بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: لجنة ادارة الحوزة العلمية بقم المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بحوث في الملل والنحل الجزء 1 الشيخ جعفر السبحاني

١

بحوث في الملل والنحل الجزء 1 الشيخ جعفر السبحاني

٢

بحوث في الملل والنحل الجزء 1 الشيخ جعفر السبحاني

٣

بحوث في الملل والنحل الجزء 1 الشيخ جعفر السبحاني

٤

مقدمة الطبعة الأولى

دراسة العقائد للأخذ بالموقف الحق

إن الوقوف على آراء وعقائد المذاهب المختلفة وتحليلها ، ومعرفة أدلتها من أفضل أنواع الدراسة والتحقيق ، فهو السبيل الأفضل لمعرفة الرأي الأصوب ، والموقف الأحق بالأخذ والاتباع ، وهو الأسلوب الذي سلكه القرآن الكريم في مواجهاته العقائدية مع أصحاب المذاهب والاتجاهات الفكرية المضادة وقد حث عليه إذ قال تعالى ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) أو قال : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) .

وقد كان المسلمون هم السباقين إلى هذا المنهج وهذا الأسلوب من الدراسة والتحقيق ولهذا نرى في المكتبات والدراسات الإسلامية كتباً في الفقه المقارن ، والعقائد المقارنة ، وغير ذلك من حقول المعرفة ، والثقافة .

ونظراً لأهمية هذا الأسلوب في عصرنا الحاضر طلبت مني « لجنة إدارة الحوزة العلمية » في قم المقدسة ، إلقاء سلسلة محاضرات في آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الإسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم ، وذلك في إطار من التحليل ، والمقارنة والدراسة والتقييم ، فلبيت هذا الطلب وتم بتوفيق الله تعالى إلقاء مجموعة من المحاضرات في هذا المجال ، ليكون مقدمة للمرحلة التخصصية .

ثم حبذت لجنة الإدارة طبع ونشر هذه المحاضرات حتى تستفيد منه عامة

٥

طلاب الدراسات الإسلامية ، فأخرجتها في عدة أجزاء وهذا هو الجزء الأول الذي يقدم للقراء .

فشكراً لهذه اللجنة على اهتمامها بهذه العلوم ، ووفقها الله للمزيد من تقديم الخدمات الثقافية المفيدة إنه سميع مجيب الدعاء .

هذا ، والرجاء من القراء الكرام تزويدنا بنقدهم البناء حتى تكتمل هذه المباحث بإذنه تعالى .

قم ـ الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

يوم ميلاد فاطمة الزهراء (ع)

٢٠ / جمادي الأولى / ١٤٠٨ هـ

٦

مقدمة الطبعة الثانية

مؤرخ العقائد ومسؤوليته الخطيرة

التاريخ من العلوم الإنسانية التي اهتم بها البشر منذ فجر الحضارة ، وقد قام إنسان كل عصر وجيل بضبط الحوادث التي عاصرها وعايشها أو تقدمت عليه ، بمختلف الوسائل من أبسطها إلى أعقدها حيث كان يسجل الحوادث ، يوماً بالنقش على الأحجار والجدران ، ويوماً بالكتابة على الجلود والعظام وجريد النخل ، ويوماً بالتحرير على القراطيس والأوراق حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر الحاضر من وسائل الإعلام والنشر .

وقد قدم بعمله هذا إلى الأجيال المتأخرة كنزاً ثميناً ، ورصيداً فكرياً غالياً وغنياً وتجارب ملؤها العبر والدروس ، والمواعظ والنصائح التي لا يوجد نظيرها في أي مختبر من مختبرات العالم سوى في هذا المختبر ( التاريخ ) .

( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ) .

