عمل المجهزين عليه ، المهاجمين على داره بأنّهم كانوا عدولاً خاطئين في اجتهادهم ، فهو خداع وضلال لا يصار إليه ، ولا يركن إليه أي ذي مسكة من العقل إذ أي قيمة لاجتهادهم تجاه نصوص الكتاب؟ قال عزّ من قائل : ( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَساد فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَميعاً ). (١)

كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام تمثل نظريته في حقّ الصحابة رواها نصر بن مزاحم المنقري ( المتوفّى عام ٢١٢ ) في حديث عمر بن سعد :

دخل عبد اللّه بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، والمغيرة بن شعبة مع

____________

١ ـ سورة المائدة : الاية ٣٢.

٢٢٧

أُناس معهم وكانوا قد تخلّفوا عن علي. فدخلوا عليه فسألوه أن يعطيهم عطاءهم ـ وقد كانوا تخلّفوا عن علي حين خرج إلى صفين والجمل ـ فقال لهم علي : « ما خلّفكم عنّي؟ » قالوا : قتل عثمان ولا ندري أحل دمه أم لا؟ وقد كان أحدث أحداثاً ثمّ استتبتموه فتاب ، ثمّ دخلتم في قتله حين قتل ، فلسنا ندري أصبتم أم أخطأتم؟ مع أناّ عارفون بفضلك يا أميرالمؤمنين وسابقتك وهجرتك ».فقال علي : « ألستم تعلمون أنّ اللّه عزّ وجلّ قد أمركم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر » فقال : ( وَإِنْ طائِفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الّتي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّه ) (١) ؟ قال سعد : يا علي أعطني سيفاً يعرف الكافر من المؤمن ، أخاف أن أقتل مؤمناً فأدخل النار؟ فقال لهم علي : « ألستم تعلمون أنّ عثمان كان إماماً بايعتموه على السمع والطاعة فعلام خذلتموه إن كان محسناً ، وكيف لم تقاتلوه إذ كان مسيئاً. فإن كان عثمان أصاب بما صنع فقد ظلمتم ، إذ لم تنصروا إمامكم; وإن كان مسيئاً فقد ظلمتم ، إذ لم تعينوا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقد ظلمتم إذ لم تقوموا بيننا وبين عدونا بما أمركم اللّه به ، فإنّه قال : ( فَقاتِلُوا الّتي تَبْغي حَتّى تَفِيء إِلى أَمْرِ اللّه ) » فردّهم ولم يعطهم شيئاً.

وكان علي عليه‌السلام إذا صلّيالغداة والمغرب وفرغ من الصلاة يقول : « اللّهمّ العن معاوية وعمراً وأبا موسى وحبيب بن مسلمة والضحاك بن قيس والوليد بن عقبة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد » ، فبلغ ذلك معاوية ، فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس وقيس بن سعد والحسن والحسين. (٢)

وفي كلامه هذا دليل قاطع على أنّ هؤلاء الجائين إلى علي لأخذ عطائهم ، خونة ظلمة لا يمكن الحكم بعدالتهم ، لأنّهم إمّا ظلموا إمامهم العادل ، إذ لم ينصروه وإمّا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولم يعينوا الإمام القائم بالعدل.

__________________

١ ـ سورة الحجرات : الاية ٩.

٢ ـ وقعة صفين : طبعة مصر ص٥٥١ ـ ٥٥٢.

٢٢٨

أضف إلى ذلك أنّ الملاعنة من الطرفين أقوى شاهد على فساد إحدى الطائفتين وليس الحقّ خافياً على مبتغيه ، كما أنّ الصبح لا يخفى على ذي عينين.

وهناك كلام للشيخ التفتازاني في شرح مقاصده أخذته العصبية في الدعوة إلى ترك الكلام في حقّ البغاة والجائرين ، ومع ذلك كلّه فقد أصحر بالحقيقة فقال : ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب الملك والرئاسة والميل إلى اللذات والشهوات ، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ، ولا كلّ من لقي النبي (ص) بالخير موسوماً ، إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل وإلتفسيق صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم ، والأنصار ، والمبشّرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور ، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ، ومر الدهور فلعنة اللّه على من باشر أو رضي أو سعى ولعذاب الآخرة أشدّوأبقى.

