بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: لجنة ادارة الحوزة العلمية بقم المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأمويين من الذين كانوا في خدمة خلفائهم وأمرائهم فهذا عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الإمام الشهيد الحسين ( عليه السلام ) لما اعترض عليه عبد الله بن مطيع العدوي بقوله : « اخترت همذان والري على قتل ابن عمك » فقال عمر : « كانت أمور قضيت من السماء وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلّا ما أبى » (١) .

ويظهر أيضاً مما رواه الخطيب عن أبي قتادة عندما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة فقالت عائشة : « ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق سمعت النبي يقول : تفترق أمتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم ، مخفون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يقتلهم أحبهم إلي ، وأحبهم إلى الله . قال : فقلت : يا اُم المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك ؟ قالت : يا قتادة وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وللقدر أسباب » (٢) .

وقد كان حماس الأمويين في هذه المسألة إلى حد قد كبح ألسن الخطباء عن الإصحار بالحقيقة فهذا الحسن البصري الذي كان من مشاهير الخطباء ووجوه التابعين ، وكان يسكت أمام أعمالهم الإجرامية ولكن كان يخالفهم في القول بالقدر بالمعنى الذي كانت تعتمد عليه السلطة آنذاك . فلما خوفه بعض أصدقائه من السلطان ، وعد أن لا يعود . روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال : « نازلت الحسن في القدر غير مرة حتى خوفته من السلطان فقال : لا أعود بعد اليوم » (٣) .

كيف وقد جلد محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة في مخالفته في القدر قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : « إنّ محمد بن إسحاق اتّهم بالقدر ، وقال الزبير عن الدراوردي . وجلد ابن إسحاق يعني في القدر » (٤) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد : ج ٥ ص ١٤٨ طبع بيروت .

(٢) تاريخ بغداد : ج ١ ص ١٦٠ .

(٣) طبقات ابن سعد : ج ٧ ص ١٦٧ طبع بيروت .

(٤) تهذيب التهذيب : ج ٩ ص ٣٨ ـ ٤٦ .

٢٤١

أحاديث مختلقة لا تفارق الجبر

وفي ظل هذا الإصرار على القضاء والقدر بهذا المعنى نسجت أحاديث لا تفارق الجبر قيد شعرة . وإليك أمثلة منها :

١ ـ روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب عن عبد الله قال : « حدّثنا رسول الله وهو الصادق أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » (١) .

٢ ـ وروى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : « يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب أشقي أو سعيد ؟ فيكتبان ، فيقول : أي رب أذكر أو أنثى ؟ فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص » (٢) .

٣ ـ قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال : « يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن فيما العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل ؟ قال : لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، قال : ففيم العمل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله » (٣) .

فبناء على الحديث الأوّل لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدايتها كما

____________________

(١) صحيح مسلم : ج ٨ ص ٤٤ كتاب القدر .

(٢) صحيح مسلم : ج ٨ ص ٤٥ كتاب القدر .

(٣) جامع الأصول : ج ١ ص ٥١٦ ، وصحيح مسلم : ج ٨ ص ٤٨ .

٢٤٢

لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنة أو النار ، فكلما أراد من شيء يكون الكتاب السابق حائلاً بينه وبين إرادته .

والحديث الثاني يدل على أن الإنسان لا يقدر على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والأدعية والصدقات ، وأنّ الكتاب الذي سبق ، حاكم على الإنسان فلا يزاد ولا ينقص وهو يخالف النصوص الثابتة في القرآن والسنة من تغيير المصير والزيادة والنقص على المكتوب ، بالأعمال الصالحة أو الطالحة .

إن تفسير القضاء والقدر بهذا الشكل الذي يجعل الإنسان مكتوف اليدين في بحر الحياة مما ترغب عنه الفطرة السليمة .

إن هذه الأحاديث قد نسجت وفق المعتقدات السائدة للسلطة آنذاك حتى تبرر أن الوضع الاجتماعي آنذاك لا يمكن تغييره أبداً فإنه شيء قد فرغ منه . فالفقير يجب أن يبقى هكذا والغني كذلك يبقى غنياً وهكذا المظلوم والظالم .

ترى أنهم قد رووا عن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : « يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع ـ أو مبتدأ ـ أو فيما قد فرغ منه ؟ فقال : بل فيما قد فرغ منه ، يا ابن الخطاب وكل ميسر . أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء » .

وفي رواية قال : « لما نزلت ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) (١) سألت رسول الله ، فقلت : يا نبي الله فعلام نعمل ، على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه ؟ قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ! ولكن كل ميسر لما خلق له » (٢) .

وهذا الحديث يعرب عن أنه قد تم القضاء على الناس في الأزل وجعلهم صنفين وكل ميسر لما خلق له ، لا لما لم يخلق له ، فأهل السعادة ميسرون

____________________

(١) سورة هود : الآية ١٠٥ .