وربما يتصور متصور أن تسجيل التاريخ وضبط الحوادث أمر سهل لا يستدعي سوى الشعور بالوقائع ، ومعرفة اللغة ، والكتابة ، ولكنني أعتقد ـ ككثير ممن لهم إلمام بالمسائل التاريخية ـ أن كتابة التاريخ الحقيقي الصحيح الذي يمكن أن يكون مساقط العبر والاعتبار ، ومهابط الوعظ والنصح ، أمر مشكل جداً ، لأن الهدف من تسجيل الحوادث ، هو : إراءتها للأجيال المتأخرة على ما هي عليه سواء أكانت الحوادث بعامة خصوصياتها موافقة مع ميوله

٧

ونزعاته أم لا ، وسواء أكانت لصالح المؤرخ وقومه أو لا ، ومن المعلوم أن القيام بذلك ، يتوقف على كون المؤرخ رجلاً موضوعياً متبنياً للحقيقة ، ومحباً لها أكثر من حبه لنفسه ونفيسه ومصالحه ، ولكن هذا النمط نادر بين المؤرخين ولا يقوم به منهم إلا الأمثل فالأمثل ولا يأتي بمثله الزمان إلا في الفينة بعد الأخرى ، ولأجل ذلك قل المؤرخون الموضوعيون المنصفون فإن أكثرهم يركزون على ما يروقهم وما يلائم أهواءهم والمذهب الذي يعتنقونه ، ويتركون ما سوى ذلك ، وليس هذا شيئاً محتاجاً إلى البرهنة والاستدلال بل يتضح بالرجوع إلى ما ألف من التواريخ أيام الدولتين : الأموية والعباسية ، فكل يخدم الحكومة التي كانت تعاصره وتدر عليه الرزق ، ومن ثم صارت التواريخ علبة المتناقضات وما ذاك إلا لأن الكاتب لم يراع واجبه الأخلاقي والاجتماعي وقبل كل شيء مسؤوليته الدينية .

تاريخ العقائد وتسجيل الفرق

هذا فيما يرجع إلى مطلق التاريخ والوقائع التي يواجهها المؤرخ في كل عصر ومصر سواء أكانت راجعة إلى الملوك والساسة ، أو السوقة والشعوب وأما تبيين عقائد الأمم ومذاهبها التي كانت تدين أو تتمذهب بها على ما هي عليه ، فذاك أمر صعب مستصعب ، وأشكل من القيام بالرسالة المتقدمة في مجال تسجيل الحوادث وضبط الوقائع ، وما هذا إلا لأن المؤلف في هاتيك المجالات ـ إلا ما شذ ـ مشدود إلى نزعات دينية وعقائد قومية ترسخت في ذهنه ونفسه وروحه ، والفكرة الدينية صحيحة كانت أو باطلة من أحب الأشياء عند الإنسان وربما يضحي في سبيلها بأثمن الأشياء وأغلاها .

هذا من جهة ومن جهة أخرى : إنّ القيام بهذه المهمة في مجال تاريخ العقائد يتوقف على تحلي المؤرخ بالشجاعة الأدبية والعلمية حتى يتمكن بهما من البحث الموضوعي حول عقائد الشعوب وعرضها على ما هي عليه ، والقيام بهذا الواجب عند فقدان هذين العاملين مشكل جدا ، ومن ثم يتحمل مؤرخ العقائد مسؤولية جسيمة أمام الله أولاً ، وأمام وجدانه ثانياً ، وأمام الأجيال القادمة والتاريخ ثالثاً .

٨

ومن الأسف أن أكثر من قام بتدوين عقائد الملل لم يتجرد عن أهوائه وميوله ومصالحه الشخصية وغلبت نزعاته وعواطفه الدينية وتعصباته الباطلة على تبني الواقع وإراءة الحقيقة ، فترى أن أكثرهم يكتب عقيدة نحلته بشكل مرغوب منمق ويحاول أن يصحح ما لا يصح ولو بتحريف التاريخ وإنكار المسلمات ، وأما إذا أراد الكتابة عن عقائد الآخرين فلا يستطيع أن يكن عداءه لها ولهذا يحاول أن يعرضها بصورة مشوهة فيأتي في غضون كلامه بنسب مفتعلة وآراء مختلقة وأكاذيب جمة نزولاً على حكم العاطفة الدينية الكاذبة ، أو اعتماداً على الكتب التي لا يصح الاعتماد عليها ، أو تساهلاً في ضبط العقائد والمذاهب إلى غير ذلك من العوامل التي صارت سبباً لحيرة الأجيال المتأخرة في مجال التعرف على عقائد الأقوام والملل ، وضلالها وإساءة الظن فيها .

