بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: لجنة ادارة الحوزة العلمية بقم المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والمقصود من الكلمتين في هذا العلم هو الطرق والمناهج العقائدية سواء أكانت حقاً أم باطلاً .

٢ ـ الصلة بين علم العقائد وعلم الملل والنحل

وهناك اتصال وثيق بين علم الكلام وعلم الملل والنحل ، ووزان علم الملل والنحل بالنسبة إلى علم العقائد والكلام ، وزان تاريخ العلم بالنسبة إلى العلم نفسه ، نظير الفلسفة وتاريخها ، فالفلسفة تطرح الموضوعات الفلسفية على بساط البحث ، فتقيم برهاناً على ما تتبناه بينما يشرح تاريخ الفلسفة المناهج الفكرية التي نجمت في فترات مختلفة ، من دون تركيز على رأي أو تبني عقيدة خاصة في كثير من الأحيان .

ومثله علم الكلام بالنسبة إلى الملل والنحل ، فالأول يبحث عن المسائل العقائدية التي ترجع إلى المبدأ والمعاد وما يلحقهما من المباحث ويوجه عنايته إلى إثبات فكرة خاصة في موضوع معين ونقد الآراء المضادة له ، ولكن الثاني يطرح المناهج الكلامية المؤسسة طيلة قرون من دون أن يتحيز إلى منهج دون منهج غالباً ، وهمّه هو عرض هذه الأسس الفكرية على رواد الفكر والمعرفة .

وإن شئت قلت : إن علم الملل والنحل يتعرض للموضوعات الكلامية المبحوث عنها في علم الكلام ويشرحها ويعرض الآراء المختلفة حولها من دون القضاء بينها وأما علم الكلام فهو يتخذ موضوعات خاصة للبحث ويبدي المؤلف نظره الخاص فيها ويركز على رأيه بإقامة البرهان .

٣ ـ قيمة الكتب المؤلفة في هذا المضمار

لا شك أن للكتب المؤلفة في هذا المضمار ، مكانة في الأوساط العلمية وأن المؤلفين في الملل والنحل قد تحملوا جهوداً كثيرة في الإحاطة بالمناهج الفكرية الرائجة في الملأ العلمي خصوصاً الأوائل منهم ، غير أنه لا يمكن الاعتماد على هذه الكتب بصورة مطلقة وذلك لأنا نرى أنهم يذكرون فرقاً للشيعة الإمامية لم يسمع الدهر بأسمائها كما لم يسمع بآراء أصحابها قط .

٢١

فهذا إمام الأشاعرة يذكر للشيعة الغالية خمس عشرة فرقة وللشيعة الإماميّة أربعاً وعشرين فرقة وينسب إليهم القول بالتجسيم وغير ذلك من الآراء والعقائد السخيفة ، ويقسم الزيدية إلى ست فرق وقد أخذ عنه من جاء بعده ممن ألّف في هذا المجال .

فإذا كان حاله وحال من نسج على منواله ـ كالبغدادي في « الفرق بين الفرق » والشهرستاني في « الملل النحل » في تلك المواضع التي نحن أعرف منهم بها ـ بهذا المنوال ، فكيف حالهم فيما ينقلونه عن سائر أصحاب الشرائع من اليهود والنصارى والمجوس والبراهمة والبوذيين وغيرهم ، ولأجل ذلك يجب أن تكون نسبة القول إلى أصحابها مقرونة بالاحتياط والتثبت والرجوع إلى مؤلفات نفس الفرق .

يقول المحقق المعاصر الشيخ محمد زاهد الكوثري في تقديمه لكتاب « التبصير في الدين » : « والعالم المحتاط لدينه لا ينسب إلى فرقة من الفرق ما لم يره في الكتب المردودة عليهم ، الثابتة عنهم أو في كتب الثقات من أهل العلم المتثبتين في عزو الأقاويل ، ولا يلزمهم إلا ما هو لازم قولهم لزوماً بيناً لم يصرح قائله بالتبري من ذلك اللازم » (١) .

وقد تصفحنا أكثر ما كتبه أحمد بن تيمية في « المسائل الكبرى » عن الشيعة وغيرهم وفي كتابه « منهاج السنة » عن خصوص الشيعة فوجدناهما مليئين بالأخطاء ، لو لم نقل بالكذب والوضع .

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه يقع الكلام في فصول :

____________________

(١) التبصير في الدين ص ٧ .

٢٢

الفصل الأول

افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة

روى أصحاب الصحاح والمسانيد ومؤلفو الملل والنحل عن النبي الأكرم ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « إن أمتي تفترق على ثلاث وسبعين فرقة » وقد اشتهر هذا الحديث بين المتكلمين وغيرهم حتى الشعراء والأدباء .

وتحقيق الحديث يتوقف على البحث في جهات أربع :

١ ـ هل الحديث نقل بسند صحيح قابل للاحتجاج به ، أو لا ؟

٢ ـ ما هو النص الصادر عن النبي الأكرم (ص) في هذا المجال ، فإن نصوص الحديث في ذلك المجال مختلفة .