(٢) جامع الأصول : ج ١٠ ص ٥١٦ ـ ٥١٧ وفيه أخرجه الترمذي .

٢٤٣

للأعمال الصالحة فقط وأهل الشقاء ميسرون للأعمال الطالحة فقط .

وهذه المرويات في الصحاح والمسانيد ـ وقد تقدم بعضها ـ (١) لا تفترق عن الجبر وهي تناقض الأصول المسلمة العقلية والنقلية وحاشا رسول الله وخيرة أصحابه أن ينبسوا بها ببنت شفة وإنما حيكت على منوال عقيدة السلطة وعند ذلك لا تعجب مما يقوله أحمد بن حنبل في رسائله :

« القدر خيره وشره وقليله وكثيره وظاهره وباطنه وحلوه ومره ومحبوبه ومكروهه وحسنه وسيئه وأوله وآخره من الله . قضاء قضاه ، وقدر قدره ، لا يعدو أحد منهم مشيئة الله ولا يجاوز قضاءه بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم لأفعالهم وهو عدل منه عز ربنا وجل . والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر » (٢) .

وقد سرى الجهل إلى أكثر المستشرقين فاستنتجوا من هذه النصوص أن الإسلام مبني على القول بالجبر وفي ذلك يقول : « ايرفنج » من أعلام الكتاب في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر قال : « القاعدة السادسة من قواعد العقيدة الإسلامية هي الجبرية وقد أقام محمد جل اعتماده على هذه القاعدة لنجاح شؤونه الحربية وهذا المذهب الذي يقرر أن الناس غير قادرين بإرادتهم الحرة على اجتناب الخطيئة أو النجاة من العقاب ويعتبره بعض المسلمين منافياً لعدل الله ، فقد تكونت عدة فرق جاهدت وهم لا يعتبرون من أهل السنة » (٣) .

هذا غيض من فيض مما يمكن أن يذكر حول القول بالقدر وسيوافيك توضيحه والمضاعفات الناجمة عنه عند البحث عن عقيدة الأشاعرة .

إن هنا كلمة للشيخ « محمد الغزالي » المعاصر حول القدر والجبر يعرب

____________________

(١) لاحظ ص ١٤٤ ـ ١٤٧ من هذا الجزء .

(٢) طبقات الحنابلة : ج ١ ص ١٥ بتصرّف يسير . وقد تقدم نص الرسالة .

(٣) حياة محمد لمحمد حسين هيكل : ص ٥٤٩ .

٢٤٤

عن أن المحققين من أهل السنة بدأوا يدرسون الإسلام من جديد أو يدرسون الأصول الموروثة من أبناء الحنابلة وأهل الحديث من رأس وقد رد على القول بالقدر المستلزم للجبر رداً عنيفاً يعرب عن حريته في الرأي وشجاعته الأدبية في تحليل عقائد الإسلام نقتبس منه ما يلي :

« فمن الناس من يزعم أن الحياة رواية تمثيلية خادعة ، وأن التكليف أكذوبة وأن الناس مسوقون إلى مصائرهم المعروفة أزلاً طوعاً أو كرهاً وأن المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة والغريب أن جمهوراً كبيراً من المسلمين يجنح إلى هذه الفرية بل إن عامة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر ولكنهم حياءً من الله يسترون الجبر باختيار خافت موهوم وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها وكانت بالتالي سبباً في إفساد الفكر الإسلامي وانهيار الحضارة والمجتمع .

إن العلم الإلهي المحيط بكل شيء وصاف كشاف يصف ما كان ويكشف ما يكون والكتاب الدال عليه يسجل للواقع وحسب ! لا يجعل السماء أرضاً ولا الجماد حيواناً إنه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص ولا أثر لها في سلب أو إيجاب .

إن هذه الأوهام ( التقدير سالب للاختيار ) تكذيب للقرآن والسنة فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك والقول بأن كتاباً سبق علينا بذلك وأنه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً هذا كله تضليل وإفك لقوله تعالى : ( قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ) (١) ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٢) .

والواقع أن عقيدة الجبر تطويح بالوحي كله وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة بل هي تكذيب لله والمرسلين قاطبة ومن ثم فإننا

____________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١٠٤ .

(٢) سورة الكهف : الآية ٢٩ .

٢٤٥

نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم وغيره : إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار . . . (١) .

ونظير ذلك ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ) (٢) قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله يسأل عنها فقال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : هؤلاء خلقت للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار » (٣) .

فإن هذا التفسير المنسوب لعمر يسير في اتجاه مضاد للتفسير البديهي المفهوم من الآيات البينات .

على أنه ليس هنا أثر من الجبر الإلهي في الآية التي ورد الحديث في تفسيرها ولا يفيد أن الله خلق ناساً للنار يساقون إليها راغمين ، وخلق ناساً للجنة يساقون إليها محظوظين ! وإن التعلق بالمرويات المعلولة إساءة بالغة للإسلام .