فإن قيل : فمن علماء المذاهب من لم يجوز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد؟ قلنا : تحامياً عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم ، فرأى المعتنون بأمر الدين ، إلجام العوام بالكلية طريقاً إلى الاقتصاد في الاعتقاد ، بحيث لا تزل الأقدام على السواء ولا تضل الأفهام بالأهواء وإلاّفمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق وكيف لا يقع عليهما الاتفاق ، وهذا هو السرّ فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال وسدّطريق لا يؤمن

٢٢٩

أن يجر إلى الغواية في الم آل مع علمهم بحقيقة الحال ، وجلية المقال ، وقد انكشف لنا ذلك حين اضطربت الأحوال واشرأبت الأهوال ، وحيث لا متسع ولا مجال والمشتكى إلى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. (١)

إنّ بعض المنصفين من المصريين المعاصرين قد اعترف بالحقّوأراد الجمع بين رأيي السنةوالشيعة في حقّ الصحابة فقال : إنّ منهج أهل السنة في تعديل الصحابة أو ترك الكلام في حقّهم ، منهج أخلاقي ; وإنّ طريقة الشيعة في نقد الصحابة وتقسيمهم إلى عادل وجائر منهج علمي ، فكلّ من المنهجين مكمّل للآخر. وهذا هو ما أعربنا عنه في صدر البحث وقلنا : « عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان » أي بين الأخلاق والموضوعية ، وإليك نصّ كلامه :

« يرى أهل السنة : أنّ الصحابة كلّهم عدول ، وأنّهم جميعاً مشتركون في العدالة وإن اختلفوا في درجتها.

وأنّ من كفّر صحابياً فهو كافر ، ومن فسّقه فهو فاسق.

وإن طعن في صحابي فكأنّما طعن على رسول اللّه.

وأنّ من طعن على حضرة الرسول عليه‌السلام فهو زنديق بل كافر.

ويرى جهابذة أهل السنّة أيضاً أنّه لا يجوز الخوض فيما جرى بين علي ـ رضي اللّه عنه ـ ومعاوية من أحداث التاريخ.

وأنّ من الصحابة من اجتهد وأصاب وهو « علي » ومن نحا نحوه.

وأنّ منهم من اجتهد وأخطأ مثل معاوية وعائشة رضي اللّه عنها ومن نحا نحوهما.

وأنّه ينبغي ـ في نظر أهل السنّة ـ الوقوف والإمساك عند هذا الحكم دون التعرض لذكر المثالب.

ونهوا عن سب معاوية باعتباره صحابياً ، وشدّدوا النكير على من سب عائشة باعتبارها أُمّ المؤمنين الثانية بعد خديجة وباعتبارها حبّ رسول اللّه.

__________________

١ ـ شرح المقاصد : ج ٢ ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

٢٣٠

وما زاد على ذلك فينبغي ترك الخوض فيه وإرجاء أمره إلى اللّه سبحانه. وفي ذلك يقول أبو الحسن البصري وسعيد بن المسيب :

تلك أُمور طهّر اللّه منها أيدينا وسيوفنا ، فلنطهّر منها ألسنتنا.

هذه آراء أهل السنّة في عدالة الصحابة وفيما ينبغي أن نقف منهم.

أمّا الشيعة فيرون أنّ الصحابة كغيرهم تماماً لا فرق بينهم وبين من جاء بعدهم من المسلمين إلى يوم القيامة.

وذلك من حيث خضوعهم لميزان واحد هو ميزان العدالة ، الذي توزن به أفعال الصحابة كما توزن أفعال من جاء من بعدهم من الأجيال.

وإنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلاّ إذا كان أهلاً لهذه المنقبة وكان لديه الاستعداد للقيام برسالة صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإنّ منهم المعصومين كالأئمّة الذين نعموا بصحبة الرسول عليه‌السلام كعلي وابنيه عليهم‌السلام.

ومنهم العدول وهم : الذين أحسنوا الصحبة لعلي بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى.