وأخص من بين تلك العوامل ، الاكتفاء في تبيين عقائد قوم بالرجوع إلى كتب خصومهم وأعدائهم ، وهذا داء عم أكثر مؤرخي العقائد والنحل نظير من ألف من الأشاعرة في ضبط عقائد المعتزلة ، فهم يكتبون عن المعتزلة في ضوء ما وجدوه في كتاب إمام الحنابلة ( أحمد بن حنبل ) أو إمامهم ( أبو الحسن الأشعري ) فينسبون إليهم أموراً لا تجد لها أثراً في كتبهم بل تجد نقيضه فيها ولأجل ذلك صارت المعتزلة مهضومة الحق .

وليست المعتزلة هي الفرقة الوحيدة التي تعرّضت لمثل هذا الهضم بل قد تحملت الشيعة الإمامية القسط الأوفر من الاضطهاد والهضم ، وكأن أصحاب المقالات والفرق اتفقت كلمتهم على الكتابة عنهم من دون مراجعة ولو عابرة إلى مصادرهم ومؤلفاتهم ، وكأن عرض الشيعة حلال ينهبه كل من استولى عليه بقلمه وبيانه ، والقوم يكتبون عن الشيعة كل شيء وليس عندهم من الشيعة شيء سوى كتب أعدائهم وخصمائهم ومن لا يحتج به في باب القضاء والحجاج .

وها نحن نقدم نموذجاً في هذا الباب ونشير إلى كتابين أحدهما لبعض المتقدمين والآخر لبعض المعاصرين ، فنرى كيف أنهما تساهلا في عرض عقائد الشيعة ونزلا على حكم العاطفة ، ورمياها بكل فرية وكأن الصدور مملوءة بالحقد والعداء وإليك البيان :

٩

الشهرستاني وكتابه « الملل والنحل »

إن كتاب « الملل والنحل » للمتكلم الأشعري « أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني » ( المتوفّى سنة ٥٤٨ ) من الكتب المشهورة في هذا الباب وأكثرها تداولاً بين أترابه ولعل كثيراً من أهل العلم لا يعرفون كتاباً في هذا الموضوع سواه .

ومع هذه الشهرة ترى في طيات الكتاب نسباً مفتعلة وآراء مختلقة عندما يعرّف الشيعة ، مما يندى له الجبين ، ويخجل القلم من تحريره وتسطيره وإليك بعض ما نسبه إليهم :

١ ـ من خصائص الشيعة القول بالتناسخ والحلول والتشبيه (١) .

٢ ـ إن الإمام الهادي (ع) ـ عاشر الأئمة الإثني عشر ـ توفي بقم ومشهده هناك (٢) .

٣ ـ إن هشام بن الحكم كان يقول : إن لله جسماً ذا أبعاض في سبعة أشبار بشبر نفسه في مكان مخصوص وجهة مخصوصة (٣) .

٤ ـ إن علياً إله واجب الطاعة (٤) ! !

إلى غير ذلك من النسب الكاذبة التي نسبها إلى متكلم الشيعة ربيب بيت الإمام جعفر الصادق (ع) « هشام بن الحكم » وإلى نظرائه كهشام بن سالم وزرارة بن أعين ومحمد بن النعمان ويونس بن عبد الرحمن .

هذا مع العلم بأن هؤلاء ـ أعاظم الشيعة ـ كانوا يقتفون أثر أئمتهم ولم يكونوا يعتنقون مبدأ إلا بعد عرضه عليهم ، ومن المعلوم أن أئمة أهل البيت

____________________

(١) الملل والنحل : ج ١ ص ١٦٦ .

(٢) نفس المصدر : ج ١ ص ١٦٦ .

(٣) الملل والنحل ج ١ ص ١٨٤ وهو في هذا الافتعال تبع عبد القاهر البغدادي في « الفرق بين الفرق » ص ٦٥ ، والشيخ الأشعري في « مقالات الإسلاميين » ج ١ ص ١٠٢ و . . . والأخير هو الأساس لأكثر من كتب في الملل والنحل .