كل ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس

____________________

(١) قد مر نص الحديث في ص ٢٤٢ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٧٢ .

(٣) صحيح الترمذي ج ٥ ص ٢٦٦ ، رقم الحديث ٣٠٧٥ .

٢٤٦

وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله وكأنهم يقولون للناس أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا من الخط المرسوم لكم مهما بذلتم ! .

إن هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا ، ولا اقتداء دقيقاً بسنة نبيّنا إنه تخليط قد جنينا منه المر ! .

وكل أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في صنع المستقبل الأخروي يجب أن لا نلتفت إليه فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدها حديث واهي السند أو معلول المتن لكنّنا مهما نوّهنا بالإرادة الإنسانية فلا ننسى أنّنا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر وصعود وهبوط والسفينة تحكمها الأمواج ولا تحكم الأمواج ويعني هذا أن نلزم موقفاً محدداً بإزاء الأوضاع المتغيرة التي تمر بنا هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب .

أما الأوضاع التي تكتنفنا فليست من صنعنا ومنها يكون الاختيار الذي يبت في مصيرنا ، إن تصوير القدر على النحو الذي جاءت به بعض المرويات غير صحيح وينبغي أن لا ندع كتاب ربنا لأوهام وشائعات تأباها روح الكتاب ونصوصه . القرآن قاطع في أن أعمال الكافرين هي التي أردتهم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) وقاطع في أن أعمال الصالحين هي التي نجت بهم ( وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

فلا احتجاج بقدر ولا مكان لجبر وعلى من يسيئون الفهم أو النقل أن لا يعكروا صفو الإسلام .

جاءت في القدر أحاديث كثيرة نرى أنها بحاجة إلى دراسة جادة حتى يبرأ المسلمون من الهزائم النفسية والاجتماعية التي أصابتهم قديماً وحديثاً (٣) .

____________________

(١) سورة التحريم : الآية ٧ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ٤٣ .

(٣) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : للشيخ الغزالي : ص ١٤٤ ـ ١٥٧ بتلخيص .

٢٤٧

تكوين القدرية كرد فعل

ولما كان القدر والقضاء بالمعنى الذي تروجه السلطة الأموية مخالفاً للفطرة والعقل قام رجال أحرار في وجه هذه العقيدة يركزون على القول بحرية الإنسان في إطار حياته فيما يرجع إلى سعادته وشقائه ، وفيما عينت للثواب والعقاب ولكن السلطة اتهمتهم بنفي القضاء والقدر ومخالفة الكتاب والسنة ثم وضعت السيوف على رقاب بعضهم ، هذا هو معبد الجهني اتهموه بالقدر ( نفي القدر ) ذهب إلى الحسن البصري فقال له إن بني أمية يسفكون الدماء ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله فقال كذب أعداء الله (١) .

ومعبد هذا قد اتهم بالقدرية وأنه أخذ هذه العقيدة عن رجل نصراني ولكنه اتهام في غالب الظن قد ألصق به وهو منه براء وهذا الذهبي يعرفه بقوله : « إنه صدوق في نفسه وإنه خرج مع ابن الأشعث على الحجاج حتى قتل صبراً ، ووثقه ابن معين ونقل عن جعفر بن سليمان أنه حدثه مالك بن دينار قال لقيت معبداً الجهني بمكة بعد ابن الأشعث وهو جريح وكان قاتل الحجاج في المواطن كلها » (٢) .

ولا أظن أن الرجل الذي ضحى بنفسه في طريق الجهاد ومكافحة الظالمين ينكر ما هو من أوضح الأصول وأمتنها ولو أنكر فإنما أنكر المعنى الذي استغله النظام آنذاك ويشهد بذلك محاورته الحسن البصري الآنفة .

ومثله غيلان الدمشقي فقد اتهم بنفس ما اتهم به أستاذه فهذا الشهرستاني يقول : كان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد . وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز فلما مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته فأفتى بقتله فصلب على باب كيسان بدمشق (٣) .

____________________

(١) الخطط المقريزية : ج ٢ ص ٣٥٦ .

(٢) ميزان الاعتدال : ج ٤ ص ١٤١ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٤٧ .

٢٤٨

وقد صارت مكافحة هذا الاتجاه الظاهر عن معبد الجهني وغيلان الدمشقي ومحاربته سبباً لظهور المفوضة الذين كانوا يعتقدون بتفويض الأمور إلى العباد وأنه ليس لله سبحانه أي صنع في أفعالهم ، فجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله ، مستغنياً عن الله سبحانه فصار كالإله في مجال الأفعال كما كان القضاء والقدر حاكماً على كل شيء ولا يمكن تغييره بأي صورة أخرى من الصور . فالطرفان يحيدان عن جادة التوحيد ويميلان إلى جانبي الإفراط والتفريط في الخلق وسيوافيك تفصيل القول في محله .

