بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.

للوعظ والتذكير في المدرسة النظامية المعمورة والرباط ، وأطنب في توحيد االلّه عزّوجلّ والثناء عليه بما يستوجبه من صفات الكمال وتنزيهه عن النقائص ونفي التشبيه عنه واستوفى في الاعتقاد ما هو معتقد أهل السنّة بأوضح الحجج وأقوى البراهين ، فوقع في النفوس كلامه ، ومال إليه الخلق الكثير من العامة ، ورجع جماعة كثيرة من اعتقاد التجسيم والتشبيه واعترفت بأنّها الآن بان لها الحقّ ، فحسده المبتدعة المجسمة وغيرهم فحملهم ذلك على بسط اللسان فيه غيظاً منه وسبّ الشافعي رحمة اللّه عليه وأئمّة أصحابه ومن ينصرهم ، وتظاهروا من ذلك بما لا يمكن الصبر معه ، ويتعيّن على من جعل اللّه إليه أمر الرعية أن يتقدّم في ذلك بما يحسم مادة الفساد ، لأنّ سبب ذلك فرط غيظهم من اجتماع شمل العصابة الشافعية في الاشتغال بالعلم بعمارة المدرسة الميمونة ، وتوفّرهم على الدعاء لأيّام من به عزّهم ولا عذر للتفريط في ذلك. وكتب محمد بن أحمد الشاشي.

٥ ـ الأمر على ما ذكر فيه. وكتب سعد اللّه بن محمد الخاطب.

٦ ـ الأمر على المشروح في هذا الصدر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري أكثر اللّه في أئمّة أهل العلم مثله من عقد المجالس ونشر العلم ووصف اللّه تعالى بما وصف به نفسه من توحيده وصفاته ونفي التشبيه عنه وقمع أهل البدع من المجسمة والقدرية وغيرهم ، ولم أسمع منه عدولاً عن مذاهب أهل الحقّ والسنّة والدين القويم والمنهج المستقيم الذي به يدان اللّه تعالى ويعبد ويعتقد ، فاهتدى بهديه خلق من المخالفين وصار إلى قوله ومعتقده جمع كثير إلاّ من شقي به من الحاسدين ، فأخلدوا إلى ذمّه وسبه وسب أئمّة الشافعيين ، وقدحوا في الشافعي وأصحابه ، وصرّحوا بالطعن فيهم في الأسواق وعلى رؤوس الأشهاد ، وهذه غمّة وردّة لا يرجى لكشفها بعد اللّه تعالى إلاّ المجلس السامي الأجلي النظامي القوامي العادلي الرضوي ، أمتع اللّه الدنيا والدين ببقائه وحرس على الإسلام والمسلمين ظليل ظله ونعمائه ، ويفعل اللّه ذلك بقدرته وطوله ومشيئته. وكتب الحسين بن أحمد البغدادي.

٧ ـ حضرت المدرسة النظامية المنصورة المعمورة أدام اللّه سلطان إعزازها والرباط المقدس للصوفية أجاب اللّه صالح أدعيتهم في المسلمين مجالس هذا

٣٢١

الشيخ الأجل الإمام ناصر الدين محيي الإسلام أبي نصر عبد الرحيم بن الأُستاذ الإمام زين الإسلام أبي القاسم القشيري أحسن اللّه عن الشريعة جزاءه ، فلم أسمع منه قط إلاّ ما يجب على كلّ مكلّف علمه وتصحيح العقيدة به من علم الأُصول وتنزيه الحقّ سبحانه وتعالى ونفي التشبيه عنه ، وإقماع الأباطيل والأضاليل وإظهار الحقّ والصدق ، حتى أسلم على يديه ببركة التوحيد والتنزيه من أنواع أهل الذمّة عشرات ، ورجع إلى الحقّ وعلم الصدق من المبتدعة مئات ، وتبعه خلق غير محصور بحيث لم يستطع أحد ممّن تقدّم أو علماء العصر أن يشقّوا غباره في مثل ذلك فخامرهم الحسد وعداوة الجهل وحملهم على الطعن فيه عدواناً وبهتاناً ، ثمّ تمادى بهم الجهل إلى اللعن الظاهر للإمام الشافعي ـ قدس اللّه روحه ـ وسائر أصحابه عجماً وعرباً.

وقائلوا ذلك شرذمة من ناشية أغبياء المجسمة ، وطائفة من أرذال الحشوية ، استغنوا من الإسلام بالاسم ، ومن العلم بالرسم ، وتبعهم سوقة لا نسب لهم ولا حسب ، وتظاهرت هذه اللعنة منهم في الأسواق ، ولم يستحسن أحد من أصحابه ـ كثرهم اللّه ـ دفع السفاهة بالسفاهة والسيئة بالسيّئة ، ويجب على الناظر في أُمور المسلمين من الذي قد انتشر في المشارق والمغارب علمه وعدله وأمره ونهيه ، الذي لطاعته نبأت صدور الأولياء والأعداء رغبة ورهبة ، نصرته ، ومدّ ضبعيه والشد على يديه وتقديم كلمته العليا وتدحيض كلمة أعدائه السفلى ، فالصبر في الصدمة الأُولى وهذه الصدمة التي كانت قلوب أصحاب الشافعي كثّرهم اللّه وغرة وغلة شغله بها منذ سنين ، فانقشع ذلك وانكشف في هذه الأيام المؤيدة المنصورة المؤبدة النظامية القوامية العالمية العادلية نصرها اللّه وأعلاها ، وقد وقف تمامه على الأمر الماضي المنصور منه فإنّ في شعبة من شعب عنايته ونصرته وكلمته للدين الذي مد أطراره كفاية وبلاغاً وعلى الغارس تعهد غراسه فضلاً وتعصباً في كلّ وقت. وكتب عزيزي بن عبد الملك في التاريخ حامداً للّه ومصلياً على محمّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم. (١)

__________________

١ ـ تبيين كذب المفتري لابن عساكر : ص ٣١٠ ـ ٣١٨.