(٤) الملل والنحل : ج ١ ص ١٨٥ .

١٠

وهم دعاة التنزيه كانوا يكافحون البدع اليهودية والمسيحية والمجوسية التي كانت تدور بين أندية أهل الحديث حتى قيل : « التوحيد والعدل علويان والتجسيم والجبر أمويان » .

فمن راجع كتب الشيعة وأحاديث أئمتهم يجد أنهم حكموا بكفر القائلين بالتناسخ والحلول والتشبيه وألوهية غيره سبحانه ، فكيف ينسب هذا الكاتب ـ بصلف ووقاحة ـ هذه الأمور إلى تلاميذ قرناء الكتاب وأعداله .

وأعجب من ذلك أنه يختلق للشيعة فرقاً لم تسمع بها أذن الدهر وإنما توجد في كتب أعدائهم فمن هشامية إلى زرارية إلى يونسية إلى . . من الفرق التي لا توجد لا في كتب القصاصين المحترفين للكذب ، ولا في علب العطارين .

والشيعة وعلماؤهم ـ وفي مقدمتهم السيد الشريف المرتضى ـ يكذبون هذه الفرق وقد شطبوا على وجودها بقلم عريض وهم لا يعرفونها وإنّما اختلقتها الأوهام لإسقاط الشيعة من عيون الناس .

هذا بعض ما يوجد في هذا الكتاب وأعجب منه أنه يعرف الإمام الهادي (ع) ـ الإمام العاشر للشيعة ـ بأنه مدفون بقم مع أنه دفن بسامراء يزوره القريب والبعيد وقد دفن إلى جنبه ولده الزكي « الحسن بن علي » ، والتواريخ والمعاجم طافحة بذكرهما وموضع قبرهما (١) .

هذا نموذج من زلات هذا المؤرخ وهو من القدماء .

وهلم معي إلى نموذج آخر وهو من متأخري القوم ومتنوريهم ، العائشين في عصر النور والأمانة التاريخية والعلمية .

النشار وكتابه « نشأة الفكر الفلسفي »

الكتاب للدكتور « علي سامي النشار » يقع في ثلاثة أجزاء أو أزيد وقد

____________________

(١) راجع وفيات الأعيان لابن خلكان : ج ٣ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣ وغيره .

١١

خص الجزء الثاني من كتابه ببيان عقائد الشيعة وهو يحاول في مقدمته أن يكتب عن عقائد الفرق بصورة محائدة وهو يقول في مقدمة الطبعة السادسة :

« ولكني ما زلت أرى أن التفسير الموضوعي المحائد هو أهم تفسير في دراسة الفكر عامة والفكر الإسلامي خاصة » (١) .

وربما يتصور الإنسان أن لما ذكره مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ولكنه عندما يسبر الكتاب ويلاحظ ما في غضونه من النسب إلى الشيعة يقف على أن ما ذكره في المقدمة واجهة ستر بها كل ما في الكتاب من العداء المستكن وأنه لا يريد إلا إبطال عقائد الشيعة ولو بالنسب الباطلة ، والحق أن الدكتور النشار وضع منشاره على حياة الشيعة تاريخاً وعقيدة ، ولا يرسم عن تلك الطائفة إلّا أموراً مشوهة وعقائد باطلة ، والكتاب يحتاج جداً إلى نظارة التنقيب وإليك نموذجاً من نسبه المفتعلة :

١ ـ يقول عند البحث عن الإيمان : ونلحظ أن في رأي « جهم » عنصراً شيعياً فالإيمان عند الشيعة هو معرفة بالقلب فقط (٢) .

٢ ـ إن الرجل يصر على إنكار كون علي (ع) رائد الفكر الفلسفي في الإسلام حتى جر عداؤه لعلي (ع) إلى إنكار النص الذي صدر عنه في منصرفه عن « صفين » حول القضاء والقدر وذهب إلى أن النص موضوع ، قائلاً بأن الذين أرادوا أن يحاربوا أهل السنة في الروايات التي رووها عن علي (ع) حول القدر ، التجأوا إلى وضع هذا النص وقد زعم أن جاعل هذا النص هو المعتزلة (٣) .