الاحتجاج بالقدر

إن القدر بالمعنى الذي جاء في الأحاديث النبوية من شأنه أن يجعل الإنسان مسلوب الاختيار ، مسيراً في حياته غير مختار في أفعاله فعند ذلك يصح للعبد أن يحتج على المولى في عصيانه ومخالفته .

ومن العجيب انه جاء في الصحيحين حديث عن أبي هريرة عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « احتج آدم وموسى فقال موسى : يا آدم أنت أبو البشر الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة » ؟ فقال له آدم : « أنت موسى الذي كلمك الله تكليماً وكتب لك التوراة فبكم تجد فيها مكتوباً « وعصى آدم ربّه فغوى » قبل أن أخلق ؟ قال : بأربعين سنة قال فحج آدم موسى » (١) .

وقد اضطرب القائلون بالقدر ومالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذا الحديث وأمثاله إذ لو صح القدر بالمعنى الذي جاء في الأحاديث النبوية لكان باب العذر للعبد مفتوحاً على مصراعيه .

والعجب من ابن تيمية حيث فسر الحديث في رسالة أسماها

____________________

(١) جامع الأصول : ج ١٠ ص ٥٢٣ ـ ٥٢٥ وصحيح البخاري : ج ٤ ص ١٥٨ ج ٦ ص ٩٦ وج ٨ ص ١٢٦ وج ٩ ص ١٤٨ .

٢٤٩

بـ « الاحتجاج بالقدر » بأن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل لا لأجل أن تارك الأمر الإلهي مذنب عاص ، ولهذا قال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة . ولم يقل : لماذا خالفت الأمر ؟ ولماذا عصيت ؟ . والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم ، بالتسليم للقدر وشهود الربوبية كما قال الله تبارك وتعالى : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) (١) .

ووجه العجب : أن ابن تيمية قصر النظر على كلام موسى حيث اعترض على آدم بأنه لماذا أخرج نفسه وذريته من الجنة ، ولم يلتفت إلى جواب آدم ، فإنه صريح في الاحتجاج بالقدر في مورد العصيان وأن معصيته كانت أمراً مقدراً قبل أن يخلق فلم يكن بد منها حيث قال لموسى : أنت موسى الذي كلمك الله تكليماً وكتب لك التوراة فبكم تجد فيها مكتوباً « وعصى آدم ربّه فغوى » قبل أن أخلق ، قال : بأربعين سنة قال : فحج آدم موسى (٢) .

وعلى ذلك فموسى وإن لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل ، لكن لما كانت المصيبة نتيجة المعصية ، احتج آدم على موسى بأن المعصية لما كانت أمراً مقدراً وهو بالنسبة إليها مسيراً ، وكانت المصيبة نتيجة لها ، فهو معذور في المصيبة التي عمته وذريته . فالكل من السبب والمسبب كانا خارجين عن قدرته واختياره فلا لوم على المصيبة لعدم صحة اللوم على المعصية المقدرة قبل خلقته بأربعين سنة .

ثم إن كثيراً من القائلين بالقدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الأحاديث لما رأوا في صميم عقلهم وأغوار فكرهم أنّه لا يجتمع مع التكليف ، صاروا إلى الإجابة بأصل مبهم جدا ، وهو أنه « لا يحتج بالقدر » وعندئذٍ يتوجه إليهم السؤال التالي :

لو كان القدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الأحاديث أمراً صحيحاً يجب

____________________

(١) سورة التغابن : الآية ١١ .

(٢) الاحتجاج بالقدر : ص ١٨ .

٢٥٠

الإذعان به وبنتائجه ولوازمه وهو كون الإنسان مجبوراً مسيراً فلا محالة يصح الاحتجاج به أيضاً في مقام الاعتذار .

وبالجملة : لا مناص عن اختيار أحد الأمرين : إما الإذعان بالقدر ونتائجه ولوازمه ومنها الاحتجاج على المولى سبحانه في مقام المخالفة ، وإما رفض ذلك الاعتقاد والقول بكون الإنسان مخيراً مختاراً . فالجمع بين الإذعان بالقدر وعدم الاحتجاج به أشبه بالأخذ بالشجرة وإضاعة الثمرة .

ثم إن ابن تيمية قد التجأ في حل العقدة إلى جواب آخر : وهو أن القدر لا يحتج به ، قال : « وليس القدر حجّة لابن آدم ولا عذراً بل القدر يؤمن به ولا يحتج به والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين فإن القدر إن كان حجة وعذراً لزم أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه ، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن لأحد أن يفعله ، وهو ممتنع طبعاً ، محرم شرعاً ، ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطرة الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمة من الأمم ولا هو مذهب أحد من العقلاء » (١) .

وكان لابن تيمية أن يتنبه عندئذٍ فيجعل عدم احتجاج العقلاء بالقدر دليلاً على بطلان القدر بالمعنى الذي اختاره وتدين به ، وإلا فلو صح القدر لا يصح أن يقال « لا يحتج به » .