٣٢٢

وأصحاب الخطوط في هذا المحضر هم كبار أئمّة المذهب الشافعي ببغداد في ذلك العهد ، فقد ترجمهم محقّق كتاب « تبيين كذب المفترى » في تعليقته على الكتاب ، ثمّ أضاف : ولما طفح كيل فتن الحشوية الذين لا يكادون يفقهون حديثاً ، اضطر أكابر العلماء المعروفون بكمال الهدوء والتؤدة والأناة إلى قمع فتنتهم بالسعي لدى ولي الأمر سعياً حثيثاً ، ورفع الإمام أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه هذا المحضر إلى نظام الملك منتصرين للشيخ أبي نصر ابن القشيري ، فعاد جواب نظام الملك إلى فخر الدولة وإلى الإمام أبي إسحاق بإنكار ما وقع ، والتشديد على خصوم ابن القشيري وذلك سنة تسع وستين وأربعمائة ، فسكن الحال ثمّ أخذ الشريف أبو جعفر بن أبي موسى ـ وهو شيخ الحنابلة إذ ذاك ـ وجماعته يتكلّمون في الشيخ أبي إسحاق ويبلغونه الأذى بألسنتهم ، فأمر الخليفة بجمعهم والصلح بينهم بعد ما ثارت بينهم فتنة هائلة ذهب فيها نحو من عشرين قتيلاً ، فلمّا وقع الصلح وسكن الأمر أخذ الحنابلة يشيعون أنّ الشيخ أبا إسحاق تبرأ من مذهب الأشعري ، فغضب الشيخ لذلك غضباً لم يصل أحد إلى تسكينه حتى كتب إلى نظام الملك يشكو أهل الفتن ، فعاد الجواب في سنة سبعين وأربعمائة إلى الشيخ باستجلاب خاطره وتعظيمه ، والأمر بتأديب الذين أثاروا الفتنة وبأن يسجن الشريف أبو جعفر ، فهدأ الحال وسكن جأش الشيخ وانقمعت الحشوية ، وتنفّس أهل السنّة الصعداء وإلى اللّه عاقبة الأُمور».

الثالث : تطور الدعوة السلفية ومراحلها

قد تعرّفت في البحوث السابقة على أنّه كان لمنع تدوين الحديث في العصور الأُولى الإسلامية تأثير خاص في تسرب عقائد اليهود والنصارى إلى أوساط المسلمين ولا سيما أهل الحديث منهم. ففي ظل ذلك المنع ، ظهرت الفرق الباطلة من المجسّمة والمشبّهة ودعاة القول بالجهة للّه سبحانه وجلوسه على العرش ناظراً إلى ما دونه ممّا يتحاشى عنه أهل التنزيه.

ولم يكن ظهور تلك العقائد أمراً غير مترقب ، بل كان نتيجة حتمية للعوامل السائدة على تلك البيئة ، إذ في الظروف التي يصلب فيها العقل

٣٢٣

ويعدم ، ويعاب فيها التفكير في العقائد والمعارف ، ويكتفى عن التدبر في الذكر الحكيم ، بالبحث عن القراءات السبع أو العشر ، ويعرف الاستدلال والإمعان في الكتاب العزيز بأنّه تأويل باطل ، بل كفر وزندقة ، ويفسح المجال للمتظاهرين بالإسلام من الأحبار والرهبان ليقوموا بنشر قصص الأوّلين وأساطير الآخرين ـ ففي تلك الظروف ـ لا تظهر على مسرح العقائد ، إلاّ عقائد الطوائف المنحرفة ، ولا غرو حينئذ في أن يصوّر إله العالم بصورة موجود مادي ذي جهات وأبعاض وأيد وأرجل ، له تكلم وضحك وما يضاهي هذه النظريات.

وقد جاء بعض الخلف محاولاً تصحيح هذه المأثورات ، بإضافة « بلا كيف » عقيب هذه الصفات ، ولكن المحاولة فاشلة جدّاً ، فإنّ مرجعها إلى أنّه سبحانه جسم بلا كيف ، ولا يختلف التعبيران إلاّ في الصراحة والكناية.

ومن العقائد الغريبة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني ، كون كلامه سبحانه قديماً غير مخلوق ، وقد تلقّاه أهل الحديث أمراً مسلماً ، وكان اللائق بمنهجهم هو السكوت ، لاعترافهم بعدم ورود نصّ من رسول اللّه فيها ، ولكنّهم اعتنقوا هذه العقيدة اعتناقاً وثيقاً لم ير مثله في سائر المسائل ، حتّى استعدوا في طريقه لتقديم التضحيات الثمينة ، من شتى أنواع الضرب والحبس والتقيد ، وذلك عندما عزم المأمون على ردعهم عن القول بقدم القرآن ، فاستتاب أهل الحديث منه ، فاستجاب بعضهم دون بعض وممّن أظهر الصمود والثبات على تلك العقيدة إمام الحنابلة أحمد بن حنبل. وقد ضرب في عصر الخليفة المعتصم فلم يرتدع ، فصار ذلك سبباً لاشتهار الرجل بينهم ، وبلوغه قمة الإمامة في العقائد والسنّة ، واكتسابه مكانة مرموقة بين الناس. فصارت السنّة ما أمضاه الإمام والبدعة ما هجره ، فراجت رسائله وكتبه التي ألّفت باسم عقيدة أهل السنّة ، وكانت الرئاسة في باب العقائد منحصرة به إلى أن ظهر الإمام الأشعري تائباً عن الاعتزال ، معلناً التحاقه في العقائد بالإمام أحمد ، وعدّ نفسه مدافعاً عن عقائد أهل السنّة تارة بالنصوص والأحاديث ، وأُخرى بالاستدلال والبرهنة : فألّف في بداية الالتحاق كتاب « الإبانة » وهو تصوير خاص لرسائل إمام مذهبه ، كما ألّف في الفترة الأُخرى كتاب « اللمع » وهو

٣٢٤

تصوير لما يملكه من الفكر الذي ورثه عن المعتزلة حينما كان منتهجاً مناهجهم.

وبما أنّ الإمام الأشعري قد قضى شطراً كبيراً من عمره بين أهل الفكر والتعقّل ، فلذا أخذ بالتعديل والتهذيب في عقائد المذهب الأُم ـ أهل الحديث ـ وما قام به من العملية العقلية وإن أغضبت ثلة من الحنابلة وأهل الحديث ، حتى إنّ كبير الحنابلة ( البربهاري ) في ذلك الوقت لم يقبل دفاع الشيخ الأشعري عن عقائد أهل السنّة بالبرهنة والاستدلال ، ولكن النفوس المستعدة المتنورة تأثّرت بمنهج الإمام الأشعري ، وزاد الإقبال عليه وتوفر الثناء على فكرته.