أما كون علي (ع) رائد الفكر العقلي فنترك البحث فيه إلى آونة أخرى ويكفينا في ذلك تراثه الوحيد : « نهج البلاغة » وأما كون النص مجعولاً من جانب المعتزلة فهذا ناجم من جهله بمصادر نهج البلاغة فقد رواها علماء الشيعة

____________________

(١) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : ج ١ ص ١٧ .

(٢) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : ج ١ ص ٣٤٥ الطبعة السابعة ، وستوافيك عقيدة الشيعة في حقيقة الإيمان عند البحث عن عقائد المرجئة فلاحظ الجزء الثالث .

(٣) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : ج ١ ص ٤١٢ .

١٢

أنفسهم بلا توسيط أحد من المعتزلة وسيوافيك بيانه في هذا الجزء عند البحث عن الرسائل الثلاث حول القدر .

والذي أوقعه في هذا الخبط والخلط لدى عرض تاريخ الشيعة وعقائدهم هو أنه اعتمد في دراسته على كتب خصمائهم وأعدائهم من دون أن يعتمد على مصادر الشيعة المتوفرة ، إلّا قليلاً لا يكفي .

فاعتمد أولاً على كتاب « أبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي » ( المتوفى عام ٣٧٧ هـ ) باسم « التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع » نشر عام ١٣٩٩ والكاتب حنبلي حشوي قد حشد في كتابه شيئاً كثيراً من الأكاذيب ونسب أصولاً إلى الصحابة والتابعين بسند مزور كما سيوافيك بيانه في هذا الجزء .

أفيصح في ميزان النصفة الكتابة عن أمة كبيرة يعدون ربع المسلمين بالنقل عن كاتب حشوي وكتاب حشو ؟ .

والعجب أن الدكتور عرفه بأنه أول من كتب حول الشيعة من أهل السنة مع أن الإمام الأشعري أسبق منه . فقد كتب عن الشيعة في « مقالات الإسلاميين » شيئاً كثيراً وقد توفي الإمام عام ٣٢٤ وعلى احتمال ضعيف ٣٣٠ فكيف يكون « الملطي » أول من كتب حول الشيعة من أهل السنة ؟

واعتمد ثانياً على كتاب « الفرق بين الفرق » لأبي منصور عبد القاهر البغدادي ( المتوفى عام ٤٢٩ ) ومن راجع هذا الكتاب لمس منه ـ مضافاً إلى البذاءة في اللسان ـ تعصباً في بيان عقائد الفرق ونوقفك على نموذج من هذا فقد قال في خلال بيان أصناف فرق السنة والجماعة : « ولم يكن بحمد الله ومنّه في الروافض و . . إمام في الفقه ولا إمام في رواية الحديث ولا إمام في اللغة والنحو ، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتواريخ ولا إمام في الوعظ والتذكير ولا إمام في التأويل والتفسير وإنّما كان أئمة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنة والجماعة » (١) وقال في موضع آخر :

____________________

(١) الفرق بين الفرق للبغدادي : ص ٢٣٢ طبع دار المعرفة ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد .

١٣

يا أيها الرافضة المبطلة

دعواكم من أصلها مبطلة (١)

هذا أدب الرجل وسيرته في الكتاب كله ونحن نمر عليه مرور الكرام ونقول : الدعوى الأولى دعوى بلا بينة وبرهان وإنكار وجود الأئمة في مجالات هذه العلوم بين الشيعة كإنكار البديهيات ولا نطيل الكلام في رده بذكر أسماء أئمتهم في مختلف المجالات والأمور ، وكفانا في ذلك كتاب « تأسيس الشيعة الكرام لفنون الإسلام » تأليف السيد حسن الصدر ( المتوفى عام ١٣٥٤ ) .