وبالجملة : إما أن يؤمن بالقدر ويحتج به ، وإما أن لا يؤمن به ولا يحتج به .

وهناك أمر آخر ، وهو : أن القائل بالقدر يصرح بوجوب الإيمان بالقدر خيره وشره ، وبما أن القدر فعل الله سبحانه ، فتكون النتيجة كون الخير والشر من أفعاله سبحانه وتقديراته حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته . مع أن صريح الصحاح من الأحاديث خلافه وأن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « والشر ليس إليك » (٢) .

____________________

(١) مجموعة الرسائل والمسائل : ج ١ ص ٨٨ ـ ٩١ .

(٢) سنن النسائي : ج ٢ كتاب الصلاة ، أبواب الافتتاح باب « نوع آخر من الذكر والدعاء بين التكبير والقراءة » ص ١٣٠ .

٢٥١

وعلى ذلك فيجب تفسير الشر بشكل يناسب مقام الرب كالجدب والمرض والفقر والخوف . وإطلاق الشر عليها نوع مجاز وتأويل .

محاولة للجمع بين القدر وصحة التكليف

إن بعض المتحذلقين في العصر الحاضر لما رأى أن القدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الروايات لا يجتمع مع الاختيار والحرية ويناقض صحة التكليف ، صار بصدد الجمع بينهما فقال : « إنّ للقدر أربع مراتب :

المرتبة الأولى : العلم : علمه الأزلي الأبدي ، فلا يتجدد له علم بعد جهل ولا يلحقه نسيان بعد علم .

المرتبة الثانية : الكتاب : فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة قال سبحانه : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (١) .

المرتبة الثالثة : المشيئة : فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السماوات والأرض لا يكون شيء إلا بمشيئته ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .

المرتبة الرابعة : الخلق : فنؤمن بأن ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) » (٢) .

وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله نفسه ولما يكون من العباد . فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك ، فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده والله قد شاءها وخلقها . ثم يقول : ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة ، بهما يكون الفعل ، والدليل على أن فعل العبد باختياره وقدرته أمور . ثم استدل بآيات تثبت للعبد إتياناً بمشيئته وإعداداً بإرادته مثل قوله سبحانه : ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) (٣) وقوله : ( وَلَوْ

____________________

(١) سورة الحج : الآية ٧٠ .

(٢) سورة الزمر : الآية ٦٢ ـ ٦٣ .

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٢٣ .

٢٥٢

أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ) (١) (٢) .

انظر إلى التناقض الذي ارتكبه الكاتب المعاصر وهو بصدد بيان العقيدة الإسلامية ، إذ لو كان فعل العبد معلوماً لله ومكتوباً في اللوح المحفوظ وقد شاء الله فعله وخلقه ، فكيف يكون للعبد اختيار وقدرة بهما يوجد الفعل وهل الفعل بعد علمه تعالى وكتابته ، ومشيئته وخلقه يكون محتاجاً إلى شيء آخر حتى يكون لاختيار العبد وقدرته دور في ذلك المجال ؟ « هل قرية وراء عبادان » ؟ ؟ ! .

فكما أنه لا يكون للعباد دور في خلق السماوات والأرض بعد ما تعلق به علمه سبحانه وكتبه في لوحه ، وشاء وجوده ، وخلقه ، فهكذا أفعال عباده بعد ما وقعت في إطار هذه المجالات الأربعة . وبالجملة فعندما تحقق الخلق من الله لا تكون هناك أية حالة انتظارية في تكوّن الفعل ووجوده . فلا معنى لأن يكون للعبد بعد خلقه سبحانه دور أو تأثير . وأما مسألة « الكسب » الذي أضافه إمام الأشاعرة إلى « الخلق » فعده سبحانه خالقاً والعبد كاسباً فسيوافيك أنه ليس للكسب مع معقول بعد تمامية الخلقة ، فتربص حتى حين .

صراع بين الوجدان وظواهر الأحاديث

لا شك أن كل إنسان يجد من صميم ذاته أن له قدرة واختياراً ولا يحتاج في إثباته إلى الاستدلال بالآيات والروايات كما ارتكبه الكاتب وهذا شيء لا يمكن لأحد إنكاره ، ولذلك صح التكليف وحسن بعث الأنبياء وعليه يدور فلك الحياة في المجتمع الإنساني .

والقدر بالمعنى الذي تصرح به الأحاديث لا يجتمع مع اختيار العبد وقدرته فلو صح القدر بالمعنى المعروف بين أهل الحديث لم يكن مناص في

____________________

(١) سورة التوبة : الآية ٤٦ .

(٢) « عقيدة أهل السنة والجماعة » بقلم محمد صالح العثيمين من منشورات الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة : ص ٢٧ ـ ٢٩ .