وعلى ضوء منهجه ألّف الإمام البيهقي (١) صاحب السنن الكبرى كتاب « الأسماء والصفات » وعالج فيه كثيراً من روايات التشبيه والتجسيم ، كما قام ابن فورك (٢) بتأليف كتاب « مشكل الحديث وبيانه » ، كلّ ذلك على الخط الذي رسمه الأشعري في تنزيهه سبحانه.

__________________

١ ـ هو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ( المتوفّي عام ٤٥٨ ) وطبع كتاب « الأسماء والصفات » في مصر بتصحيح الشيخ محمد زاهد الكوثري. ومن المأسوف عليه أنّ يد الخيانة أسقطت مقدمة الأُستاذ الشيخ سلامة العزامي الشافعي عند إعادة الطبع بالأفست ، وما هذا إلاّ لأنّ المقدمة كانت على ضد السلفية والوهابية.

٢ ـ هو أبو بكر محمد بن حسن بن فورك ( المتوفّى عام ٤٠٦ ) له ترجمة في تبيين ابن عساكر : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

يقول المقريزي في خططه ( ج ٢ ، ص ٣٥٨ ) في بيان حقيقة المذهب الأشعري : إنّه سلك طريقاً بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال ( نفي الصفات الخبرية كاليد والوجه ) ، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه ، منهم : القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي ، وإبو بكر محمد بن الحسن بن فورك ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الإسفرائيني ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ، والشيخ أبو حامد محمد بن أحمد الغزالي ، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني ، والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي وغيرهم ممن يطول ذكره ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه واستدلّوا له في مصنّفات لا تكاد تحصر ، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام ، إلى آخر ما ذكره.

٣٢٥

إبعاد أحمد عن الإمامة في العقائد

قد كان لانتشار مذهب الأشعري تأثير خاص في إبعاد الإمام أحمد عن ساحة العقائد ، وأُفول إمامته في الأُصول ، وانزوائه في كثير من البلدان وإقامة الأشعري مقامه. فصار الفرع الذي اشتق من الأصل المذهب الرسمي لأهل السنّة. وبلغت إمامة الفرع إلى الحدّ الذي كلّما أطلق مذهب أهل السنّة لا يتبادر منه إلاّ ذلك المذهب أو ما يشابهه كالماتريدية.

يقول المقريزي بعد الإشارة إلى أُصول عقيدة الإمام الأشعري : « هذه جملة من أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية ، والتي من جهر بخلافها أريق دمه ». (١)

نعم ، بلغ الإمام الأشعري قمة الإمامة في العقائد من دون أن يمس إمامة أحمد في الفروع ومرجعيته في الفتيا ، كيف وهو أحد المذاهب الأربعة الرسمية بين أهل السنّة إلى الآن في العواصم الإسلامية ، لكن لا في نطاق واسع بل في درجة محدودة تتلو إمامة أبي حنيفة والشافعي ومالك.

تجديد الدعوة السلفية في القرن الثامن

لقد اهتم بعض الحنابلة ـ أعني : أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي ( المتوفّى عام ٧٢٨ ) ـ بإحياء مذهب السلفية على المفهوم الذي كان رائجاً في عصر الإمام أحمد وقبله وبعده إلى ظهور الأشعري ، فأصرّ على إبقاء أحاديث التشبيه والجهة بحالها من دون توجيه وتصرف ، وهاجم التأويلات التي ذكرها بعض الأشاعرة في كتبهم حول تلك الأحاديث. ولكنّه لم يكتف بمجرّد الإحياء ، بل أدخل في عقائد السلف أُموراً لا ترى منها أثراً في كتبهم ، فعد السفر لزيارة الرسول الأعظم بدعة وشركاً ، كما عدّ التبرّك ب آثارهم والتوسّل بهم شيئاً يضاد التوحيد في العبادة. وقد ضم إلى ذينك الأمرين شيئاً ثالثاً وهو إنكار كثير من الفضائل الواردة في آل البيت ، المروية في الصحاح وإلمسانيد حتى في مسند

__________________

١ ـ الخطط المقريزية : ج ٢ص٣٩٠.

٣٢٦

إمامه أحمد. وبذلك جدد الفكرة السلفية الخاصة المتبلورة في الفكرة العثمانية التي تعتمد على التنقيص من شأن علي وإشاعة بغضه وعناده.

وبذلك نقض قواعد ما أرساه إمامه أحمد من مسألة التربيع وجعل علي عليه‌السلام رابع الخلفاء الراشدين ، وأنّ عليّاً كان أولى وأحقّ من خصومه.

ومن حسن الحظ إنّه لم يتأثر بدعوته إلاّ القليل من تلامذته كابن القيم ( المتوفّى عام ٧٥١ ) كيف وقد عصفت الرياح المدمرة على هذه البراعم التي أظهرها ، حيث قابل منهجه المحقّقون بالطعن والردّ الشديدين ، فأفرد بعضهم في الوقيعة به ت آليف حافلة ، وجاء البعض الآخر يزيف آراءه ومعتقداته في طي كتبه ، وقام ثالث يترجمه ويعرفه للملأ ببدعه وضلالاته.

وكفى في ذلك ما كتبه بعض معاصريه كالذهبي ، فإنّه كتب رسالة مبسوطة إليه ينصحه ويعرفه بأنّه ممّن يرى القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينيه ، وأنّه لم تسلم أحاديث الصحيحين من جانبه ثمّ خاطبه بقوله : أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟. (١)

وهناك كلام للمقريزي يقول بعد الإشارة إلى اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام : إنّه نسي غيره من المذاهب وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه. إلاّ أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد اللّه أحمد بن محمد ابن حنبل ـ رضي اللّه عنه ـ فإنّهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات ، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة ، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني ، وتصدّى للانتصار لمذهب السلف ، وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة ، وصدع بالنكيرة عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية ، فافترق الناس فيه فريقان فريق يقتدي به

__________________

١ ـ تكملة السيف الصقيل : ١٩٠ ، ونقل قسماً من هذه الرسالة العزامي في الفرقان الذي طبع في مقدّمة الأسماء والصفات للبيهقي ونقله العلاّمة الأميني في غديره : ج ٥ص ٨٧ ـ ٨٩.