غير أني أتعجب من هذه الفرية القارصة ، وكيف نفى وجود شخصيات علمية عند الشيعة مع أنه كان معاصراً للشيخ المفيد ( المتوفى عام ٤١٣ ) الذي يقول في حقه اليافعي : « كان عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضاً ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية » (٢) .

ويعرفه ابن كثير في تاريخه بقوله : « كان مجلسه يحضره كثير من العلماء من سائر الطوائف » (٣) .

كيف يقول ذلك وبيئة بغداد تجمع بينه وبين الشريف المرتضى ( المتوفّى عام ٤٣٦ ) ويعرفه ابن خلكان في تاريخه ويقول : « كان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر » (٤) .

وقال الثعالبي : « قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل » (٥) .

واعتمد ثالثاً على كتاب « الفصل في الملل والأهواء والنحل » تأليف « ابن حزم » الأندلسي الظاهري ( المتوفى سنة ٤٥٦ ) وكفى في التعرف على نفسية

____________________

(١) نفس المصدر : ص ٧١ .

(٢) مرآة الجنان : ج ٣ ص ٢٨ .

(٣) تاريخ ابن كثير : ج ١٢ ص ١٥ .

(٤) وفيات الأعيان : ج ٣ ص ٣١٣ .

(٥) تتميم يتيمة الدهر : ج ١ ص ٥٣ .

١٤

هذا الرجل وشذوذه أنه صوب فعل قاتل الإمام أمير المؤمنين بحجة أنه كان مجتهداً متأولاً مثاباً في عمله هذا ، وإليك نص عبارته :

« إن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل علياً ( رضي الله عنه ) إلّا متأوّلاً مجتهداً مقدراً أنه على صواب وفي ذلك يقول « عمران بن حطان » شاعر الصفرية :

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً » (١)

والقاریء الكريم جد عليم بأنه لا قيمة لهذا الاجتهاد الذي يؤدي إلى قتل الإمام المفترض طاعته بالنص أولاً ، وبإجماع الأمة ثانياً ، ولنعم ما أجاب به معاصره القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الشافعي فقال :

يا ضربة من شقي ما أراد بها

إلا ليهدم للإسلام أركاناً (٢)

فإذا كان هذا حال المؤلف ونفسيته ونزعاته فكيف يكون حال من استند إلى مثله غير أن الجنس إلى الجنس يميل .

منهجنا في دراسة المذاهب

فلأجل هذا الخبط والتخليط في أكثر كتب الملل والنحل خصوصاً في كتاب إمام الأشاعرة « مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين » ولا سيما في ما يرجع إلى المعتزلة والشيعة فإنه الأساس لكل من كتب بعده كـ « الفرق بين الفرق » لعبد القاهر البغدادي و « الملل والنحل » للشهرستاني وغيرهما من المتأخرين ، فقد توخينا أن لا نعزو إلى مذهب شيئاً إلا بعد الوقوف عليه في كتبهم المؤلفة بأيدي أساطينهم وأقلام علمائهم ولا نكتب عن طائفة إلا بعد توفير المصادر واستحضار المنابع والرجوع إليها بدقة وإمعان .

إن منهجنا في دراسة المذاهب وعقائد الفرق يبتنی على دعامتين :

الأولى : تبنّي الواقع في عزو مقال إلى قوم وذلك لما عرفت .

____________________

(١) المحلى لابن حزم : ج ١ ص ٤٨٥ .

(٢) مروج الذهب : ج ٢ ص ٤٣ ، ولنا مع ابن حزم بحث ضاف سيوافيك في الجزء الثالث عن الحركات الرجعية في القرون الأولى .

١٥

الثانية : العناية بتحليل عقائد الأمم ونقدها فإن الغالب على كتاب « الملل والنحل » هو سرد العقائد من دون نقد أو تحليل وكأنهم زعموا أن واجب المؤرخ لا يتعدى بيان الحوادث في التاريخ ، وعرض العقائد في مجال الملل والنحل وكأن إحقاق الحق واجب المتكلم فقط ونحن ضربنا عن هذا صفحاً وتوخينا بيان الحق على وجه يناسب كتاب « الملل والنحل » وهذا هو المنهج الذي مشينا عليه في أجزاء الكتاب كلها وهو تحقيق الموضوع الذي طرح للبحث من جانب كل فرقة وملة .

