بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.

فمنكر علمه السابق المحيط بكلّ شيء ضالّ مضلّ ، ومن استنتج منه الجبر مثله في الضلالة والغواية ، عصمنا اللّه جميعاً من الزلّة ، والعثرة في العلم والعمل.

ولأجل أن يقف القارئ الكريم على أنّه كان في تلك العصور الحرجة رجال من أهل السنّة يذهبون إلى غير ما ذهب إليه أصحاب السلطة الأمويون ننشر رسالة الحسن البصري في ذلك المجال ، وهي رسالة قيمة. (١)

____________

١ ـ الهدف هو نشر هذه الرسالة لما فيها من فائدة ، ولا صلة له بتقييم الحسن البصري في كلّ ما يقول أو ما يروى عنه أو ينسب إليه ، فإنّ لبيان ذلك مجالاً آخر.

٢٨١

٤ ـ رسالة الحسن البصري في الدفاع

عن نظرية الاختيار

قال القاضي عبد الجبار : المشهور أنّ عبد الملك بن مروان كاتبه بأنّه قد بلغنا عنك من وصف القدر ما لم يبلغنا عن أحد من الصحابة ، فاكتب بقولك إلينا في هذا الكتاب ، فكتب إليه :

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سلام عليك أمّا بعد : فإنّ الأمير أصبح في قليل من كثير مضوا ، والقليل من أهل الخير مغفول عنهم ، وقديماً قد أدركنا السلف الذين قاموا بأمر اللّه ، واستنّوا بسنّة رسوله ، فلم يبطلوا حقاً ، ولا ألحقوا بالرب تعالى إلاّ ما ألحق بنفسه ، ولا يحتجون إلاّ بما احتج اللّه تعالى به على خلقه بقوله الحقّ : ( وَماخَلَقْتُ الجنَّ والإِنسَ إِلاّ ِليعبُدُونِ ) (١). ولم يخلقهم لأمر ثمّ حال بينهم وبينه ، لأنّه تعالى ليس بظلام للعبيد ولم يكن في السلف من ينكر ذلك ولا يجادل فيه ، لأنّهم كانوا على أمر واحد متسق. (٢) وإنّما أحدثنا الكلام فيه ، حيث أحدث الناس النكرة له ، فلمّا أحدث المحدثون في دينهم ما أحدثوه ، أحدث المتمسّكون بكتابه ما يبطلون به المحدثات ، ويحذرون به من المهلكات.

__________________

١ ـ سورة الذاريات : الاية ٥٦.

٢ ـ في مخطوطة أيا صوفيا : متفقين.

٢٨٢

وذكر : إنّ الذي أوقعهم فيه تشتت الأهواء ، وترك كتاب اللّه تعالى ، ألم تر إلى قوله : ( قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقيِن ) (١). فافهم أيّها الأمير ما أقوله ، فإنّ ما نهى اللّه عنه فليس منه ، لأنّه لا يرضى ما يسخط ، وهو من العباد ، فإنّه تعالى يقول : ( ولا يَرضى لِعبادِهِ الكُفرَ وَإِنْ تشكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ). (٢)

فلو كان الكفر من قضائه وقدره ، لرضي به ممّن عمله ، وقال تعالى : ( وَقَضى ربُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيّاهُ ) (٣) ؟! وقال : ( وَالّذي قدَّرَ فَهَدى ) (٤) ولم يقل والذي قدّر فأضل ، لقد أحكم اللّه آياته وسنّة نبيّه عليه‌السلام فقال : ( قُلْ إِنْ ضَلَلتُ فَإِنّما أَضِلُّ عَلى نَفسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِليَّ رَبِّّي ) (٥). وقال : ( الّذي أَعطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى ) (٦). ولم يقل ثمّ أضل ، وقال : ( إِنّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (٧) ، ولم يقل إنّ علينا للضلال ولا يجوز أن ينهى العباد عن شيء في العلانية ، ويقدره عليهم في السر ، ربّنا أكرم من ذلك وأرحم ولو كان الأمر كما يقول الجاهلون ما كان تعالى يقول : ( اعْمَلُوا ما شِئْتُم ) (٨). ولقال : اعملوا ما قدرت عليكم ، وقال : ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَتَقدَّمَ أو يَتَأخَّرَ ) (٩). لأنّه جعل فيهم من القوّة ذلك لينظر كيف يعملون ، ولو كان الأمر كما قاله المخطئون ، لما كان إليهم أن يتقدّموا ولا يتأخّروا ، ولا كان لمتقدم حمد فيما عمل ، ولا على متأخّر لوم ، ولقال : جزاء بما عمل بهم ، ولم يقل جزاء بما عملوا وبما كسبوا ، وقال تعالى : ( وَنَفْس وَما سَوّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها

__________________

١ ـ سورة النمل : الاية ٦٤.

٢ ـ سورة الزمر : الاية ٧.

٣ ـ سورة الإسراء : الاية ٢٣.

٤ ـ سورة الأعلى : الاية ٣.

٥ ـ سورة سبأ : الاية ٥٠.

٦ ـ سورة طه : الاية ٥٠.