٣ ـ ما هي الفرقة الناجية من هذه الفرق المختلفة ، فإن النبي قد نص على نجاة فرقة واحدة ، كما سيأتيك نصه .

٤ ـ ما هي الفرق الإثنتان والسبعون التي أخبر النبي (ص) بنشوئها من بعده ؟ وهل بلغ عدد الفرق والطوائف الإسلامية إلى هذا الحد ؟

فإليك البحث في هذه الجهات الأربع :

أ ـ سند الحديث

روي الحديث المذكور في الصحاح والمسانيد بأسانيد مختلفة ، وقد قام

٢٣

الحافظ « عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلقي المصري » ( م : ٧٦٢ ) بجمع أسانيده ومتونه في كتابه : « تخريج أحاديث الكشاف » وقد اهتم فيه بهذا الحديث سنداً ومتناً ، إهتماماً بالغاً ، لم يسبقه إليه غيره . . .

غير أن القضاء فيما جمعه من الأسانيد خارج عن مجال هذه الرسالة ولأجل ذلك نبحث فيه على وجه الإجمال ، فنقول :

إن ها هنا من لا يعتقد بصحة الحديث منهم : ابن حزم ، في كتابه : « الفصل في الأهواء والملل » قال : ذكروا حديثاً عن رسول الله (ص) « أن القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة » وحديث آخر « تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار حاشا واحدة فهي في الجنة » ( ثم قال : ) هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الأسناد ، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد ، فكيف من لا يقول به (١) .

وهناك من يعتقد بصحة الاستدلال لأجل تضافر أسناده ، يقول محمد محيي الدين محقق كتاب « الفرق بين الفرق » : « اعلم أن العلماء يختلفون في صحة هذا الحديث فمنهم من يقول إنه لا يصح من جهة الأسناد أصلاً لأنه ما من إسناد روي به إلا وفيه ضعف ، وكل حديث هذا شأنه لا يجوز الاستدلال به ، ومنهم من اكتفى بتعدد طرقه ، وتعدد الصحابة الذين رووا هذا المعنى عن رسول الله (ص) . . . » (٢) .

وقد قام الحاكم النيشابوري برواية الحديث عن سند صحيح يرتضيه الشيخان قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سلمة العنزي ( ثنا ) عثمان بن سعيد الدارمي ( ثنا ) عمرو بن عون ووهب بن بقية الواسطيان ( ثنا ) خالد بن عبد الله عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) « افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي

____________________

(١) الفصل في الأهواء والملل ج ١ ص ٢٤٨ .

(٢) الفرق بين الفرق ، التعليقة ص ٧ ـ ٨ .

٢٤

على ثلاث وسبعين فرقة » وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه (١) .

وقد استدرك عليه الذهبي بأن في سنده « محمد بن عمرو » ولا يحتج به منفرداً ولكن مقروناً بغيره (٢) .

فإذا كان هذا حال السند الذي بذل الحاكم جهده لتصحيحه ، فكيف حال سائر الأسانيد ، وقد رواه الحاكم بأسانيد مختلفة ، وقال : « قد روي هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمرو بن عوف المزني بإسنادين تفرد بأحدهما عبد الرحمن بن زياد الأفريقي ، والآخر كثير بن عبد الله المزني ، ولا تقوم بهما الحجة » (٣) .

هذا حال ما نقله الحاكم في مستدركه .

وأمّا ما رواه أبو داود في سننه والترمذي في سننه ، وابن ماجة في صحيحه فقد قال في حقه الشيخ محمد زاهد الكوثري : « أمّا ما ورد بمعناه في صحيح ابن ماجة ، وسنن البيهقي ، وغيرهما ففي بعض أسانيده « عبد الرحمن بن زياد بن أنعم » وفي بعضها « كثير بن عبد الله » وفي بعضها « عباد بن يوسف » و « راشد بن سعد » وفي بعضها « الوليد بن مسلم » وفي بعضها مجاهيل كما يظهر من كتب الحديث ومن تخريج الحافظ الزيلقي لأحاديث الكشاف ، وهو أوسع من تكلم في طرق هذا الحديث فيما أعلم » (٤) .

هذا بعض ما قيل حول سند الحديث ، والذي يجبر ضعف السند هو تضافر نقله واستفاضة روايته في كتب الفريقين : الشيعة والسنة بأسانيد مختلفة ، ربما تجلب الاعتماد ، وتوجب ثقة الإنسان به .

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ج ١ ص ١٢٨ وقد رواه بسند آخر أيضاً يشتمل على محمد بن عمرو الذي لا يحتج بمفرداته ، وبسند آخر أيضاً مشتمل على ضعف ، وقد جعلهما الحاكم شاهدين لما صحح من السند .