ومنهم المجتهد المصيب ، ومنهم المجتهد المخطئ.

ومنهم الفاسق ، ومنهم الزنديق ـ وهو أقبح من الفاسق وأشدّ نكالاً ـ.

ويدخل في دائرة الزنديق المنافقون والذين يعبدون اللّه على حرف.

كما أنّ منهم الكفّار وهم الذين لم يتوبوا من نفاقهم والذين ارتدّوا بعد الإسلام.

ومعنى هذا أنّ الشيعة ـ وهم شطر عظيم من أهل القبلة ـ يضعون جميع المسلمين في ميزان واحد ولا يفرّقون بين صحابي وتابعي ومتأخر.

كما لا يفرقون بين مغرق في الإسلام وحديث عهد به إلاّ باعتبار درجة

٢٣١

الأخذ بما جاء به حضرة الرسول صلوات اللّه عليه والأئمّة الاثنا عشر من بعده.

وإنّ الصحبة في ذاتها ليست حصانة يتحصّن بها من درجة الاعتقاد.

وعلى هذا الأساس المتين أباحوا لأنفسهم ـ اجتهاداً ـ نقد الصحابة والبحث في درجة عدالتهم.

كما أباحوا لأنفسهم الطعن في نفر من الصحابة أخلّوا بشروط الصحبة وحادوا عن محبّة آل محمّد عليهم‌السلام .

كيف لا ، وقد قال الرسول الأعظم : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي آل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ».

وعلى أساس من هذا الحديث ونحوه يرون أنّ كثيراً من الصحابة خالفوا هذا الحديث باضطهادهم لآل محمد ، ولعنهم لبعض أفراد هذه العترة. ومن ثمّ ، فكيف يستقيم لهؤلاء المخالفين شرف الصحبة ، وكيف يوسمون بسمة العدالة؟!

ذلك هو خلاصة رأي الشيعة في نفي صفة العدالة عن بعض الصحابة وتلك هي الأسباب العلمية الواقعية التي بنوا عليها حججهم.

والمتأمّل يرى أنّ الفرق بين هذين الموقفين كالفرق بين المنهج الأخلاقي والمنهج العلمي ، وأنّ كلا المنهجين مكمل لصاحبه. (١)

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير من تاريخ الصحابة وأحوالهم وهي مشحونة بالصواب والخطأ والهدى والضلال. ضعه أمام عقلك وفكرك فاقض ما أنت قاض ولا تتبع الهوى. ( وَإِنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ

__________________

١ ـ الأُستاذ حفني داود المصري : نظرات في الكتب الخالدة : ص ١١١.

٢٣٢

اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين ). (١) ( وَلِكُلّ درجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَما رَبّكَ بِغافِل عَمّا يَعْمَلُون ). (٢)

* * *

( وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوقَ بعْض دَرَجات لِيَبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ إِنَّ رَبّكَ سَريعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم ) (٣).

(الأنعام : ١٦٥)

__________________

١ ـ سورة المائدة : الاية ٤٢.

٢ ـ الاية الأنعام : الاية ١٣٢.

٢٣٣

(٣)

الإيمان بالقدر خيره وشرّه

هذا هو الأصل الثالث الذي اتّفقت عليه كلمات أهل الحديث.

القدر كما ذكره بعض أئمّة اللغة. حدّ كلّ شيء ومقداره. والقضاء بمعنى الحكم البات ، قال سبحانه : ( إِنّا كَّلّ شَيء خَلَقْناهُ بِقَدَر ) (١) وقال تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّإِيّاهُ ). (٢)

وعلى هذا فالقدر في الأشياء ، هو تحديد وجود الشيء والقضاء هو إبرامه ، ويؤيد ذلك ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ : القدر هو الهندسة ووضع الحدود في البقاء والفناء ، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين. (٣)

القول بالقضاء والقدر على نحو الإجمال من العقائد الإسلامية التي لا يصحّ لمسلم إنكارها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في تفسيرهما وأنّه هل القضاء والقدر بمعنى التقدير والحتم على أفعال الإنسان وخلقها بلا إرادة واختيار منه ، وأنّه في مسرح الحياة مكتوف اليدين فيما كتب وقدر عليه حتى فيما يتعلّق بالتكاليف ( الحلال والحرام ) أو أنّه بمعنى علمه السابق ، على وجود الأشياء وتقديره وتحديده والحكم بوجودها على وجه لا ينافي اختيار العبد وحريته من

__________________

١ ـ سورة القمر : الاية ٤٩.