٣٢٧

ويعول على أقواله ويعمل برأيه ويرى أنّه شيخ الإسلام وأجل حفاظ أهل الملّة الإسلامية ، وفريق يبدعه ويضلّله ويزري عليه بإثباته الصفات وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف ومنها ما زعموا أنّه خرق فيه الإجماع ولم يكن له فيه سلف ، وكانت له ولهم خطوب كثيرة وحسابه وحسابهم على اللّه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وله إلى وقتنا هذا عدة أتباع بالشام وقليل بمصر. (١)

الدعوة السلفية في القرن الثاني عشر

لم يتعظ الرجل من قوة ناصحه المشفق حتى أدركته المنية في سجن دمشق ، ولكن كانت بذرة الضلال مدفونة في الكتب وزوايا المكتبات إلى أن ألقى الشر بجرانه ، وجاء الدهر بمحمّد بن عبد الوهاب النجدي في القرن الثاني عشر ( ١١١٥ ـ ١٢٠٦ ) فحذا حذو ابن تيمية ، وأخذ وتيرته واتبع طريقته ، فأحيا ما دثره الدهر ، ودعا إلى السلفية من جديد ، غير أنّه اتّخذ ما أضافه ابن تيمية إلى عقائد السلف ممّا لا يرتبط بمسألة التوحيد والشرك ، كالسفر إلى زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرك ب آثاره ، والتوسل به ، وبناء القبة على قبره ، قاعدة أساسية لدعوته ، ولم يهتم في ت آليفه بمسألة التشبيه وإثبات الجهة والفوق.

نعم ، لمّا استفحلت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد وقام أُمراء المنطقة ( آل سعود ) بترويج منهجه واستغلوه للسيطرة على الجزيرة العربية ، اهتمت الوهابية بنشر ما ألّفه السلف حول البدع السابقة الموروثة من اليهود والنصارى ، فصار إثبات الصفات الخبرية كاليد والوجه والاستواء بمفهومها اللغوي مذهباً رسمياً لدعاة الوهابية ، لا يجترئ عالم على مخالفته في أوساطهم. (٢)

__________________

١ ـ الخطط المقريزية : ج ٢ص ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

٢ ـ وقد ألّف رضا بن نعسان معطي في مكة المكرمة كتاباً حول الصفات الخبرية سماه « علاقة الإثبات والتفويض بصفات ربّ العالمين » وقدم عليه عبد العزيز بن باز رئيس إدارة البحوث العلمية

٣٢٨

وبذلك وردت الدعوة السلفية في مراحلها التاريخية المرحلة الثالثة بعد الاندراس ولمّا تمّت معاملة الدول الكبرى على الخلافة العثمانية المسيطرة على أكثر ربوع الإسلام ـ يوم ذاك ـ وإقصيت من ساحة البلاد العربية ، حلّت سيطرة آل سعود المتبنين للعقيدة الوهابية من لدن ميلادها ، محلها في أرض الحجاز عموماً ، والحرمين الشريفين خصوصاً. ومن جراء ذلك أخذت الدعوة الوهابية تنتشر في الأراضي المقدسة بالطابع السلفي ، فصارت السلفية والوهابية وجهين لعملة واحدة ، وقد استعانت السلطة السعودية بكلّ ما تملك من قوّة وقدرة إرهابية ، ودراهم ودنانير ترغيبية ، لنشر المنهج الوهابي ، ولكلّ من ذينك الأمرين أهله ومحله. فاستعملت الأوّل في الأُميّين والرعاع من الناس ، واشترت بالثاني أصحاب القلم وأرباب الجرائد والمجلات وسائر وسائل الإعلام. فصارت السلفية في هذه الأماكن رمز الإسلام الأصيل ، وآية الدين الصحيح ، المجرّد عن البدع اللصيقة به بعد لحوق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى.

وقد استعانت هذه السلطة في تسريع الحركة الوهابية في هذا الزمان بما ظهر في المناطق الشرقية من الجزيرة من الذهب الأسود ، فاستولت على زبرج الدنيا وزينتها وتمادت في غيّها وساقت كثيراً من الناس إلى معاسيف السبل ومعاميها ، حتّى تأثر بتلك الحركة بعض الشبان وغيرهم خارج الجزيرة العربية.

إنّ الدعايات الخادعة ، أثرت في تفكير كثير من الناس إلى حدّ تخيل لهم أنّ تجديد مجد الإسلام وبلوغ المسلمين إلى ذروة السنام لا يتم إلاّ بإحياء ما كان عليه السلف في الأُصول والفروع ، ويريدون منه عهود الخلافة الراشدة والأمويين والعباسيين ، فكأنّ حياتهم في تلك العصور كانت باقات زهور تفتحت في تلك القرون ، فعم ريحها وريحانها أجواء الأقطار الإسلامية ،

__________________

والإفتاء والدعوة والإرشاد وأصر فيه على أنّ عقيدة السلف في هذه الصفات إبقاؤها على مفاهيمها اللغوية بلا تغيير وتصرف. وغير خفي على النبيه أنّه لا ينتج إلاّ التجسيم وإن كان الكاتب والمقرظ لا يعترفان به ، ولكنّه لا ينفك عن تلك النتيجة.

٣٢٩

فلأجل ذلك يتطلّعون إلى تلك العهود تطلع الصائم إلى الهلال ، والظامئ إلى الماء.

لكن الدعايات الخاطئة عاقتهم عن التعرف على ما في تلك العصور من النقاش والخلاف بين المسلمين وسفك الدماء وقتل الأولياء وحكومة الإرهاب والإرعاب ، إلى غير ذلك من المصائب والطامات الكبرى.

ولو درسوا تاريخ السلف ـ منذ فارق النبي الأعظم المسلمين وتسنم الأمويون منصة الخلافة إلى أن انتكث فتلهم ، وأجهز عليهم عملهم ، وورثهم العباسيون ولم يكونوا في العمل والسيرة بأحسن حال منهم ـ لوقفوا على أنّ حياة السلف لم تكن حياة مثالية راقية ، بل كانت تسودها المجازر الطاحنة الدامية ، والجنايات الفظيعة التي ارتكبتها الطغمة الأموية والعباسية في حقّ الأبرياء الأولياء والعلويين من العترة الطاهرة. فلو صحّ ما في التواريخ المتواترة ، لدلّ قبل كلّ شيء على أنّ السلف لم يكن بأفضل من الخلف ، وأنّ الخلف لم يكن بأسوأ من السلف ، ففي كلتا الفئتين رجال صالحون مثاليون كما فيهما رجال دجّالون وأُناس طالحون.