٧ ـ سورة الليل : الاية ١٢.

٨ ـ سورة فصلت : الاية ٤٠.

٩ ـ سورة المدثر : الاية ٣٧.

٢٨٣

وَتَقواها ). (١) أي بيّن لها ما تأتي وما تذر ثمّ قال : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها ). (٢) فلو كان هو الذي دسّاها ما كان ليخيب نفسه ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، وقوله تعالى : ( رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لنَا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعفاً فِي النّار ). (٣)

فلو كان اللّه هو الذي قدّم لهم الشر ، ما قال ذلك ، وقال تعالى : ( رَبّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا ) (٤). فالكبراء أضلّوهم دون اللّه تعالى ، بل قال تعالى : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (٥) ( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنّما يَشْكُرُلِنَفْسِهِ ) (٦). وقال : ( وَأَضلَّ فِرعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدَى ). (٧) وقال تعالى : ( وما أضَلَّنا إلاّ المُجْرِمُون ) (٨). ( وأضَلَّهُمُ السّامِرِي ) (٩). ( إنَّ الشيطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ) (١٠). ( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشّيطانُ أعْمَالَهُم ). (١١) وقال : ( وإمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحبُّوا العَمى عََلى الهُدى ) (١٢) فكان بدو الهدى من اللّه واستحبابهم العمى بأهوائهم وظلم آدم نفسه ، ولم يظلمه ربّه فقال : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) (١٣). وقال موسى : ( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيطانِ إنّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِين ) (١٤). فغواه أهل الجهل وقالوا : ( فَإِنَّ

__________________

١ ـ سورة الشمس : الاية ٧ و ٨.

٢ ـ سورة الشمس : الاية ٩ و ١٠.

٣ ـ سورة ص : الاية ٦١.

٤ ـ سورة الأحزاب : الاية ٦٧.

٥ ـ سورة الإنسان : الاية ٣.

٦ ـ سورة النمل : الاية ٤٠.

٧ ـ سورة طه : الاية ٧٩.

٨ ـ سورة الشعراء : الاية ٩٩.

٩ ـ سورة طه : الاية ٨٥.

١٠ ـ سورة الإسراء : الاية ٥٣.

١١ ـ سورة النحل : الاية ٦٣.

١٢ ـ سورة فصلت : الاية ١٧.

١٣ ـ سورة الأعراف : الاية ٢٣.

١٤ ـ سورة القصص : الاية ١٥.

٢٨٤

اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (١) ولِمَ لم ينظروا إلى ما قبل الآية وما بعدها ، ليبيّن لهم أنّه تعالى لا يضلّ إلاّ بتقدّم الكفر والفسق ، كقوله تعالى : ( ويُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ ) (٢). وقوله : ( فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ ) (٣). ( وما يُضِلُّ بهِ إِلاّ الفاسِقِين ) (٤).

وبين الحسن في كلامه الوعيد ، فقال : إنّه تعالى قال : ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفأنتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النّارِ ) (٥). وقال : ( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الّذِيَن فَسَقُوا ). (٦) وقال تعالى : ( أُدْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافَّة ) (٧). فكيف يدعوهم إلى ذلك وقد حال بينهم وبينه؟ وقال : ( وَما أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (٨). فكيف يجوز ذلك وقد منع خلقه من طاعته؟ قال : والقوم ينازعون في المشيئة وإنّما شاء اللّه الخير بمشيئته قال : ( يُريدُ اللّهُ بِكُُمُ اليُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ) (٩). وقال في ولد الزنى إنّه من خلق اللّه ، وإنّما الزاني وضع نطفته في غير حقّها ، فتعدّى أمر اللّه ، واللّه يخلق من ذلك ما يشاء وكذلك صاحب البذر إذا وضعه في غير حقّه. (١٠)

وقال في الرسالة : إنّ اللّه تعالى أعدل وأرحم من أن يعمي عبداً ، ثمّ يقول له : أبصر وإلاّ عذبتك ، وإذا خلق اللّه الشقي شقياً ، ولم يجعل له سبيلاً إلى السعادة فكيف يعذبه؟! وقد قال اللّه تعالى لآدم وحواء : ( فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ) (١١). فغلبهما الشيطان على هواه ثمّ قال : ( يا بَنِي

__________________

١ ـ سورة فاطر : الاية ٨.

٢ ـ سورة إبراهيم : الاية ٢٧.

٣ ـ سورة الصف : الاية ٥.

٤ ـ سورة البقرة : الاية ٢٦.

٥ ـ سورة الزمر : الاية ١٩.

٦ ـ سورة يونس : الاية ٣٣.

٧ ـ سورة البقرة : الاية ٢٠٨.

٨ ـ سورة النساء : الاية ٦٤.

٩ ـ سورة البقرة : الاية ١٨٥.

١٠ ـ كذا في النسخة والظاهر : حقله.

١١ ـ سورة الأعراف : الاية ١٩.