٢ ـ سورة الإسراء : الاية ٢٣.

٣ ـ الكافي : ج ١ص ١٥٨.

٢٣٤

الأساس ، إن شئت قلت : ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الإلهي مع إعطاء القدرة على الفعل والترك وتعريف الخير والشر ، وبيان عاقبة الأوّل ومغبة الأخير ، فهذا العلم السابق لا يستلزم جبراً ، وعلمه سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين وما يأتون به من العمل من خير أو شر لا ينافي التكليف ، كما لا سببية له في اختيار المكلّفين ولا يقبح معه عقلاً ، العقاب على المعصية ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.

أمّا سبق علمه سبحانه على خصوصيات الفعل وتحقّقه وعدمه ، فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّه يَسير ). (١) وقوله سبحانه : ( وَكُلّ شَيء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر* وَكلُّ صَغيروَكَبِير مُسْتَطَر ). (٢) وقال عزّ من قائل : ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذنِ اللّه ). (٣)

و أمّا كون القدر والقضاء لا ينافي التكليف ، فيكفي قوله سبحانه : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (٤) وقوله سبحانه : ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين ). (٥) وقوله سبحانه : ( وَمَنْ يَشْكرْ فَإِنّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَميد ). (٦) فاللّه سبحانه خلق الإنسان مزيجاً من العقل والنفس مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمّارة بالسوء ، فمن عامل بالطاعة بحسن اختياره ، ومن مقترف للمعصية بسوء الخيرة. وتدلّ على ذلك الآيات التالية : ( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيرات ). (٧) ( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ). (٨) ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ

__________________

١ ـ سورة الحديد : الاية ٢٢.

٢ ـ سورة القمر : الاية ٥٢ ـ ٥٣.

٣ ـ سورة الحشر : الاية ٥.

٤ ـ سورة الإنسان : الاية ٣.

٥ ـ سورة البلد : الاية١٠.

٦ ـ سورة لقمان : الاية ١٢.

٧ ـ سورة فاطر : الاية ٣٢.

٨ ـ سورة يونس : الاية ١٠٨.

٢٣٥

وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون ). (١) ( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَليْها ). (٢) ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ). (٣)

إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حرية الإنسان في اختياره خصوصاً فيما يرجع إلى الطاعة والمعصية.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة :

إنّه سبحانه « يعلم ما في السماء والأرض إنّ ذلك في كتاب إنّ ذلك على اللّه يسير » (٤) وفي ضوء ذلك نعتقد بأنّه سبحانه يعلم أعمارنا وأرزاقنا وما يجري في حياتنا من الأحداث ، وما نقوم به من الأفعال كما يعلم مواعيد وفاتنا والكلّ موجود في « كتاب مُبِين ». (٥)

لكن علمه السابق بما يجري في صحيفة الكون لا يجعل الإنسان مكتوف اليد أمام الملابسات التي حوله ولا يصيره كالريشة في مهب الريح ، بل هو في الكون محكوم من جهة ومختار من جهة أُخرى ، محكوم بالسنن العامة السائدة على الكون والحياة ولا يمكن الخروج عنها ، مختار في ما تتعلق به إرادته وفي موقفه من الملابسات التي حوله.

فالنوازل والمصائب والحروب الطاحنة تنتابه ، شاء أم لم يشأ والموت يدمّر حياته وكيانه والسموم القتالة تهلكه والجراثيم الضارية تنحرف بها صحته ، ولكنّه غير مسؤول أمام هذه الأُمور الخارجة عن اختياره ، ولكنّه أمام نعمه سبحانه والإمكانيات التي حوله أمام خيارين : فله أن يستفيد منها بما يمد حياته في الدنيا ويسعده في الآخرة كما أنّ له خلاف ذلك. فلو قلنا : الإنسان مخيَّر لا مسيّّر ، فإنّما

____________

١ ـ سورة الجاثية : الاية ١٥.