المفكّرون الإسلاميون المعاصرون والسلفية

ومن المؤسف أنّ السلفية اتخذت لنفسها في الآونة الأخيرة طابعاً حاداً وسلوكاً في غاية الجمود وإلتحجّر ، وفي منتهى التقشف والتزمت حتى ذهب من ينحو هذا المنحى إلى تحريم كلّ ما يتصل بالحضارة ومعطياتها المباحة شرعاً ، فإذا بهم يحرمون حتى التصوير الفوتوغرافي ويهاجمون الراديو وإلتلفزيون (١) عتواً وجهلاً.

وقد كان هذا الموقف الجامد المتحجّر ، وهذا التزمت والجفاف الذي ما أنزل اللّه به من سلطان ، والذي أسند ـ وللأسف ـ إلى الإسلام ، وما رافقه من قوة على الآخرين ورميهم بالبدعة ، والخروج على الدين بحجة عدم

__________________

١ ـ راجع مجلة الفرقان العدد الخامس من السنّة الأُولى وتصدرها جماعة من السلفيّين المتشدّدين.

٣٣٠

الانقياد لمواقف السلف ، وآرائهم ، وراء ابتعاد جماعات كبيرة من الشباب من أبناء المسلمين عن الإسلام السهل الحنيف ، وإساءة الظن به وبمؤسساته. وهذا هو ما حدا ببعض الغيارى والمتحررين من المفكّرين الإسلاميين إلى التصدّي لهذا الاتجاه الدخيل على الإسلام البعيد عن روحه النقية السمحة.

وممن انبرى لإبطال هذا المذهب وإزالة الغبار عن وجه الحقيقة الأُستاذ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه « السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ».

حيث عمد أوّلاً إلى تفنيد زعم السلفيين المعاصرين بأنّ على المسلم أن يجمد على ما ورد عن السلف وعلى منهجهم وكأنّه مذهب إسلامي مقدس لا يجوز أن تناله يد الجرح والتعديل ، ولا أن يخضع للنقاش والنقد ، بل لا يجوز أن يتخطى في مقام العمل والسلوك.

حيث قال : إنّ اتّباع السلف لا يكون بالانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها أو المواقف الجزئية التي اتخذوها ، لأنّهم هم أنفسهم لم يفعلوا ذلك. (١)

ثمّ قال : إنّ من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة ( السلف ) فنصوغ منها مصطلحاً جديداً طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي ألا وهو ( السلفية ) فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة معينة من المسلمين تتخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده ، مفهوماً معيناً ، وتعتمد فيه على فلسفة متميزة بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك ، جماعة إسلامية جديدة في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر ، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها وميولها ، بل تختلف عنهم حتّى بمزاجها النفسي ومقاييسها الأخلاقيّة كما هو الواقع اليوم فعلاً.

بل إنّنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا : إنّ اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها بدعة طارئة في الدين لم يعرفها السلف الصالح لهذا الأُمّة ، ولا الخلف الملتزم بنهجه. (٢)

____________

١ ـ السلفية مرحلة زمنية : ص ١٢.

٢ ـ المصدر نفسه : ص ١٣.

٣٣١

ويقول : إنّ السلف أنفسهم لم يكونوا ينظرون إلى ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال أو تصرفات ، هذه النظرة القدسية الجامدة التي تقتضيهم أن يسمِّروها بمسامير البقاء والخلود ، بل ساروا وراء ذلك مع ما تقتضيه علل الأحكام وسنة التطور في الحياة ، وعوامل التقدم العلمي ، ومنطق التجاوز المستمر من الصالح إلى الأصلح كما سايروا الأعراف المتطورة من عصر إلى آخر ، أو المتبدلة ما بين بلدة وأُخرى ما دام ذلك كلّه منتشراً وراء أسوار النصوص الحاكمة والمهيمنة. (١)

ثمّ أشار إلى نماذج من مواقف السلف التي تطورت مع تطور الأحوال والأوضاع في شتى مجالات العلم والسلوك.

ثمّ قال : إنّ السلف أنفسهم لم يجمدوا عند حرفية أقوال صدرت منهم ، كما لم يتشبّثوا بصور أعمال أو عادات ثبتوا عندها ثمّ لم يتحولوا عنها ، بل الذي رأيناه في هذه النماذج اليسيرة هو نقيض ذلك تماماً ، فكيف نقلّدهم في شيء لم يفعلوه ، بل ساروا في طريق معاكس له ... ؟ (٢)

ثمّ ينتهي إلى القول : إنّ كلّ ما ذكرنا هنا تلخيص إجمالي للبرهان على أنّ السلفية لا تعني على كلّ حال إلاّ مرحلة زمنية مرت ... فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها ، يتمسّك به من شاء ، ليصبح بذلك منتسباً إليها منضوياً تحت لوائها ، فتلك إذن إحدى البدع المستحدثة بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

ثمّ لإبطال حجّية مواقف السلف على من بعدهم ما لم يستند إلى برهان يشير إلى نماذج من خلافاتهم واختلافاتهم في المواقف والآراء (٤) ثمّ يقول : فلو كانت اتجاهات السلف واجتهاداتهم هذه حجّة لذاتها ، لا تحتاج هي بدورها إلى برهان أو مستند يدعمها ، لأنّها هي برهان نفسها ، إذن لوجب أن تكون تلك

__________________

١ ـ نفس المصدر : ص ١٤ ـ ١٥.

٢ ـ نفس المصدر : ص ١٨.

(٣و٤) نفس المصدر : ص ٢٣.

٣٣٢

النظرات المتباعدة بل المتناقضة كلّها حقّاً وصواباً ، ولوجب المصير دون أي تردد إلى رأي المصوبة.