٢٨٥

آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيطانُ كَما أَخرجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجِنَّةِ ). (١) وليس للشيطان عليهم سلطان إلاّ ليعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شك. وبعث اللّه الرسول نوراً ورحمة فقال : ( اسْتَجِيُبوا للّهِ وللرّسُولِ ) (٢) وقال : ( اسْتَجِيبُوا لرَبِّكُم ) (٣) وقال : ( أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ ) (٤) و ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوه ) (٥) وقال : ( وَما كُنّا مُعذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٦) فكيف يفعل ذلك ثمّ يعميهم عن القبول. وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ ) (٧) وينهى عمّا أمر به الشيطان قال في الشيطان : ( يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصحابِ السَّعِيرِ ) (٨) فمن أجاب الشيطان كان من حزبه ، فلو كان كما قال الجاهلون لكان إبليس أصوب من الأنبياء عليهم‌السلام إذ دعاؤه إلى إرادة اللّه تعالى وقضائه ، ودعت الأنبياء إلى خلاف ذلك ، وإلى ما علموا أنّ اللّه قد حال بينهم وبينه.

وقال القوم فيمن أسخط اللّه : إنّ الله جبلهم على إسخاطه ، وكيف يسخط أن عملوا بقضائه عليهم وإرادته ، واللّه يقول : ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَدَاكَ ) (٩) وهؤلاء الجهّال يقولون : إنّ الله قدّمه وما أضلّهم سواه : ( لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولو شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ ) (١٠) فلو كان الأمر كما زعموا ، لكان الدعاء والأمر لا تأثير له ، لأنّ الأمر مفروغ منه ، لكن التأويل على غير ما قالوه وقد قال تعالى : ( ذلِكَ يَوٌم مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلِكَ

__________________

١ ـ سورة الأعراف : الاية ٢٧.

٢ ـ سورة الأنفال : الاية ٢٤.

٣ ـ سورة الشورى : الاية ٤٧.

٤ ـ سورة الأحقاف : الاية ٣١.

٥ ـ سورة الأنعام : الاية ١٥٣.

٦ ـ سورة الإسراء : الاية ١٥.

٧ ـ سورة النحل : الاية ٩٠.

٨ ـ سورة فاطر : الاية ٦.

٩ ـ سورة الحج : الاية ١٠.

١٠ ـ سورة الأنعام : الاية ١٣٧.

٢٨٦

يَومٌ مَشْهُود ) (١) ، والسعيد ذلك اليوم هو المتمسّك بأمر اللّه والشقي هو المضيع.

وقال في الرسالة : واعلم أيّها الأمير ، أنّ المخالفين لكتاب اللّه تعالى وعدله يحيلون في أمر دينهم بزعمهم على القضاء والقدر ثمّ لا يرضون في أمر دنياهم إلاّ بالاجتهاد والتعب والطلب والأخذ بالحزم فيه. وذلك لثقل الحقّ عليهم ، ولا يعولون في أمر دنياهم وفي سائر تصرفهم على القضاء والقدر ، فلو قيل لأحدهم : لا تستوثق في أُمورك ، ولا تقفل حانوتك احترازاً لمالك وإتّكل على القضاء والقدر ، لم يقبل ذلك ، ثمّ يعوّلون عليه في الذي قال :

وما يحتجون به أنّ اللّه تعالى قبض قبضة فقال : « هذا في الجنّة ولا أُبالي. وقبض أُخرى وقال : هذا في النار ولا أُبالي ». فإنّهم يرون ربّهم يصنع ذلك ، كالمقارع بينهم المجازف ، فتعالى اللّه عمّا يصفونه.

فإن كان الحديث حقّاً ، فقد علم اللّه تعالى أهل الجنّة وأهل النار ، قبل القبضتين وقبل أن خلقهم ، فإنّما قبض اللّه أهل الجنة الذين في علمه أنّهم يصيرون إليها ، وإنّما مرادهم أن يقرروا في نفوس الذين يقبلون ما رووه ، أن تكون أعمال الناس هباءً منثوراً ، من حيث قد فرغ من الأمر ، وكيف يصح ذلك مع قوله : ( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْن َمِنْهُ وتنْشَقّ الأرضُ وتَخِرُّالجِبَالُ هَدّاً* أن دَعَوْا للرّحمنِ وَََلداً ) (٢) وهو الذي حملهم عليه.

وما معنى قوله : ( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُون ) (٣) وقد منعهم؟ وكيف يقول : ( ما كانَ لأَهلِ المَدينةِ ومَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعرابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ) (٤) بل كان يجب أن يقول : ما كان لأهل المدينة أن يعملوا بما قضيت عليهم (٥) ، ولما قال : ( فَلَولا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّة يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي

__________________

١ ـ سورة هود : الاية ١٠٣.

٢ ـ سورة مريم : الاية ٩٠ ـ ٩١.

٣ ـ سورة الانشقاق : الاية ٢٠.

٤ ـ سورة التوبة : الاية١٢٠.

٥ ـ كذا في النسخة والظاهر : إلاّ بما قضيت عليهم.

٢٨٧

الأرْضِ ) (١). وهو الذي حال بينهم وبين الطاعة.