(٢) التبصير في الدين ، المقدمة ص ٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين : ج ١ ص ١٢٨ كتاب العلم .

(٤) التبصير ـ المقدمة ص ٩ .

٢٥

وقد رواه من الشيعة ، الصدوق في خصاله في باب السبعين وما فوق (١) . والعلامة المجلسي في بحاره (٢) ، ولعلّ هذا المقدار من النقل يكفي في صحة الاحتجاج بالحديث .

ب . اختلاف نصوص الحديث

هذه هي الجهة الثانية التي أشرنا إليها في مطلع البحث فنقول :

إنّ مشكلة اختلاف نصوص الحديث لا تقل إعضالاً عن مشكلة سنده ، فقد تطرق إليه الاختلاف من جهات شتى ، لا يمكن معه الاعتماد على واحد منها ، وإليك الإشارة إلى الاختلافات المذكورة :

١ ـ الاختلاف في عدد الفرق

روى الحاكم عدد فرق اليهود والنصارى مردداً بين إحدى وسبعين واثنتين وسبعين ، بينما رواه عبد القاهر البغدادي بأسانيده عن أبي هريرة على وجه الجزم والقطع ، وأن اليهود افترقت إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة .

وفي الوقت نفسه روى بسند آخر افتراق بني إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة وقال : « ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل ، تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة » .

ونقل بعده بسند آخر افتراق بني إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة (٣) .

ويمكن الجمع بين النقلين الأخيرين بأنّ المراد من بني إسرائيل هو الأعم من اليهود والنصارى فيصح عد الفرق اثنتين وسبعين .

____________________

(١) الخصال ج ٢ ص ٥٨٤ أبواب السبعين وما فوق ، الحديث العاشر والحادي عشر .

(٢) البحار ج ٢٨ ص ٢ ـ ٣٦ .

(٣) الفرق بين الفرق ص ٥ .

٢٦

نعم يحمل الأخير على خصوص اليهود من بني إسرائيل .

٢ ـ الاختلاف في عدد الهالكين والناجين

إنّ أكثر الروايات تصرح بنجاة واحدة وهلاك الباقين . فعن البغدادي بسنده عن رسول الله أنّه قال : كلهم في النار إلّا ملة واحدة (١) .

وروى الترمذي وابن ماجة مثل ذلك (٢) .

بينما رواه شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر البشاري السياح المعروف ( م : ٣٨٠ ) في كتابه « أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم » بصورة تضاده إذ قال : إنّ حديث « اثنتان وسبعون في الجنة وواحدة في النار » أصحّ إسناداً ، وحديث « اثنتان وسبعون في النار وواحدة ناجية » أشهر (٣) .

٣ ـ الاختلاف في تعيين الفرقة الناجية

فقد اختلف النقل في تعيين سمة الفرقة الناجية أخذاً بما يقول بأنّ جميعها في النار إلّا واحدة .

روى الحاكم (٤) وعبد القاهر البغدادي (٥) وأبو داود (٦) وإبن ماجة (٧) بأنّ النبي قال : إلّا واحدة وهي الجماعة ، أو قال : الإسلام وجماعتهم .

وروى الترمذي (٨) والشهرستاني (٩) أنّ النبي (ص) عرف الفرقة الناجية بقوله : ما أنا عليه اليوم وأصحابي .

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٧٦ .

(٢) الترمذي ج ٥ كتاب الإيمان ص ٢٦ ، الحديث ٢٦٤١ ، ابن ماجة ج ٢ باب افتراق الأمم ص ٤٧٩ .

(٣) طبع الكتاب في ليدن عام ١٣٢٤ هـ الموافق لـ ١٩٠٦ م .

(٤) المستدرك على الصحيحين ج ١ ص ١٢٨ .

(٥) الفرق بين الفرق ص ٧ .

(٦) سنن أبي داود ج ٤ ص ١٩٨ كتاب السنة .

(٧) سنن ابن ماجة ج ٢ باب افتراق الأمم ص ٤٧٩ .

(٨) سنن الترمذي ج ٥ كتاب الإيمان ص ٢٦ الحديث ٢٦٤١ .

(٩) الملل والنحل ص ١٣ .

٢٧

وروى الحاكم أيضاً أنّ النبي حدّد أعظم الفرق هلاكاً بقوله : « ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة ، قوم يقيسون الأمور برأيهم ، فيحرمون الحلال ويحللون الحرام » وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (١) .

وروى صاحب روضات الجنات عن كتاب « الجمع بين التفاسير » أنّ النبي صلی الله عليه وآله عرف الفرقة الناجية بقوله : « هم أنا وشيعتي » (٢) .

هذه الوجوه تعكس مدى الاختلاف في تحديد ملامح الفرقة الناجية .

وأمّا تحقيق القول في ذلك فسيوافيك عند البحث عن الجهة الثالثة ، وهي التالية :

ج ـ ما هي الفرقة الناجية ؟

هذه هي الجهة الثالثة التي ينبغي الاهتمام بها حتى يقتدر الباحث من تعيين الفرقة الناجية ، بها .