وعن إمكانية طروء الخطأ على مواقف السلف يقول : إنّ اقتداءنا بالسلف لا يجوز أن يكون بواقعهم الذي عاشوه من حيث إنّهم أشخاص من البشر يجوز عليهم كلّ أنواع الخطأ والسهو والنسيان ، فإنّهم من هذا الجانب بشر مثلنا لا يمتازون عن سائر المسلمين بشيء. (١)

من هنا يرى أنّ على الأُمّة إذا أرادت أن تصل إلى الحقيقة الإسلامية في مجال العقيدة والسلوك أن تتبع منهجاً في هذا المجال لا أن تكتفي بمجرّد اتباع السلف بشكل مطلق ، فيقول في هذا الصدد :

إنّ الإنسان لكي يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً لابدّ أن يجتاز المراحل الثلاث التالية :

أ. التأكّد من صحّة النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرآناً كانت هذه النصوص أم حديثاً ، بحيث ينتهي إلى يقين بأنّها موصولة النسب إليه ، وليست متقوّلة عليه.

ب. الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعينه تلك النصوص بحيث يطمئن إلى ما يعنيه ويقصده صاحب تلك النصوص منها.

ج. عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها ، على موازين المنطق والعقل ( ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عموماً ) لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها. (٢)

وعندما شرح البند الأوّل والعلّة الموجبة له يشير إلى ما تعرض له الحديث النبوي على يد الوضّاعين والزنادقة ، ويشير إلى أقسام الحديث من متواتر وصحيح وضعيف ، ممّا يجعلنا نتحفظ تجاه النصوص ، ولا نقدم على الأخذ بها

__________________

١ ـ السلفية مرحلة زمنية : ص ٥٥ ـ ٥٦.

٢ ـ نفس المصدر : ص ٦٣.

٣٣٣

لمجرّد رواية السلف لها أو روايتها عن السلف ، بل نأخذ بها بعد التمحيص والتحقيق حسب الميزان المذكور.

فيقول : فمن التزم بمقتضى هذا الميزان فهو متبع كتاب اللّه متقيد بسنة رسول اللّه ، سواء أكان يعيش في عصر السلف أو جاء بعدهم ، ومن لم يلتزم بمقتضاه فهو متنكب عن كتاب اللّه ، تائه عن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإن كان من الرعيل الأوّل ، ولم يكن يفارق مجلس رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١)

وبعد أن يسهب في شرح تفاصيل هذا المنهج يقول : ولم نعلم أنّ في أهل هذه القرون الغابرة كلّها من قد استبدل بهذا المنهج الذي كان ولا يزال فيصل ما بين أهل الهداية والضلال ، التمذهب بمذهب يسمّى السلفية بحيث يكون الانتماء إليه هو عنوان الدخول في ساحة أهل الهداية والرشاد. وعدم الانتماء إليه هو عنوان الجنوح إلى الزيغ والضلالة والابتداع.

ولقد أصغينا طويلاً ونقبنا كثيراً فلم نسمع بهذا المذهب في أيّ عصر من عصور الإسلام الغابرة ، ولم يأت من يحدثنا بأنّ المسلمين في عصر ما قد انقسموا إلى فئة تسمّي نفسها السلفية وتحدد شخصيتها المذهبية هذه ب آراء محددة تنادي بها ، وأخلاقية معينة تصطبغ بها ، وإلى فئة أُخرى تسمى من وجهة نظر الأُولى بدعية أو ضلالية أو خلفية أو نحو ذلك ، كلّ الذي سمعناه وعرفناه أنّ ميزان استقامة المسلمين على الحقّ أو جنوحهم عنه إنّما مردّه إلى اتّباع المنهج المذكور.

وهكذا ، فقد مرّ التاريخ الإسلامي بقرونه الأربعة عشر دون أن نسمع عن أي من علماء وأئمّة هذه القرون أنّ برهان استقامة المسلمين على الرشد يتمثل في انتسابهم إلى مذهب يسمّى بالسلفية فإن هم لم ينتموا إليه ويصطبغوا بمميزاته وضوابطه ، فأُولئك هم البدعيون الضالّون.

__________________

١ ـ السلفية مرحلة زمنية : ص ٧٩.

٣٣٤

إذن فمتى ظهرت هذه المذهبية التي نراها بأُمّ أعيننا اليوم والتي تستثير الخصومات والجدل في كثير من أصقاع العالم الإسلامي ، بل تستثير التنافس والهرج في كثير من بقاع أوروبا حيث يقبل كثير من الأوروبيين على فهم الإسلام ويبدون رغبة في الانتساب إليه؟ (١)

وبعد أن يشير إلى مبدأ ظهور هذه الكلمة ( السلفية ) وسبب ذلك ، وكيف أنّها استخدمت في ذلك الوقت للدعوة إلى السير على خطا المسلمين الأُول في الالتزام بأصل الإسلام في مواجهة الموجة المادية الغربية التي اجتاحت البلاد الإسلامية في أوائل القرن العشرين ، ولكنّها تحولت فيما بعد إلى لقب ، لقب به الوهابيون مذهبهم ، وهم يرون أنّهم دون غيرهم من المسلمين على حقّ ، وأنّهم دون غيرهم الأُمناء على عقيدة السلف ، والمعبرون عن منهجهم في فهم الإسلام وتطبيقه ، وأمّا الآخرون فكفرة ضالّون.

يقول بعد كلّ هذا تحت عنوان : « التمذهب بالسلفية بدعة لم يكن من قبل » :

إذا عرف المسلم نفسه بأنّه ينتمي إلى ذلك المذهب الذي يسمّى اليوم بالسلفية ، فلا ريب أنّه مبتدع ...

فالسلفي اليوم ، كلّ من تمسّك بقائمة من الآراء الاجتهادية المعينة ودافع عنها وسفّه الخارجين عليها ونسبهم إلى الابتداع ، سواء منها ما يتعلق بالأُمور الاعتقادية ، أو الأحكام الفقهية والسلوكية. (٢)

ثمّ أشار الأُستاذ البوطي إلى الآثار الضارة اللاحقة بالأُمّة الإسلامية من جرّاء هذه البدعة ، وما يلازمها من عصبية مقيتة ومواقف متصلّبة وعنيفة. وما أوجدت من مشاكل في الأوساط الإسلامية ... وأشار ـ فيما أشار ـ إلى تهجّم السلفيين على جماعة من المسلمين المجاهدين في سبيل اللّه لا لشيء إلاّ لأنّ السلفيين لا يرتضون بعض أعمالهم المباحة شرعاً.

__________________

١ ـ السلفية مرحلة زمنية : ص ٢٣٠ ـ ٢٣١.