وإذا كان الأمر مفروغاً منه ، فكيف يقول : ( لَيْسَ عَلَيالأعْمَى حَرَجٌ ولا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ) (٢) وكيف ابتلى العباد فعاقبهم على فعلهم؟ وكيف يقول : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيَل إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (٣) وكيف يقول : ( قَدَّرَ فَهَدَى ) (٤) ولم يقل قدّر فأضل ، وكيف يصحّ أنّه خلقهم للرّحمة والعبادة بقوله : ( فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَالنّاسَ عَلَيْها ) (٥) وقوله : ( فَطَركُمْ أَوّّلَ مَرَّة ) (٦) وقوله : ( إِلاّمَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) (٧) فإذا خلقهم لذلك ، فكيف يصحّ أن لا يجعل لهم سبيلاً ، ويقرهم على السعادة والشقاء على ما يذكرون.

وكيف يبتلي إبليس بالسجود لآدم ، فإذا عصى يقول له ( فَاهْبِطْ مِنها ) (٨) ويجعله شيطاناً رجيماً؟ وكيف يقول : ( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها ) (٩) وكيف يحذر آدم عداوته. إن كان الأمر مفروغاً منه على ما تقولون؟

وقال في الرسالة : واعلم أيّها الأمير ما أقول : إنّ اللّه تعالى لم يخف عليه بقضائه شيء ، ولم يزدد علماً بالتجربة ، بل هو عالم بما هو كائن وما لم يكن ، ولذلك قال : ( ولَوْ بَسَطَالّلهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا ) (١٠) ، ( ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً واحِدَةً ) (١١) فعلم سبحانه أنّه خلق خلقاً من ملائكة وجن وإنس ، وأنّه يبتليهم قبل أن يخلقهم ، وعلم ما يفعلون كما قدّر أقواتهم ، وقدّر ثواب أهل

__________________

١ ـ سورة هود : الاية ١١٦.

٢ ـ سورة النور : الاية ٦١.

٣ ـ سورة الإنسان : الاية ٣.

٤ ـ سورة الأعلى : الاية ٣.

٥ ـ سورة الروم : الاية ٣٠.

٦ ـ سورة الإسراء : الاية ٥١.

٧ ـ سورة هود : الاية ١١٩.

٨ ـ سورة الأعراف : الاية ١٣.

٩ ـ سورة الأعراف : الاية ١٣.

١٠ ـ سورة الشورى : الاية ٢٧.

١١ ـ سورة الزخرف : الاية ٣٣.

٢٨٨

الجنّة وعقاب أهل النار قبل ذلك ، ولو شاء إدخال العصاة النار لفعل ، لكنّه سهل سبيلهم لتكون الحجة البالغة له على خلقه ، والعلم ليس بدافع إلى معاصيه ، لأنّ العلم غير العمل ، ( فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخالِقِين ). (١)

وقال : في قولهم في الضلال والهدى ، وقوله : ( وَلو شاءَ ربُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) (٢) ، ( وَلَو شاَء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى ) (٣) ، لأنّ المراد بذلك إظهار قدرته على ما يريده كما قال : ( إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نَسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السّمَاءِ ) (٤) ، ( ولو نشاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَاَنَتِهِمْ ) (٥) ، ( ولَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أعْيُنِهِمْ ) (٦) ، ( ولَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَة نَذِيراً ) (٧) ، وقال : ( فلَعَلَكَّ َبَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ) (٨) ، حتّى بلغ من قوله أن قال : ( فَإِنِ اسْتََطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفقَاً فِي الأَرضِ أَو سُلَّماً فِي السَّماِء ) (٩) ، فإنّما يدلّ بذلك رسوله على قدرته ، فكذلك غير الذي شاء منهم ، ولذلك قال في حجتهم يوم القيامة ردّاً عليهم لقولهم : ( لَوْ أَنَّ اللّهَ هَدانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ ) (١٠) ورد ذلك بقوله : ( بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ ). (١١)

وقال تعالى بعد ما حكى عنهم قولهم : ( لو شاءَ الرّحمَنُ ما عَبَدْنَاهُمْ ما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ ). (١٢) وقال تعالى بعد ما حكى عنهم قولهم : ( سَيَقُولُ الّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ ما أشْرَكْنَا ولاَ آباؤُنا ولا حَرَّّْمنا مِنْ

__________________

١ ـ سورة المؤمنون : الاية ١٤.

٢ ـ سورة يونس : الاية ٩٩.

٣ ـ سورة الأنعام : الاية ٣٥.

٤ ـ سورة سبأ : الاية ٩.

٥ ـ سورة يس : الاية ٦٧.

٦ ـ سورة يس : الاية ٦٦.

٧ ـ سورة الفرقان : الاية ٥١.

٨ ـ سورة الكهف : الاية ٦.

٩ ـ سورة الأنعام : الاية ٣٥.

١٠ ـ سورة الزمر : الاية ٥٧.

١١ ـ سورة الزمر : الاية ٥٩.

١٢ ـ سورة الزخرف : الاية ٢٠.