٢٥٣

الصراع عن ارتكاب أحد أمرين : إما إنكار القدر والقضاء وهو لا يصح أن يصدر من مسلم مؤمن بكتاب الله ، وإما إنكار القدرة والاختيار وهو يخالف الوجدان والفطرة السليمة ، وأما الجمع بينهما فهو أمر غير ممكن .

والحق أن الاعتقاد بالقدر بالمعنى الوارد في الروايات السابقة لا ينفك عن الجبر قيد شعرة ، وللعبد الاحتجاج على المولى بأن الفعل ـ بعد تنزله من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة ومنهما إلى درجة المشيئة فدرجة الخلق والإيجاد ـ يكون عندئذ مخلوقاً لله سبحانه وفعلاً له ، وكلّ فاعل مسؤول عن فعل نفسه لا فعل غيره . ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) (١) . ولا تكون حينئذ للفعل أية صلة بالعبد إلا كونه ظرفاً للصدور ومحلاً لإيجاده سبحانه .

ولكن الإمامية مع اعترافهم بالمراتب الأربع للقدر لا يرونه ملازماً للجبر ، بل يرون للعبد بعدها اختياراً وحرية . ولأجل ذلك يجب تركيز الكلام في تفسير كون الفعل مورداً لمشيئته وكونه مخلوقاً له سبحانه ، وإليك بيان هذين الأمرين :

القول بالقدر لا يلازم الجبر

إن منشأ توهم الجبر وكون الإنسان مسيراً لا مخيراً أحد أمرين :

١ ـ كون فعله متعلقاً لمشيئته سبحانه وما شاء الله يقع حتماً .

٢ ـ كونه خالقاً لكل شيء حتى أفعال عباده وإلا بطل التوحيد في الخالقية .

وبالبيان التالي يظهر بطلان التوهم المذكور ، وأنّ واحداً من الأصلين لا يقتضي الجبر ، إذا فسر على الوجه الصحيح ، لا على الوجه الذي يتبناه أهل الحديث وحتى الأشاعرة . فنقول :

____________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١٦٤ .

٢٥٤

الأمر الأول ـ تعلق مشيئته بالأفعال

أما كون أفعال العباد متعلّقة لمشيئته سبحانه فهناك من ينكر ذلك ويقول إن التقدير يختص بما يجري في الكون من حوادث كونية مما يتعلق به تدبيره سبحانه ، وأما أفعال العباد فليست متعلقة بالتقدير والمشيئة بل هي خارجة عن إطارهما والحافز إلى ذاك التخصيص هو التحفظ على الاختيار ونفي الجبر فهذا القول يعترف بالقدر ولكن لا في أفعال العباد بل في غيرها .

يلاحظ عليه أما أولاً : فلأن الظاهر من الآيات أن فعل العباد تتعلق به مشيئة الله وأنه لولا مشيئته سبحانه لما تمكن من الفعل . يقول الراغب : « لولا أن الأمور كلها موقوفة على مشيئة الله وأن أفعالنا معلقة بها وموقوفة عليها لما أجمع الناس على تعليق الاستثناء به في جميع أفعالنا نحو « ستجدني إن شاء الله من الصابرين » « ستجدني إن شاء الله صابراً » « يأتيكم به الله إن شاء » . « ادخلوا مصر إن شاء الله » . « قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرراً إلا ما شاء الله » . « وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا » . « ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله » (١) .

وهناك آيات أخر لم يذكرها « الراغب » :

١ ـ قوله سبحانه : ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) (٢) .

فالإذن هنا بمعنى المشيئة وما ذكر من القطع والإبقاء من باب المثال .

٢ ـ قوله سبحانه : ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٣) .

٣ ـ قوله سبحانه : ( إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا *

____________________

(١) المفردات : ص ٢٧١ .

(٢) سورة الحشر : الآية ٥ .

(٣) سورة التكوير : الآية ٢٧ ـ ٢٩ .

٢٥٥

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) (١) .

٤ ـ قال سبحانه : ( كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) (٢) .

وجه الدلالة في الآيات الثلاث واحدة ومفعول الفعل ( وما تشاؤون ) في الآية الأولى هو الاستقامة . معناه وما تشاؤون الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله ذلك كما أن المفعول في الآية الثانية عبارة عن اتخاذ الطريق والمعنى وما تشاؤون اتخاذ الطريق إلى مرضاة الله تعالى إلا أن يشاء الله تعالى كما أن المفعول للفعل ، ( وما يذكرون ) في الآية الثالثة هو القرآن أي وما يذكرون القرآن ولا يتذكّرون به إلّا أن يشاء الله .