٢ ـ نفس المصدر : ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٣٣٥

حيث قال : وفي إحدى الأصقاع النائية (١) حيث تدافع أُمّة من المسلمين الصادقين في إسلامهم عن وجودها الإسلامي وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة ، تصوّب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتّهام بالشرك والابتداع ، لأنّهم قبوريون توسّليون (٢) ثمّ تتبعها الفتاوى المؤكّدة بحرمة إغاثتهم بأيّ دعم معنوي أو عون مادي ، ويقف أحد علماء تلك الأُمّة المنكوبة المجاهدة ينادي في أصحاب تلك الفتاوى والاتهامات : يا عجباً لإخوة يرموننا بالشرك مع أنّنا نقف بين يدي اللّه كلّ يوم خمس مرات نقول : ( إِيّاك نعبدُ وإِيّاكَ نَسْتَعين ) (٣) ... لكن النداء يضيع ، ويتبدّد في الجهات دون أيّ متدبر أو مجيب!! (٤)

ثمّ يقول : إنّ استنكار هذه الرعونات الشنيعة لا يكون إلاّ بمعالجتها ، ولا تكون معالجتها إلاّ بسد الباب الذي اقتحمت منه ، وإنّما الباب الذي اقتحمت منه هو الإقدام على اقتطاع جماعة من جسم الجماعة الإسلامية الواحدة ، واختراع اسم مبتدع لها ثمّ تغذية روحها العصبية وأنانيّتها الجماعية بمقوّمات معينة وأساليب وأخلاقيات متميزة تدافع بها عن كيانها الذاتي ، بل تتّخذ من هذا الاسم سلاحاً لمقاومة الآخرين وطعنهم دون هوادة إذا اقتضى الأمر. (٥)

ثمّ يشير الأُستاذ إلى استفادة أصحاب الفكر اليساري من هذه البدعة لصالح المادية الماركسية الجدلية حيث اعتبروا هذه البدعة دليلاً على صحّة نظريتهم التاريخية في مجال التناقض والصيرورة ، في غفلة من أصحاب هذه البدعة.

__________________

١ ـ والمراد هو إيران المسلمة وذلك عند دفاع أهلها عن وطنهم ومقدّساتهم في الحرب المفروضة عليهم من جانب الاستكبار العالمي وعملائه.

٢ ـ نعم هذا هو ما كان يفعله السعوديون الذين يتسترون تحت غطاء السلفية فكانوا يساعدون النظام الإلحادي البعثي العراقي بالمال والسلاح والدعاية مجاهرين بذلك. وحبذا لو أنّ الأُستاذ الشهم كشف عن اسم هذه الفرقة المتجنّية على الإسلام والمسلمين ، التي لم تكتف بتكفير المسلمين في إيران بل كفرت كلّ المسلمين وضلّلتهم.

٣ ـ سورة الفاتحة : الاية ٥.

٤ ـ السلفية مرحلة زمنية : ص ٢٤٥.

٥ ـ المصدر نفسه : ص ٢٤٦.

٣٣٦

السلفية وتدمير الآثار الإسلامية

لقد قامت « الوهابية » المفروضة على الشعب المسلم في الجزيرة العربية باسم « السلفية » بتدمير الآثار الإسلامية وقد ركزت جهودها في هذه الأيّام على محو آثار الإسلام ومعالمه وطمس كلّ أثر ديني حتى المساجد ، مع أنّ مؤسس « الوهابية » ، أعني : « محمد بن عبد الوهاب » ، كان يركز جهوده على هدم القبور فقط لا على هدم كلّ أثر ديني للرسول الأعظم وصحابته المنتجبين ، لكنّ حلفاءه بدأوا في هذه الأيام بالقضاء على الآثار الدينية باسم تطوير البلدين : مكة والمدينة فترى كيف طمست حتى في هذه السنوات الأخيرة ( ١٣٩٦ ـ ١٤٠٨) عشرات من الآثار الإسلامية ومحيت معالمها تحت غطاء توسعة المسجد النبوي ، أو تطوير المدينة وإعمارها ، وكأنّ التطوير يتوقف على التدمير ولا يجتمع مع حفظ تلك الآثار في مكانها ، ولا نشكّ نحن وكلّ متحرق على الحقّ والحقيقة أنّها مؤامرة شيطانية على الإسلام وأهله.

والعجب أنّ « السعوديين » يقومون بهذا العمل باسم الاقتداء بالسلف مع أنّ السلف في القرون السابقة فرضوا على أنفسهم رعايتها ، فإنّ الحكام ـ الذين تعاقبوا على مسند الحكم في الحجاز عدا يزيد ـ فرضوا على أنفسهم حفظها ورعايتها غير أنّها في هذه الأيام ، كأنّها أصبحت ملكاً صرفاً لآل سعود ، وكأنّها ليست آثاراً إسلامية ولا تخص مليار مسلم فضلاً عن الأجيال اللاحقة ، ولو نظر المسلم في تاريخ الآثار الإسلامية قبل استيلاء « السعوديين » عليها لوجد جميع الآثار تتمتع بأفضل عناية ورعاية من جانب السلف. فما معنى هذه السلفية التي تتبعض في مفهومها فيؤخذ منها شيء ويترك منها شيء؟! يقولون : « نؤمن ببعض ونكفر ببعض ».

وفي الوقت الذي تحرص فيه الدول المتحضّرة على إحياء أمجادها وتراثها ، وتتعهد بإنشاء كليات ومعاهد ومؤسسات ومتاحف لحفظ الآثار وصيانتها ـ في هذا الوقت نفسه ـ تعمد السعودية إلى القضاء على أنفس الآثار الإسلامية وأعزها على كلّ مسلم.

والعجب العجاب أنّ هؤلاء يدّمرون بيوت بني هاشم وبيت الإمام

٣٣٧

الصادق عليه‌السلام ، وقبر والد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشهد ذي النفس الزكية ، وبيت أبي أيّوب الأنصاري مضيف النبي ، ولكنّهم يعتنون ب آثار اليهود في المدينة المنوّرة ، فترى فيها حصن « كعب بن الأشرف » رأس اليهود الذي اغتاله بعض الصحابة بأمر النبي الأعظم محفوظاً ، وقد وضعت أمامه لوحة تحمل مرسوماً ملكياً بحفظه تحت عنوان حفظ الآثار.

وليس هذا التخطيط منحصراً بحفظ تراث ذلك اليهودي بل حصون خيبر بجميع شقوقها وفروعها سجلت في ديوان الآثار التي يجب حفظها عن الاندراس ، لأنّها شارة خاصة لأسلاف الحافظين لها « فاعتبروا يا أُولي الأَبصار ».