٢٨٩

شَيْء ) (١) مكذباً لهم : ( كَذلِكَ كَذَّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا ) (٢) ، فنعوذ باللّه ممن ألحق باللّه الكذب. وجعلوا القضاء والقدر معذرة ، وكيف يصحّ ذلك مع قوله : ( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالمين ) (٣) ؟! وكيف يصحّ أن يقول : ( وَما أَصابَكَ مِنْ سَيّئَة فَمِنْ نَفْسَكَ ) (٤) ؟! أي العقوبة التي أصابتك هي من قبل نفسك بعملك. ولو شاء تعالى أن يأخذهم بالعقوبة من دون معصية لقدر على ذلك ، لكنّه رؤوف رحيم. ولذلك أرسل موسى إلى فرعون وقد قال : ( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي ) (٥) فقال : ( فَقُولا لَهُ قَولاً لََيِّنَاً ) (٦) وقال : ( اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَى ) (٧) ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزكّى ) (٨) وقال : ( وَلَقَدْ أَخذنا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنينَ وَنَقْص مِنَ الثَّمراتِ لَعلَّهُمْ يَذَّكَّرون ) (٩) فيتوبون ، فلمّا لجّوا في كفرهم بعد ذلك الأمر والترغيب إلى طاعته ، أخذهم بما فعلوا.

قال : ثمّ انظر أيّها الأمير ، كيف صنيعه لمن أطاع فقال : ( إلاّقَوْمَ يُونُسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الخِزْيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا ومَتَّعْناهُمْ إلى حِين ) (١٠) ، ( ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتُّّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ ) (١١) ، ( ولو أنّهُمْ أقامُوا التوراةَ والإنجيَل ) (١٢) ، وقال موسى : ( ادْخُلُوا الأرضَ المُقَدَّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ولا تَرْتَدُّوا عَلَى أدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ) (١٣) ، وقال : ( فَلَمّا عَتَوْا عَنمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا

__________________

١ ـ سورة الأنعام : الاية ١٤٨.

٢ ـ سورة الأنعام : الاية ١٤٨.

٣ ـ سورة الزخرف : الاية ٧٦.

٤ ـ سورة النساء : الاية ٧٩.

٥ ـ سورة القصص : الاية ٣٨.

٦ ـ سورة طه : الاية ٤٤.

٧ ـ سورة طه : الاية ٢٤.

٨ ـ سورة النازعات : الاية ١٨.

٩ ـ سورة الأعراف : الاية ١٣٠.

١٠ ـ سورة يونس : الاية ٩٨.

١١ ـ سورة الأعراف : الاية ٩٦.

١٢ ـ سورة المائدة : الاية ٦٦.

١٣ ـ سورة المائدة : الاية ٢١.

٢٩٠

لَهُمْ كُونُوا قِرَدةً خاسِئِينَ ) (١) ، فهذا صنيعه بأهل طاعته ، وما قدّمناه صنيعه بأهل معاصيه عاجلاً ، فإذا هم اتّبعوا أهواءهم ، عاقبهم بما يستحقون.

وقال في الرسالة : ولا يصحّ الجبر إلاّ بمعونة اللّه ، ولذلك قال لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَلولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتّ تَرَُْْكَنُ إِلَيهِمْ شَيئاً قَليلاً ) (٢) ، وقال يوسف عليه‌السلام : ( وإلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ ) (٣) فقد بيّن وأمر ونهى ، وجعل للعبد السبيل على عبادته ، وأعانه بكلّ وجه ولو كان عمل العبد يقع قسراً لم يصحّ ذلك.

هذا نصّ الرسالة نقلناها برمتها عن « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » للقاضي عبد الجبار ص ٢١٦ ـ ٢٢٣.

قال المعلّق على كتاب القاضي : رسالة الحسن إلى عبد الملك بن مروان مطبوعة في مجلة « دار الإسلام » طبعها رويتر عدد ٢١ سنة ١٩٣٣ م ـ وأضاف ـ منها نسخة من مكتبة أيا صوفيا استنبول برقم ٣٩٩٨.

وهذه الرسالة تعترف بعلمه السابق ولكن تنكر كونه موجباً للجبر بمحكم آياته.

ومن لطيف كلامه في الرسالة قوله : « والعلم ليس بدافع إلى معاصيه ، لأنّ العلم غير العمل ».

كلام مؤلّف كتاب المعتزلة

إنّ عامة المسلمين في صدر الإسلام كانوا يؤمنون بالقدر خيره وشره من اللّه تعالى وأنّ الإنسان في هذه الدنيا مسيّر لا مخيّر وأنّ القلم قد جفّ على علم اللّه ، وقد قال أحد رجاز ذلك الزمان معبراً عن تلك العقيدة :

____________

١ ـ سورة الأعراف : الاية ١٦٦.

٢ ـ سورة الإسراء : الاية ٧٤.

٣ ـ سورة يوسف : الاية ٣٣.