قال الشيخ محمد عبده : أما تعيين أي فرقة هي الناجية ، أي التي تكون على ما كان النبي عليه وأصحابه ، فلم يتعين إلى الآن ، فإن كل طائفة ممن يذعن لنبينا بالرسالة تجعل نفسها على ما كان عليه النبي وأصحابه . ( إلى أن قال : ) ومما يسرني ما جاء في حديث آخر أنّ الهالك منهم واحدة (٣) .

أقول : ما ورد من السمات في تحديد الفرقة الناجية لا يتجاوز أهمّها عن سمتين :

أولاها : « الجماعة » وهي تارة جاءت رمزاً للنجاة ، وأخرى للهلاك ، فلا يمكن الاعتماد عليها ، وإليك بيان ذلك :

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ج ٤ ص ٤٣٠ .

(٢) روضات الجنات الطبعة القديمة ص ٥٠٨ .

(٣) المنار ج ٨ ص ٢٢١ ـ ٢٢٢ .

٢٨

روى ابن ماجة عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله (ص) : افترقت اليهود . . . والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار . قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : الجماعة (١) .

بينما نقل أنّه قال : « وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة » (٢) ، فإنّ الإتيان بضمير الجمع في الحديث الأول ، وبضمير المفرد في الحديث الثاني يؤيد رجوع الضمير في الأول إلى : « اثنتان وسبعون » ، ورجوع الضمير المفرد إلى « الواحدة » فتكون الجماعة تارة آية الهلاك وأخرى آية النجاة .

أضف إلى ذلك أنّ قسماً كبيراً من النصوص لا يشتمل على هذه اللفظة ، ولا يصح أن يقال إنّ الراوي ترك نقلها ، أو نسيها ، وذلك لأنّ ذكر سمة الناجي أو الهالك من الأمور الجوهرية في هذا الحديث ، فلا يمكن أن يتجاهله أو ينساه .

ومن ذلك تعلم حال ما اشتمل على لفظ « الإسلام » مع الجماعة ، فإنّه لا يزيد في مقام التعريف شيئاً على المجرد منه ، لوضوح أنّ الإسلام حق إنّما المهم معرفة المسلم الواقعي عن غيره .

ثانيتها : « ما أنا عليه وأصحابي » ، أو « ما أنا عليه اليوم وأصحابي » ، كون هذا آية النجاة لا يخلو عن خفاء .

أولاً : إنّ هذه الزيادة غير موجودة في بعض نصوص الرواية ، ولا يصح أن يقال إنّ الراوي ترك نقلها لعدم الأهمية .

وثانياً : إنّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبي (ص) وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معياراً للهداية والنجاة إلّا بقدر اهتدائهم

____________________

(١) سنن ابن ماجة ج ٢ باب افتراق الأمم ص ٤٧٩ .

(٢) سنن أبي داود ج ٤ ص ١٩٨ كتاب السنة ، المستدرك على الصحيحين ج ١ ص ١٢٨ .

٢٩

واقتدائهم برسول الله (ص) ، وإلّا فلو تخلفوا عنه قليلاً أو كثيراً فلا يكون الاقتداء بهم موجباً للنجاة .

وعلى ذلك فعطف ( وأصحابي ) على النبي (ص) لا يخلو من غرابة .

وثالثاً : إنّ المراد إمّا صحابته كلهم ، أو الأكثرية الساحقة .

فالأول : مفروض العدم لاختلاف الصحابة في مسالكهم ومشاربهم السياسية والدينية بعد رسول الله (ص) ، وأدلّ دليل على ذلك ما وقع من الخلاف في السقيفة وبعدها .

والثاني : ممّا لا يلتزم به أهل السنة ، فإنّ الأكثرية الساحقة من الصحابة خالفوا الخليفة الثالث ، وقد قتله المصريون والكوفيون في مرأى ومسمع من بقية الصحابة ، الذين كانوا بين مؤلب ، أو مهاجم ، أو ساكت .

على أن حمل أصحابي على الأكثرية خلاف الظاهر ، ويظن أنّ هذه الزيادة من رواة الحديث لدعم موقف الصحابة ، وجعلهم المحور الوحيد الذي يدور عليه فلك الهداية بعد النبي الأعظم ، والمتوقع من رسول الهداية هو أن يحدد الفرقة الناجية بسمات واضحة تستفيد منها الأجيال الآتية ، فإن كل الفرق يدّعون أنّهم على ما عليه النبي بل على ما عليه أصحابه أيضاً :

وكل يدعي وصلاً بليلى

وليلى لا تقر لهم بذاكا

وأخيراً نقلنا عن الحاكم أنّه روى عن النبي قوله « أعظمها فرقة قوم يقيسون الأمور برأيهم » ويظن أنّ هذه الزيادة طرأت على الحديث من بعض الطوائف الإسلامية بين أهل السنّة ، طعناً في أصحاب القياس ، على حين أنّ القياس بمفهومه الأصولي لم يكن أمراً معهوداً لأصحاب النبي حتى يكتفي النبي في تعيين الفرقة الهالكة بهذا الوصف غير المعروف في عصر صدور حديث الافتراق .