فأين المسلمون الغيارى ، أعني : الذين افتقدوا يوماً شعرة من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يحتفظون بها في مسجد من مساجد الهند فانتابتهم رجّة عظيمة ، وثارت ثائرتهم حتى اضطرت الدولة العلمانية الهندية إلى بذل الجهود للعثور على تلك الشعرة ، حتّى عثر عليها وأعيدت إلى مكانها.

فأين أُولئك الغيارى حتّى يروا بأُم أعينهم أنّ الآثار النبوية تدمّر ، الواحد تلو الآخر وفي كلّ شهر ويوم على أيدي السلطات السعودية.

ولن تنتهي الجريمة إلى هذا الحدّ ، بل ربما تتعدى إلى ما لا سمح اللّه به لهم.

ومن الملفت للنظر أنّ المفكّرين من علماء الإسلام عندما قام الوهابيون بهدم قبور أئمّة أهل البيت في البقيع (١) أعلنوا للعالم الإسلامي بأنّ الجريمة لن تتوقف عند هذا الحد ، بل إنّ هدم البقيع مقدمة لهدم ومحو جميع آثار الرسالة ، وفي ذلك يقول المرجع الديني الراحل (٢) السيد صدر الدين العاملي :

__________________

١ ـ عام ١٣٤٤.

٢ ـ لبى دعوة ربّه عام ١٣٧٣.

٣٣٨

لعمري إنّ فاجعة البقيع

يشيب لهولها فود الرضيع

وسوف تكون فاتحة الرزايا

إذا لم نصح من هذا الهجوع

أما من مسلم للّه يرعى

حقوق نبيّه الهادي الشفيع

( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلب يَنْقَلِبُونَ )

الرابع : نصيحة لأعلام الحنابلة وقادتهم

اتّفق المسلمون تبعاً للذكر الحكيم على أنّ الرسالة المحمّدية رسالة عالمية أوّلاً ، وخاتمية ثانياً ، قال سبحانه : ( قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَميعاً ) (١) ، وقد حملت الأُمّة الإسلامية رسالة إبلاغ الإسلام على عواتقها بعد التحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى فنشروها في مشارق الأرض ومغاربها حسبما توفر لديهم من الإمكانيات ، وقد وصلت النوبة في هذا العصر إلى قادة المسلمين وأئمّتهم ، فيجب عليهم بث الإسلام وتعاليمه بين الناس ـ شرقيّهم وغربيّهم ـ في حدود الإمكانيات والوسائل الموجودة في سبيل بسط الدعوة ونشرها حتّى ينقذوا العالم من مخالب المادية ومن الحروب التي تهدد كيان الإنسانية.

وممّا لا شكّ فيه أنّ للتأثير في النفوس وجذب القلوب ، عللاً وأسباباً مختلفة ، أهمها كون الداعي مجهزاً بقوة المنطق والاستدلال القاطع الذي تخضع له العقول السليمة ، فعند حسن الدعوة وأسلوبها ، وقوّة المادة ورصانتها ، ترى القلوب تهوي إليها من كلّ صوب وجانب ، والناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً ، وأمّا إذا كانت الدعوة غير منسجمة مع الفطرة السليمة ، فنفور الناس هو النتيجة الحتمية وتكون من قبيل « مايفسده أكثر ممّا يصلحه ».

وفي ظل هذا العامل سيطرت الدعوة المحمدية ـ آن ظهورها ـ على قلوب العالم واكتسحت العراقيل الموجودة أمامها ، وما ذاك إلاّ لكون الدعوة حائزة للشرائط موافقة للطباع ، وإلى هذا الانسجام يشير قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّين حَنيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ

__________________

١ ـ سورة الأعراف : الاية ١٥٨.

٣٣٩

الدِّينُ القَيِّمْ وَلكَّنْ أَكْثََرَ النّاسِ لا يَعْلَمُون ). (١)

فالدعوة إلى التوحيد ورفض الأصنام ، وبسط العدل والقسط بين الناس ، والدعوة إلى الاعتدال في ما يرجع إلى أُمور الدنيا والآخرة ، وتأمين سبل الحياة ، والحفاظ على الروابط العائلية و ... كلّها أُصول إسلامية مطابقة للفطرة الإنسانية.

فإذا كان هذا هو الأساس لنشر الإسلام في العالم وجذب النفوس إليه ، فيجب على قادة المسلمين على الإطلاق والحنابلة وأهل الحديث بالخصوص ، تجريد الدعوة عن الأُمور التي تعارض الفطرة ومن التي تناطح العقل السليم ، ثمّ عرض الإسلام بشكل يتجاوب مع العقول السليمة كما كانت عليه الدعوة المحمدية آن ظهورها وبعدها ، وهذه الغاية المتوخاة لا تتحقّق ـ بلا مجاملة ـ إلاّبدراسة الأُصول والعقائد التي نسجت على طبق الأحاديث الموجودة في الصحاح والمسانيد من رأس والعودة إليها من جديد حتى تصفو الدعوة من الأُمور التي يشمئز منها شعور الإنسان الحر صاحب الفطرة السليمة التي بني عليها دين اللّه في عامة الشرائع السماوية.

هلمّ معي نلاحظ نماذج من الأُصول التي قامت عليها الدعوة الحنبلية المتسمّية في هذه العصور بالدعوة السلفية ، ثمّ نعرضها على محك الصحة ومقياسها « الفطرة الإنسانية » ، فهل هي تتجاوب معها؟ ونحن لا نطيل الكلام بعرض عامة الأُصول بل نأخذ ـ كما قلنا ـ نماذج ونجعلها على مرأى ومسمع من القارئ.

أفهل يمكن دعوة شعوب العالم إلى الإسلام مع القول بأنّ اللّه سبحانه كإنسان له من الأعضاء ما للإنسان عدا اللحية والفرج ، وأنّ له عينين ناظرتين وذراعين وصدراً ونفساً ورجلاً وحقواً ونزولاً وصعوداً إلى غير ذلك ممّا ملأ كتب الحنابلة وقليلاً من كتب الأشاعرة؟ وأقصى ما عندهم أنّ له سبحانه هذه

__________________

١ ـ سورة الروم : الاية ٣٠.

٣٤٠