٢ ـ سورة الأنعام : الاية ١٠٤.

٣ ـ سورة الإسراء : الاية ٧.

٤ ـ اقتباس من قوله سبحانه : ( ألم تعلم أنّ اللّه يعلم ما في السماء ... ) سورة الحج : الاية ٧٠.

٥ ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( وَيَعْلَمُ ما في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبّة في ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رَطْب وَلا يابِس اِلاّ في كِتاب مُبين ) سورة الأنعام : الاية ٥٩.

٢٣٦

نريد هذا الجانب الثاني ، ولو قيل إنّه مسيّر لا مخيّر ، فلابدّ أن يراد منه الجانب الأوّل. ثمّ إنّ في الذكر الحكيم آيات ودلالات وتصريحات على كون الإنسان مخيراً ، وهي على حدّ لا يمكن جمعها في مقام واحد.

يقول اللّه لِكلِّ بشر على ظهر الأرض : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبل أَنْ يَأْتِيَ يَومٌ لا مَردَّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَومَئِذ يَصَّدّعُون* مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُون ) (١) ، فهل ربط الجزاء بالعمل هنا من قبيل المزاح أو الخديعة؟

وعندما يصف ربّنا جزاء الكذبة والمكّذبين ويبيّن عقبى عملهم ويقول : ( فَلَنُذيقَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَديداً وَلَنَجزِيَنَّهُمْ أَسوأ الَّذي كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءاللّه النّار لَهُمْ فِيها دارُ الخُلْد جَزاءً بِما كانُوا بِ آياتِنا يَجْحَدُون ) (٢) هل هذا الربط المتكرر بين العمل والجزاء؟ وهل هذه النقمة المحسوسة على المجرمين تومئ من قرب أو بعد إلى أنّ القوم كانوا أهل خير فلوى زمامهم قدر سابق أو كتاب ماحق؟ ما أقبح هذا الفهم! في يوم الحساب يحصد الناس ما زرعوا لأنفسهم. والقرآن حريص كلّ الحرص على إعلان هذه الحقيقة وهي أنّك واجد ما قدمت لن تؤخذ أبداً بشيء لم تصنعه ، لم تغلب على إرادتك يوماً فيحسب عليك ما لم تشأ. إنّ المغلوب على عقله أو قصده لا يؤاخذ أبداً بل إنّ التكليف يسقط عنه.

وتدبر قوله تعالى : ( أَلْقيا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّار عَنِيد* مَنّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد مُرِيب* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللّه ِإِلهاً آخَرَ فَألقِيَاهُ فِي العَذابِ الشَّدِيد* قالَ قَرينُهُ رَبّنا ما أَطغيتُهُ ولكِن كَانَ فِي ضَلال بَعيد ) (٣) ربّنا سبحانه وتعالى ينفي الظلم عن نفسه ويقول إنّه ما عذب إلاّ من فرط وأساء. (٤)

__________________

١ ـ سورة الروم : الاية ٤٣ ـ ٤٤.

٢ ـ سورة فصلت : الاية ٢٧ ـ ٢٨.

٣ ـ سورة ق : الايات ٢٤ ـ ٢٧.

٤ ـ السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث محمد الغزالي المعاصر ص ١٤٨ ـ ١٤٩ ، ولكلامه ذيل فراجعه.

٢٣٧

وعلى ذلك فهنا أمران مسلّمان لا يصح لأحد إنكار واحد منهما :

١ ـ إنّ للّه سبحانه علماً سابقاً على كلّ شيء ، ومنه أعمال العباد ويعبر عنه بالقدر والتقدير.