أحاديث حول مستقبل الصحابة

إنّ الأحاديث المتضافرة عن النبي الأكرم (ص) عن مستقبل الصحابة

٣٠

تصدنا عن الأخذ بمسالكهم ومشاربهم وتمنعنا عن تصحيح ما ورد في ذيل بعض الروايات الماضية أعني قوله « ما أنا عليه وأصحابي » وذلك لأنّ النبي الأكرم (ص) يخبر عن أحوالهم بعد رحلته ، وأنّهم سيحدثون في الدين أموراً منكرة ، وبدعاً محرمة وأنّهم يرتدون عن الدين ولأجل ذلك يحلأون عن الحوض ويذادون عنه ، وقد روى هذه الأحاديث الشيخان ( البخاري ومسلم ) وغيرهما . وجمعها ابن الأثير في جامع الأصول في الفصل الرابع عند البحث عن الحوض والصراط والميزان .

وإليك بعض تلك الأحاديث :

١ ـ أخرج الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله (ص) : « أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ، أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك » .

٢ ـ أخرج الشيخان أنّ رسول الله (ص) قال : « يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، أو قال من أمتي ، فيحلأون عن الحوض ، فأقول : يا ربّ أصحابي فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى » .

إلى غير ذلك من الروايات البالغ عددها إلى عشرة أحاديث وفي ضوء هذه الروايات لا يمكن الحكم بعدالة كل صحابي لمجرد الصحبة ، للعلم بوجود الفسق والارتداد وإحداث البدع فيهم وهذا العلم الإجمالي يصدنا عن تعديل كل صحابي وتصديقه .

كما يصدنا عن القول بأن الأكثرية الساحقة من الصحابة إذا اتفقت على شيء يكون دليلاً على صدقه وصحته ، على أن هذا لا يدل على أن جميع الصحابة كانوا على هذا المنوال بل كان في الصحابة الثقاة العدول ، والأخيار المتقون .

وقد أشبعنا الكلام حول الصحابة من حيث العدالة (١) .

____________________

(١) سيوافيك البحث عن عدالة الصحابة عند تحليل عقائد أهل الحديث في هذا الجزء .

٣١

الفرقة الناجية في ضوء النصوص الأخر

لو أن شيخ الأزهر رجع إلى النصوص الأخر للنبي الأكرم لتبين له الفرقة الناجية في كلام النبي (ص) ، فإن لنبي الرحمة كلمات في مواضع أخر يشد بعضها بعضاً ، ويفسر بعضها البعض الآخر وإليك ما أثر عنه في تلك المجالات مما تعد قرائن منفصلة موضحة للحديث الحاضر .

١ ـ حديث الثقلين

قال رسول الله (ص) : « يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (١) .

روى إمام الحنابلة عن النبي (ص) أنه قال : « إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله ، حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » (٢) .

روى الحاكم في مستدركه عن النبي الأكرم (ص) أنه قال : « إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عز وجل وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي فإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (٣) .

والاختلاف الموجود بين نصوص الحديث غير مضر أبداً لأن النبي الأكرم صلی الله عليه وآله نطق بهذا الحديث في مواضع مختلفة ، إذ في بعض الطرق أنه قال ذلك في حجة الوداع بعرفة ، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه ، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي ثالثة أنه قال ذلك بغدير خم ، وفي رابعة أنه

____________________

(١) رواه الترمذي والنسائي في صحيحهما راجع كنز العمال ج ١ ص ٤٤ باب الاعتصام بالكتاب والسنة .

(٢) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج ٥ ص ١٨٢ ـ ١٨٩ .

(٣) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٤٨ وقال هذا صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

٣٢

قال ذلك لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف فقد كرر ذلك في تلك المواطن اهتماماً بشأن الكتاب العزيز ، والعترة الطاهرة (١) .

والإمعان في هذا الحديث الذي بلغ من التواتر حداً لا يدانيه حديث ، إلا حديث الغدير ، يقود الإنسان إلى الحكم بضلال من لم يستمسك بهما معاً ، فالمتمسكون بهما هم الفرقة الناجية ، والمتخلفون عنهما ، أو المتقدمون عليهما هم الهالكة .

وقد نقل الطبراني قوله (ص) في ذيل الحديث : « فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم » (٢) .

٢ ـ حديث السفينة

وهذا الحديث كالحديث السابق يعين على رفع الإبهام عن حديث « الافتراق » . روى الحاكم بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه يقول ، وهو آخذ بباب الكعبة : « من عرفني فأنا من عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت النبي يقول : ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم ، مثل سفينة نوح في قومه ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق » (٣) .