٢٩١

يا أيّها المضمر همّاً لاتهم

إنّك إن تقدر لك الحمى تحم

ولو علوت شاهقاً من العلم

كيف توقيك وقد جف القلم (١)

يلاحظ عليه : أنّ نسبة كون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً إلى عامّة المسلمين خطأ جداً ، وإنّما هي عقيدة تسربت إلى المسلمين من بلاط الأمويين ، وهم أخذوه من الأحبار والرهبان ، وإلاّ فالطبقة المثلى من المسلمين كانوا يعتقدون بالاختيار في مقابل التسيير.

و هذه خطب علي (ع) وأبناء بيته الرفيع جاهرة بالاختيار ونفي كون التقدير سالباً للحرية ، وهذا هو الحسن البصري يسأل « الحسن بن علي » عن مكانة القدر في التشريع الإسلامي ، وهو (ع) يجيب بما عرفته. (٢)

كيف وإنّ التكليف والوعد والوعيد يقوم على أساس الحرية ولا يجتمع مع الجبر كما أنّ إرسال الرسل لا يتم إلاّ بالقول بأنّ الإنسان مخيّر في اتّباع الرسول ومخالفته مضافاً إلى أنّ تعذيب الإنسان المسيّر ظلم قبيح منفيّ عنه سبحانه عقلاً ونقلاً. وهذه الوجوه كافية في إثبات أنّ الرأي العام للمسلمين ـ لولا الضغط من البلاط الأموي ـ هو الاختيار. وما تقدم من رسالة عادل بني أُمية! لأصدق شاهد على أنّ مذهب الجبر أذيع من قبل الحكام الأمويين.

__________________

١ ـ كتاب المعتزلة : ص ٩١ نقلاً عن تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : ص ٢٥.

٢ ـ لاحظ ص : ٢٦٨.

٢٩٢

(٤)

هل الإيمان بخلافة الخلفاء من صميم الدين؟

إذا كان الخلاف في الإمامة أعظم خلاف بين الأُمّة حسب نظر الشهرستاني إذ قال : « ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان ».

فيجب على دعاة الوحدة الذين يبذلون سعيهم لتوحيد الصفوف معالجة هذه المسألة من وجهة علمية وفي جو هادئ. فإن حل هذه المسألة ونظائرها يوجب تقارب الخطى ، بل يوحّد الصفوف. فإنّ الوحدة بشكلها السلبي الذي يدعو إلى تناسي الماضي ، والتغافل عنه من أساسه ، وإسدال الستار على كلّ ما فيه من مفارقات ، على ما يتبنّاه بعض دعاتها ، لا تؤثر ولا تحقّق أُمنيّتهم ، وإنّما تحقّق تلك الأمنية لو أثبتت بصورة علمية أنّ جملة كبيرة من صور الخلاف لا تستند على أساس ، وإنّما هي وليدة دعايات خلقتها بعض الظروف وغذّاها قسم من السلطات في عهود خاصة ، ولأجل ذلك نطرح هذه المسألة على طاولة البحث حتى تتقارب الأفكار المتباعدة فإنّ الصراع العلمي والجدال بالحقّ ، مهما كان بصورة علمية ، يكون من أفضل عوامل التقريب ورفع التباعد ، فنقول :

من راجع الكتب الكلامية لأصحاب الحديث ، وبعدهم الأشاعرة وجد أنّهم يعدّون الإيمان بخلافة الخلفاء الأربع وحتى تفاضلهم حسب زمن إمامتهم من صميم الإيمان ، ولابدّ أن نأتي ببعض النصوص للقدامى منهم :

٢٩٣

١ ـ قال إمام الحنابلة ( المتوفّى عام ٢٤١ ) في كتاب السنّة : خير هذه الأُمّة بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر ، عمر; وخيرهم بعد عمر ، عثمان; وخيرهم بعد عثمان ، علي ، رضوان اللّه عليهم خلفاء راشدون مهديّون. (١)

٢ ـ وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي في العقيدة الطحاوية المسمّاة ب ـ « بيان السنة والجماعة » : ونثبت الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر الصديق تفضيلاً وتقديماً على جميع الأُمّة ثمّ لعمر بن الخطاب (رض) ثمّ لعثمان بن عفان (رض) ثمّ لعلي بن أبي طالب ( رض ). (٢)

٣ ـ وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ( المتوفّى عام ٣٢٤ ) عند بيان عقيدة أهل الحديث وأهل السنّة : ويقرّون بأنّهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلّهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

وقال أيضاً بعد ما استعرض خلافة الأئمّة الأربعة قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة ، ثمّ ملك بعد ذلك ». (٤)

٤ ـ وقال عبد القاهر البغدادي في بيان الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة : وقالوا بإمامة أبي بكر الصديق بعد النبي خلاف من أثبتها لعلي وحده من

__________________

١ ـ كتاب « السنّة » المطبوع ضمن رسائل بإشراف حامد محمد الفقي ، وهذا الكتاب ألّفه لبيان مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة ووصف من خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها ، أو عاب قائلها بأنّه مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة ، زائل عن منهج السنّة وسبيل الحقّ.

٢ ـ « شرح العقيدة الطحاوية » للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي : ٤٧١ ـ ٤٧٨.و قد توفّي الطحاوي عام ٣٢١.

٣ ـ مقالات الإسلاميين : ٣٢٣.