٢ ـ الإنسان مخيّر في ما تتعلّق به إرادته ومحكوم فيما هو خارج عن إطار إرادته. وللمسلم الواعي الجمع بينهما على وجه صحيح ، وسوف يوافيك بيان هذا الجمع عند البحث عن عقيدة الأشاعرة في كون الإنسان مسيّراً لا مخيراً. (١)

وعلى ذلك فالاعتقاد بالتقدير والقضاء أمر لا يمكن لمسلم إنكاره كما أنّ حرية الإنسان في مجال التكليف مثله أيضاً ، فإذاً ما هو الذي وقع مثاراً للنقاش؟

في النصف الثاني من القرن الأوّل بل قبله بقليل أيضاً ، انتشر القول بالقدر حتى فرق المسلمين إلى قولين : إلى قدري وجبري ، ولكن قد عرفت أنّ القدرية مع أنّها في اللغة بمعنى مثبتة القدر يرادمنه في المصطلح النافون للقدر.

لابدّمن أن نقف ملياً للتأمل في تشخيص النزاع بين الطرفين.

فنقول : إنّ التأمّل في عقائد بعض العرب في الجاهلية يوحي بأنّهم كانوا قائلين بالقدر ومثبتين له بشكل يستنتجون منه سلب المسؤولية عن أنفسهم وإلقاءها على عاتق القدر. وهذا التفسير كان رائجاً بينهم وإن لم يعم الجميع ، يقول سبحانه : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخرجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تخرصُون ). (٢)

__________________

١ ـ لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة ، وسيوافيك إجماله في آخر هذا البحث عند القول بأنّ « القدر لا يلازم الجبر ».

٢ ـ سورة الأنعام : الاية ١٤٨.

٢٣٨

ولعلّ قوله سبحانه : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ) (١) يشير إلى أنّهم كانوا يعتذرون بأنّ تقديره سبحانه يلازم الجبر ونفي الاختيار ، واللّه سبحانه يرد على تلك المزعمة بهذا القول.

فقد بقيت هذه العقيدة الموروثة من العصر الجاهلي في أذهان بعض الصحابة ، فقد روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية وهي تحدث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب ( منهزماً ) فقلت : ما هذا؟ فقال عمر : أمر اللّه. (٢)

والعجب أنّ تلك العقيدة بقيت في أذهان بعض الصحابة حتّى بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا السيوطي ينقل عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال : أرأيت الزنى بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإنّ اللّه قدّره علي ثمّ يعذّبني؟! قال : نعم يابن اللخناء ، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (٣)

لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر ، فسأل الخليفة عن كون الزنى مقدّراً من اللّه أم لا؟ فلمّا أجاب الخليفة بنعم ، استغرب من ذلك لأنّ العقل لا يسوغ تقديره سبحانه شيئاً بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه ، ولذلك قال : فإنّ اللّه قدره علي ثمّ يعذبني؟ فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه وقال : نعم يابن اللخناء.

__________________

١ ـ سورة الأعراف : الاية ٢٨.

٢ ـ مغازي الواقدي : ج ٣ص٩٠٤.

٣ ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ٩٥.

٢٣٩

استغلال الأمويين للقدر

لقد اتّخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيّئة ، وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر ، قال أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها. (١)

ولأجل ذلك لمّا سألت أُمّ المؤمنين عائشة ، معاوية عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين فأجابها : إن أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (٢)

وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد اللّه بن عمر عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد بقوله : إنّي أُحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم. (٣)

وقد كانت الحكومة الأموية الجائرة متحمّسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي ، وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد.

قال الدكتور أحمد محمود صبحى في كتابه « نظرية الإمامة » : إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ، ولكن ب آيديولوجية تمس العقيدة في الصميم ، ولقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين علي عليه‌السلام قد احتكما فيها إلى اللّه فقضى اللّه له على علي ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة في أمرهم ، وهكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين ، أنّ كلّ ما يأمر به الخليفة ـ حتى ولو كانت طاعة اللّه في خلافه ـ فهو قضاء من اللّه قد قدّر على العباد. (٤)

__________________

١ ـ الأوائل : ج ٢ص ١٢٥.

٢ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ج١ص١٦٧.

٣ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ج١ص١٧١.

٤ ـ نظرية الإمامة : ص ٣٣٤.

٢٤٠