والمراد بتشبيههم عليهم السلام بسفينة نوح هو أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأصوله عن أئمتهم ، نجا من عذاب النار ، ومن تخلف عنهم كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله ، غير أن هذا غرق في الماء ، وهذا في الحميم .

قال ابن حجر : « ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكراً لنعمة مشرفهم ، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان » (٤) .

____________________

(١) راجع المراجعات ، المراجعة ٨ فقد نقله عن مواضع مختلفة .

(٢) الصواعق المحرقة باب وصية النبي بهم ص ١٣٥ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ١٥١ .

(٤) لقد علق السيد شرف الدين في مراجعاته على هذه العبارة تعليقاً لطيفاً وهو : قل لي لماذا لم يأخذ

٣٣

٣ ـ حديث أهل بيتي أمان لأمتي

روى الحاكم عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » ( ثم قال ) : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (١) .

هذه الأحاديث تلقي الضوء على حديث الافتراق ، وتحدد الفرقة الناجية وتعينها .

وهناك حديث آخر ورد في ذيل حديث الافتراق نقله أحد علماء أهل السنة وهو الإمام الحافظ حسن بن محمد الصغاني ( م : ٦٥٠ ) في كتابه « الشمس المنيرة » عن النبي الأكرم (ص) : « افترقت أمة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها هالكة إلا فرقة واحدة ، فلما سمع ذلك منه ضاق المسلمون ذرعاً وضجوا بالبكاء ، وأقبلوا عليه ، وقالوا يا رسول الله كيف لنا بعدك بطريق النجاة ، وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها ؟ فقال (ص) : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي ، أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » (٢) .

ولا أظن المنصف إذا رجع إلى ما ورد حول العترة من الأحاديث الحاثة على الرجوع إليهم ، يخفى عليه مراد النبي (ص) من الفرقة الناجية في حديث الافتراق ، مضافاً إلى أن آية التطهير دالة على عصمتهم ، فالمتمسك بالمعصوم مصون وبالخاطیء غير مصون بل يقع عرضة للانحراف والهلاك ، وها هناك أبيات للشافعي أبيات تعرب عن عرفانه الفرقة الناجية ذكرها الشريف الحضرمي في

____________________

= بهدى أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ( إلى أن قال ) ولماذا تخلف عنهم فأغرق نفسه في بحار كفر النعم وأهلكها في مفاوز الطغيان ؟ .

(١) المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ١٤٩ .

(٢) الشمس المنيرة ، النسخة المخطوطة في مكتبة المشهد الرضوي بالرقم ١٧٠٦ .

٣٤

« رشفة الصادي » (١) .

د . الفرق التي أخبر النبي بنشوئها

هذه هي الجهة الرابعة التي يليق البحث عنها ، فإن النبي قد أخبر عن أن الأمة الإسلامية ستبلغ في تفرقها إلى هذا العدد الهائل ، ولكن المشكلة عدم بلوغ رؤوس الفرق الإسلامية إلى هذا العدد ، فإن كبار فرقها لا تتجاوز الأربع :

الأول : القدرية ( المعتزلة وأسلافهم ) .

الثاني : الصفاتية ( أهل الحديث والأشاعرة ) .

الثالث : الخوارج .

الرابع : الشيعة .

وهذه الفرق الأصلية ، وإن تشعبت إلى شعب وفروع من مرجئة وكرامية بفرقها ولكن لا يبلغ المجموع إلى هذا الحد ، وإن أصر الشهرستاني على تصحيح البلوغ إليه ، فقال : « ثم يتركب بعضها مع بعض ، ويتشعب عن كل فرقة أصناف ، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة » (٢) .

يلاحظ عليه : أن المراد من أمتي هي الفرق الإسلامية المؤمنة برسالة النبي الأعظم ، وكتاب الله سبحانه ، وبلوغ تلك الأمة بهذه الصفة إلى هذا الحد الهائل أول الكلام ، لأن المراد هو الاختلاف في العقيدة التي يدور عليها فلك الهلاك والنجاة .

وأما الاختلاف في الأصول والمعارف التي ليست مداراً للهداية والضلالة ، بل لا تعد من صميم العقائد الإسلامية ، فهو خارج عن إطار الحديث ، فاختلاف الأشاعرة والمعتزلة ، في وجود الواسطة بين الوجود

____________________

(١) رشفة الصادي ص ٢٥ .

(٢) الملل والنحل : ج ١ ص ١٥ .

٣٥

والعدم ، وحقيقة الجسم والأكوان والألوان ، والجزء الذي لا يتجزأ ، والطفرة ، الذي أوجد فرقاً كلامية ، فلا يوجب دخول النار ، وإن كان الحق واحداً ، ولا يصح عد المعتقدين بها من الفرق المنصوص عليها في كلام النبي (ص) .