إذا عرفت ذلك ففي الآيات الثلاث الأخيرة احتمالان :

الأول : المراد أنكم « لا تشاؤون الاستقامة أو اتخاذ الطريق أو التذكر بالقرآن إلا أن يشاء الله أن يجبركم عليه ويلجئكم إليه ولكنه لا يفعل لأنه يريد منكم أن تؤمنوا اختياراً لتستحقوا الثواب ولا يريد أن يحملكم عليه » واختاره أبو مسلم كما نقله عنه « الطبرسي » وحاصله : « وما تشاؤون واحداً من هذه الأمور إلا أن يشاء الله إجباركم وإلجاءكم إليه فحينئذٍ تشاؤون ولا ينفعكم ذلك والتكليف زائل ولم يشأ الله هذه المشيئة بل شاء أن تختاروا الإيمان لتستحقوا الثواب » (٣) .

وعلى هذا فالآيات خارجة عما نحن فيه أعني كون أفعال البشر على وجه الإطلاق ـ اختيارية كانت أو جبرية ـ متعلقة لمشيئته سبحانه .

الثاني : إن الآية بصدد بيان أن كل فعل من أفعال البشر ومنها الاستقامة واتخاذ الطريق والتذكر لا تتحقق إلا بعد تعلق مشيئته سبحانه بصدورها غير أن

____________________

(١) سورة الإنسان : الآية ٢٩ ـ ٣٠ .

(٢) سورة المدثر : الآية ٥٣ ـ ٥٦ .

(٣) مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٣٩ و ٤١٣ و ٤٤٦ .

٢٥٦

لتعلق مشيئته شرائط ومعدات منها كون العبد متجرداً عن العناد واللجاج متهيئاً لقبول الصلاح والفلاح موقعاً نفسه في مهب الهداية الإلهية فعند ذلك تتعلق مشيئته بهداية العبد وبما أن الكفار المخاطبين في الآية لم يكونوا واجدين لهذا الشرط لم تتعلق مشيئته باستقامتهم واتخاذ الطريق والاتعاظ بالقرآن .

وليس هذا بكلام غريب وإنه هو المحكم في الآيات الراجعة إلى الهداية فإن له سبحانه هدايتين : هداية عامة تفيض إلى عامة البشر : مؤمنهم وكافرهم وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) (١) وهناك هداية خاصة تفيض منه سبحانه إلى من جعل نفسه في مهب الرحمة واستفاد من الهداية الأولى وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) (٢) والظاهر من مجموع الآيات حول المشيئة هو الاحتمال الثاني دون الأول واختاره العلامة الطباطبائي فقال في تفسير آية الدهر :

« الاستثناء من النفي يفيد أن مشيئة العبد متوقفة في وجودها على مشيئته تعالى فلمشيئته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلقها بمشيئة العبد وليست متعلقة بفعل العبد مستقلاً وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبرياً ولا أن العبد مستقل في إرادة ، يفعل ما يشاؤه ، شاء الله أو لم يشأ ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد » (٣) .

هذا كله في الصغرى أي كون أفعال العباد متعلقة لمشيئته سبحانه . إنما الكلام في الكبرى وهو أن تعلق المشيئة بفعل العبد لا يستلزم الجبر ، وهذه هي النقطة الحساسة في حل عقدة الجبر مع القول بكون أفعالنا متعلقة لمشيئته .

بيان ذلك أن هناك فرضين :

١ ـ تعلقت مشيئته سبحانه بصدور الفعل من العبد إيجاداً واضطراراً .

٢ ـ تعلقت مشيئته سبحانه بصدوره منه عن إرادة واختيار .

____________________

(١) سورة الإنسان : الآية ٣ .

(٢) الشورى : الآية ١٣ .

(٣) الميزان : ج ٢٠ ص ٢٣٥ ولاحظ ص ٣٣١ .

٢٥٧

فالقول بالجبر إنما هو نتيجة الفرض الأول دون الثاني .

إن مشيئته سبحانه تعلقت بصدور كل فعل عن فاعله مع الخصوصية الموجودة فيه ، كالصدور عن لا شعور في النار بالنسبة إلى الحرارة والصدور عن اختيار في الإنسان بالنسبة إلى التكلم والمشي . وعلى ذلك يجب أن تصدر الحرارة من النار عن اضطرار ، ويصدر التكلم أو المشي عن الإنسان باختيار وإرادة .

فلو صدر الأول عن النار بغير هذا الوضع ، أو الثاني من الإنسان بغير هذه الكيفية لزم التخلف عن مشيئته سبحانه وهو محال ، إذ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .

ومجرّد كون الفعل متعلقاً لمشيئته وأن ما شاء يقع ، لا يستلزم القول بالجبر ، ولا يصير الإنسان بموجبه مسيراً إذا كان الفعل صادراً عن الفاعل بالخصوصية المكتنفة به . فالنار فاعل طبيعي تعلقت مشيئته سبحانه بصدور أثرها ( أي الحرارة ) عنها بلا شعور .