ولأجل ذلك أصبح الكتاب : كتاباً كلامياً أولاً ، وتاريخياً للعقائد والمذاهب ثانياً ، وموسوعة لبيان حالات رجالهم وشخصياتهم وتاريخ نشوئهم ثالثاً .

وأرجو منه سبحانه أن يوفقنا لما فيه رضاه وأن يصوننا من الزلة في الرأي والقول والفعل والعمل .

وأما الفرق التي دار حولها البحث والنقد فهي على سبيل الفهرس :

١ ـ « أهل الحديث والحنابلة » الذين يعبر عنهم في عصرنا هذا بـ « السلفية » حتى صارت هذه الكلمة شعاراً لهم وكأن « السلف » معصوم من الزلة متحرر من الخطأ .

٢ ـ « الأشاعرة » آراؤهم وأفكارهم وترجمة مفكريهم ومحققيهم وإنما قدمنا هذه الفرقة على « المعتزلة » مع أن الشيخ الأشعري مؤسس هذا المذهب كان معتزلياً ثم تاب عن الاعتزال ورجع إلى مذهب الإمام « أحمد بن حنبل » وأسس مذهباً معتدلاً بين المذهبين ـ وإنما قدمناه ـ لأجل الصلة القويمة بين المذهبين : « أهل الحديث » و « الأشاعرة » .

٣ ـ الحركات الرجعية في القرون الأولى كالمرجئة والجهمية والكرامية والظاهرية وسيوافيك أن آراءهم وأفكارهم في هذه القرون كانت رجعية بحتة تخالف منطق العقل الذي تعتمد عليه المعتزلة ومنطق الكتاب والسنة الذي يعرج عليهما الحنابلة ، وأمّا الذي تولى كبرها فسوف يظهر لك في ذلك الفصل .

١٦

٤ ـ « القدرية » أسلاف المعتزلة كمعبد بن عبد الله الجهني ( المتوفى عام ٨٠ ) وغيلان الدمشقي المقتول بدمشق بأمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عام ١٠٥ وقد اتهم هؤلاء بنفي القدر الوارد في الكتاب والسنة ، وقد قلنا إن الإتهام في غير محله وهؤلاء كانوا دعاة الحرية والاختيار لا نفاة القدر الذي جاء في الآثار الصحيحة . نعم كانوا يرفضون القدر السالب للاختيار الحاكم على حرية الإنسان واختياره ، بل حتى على الله سبحانه وكأن القدر إله ثان مسلط على كل شيء حتى إرادة الله وفي الوقت نفسه حنق على الإنسان ، فهو يدخل من يشاء الجنة ، ويدخل من يشاء الجحيم بلا ملاك ولا مبرر .

٥ ـ « الماتريدية » آراؤهم ورجالهم ، وهؤلاء والأشاعرة صنوان أو رضيعان يرتضعان من ثدي واحد ولكن « الماتريدية » أقرب إلى المعتزلة من الأشاعرة ، وقد وافقوا في كثير من المسائل ، المعتزلة .

٦ ـ « المعتزلة » منهجهم وآراؤهم ورجالهم .

٧ ـ « الخوارج » تاريخهم وعقائدهم .

٨ ـ « الوهابية » نشوؤها ومؤسسها ومعتقداتها .

٩ ـ « الشيعة الزيدية والإسماعيلية » ، ونبحث عن الباطنية في هذا الفصل .

١٠ ـ « الشيعة الإمامية » الإثنا عشرية .

تلك عشرة كاملة .