٤ ـ « الإبانة عن أُصول الديانة » الباب السادس عشر : ص ١٩٠ وما ذكره من الحديث رواه أحمد في مسنده : ج ٥ص٢٢٠ ولاحظ العقائد النسفية : ١٧٧ ، ولمع الأدلة للإمام الأشعري : ص ١١٤.

٢٩٤

الرافضة ، وخلاف قول الراوندية الذين أثبتوا إمامة العباس وحده. (١)

أقول : هذه هي عقيدة هؤلاء الأعلام وغيرهم ممّن كتب في موضوع الإمامة عن أهل السنّة ، ولرفع الستار عن وجه الحقيقة ، نبحث في نواح خاصة لها صلة وثيقة بالموضوع وهذه النواحي عبارة عن :

١ ـ هل الإمامة والخلافة من أُصول الدين أو من فروعه؟

٢ ـ هل هناك نصّ في القرآن أو السنّة في مسألة الإمامة أو لا؟

٣ ـ مبدأ ظهور هذه العقيدة؟

٤ ـ هل هناك نصّ على أفضلية بعضهم على بعض وفق تسلسل زمانهم؟

فإذا تبيّن الحال في هذه المواضع يتبيّن الحال في المسألة التي بيّناها آنفاً.

أ. هل الإمامة من الأُصول أو من الفروع؟

الشيعة الإمامية على بكرة أبيهم اتّفقوا على كون الإمامة أصلاً من أُصول الدين ، وقد برهنوا على ذلك في كتبهم ، ولأجل ذلك يعد الاعتقاد بإمامة الأئمّة من لوازم الإيمان الصحيح عندهم ، وأمّا أهل السنّة فقد صرّحوا في كتبهم الكلامية أنّها ليست من الأُصول ، وإليك بعض نصوصهم :

١ ـ قال الغزالي ( المتوفّى عام ٥٠٥) : اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات ، وليس أيضاً من فن المعقولات بل من الفقهيات ، ثمّ إنّها مثار للتعصّبات ، والمعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض فيها ، وإن أصاب فكيف إذا أخطأ؟! ولكن إذ جرى الرسم باختتام المعتقدات بها ، أردنا أن نسلك المنهج المعتاد ، فإنّ فطام القلوب عن المنهج المخالف للمألوف ، شديد النفار. ولكنّا نوجز القول فيه. (٢)

____________

١ ـ الفرق بين الفرق : ص ٣٥٠.

٢ ـ الاقتصاد في الاعتقاد : ص ٢٣٤ ، وفي العبارة صعوبة والظاهر زيادة كلمة « المخالف » وصحيحها « المنهج المألوف ».

٢٩٥

٢ ـ قال الآمدي ( ٥٥١ ـ ٦٣١ ) : واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ولا من الأُمور اللابديات بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها ، والجهل بها بل لعمري ، إنّ المعرض عنها لأرجى حالاً من الواغل فيها ، فإنّها قلّما تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء ، والرجم بالغيب في حقّ الأئمّة والسلف بالإزراء ، وهذا مع كون الخائض فيها سالكاً سبيل التحقيق ، فكيف إذا كان خارجاً عن سواء الطريق. لكن لما جرت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلّمين والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنّفات الأُصوليّين لم نر من الصواب خرق العادة بترك ذكرها في هذا الكتاب. (١)

٣ ـ قال في شرح المواقف : المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها وليست من أُصول الديانات والعقائد خلافاً للشيعة بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين إذ نصب الإمامة عندنا واجب على الأُمّة سمعاً ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا ، إذ قد جرت العادة من المتكلّمين بذكرها في أواخر كتبهم. (٢)

٤ ـ قال الرازي : اتّفقت الأُمّة ، إلاّ شذاذاً منهم ، على وجوب الإمامة والقائلون بوجوبها ، منهم من أوجبها عقلاً ، ومنهم من أوجبها سمعاً ، أمّا الموجبون عقلاً ، فمنهم من أوجبها على اللّه تعالى ، ومنهم من أوجبها على الخلق. (٣)

وعلى كلّ تقدير فقد اعتبر أهل السنّة هذا الوجوب حكماً شرعياً فرعياً كسائر الأحكام الفرعية الواردة في الكتاب والسنّة والكتب الفقهية ، وإذا تبيّن هذا المطلب فلنبحث عن الموضوع الثاني.

ب. هل هناك نصّ على الإمامة أم لا؟

اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ المذاهب الحقّ في باب الإمامة هو القول

__________________

١ ـ غاية المرام في علم الكلام : ص ٣٦٣ لسيف الدين الآمدي (ت ٥٥١ ـ م ٦٣١).

٢ ـ شرح المواقف : ج ٨ ص٣٤٤ للسيد الشريف (المتوفى عام ٨١٦).

٣ ـ المحصل للرازي : ص ٤٠٦ ، ط ايران.