والإنسان فاعل مدرك شاعر مريد ، تعلقت مشيئته سبحانه بصدور فعله عنه مع الشعور والإرادة . فلو صدر الفعل في كلا الموردين لا مع هذه الخصوصيات لزم التخلف . فتنزيه ساحته عن وصمة التخلف يتوقف على القول بأن كل معلول يصدر عن العلة . لكن بالخصوصية التي خلقت معها . فقد شاء الله سبحانه أن تكون النار فاعلاً موجباً ، ويصدر عنها الفعل بالإيجاب ، كما شاء أن يكون الإنسان فاعلاً مختاراً ويصدر الفعل عنه لكن بقيد الاختيار والحرية .

ولقائل أن يقول : إن تعلق المشيئة المهيمنة من الله سبحانه على صدور الفعل من العبد عن اختيار موجب لكون صدور الفعل أمراً قطعياً وعدم المناص إلا عن إيجاده ومع هذا كيف يكون الفعل اختيارياً فإن معناه أن له أن يفعل وله أن لا يفعل وهذا لا يجتمع مع كون صدور الفعل قطعياً .

والجواب : إن قطعية أحد الطرفين لا تنافي كون الفعل اختيارياً وذلك بوجهين :

٢٥٨

١ ـ بالنقض بفعل الباري سبحانه ، فإن الحسن قطعي الصدور ، والقبيح قطعي العدم ومع ذلك فالفعل اختياري له والله سبحانه يعامل عباده بالعدل والقسط قطعاً ولا مناص عنه ولا يعاملهم ظلماً وجوراً قطعاً وبتاتاً ومع ذلك ففعله سبحانه المتسم بالعدل ، اختياري لا اضطراري .

٢ ـ إن تعلق مشيئته سبحانه بأفعال العباد ، يرجع لباً إلى تعلقها بحريتهم في الفعل والعمل ، وعدم وجود موجب للجوئهم إلى أحد الطرفين حتماً فشاء الله سبحانه كونهم أحراراً غير مجبورين ، مختارين غير مضطرين حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيی من حي عن بينة . هذا كله حول المشيئة .

الأمر الثاني ـ خلق الأفعال

وأما كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه فهذا أصل يجب الاعتراف به بحكم التوحيد في الخالقية ، وبحكم أن ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) (١) .

إلا أنه يجب تفسير التوحيد في الخالقية ، وليس معناه انحصار الفاعلية والخالقية ، أعم من المستقل وغير المستقل بالله سبحانه ، بأن يكون هناك فاعل واحد يقوم مقام جميع العلل والفواعل المدركة وغير المدركة ، كما هو الظاهر من عبارات القوم في تفسير التوحيد في الخالقية ، إذ معنى ذلك رفض مسألة العلية والمعلولية بين الأشياء .

وهذا ما لا يوافق عليه العقل ولا الذكر الحكيم ، بل معناه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير الله ، ولا فاعل مستقل سواه سبحانه وأن كل ما في الكون من كواكب وجبال ، وبحار وعناصر ، ومعادن وسحب ، ورعود وبروق ، وصواعق ونباتات ، وأشجار وإنسان وحيوان وملك وجن ، وعلى الجملة كل ما يطلق عليه عنوان الفاعل والسبب كلها علل وأسباب غير مستقلة

____________________

(١) سورة الزمر : الآية ٦٢ .

٢٥٩

التأثير ، وأن كل ما ينسب إلى تلك الفواعل من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب بالاستقلال . وإنما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى الله سبحانه ، فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباط بعضها ببعض مخلوقة لله ، فإليه تنتهي العلية ، و إليه تؤول السببية وهو معطيها للأشياء ، كما أن له تجريدها عنها إن شاء ، فهو مسبب الأسباب وهو معطلها .

وهذا هو نتيجة الجمع بين الآيات الناصة على حصر الخالقية بالله سبحانه ، والآيات المثبتة لها لغيره ، كما في قوله سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيح ـ على نبينا وآله وعليه السلام ـ : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ) (١) ، وقوله سبحانه : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٢) .

فهذا الصنف من الآيات الذي يسند الخلق إلى غيره سبحانه إذا قورن بالآيات الاُخرى المصرحة بانحصار الخالقية بالله سبحانه ، مثل قوله تعالى : ( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (٣) يستنتج أن الخالقية المستقلة غير المستندة إلى شيء سوى ذات الخالق منحصرة بالله سبحانه ، وفي الوقت نفسه الخالقية والفاعلية غير المستقلة المفاضة من الواهب سبحانه إلى الأسباب ، تعم عباده وجميع الفواعل المدركة وغير المدركة .

وعلى ذلك فكل فعل صادر عن فاعل طبيعي أو مدرك كما يعد فعله سبحانه كذلك يعد فعلاً للعبد ، لكن بنسبتين .

فالله سبحانه فاعل لها بالتسبيب ، وغيره فاعل لها بالمباشرة . فليست ذاته سبحانه مبدأً للحرارة بلا واسطة النار ، أو للأكل والمشي بلا واسطة

____________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٤٩ .

(٢) سورة المؤمنون : الآية ١٤ .

(٣) سورة الرعد : الآية ١٦ .

٢٦٠