وبعبارة واضحة : إن الفرق المذمومة في الإسلام هي أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية ، في مواضع تعد من صميم الدين كالتوحيد بأقسامه والعدل والقضاء والقدر ، والتجسيم والتنزيه ، والجبر والاختيار ، والهداية والضلالة ورؤية الله سبحانه وإدراك البشر له تعالى ، والإمامة والخلافة ، ونظائرها .

وأما الاختلاف في سائر المسائل التي لا تمت إلى الدين بصلة ولا تمثل العقيدة الإسلامية فلا يكون المخالف والموافق فيها داخلاً في الحديث ، والحال أن كثيراً من الفرق الإسلامية يرجع اختلافهم إلى أمور عقلية أو كونية ، مما لا يرتبط بالدين أو ما لا يسأل عنه الإنسان في حياته وبعدها ولا يجب الاعتقاد به .

محاولات لتصحيح العدد

إن هناك محاولات لتصحيح مفاد الحديث من حيث العدد المذكور فيه ، نشير إليها فيما يلي :

١ ـ هذا العدد الهائل كناية عن المبالغة في الكثرة ، كما في قوله سبحانه وتعالى ( إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) (١) .

يلاحظ عليه : أنّ هذه المحاولة فاشلة لأنها إنما تصح إذا ورد الحديث بصورة السبعين أو غيرها من العقود العددية ، فإن هذا هو المتعارف في مقام الكناية ولكن الوارد في الحديث هو غير ذلك .

____________________

(١) سورة التوبة : الآية ٨٠ .

٣٦

ترى أن النبي يركز في حق المجوس على عدد السبعين ، وفي حق اليهود على عدد الإحدى والسبعين وفي حق النصارى على اثنتين وسبعين ، وفي حق الأمة الإسلامية على ثلاث وسبعين . وهذا التدرج يعرب بسهولة عن أن المراد هو بلوغ الفرق إلى هذا الحد ، بشكل حقيقي لا بشكل مبالغي .

٢ ـ إن أصول الفرق وإن كانت لا تصل إلى هذا العدد بل لا تبلغ نصفه ولا ربعه ، وإن فروع الفرق يختلف العلماء في تفريعها ، وإن الإنسان في حيرة حين يأخذ في العد ، بأن يعتبر ـ في عد الفرق ـ أصولها أو فروعها ، وإذا استقر رأيه على اعتبار الفروع ، فعلى أي حد من التفريع يأخذه مقياساً ، إلا أن الحديث لا يختص بالعصور الماضية ، فإن حديث الترمذي يتحدث عن افتراق أمة محمد صلی الله عليه وآله وأمته مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، فيجب أن يتحدث في كل عصر عن الفرق التي نجمت في هذه الأمة من أول أمرها إلى الوقت الذي يتحدث فيه المتحدث ، ولا عليه إن كان العدد قد بلغ ما جاء في الحديث أو لم يبلغ ، فمن الممكن بل المقطوع ـ لو صح الحديث ـ وقوع الأمر في واقع الناس على وفق ما أخبر به (١) .

وهناك محاولة ثالثة غير صحيحة جداً وهي الاهتمام بتكثير الفرق فترى أن الإمام الأشعري يجعل للشيعة الغالية خمس عشرة فرقة وللشيعة الإمامية أربعاً وعشرين فرقة ، كما أن الشهرستاني يعد للمعتزلة اثنتي عشرة فرقة ويعد للخوارج الفرق التالية : المحكمة ، الأزارقة ، النجدات ، البيهسية ، العجاردة ، الثعالبة ، الأباضية ، الصفرية .

وذلك لأن الجميع من أصناف الشيعة والمعتزلة والخوارج يلتقون تحت أصول خاصة معلومة في محلها ، مثلاً أصناف الخوارج يجتمعون تحت أصول أشهرها تخطئة عثمان والإمام أمير المؤمنين عليه السلام في مسألة التحكيم ، وتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار . فلا يصح عد كل صنف فرقة ، وإن اختلف كل مع شقيقه في أمر جزئي ، ومثل ذلك أصناف الآخرين .

____________________

(١) مقدمة الفرق بين الفرق : ص ٧ .

٣٧

ثم إن الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي ، ذهب إلى عدم صحة الحديث للأسباب التالية :

أولاً : إن ذكر هذه الأعداد المحددة المتوالية : ٧١ ، ٧٢ ، ٧٣ أمر مفتعل لا يمكن تصديقه فضلاً عن أن يصدر مثله عن النبي صلی الله عليه وآله .

ثانياً : إنه ليس في وسع النبي صلی الله عليه وآله أن يتنبأ مقدماً بعدد الفرق التي سيفترق إليها المسلمون .

ثالثاً : لا نجد لهذا الحديث ذكراً فيما ورد لنا من مؤلفات من القرن الثاني بل ولا الثالث الهجري ولو كان صحيحاً لورد في عهد متقدم .