*       *      *

وأقدم كتابي هذا لكل طالب للحق والحقيقة ، ولكل متعطش للتعرف على الواقع بين منعرجات الأهواء النفسية والانتماءات الجاهلية والتعصبات الباطلة ولا أشك في أن لفيفاً من الأمة سيقدرون عملي هذا غير أن المتطرفين من الطوائف الإسلامية يعدونه تفريقاً للأمة وشقاً لعصاها وكأنهم يرون التقارب الظاهري والتصفيق في المجامع والمجالس هو روح الوحدة وسنادها ، وهم في غفلة عن أن التعرف على المذاهب على ما هي عليه ، من عوامل التقريب

١٧

وتوحيد الكلمة وعود الأخوة الإسلامية إلى المجتمع الديني وعلى كل تقدير فلا أطلب رضا هؤلاء ، ولا أعتمد عليه ولا أخشى سخط الآخرين ولا أخافه ، ورائدي هو رضوانه تعالى لا غير .

( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ، أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ) (١) .

قم المقدسة ـ الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

١٤١٠ هـ .

____________________

(١) سورة سبأ : الآية ٤٦ .

١٨



بسم الله الرحمن الرحيم

الملل والنحل في المؤلفات الإسلامية

لقد قام ثلة من علماء المسلمين بتدوين كتب مفصلة أو مختصرة في هذا المضمار فكشفوا عن مصادر الآراء ومواردها ، وجمعوا واردها وشاردها ، وما ألفوه حول تبيين العقائد والنحل على أصناف نشير إليها :

أ ـ ما يتناول جميع الشرائع والمذاهب العالمية ، إسلامية كانت أو غيرها ، ومن هذا القسم :

١ ـ « الفصل في الملل والأهواء والنحل » لإمام المذهب الظاهري ، أبي محمد علي بن حزم الظاهري ( المتوفى عام ٤٥٦ ) .

٢ ـ « الملل والنحل » لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ( ٤٧٩ ـ ٥٤٨ ) .

ب ـ ما يتناول خصوص الفرق الإسلامية ومن هذا القسم :

١ ـ « مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين » تأليف شيخ الأشاعرة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ( المتوفى عام ٣٢٤ ) .

٢ ـ « التنبيه والرد » لأبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي ( المتوفى عام ٣٧٧ ) .

٣ ـ « الفرق بين الفرق » تأليف الشيخ عبد القاهر بن طاهر بن محمد

١٩

البغدادي الأسفرائيني التميمي ( المتوفى سنة ٤٢٩ ) .

٤ ـ « التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكة » لطاهر بن محمد الأسفرائيني ( المتوفى عام ٤٧١ ) المطبوع بمصر عام ١٣٧٤ .

٥ ـ « الفرق الإسلامية » ذيل كتاب « شرح المواقف » للكرماني ( المتوفى عام ٧٨٦ ) وقد طبع في بغداد عام ١٩٧٣ .

ج ـ ما يتناول خصوص مذهب من المذاهب الإسلامية ومن هذا القسم :

١ ـ « فرق الشيعة » تأليف أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث للهجرة وقد بين فيه فرق أهل الإمامة .

٢ ـ « فرق الشيعة » (١) للشيخ أبي القاسم سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي ( المتوفى عام ٢٩٩ أو ٣٠١ ) .

وقد طبعت هذه الكتب ووزعت في العالم وهي متاحة لكل من أراد معرفة هذه المذاهب والمقالات والآراء والأفكار ، ولنقدم قبل الورود في البحث أموراً تفيد القراء الكرام وطلاب هذه المعرفة :

١ ـ الملة والنحلة في اللغة

الملة بمعنى الطريقة ، والمراد هنا السنن المأخوذة والمقتبسة من الآخرين ولأجل ذلك يضيفها القرآن إلى الرسل والأقوام إذ يقول مثلاً : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) ( البقرة : ١٣٥ ) . وقوله : ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) ( يوسف : ٣٧ ) ولا تستعمل مضافة إلى الله ولا إلى آحاد أمة نبي بل إلى نفس النبي ، ويقال ملة إبراهيم وملة محمد (ص) ولا يقال : ملة الله .

وأما النحلة فهي على ما في « لسان العرب » بمعنى الدعوى ، والنسبة بينها وبين الدين أنها تستعمل في الباطل كثيراً مثل كلمة « انتحال المبطلين »

____________________

(١) كما عبر به النجاشي في ترجمته وربما يعبر عنه بالمقالات والفرق .

٢٠