رابعاً : أعطت كل فرقة لختام الحديث ، الرواية التي تناسبها ، فأهل السنة جعلوا الفرقة الناجية هي أهل السنة ، والمعتزلة جعلوها فرقة المعتزلة وهكذا وقال :

وقد ظهر التعسف البالغ لدى مؤرخي الفرق في وضعهم فروقاً وأصنافاً داخل التيارات الرئيسية حتى يستطيعوا الوصول إلى ٧٣ فرقة ، وفاتهم أن افتراق المسلمين لم ينته عند عصرهم وأنه لا بد ستنشأ فرق جديدة باستمرار مما يجعل حصرهم ، هذا خطأ تماماً إذ لا يحسب حساباً لما سينشأ بعد ذلك من فرق إسلامية جديدة (١) .

ولا يخفى أن ما ذكره من الأسباب غير صحيح عدا ما ذكره من السبب الرابع وما ذيله به .

أما دليله الأول ، فلأن ما جاء فيه هو نفس المدعى ولم يبين وجهاً لافتعال الحديث .

وأما دليله الثاني ، فلأن المتبادر منه أنه ليس في وسع النبي صلی الله عليه وآله التنبؤ بالأحداث الآتية ، ولكنه باطل بشهادة الصحاح والسنن على تنبّئه صلی الله عليه وآله بإذن الله عن كثير من الحوادث الواقعة في أمته ، وقد جمعنا

____________________

(١) مذاهب الإسلاميين : ج ١ ص ٣٤ .

٣٨

عدة من تنبؤاته في موسوعتنا : مفاهيم القرآن (١) .

وربما يريد الكاتب من عبارته معنى آخر وهو أن النبي صلی الله عليه وآله لا يصح له أن يقدم على مثل هذا التنبؤ ، لأنه إقدام غير مرغوب فيه ، لما يحتوي على الاضرار بالأمة ، ولكن هذا الرأي منقوض أيضاً بتنبؤات أخرى تضاهي المورد هذا ، فهذا هو النبي صلی الله عليه وآله يتنبأ بالمستقبل المظلم الذي يواجهه ذو الخويصرة من وجوه الخوارج قائلاً للنبي صلی الله عليه وآله : اعدل ، فقال رسول الله صلی الله عليه وآله : ويلك من يعدل إن لم أعدل قد خبت وخسرت ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله أتأذن لي فيه أن أضرب عنقه ؟ قال : دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء (٢) .

فأي فرق بين هذا التنبؤ ونظائره الواردة في أحاديث النبي صلی الله عليه وآله ، والتنبؤ بافتراق أمته إلى الفرق المعدودة .

وأما دليله الثالث ، فعجيب جداً ، فقد رواه أبو داود ( ٢٠٢ ـ ٢٧٥ ) في سننه والترمذي ( ٢٠٩ ـ ٢٧٩ ) في صحيحه وابن ماجة ( ٢١٨ ـ ٢٧٦ ) في سننه وأحمد بن حنبل ( ٢٤١ ) في مسنده والجميع من أعيان أصحاب الحديث في القرن الثالث ، فكيف يقول هذا الكاتب : « بل ولا الثالث الهجري » . وإليك بعض ما أسندوه :

١ ـ روى أبو داود في كتاب السنة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة .

ثم روى عن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلی الله عليه وآله قام فينا فقال : « ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ،

____________________

(١) مفاهيم القران : ج ٣ ص ٥٠٣ ـ ٥٠٨ .

(٢) التاج ، كتاب الفتن : ج ٥ ص ٢٨٦ .

٣٩

وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين : ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة (١) .

٢ ـ روى الترمذي في باب ما جاء في افتراق هذه الأمة مثله ، عن أبي هريرة . وروى عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم : « ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية ، لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلّا ملة واحدة ، قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي » (٢) .

٣ ـ روى ابن ماجة في باب افتراق الأمم عن أبي هريرة قال : « قال رسول الله صلی الله عليه وسلم : تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة » .

وروى عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنة وسبعون في النار ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة ، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل يا رسول الله : من هم ؟ قال : الجماعة .

وروى عن أنس بن مالك ما يقرب من ذلك (٣) .

٤ ـ وروى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة ما نقلناه عنه آنفاً (٤) .

كما روى أيضاً عن أنس بن مالك ما رويناه عنه سابقاً (٥) .

وعلى كل تقدير فلا يهمنا البحث حول عدد الفرق وكثرتها وقلتها ، بل

____________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٤ كتاب السنة ص ١٩٨ .

(٢) سنن الترمذي : ج ٥ كتاب الإيمان : ص ٢٦ الحديث ٢٦٤١ .

(٣) سنن ابن ماجة : ج ٢ ، باب افتراق الأمم ص ٤٧٩ .

(٤) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٣٢ .

(٥) مسند أحمد : ج ٣ ، ص ١٢٠ .

٤٠