٢٩٦

بالتنصيص وأنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ في أيام حياته على الخليفة من بعده ، وذلك في موارد ضبطها التاريخ أشهرها قوله عليه‌السلام في يوم الغدير ، أي الثامن عشر من ذي الحجة الحرام في عام حجّة الوداع في منصرفه من مكة عند بلوغه غدير خم رافعاً يد علي عليه‌السلام في محتشد كبير ، وهو يقول : « ألست أولى بكم من أنفسكم »؟ قال الناس : نعم ، فقال : « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ». وقد قامت ثلّة كبيرة من علماء الفريقين بضبط طرق هذا الحديث وأسناده ، فأّلفوا في ذلك مختصرات ومفصّلات ، أجمعها وأعمّها كتاب الغدير لآية اللّه الحجّة الأميني ـ رضوان الله عليه ـ.

هذا ما عند الشيعة ، وأمّا عند السنّة ، فالرأي السائد هو عدم التنصيص على أحد والزعم بأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات ولم يستخلف. فهذا هو إمام الحرمين يقول : وما نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامة أحد بعده وتوليته ، إذ لو نص على ذلك لظهر وانتشر كما اشتهرت تولية رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وسائر ولاته ، وكما اشتهر كلّ أمر خطير. (١)

وقال الأشعري : وممّا يبطل قول من قال بالنصّ على أبي بكر :

أنّ أبا بكر قال لعمر : « ابسط يدك أُبايعك » يوم السقيفة ، فلو كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على إمامته لم يجز أن يقول أبسط يدك أُبايعك ». (٢)

وقد عقد ابن كثير الحنبلي في كتابه « البداية والنهاية » باباً مستقلاً في أنّ رسول اللّه لم يستخلف وتبعه السيوطي في « تاريخ الخلفاء ». (٣)

والمسألة ـ أي عدم وجود النصّ على المتقمّصين بالخلافة بعد النبي ـ من

__________________

١ ـ لمع الأدلة : ص ١١٤.

٢ ـ اللمع : ص ١٣٦.

٣ ـ لاحظ البداية : ج ٥ص ٢٥٠; تاريخ الخلفاء : ص ٧ ، ط مصر.

٢٩٧

الوضوح بمكان بحيث لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها ، كيف وهذه قصة السقيفة لم نر أحداً فيها من الذين رشّحوا أنفسهم للخلافة ، كسعد بن عبادة من الأنصار ، وأبي بكر من المهاجرين ، استدلّ على صحّة خلافته بنصّ النبي عليه.

فهذا هو سعد بن عبادة يقول بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه : يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ، إنّ محمّداً لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان ، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل ... إلى أن قال : حتّى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ، وخصّكم بالنعمة ، فرزقكم اللّه الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ... إلى أن قال : وتوفّاه اللّه وهو عنكم راض وبكم قرير عين ، استبدّوا بهذا الأمر دون الناس.

هذا منطق مرشّح الأنصار لا ترى فيه تلميحاً إلى وجود النصّ عليه وليس يقصر عنه منطق أبي بكر في هذا الموقف حين قال : فهم ـ أي المهاجرين ـ أوّل من عبد اللّه في الأرض ، وإمن باللّه وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم في ذلك إلاّ ظالم ... إلى أن قال : من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّمدل بباطل أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة. (١)

فهذان المنطقان من سعد بن عبادة وأبي بكر يعربان عن عدم وجود النصّ على واحد منهما ، وأمّاالخليفتان الآخران فحدث عنهما ولا حرج ، فقد رقى عمر بن الخطاب منصّة الخلافة بأمر من أبي بكر عندما دعا عثمان بن عفان في حال مرضه فقال له : اكتب : « بسم الله الرّحمن الرحيم ... هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين : أمّا بعد ، ثمّ أُغمي عليه ، فكتب عثمان : قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم يكن خيراً منه ، ثمّ أفاق وقال : اقرأ عليَّ ، فقرأ عليه

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ حوادث السنّة ١١ ص ٤٥٦.

٢٩٨

فكبّر أبو بكر ... إلى أن قال لعثمان : جزاك اللّه خيراً عن الإسلام وأهله ، وأمّره أبو بكر من هذا الموضع. (١)

وأمّا عثمان فقد انتخب عن طريق الشورى التي عيّن أعضاءها عمر بن الخطاب عندما طعنه أبو لؤلؤة ـ غلام المغيرة بن شعبة ـ وكان أعضاء الشورى ستة أشخاص وهم : علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبد اللّه ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام. (٢)

وقد ذكر التاريخ كيفية استلام عثمان للخلافة ، فهذا هو التاريخ المسلّم به ، يعرب بوضوح عن عدم وجود نصّ على واحد من الخلفاء الثلاث جميعاً ، وإلاّ لم يحتج إلى تعيين أوّل الخلفاء لثانيهم وإلى تعيين الشورى وانتخاب الخليفة عن طريقها.

وقد قام المحدّثون القدامى منهم والمتأخّرون ، بجمع ما ورد من الأحاديث حول الخلافة والإمارة ، منهم الإمام أبو السعادات الجزري في كتابه « جامع الأُصول من أحاديث الرسول » فقد جمعها في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، ومنهم العلاّمة علاء الدين علي المتقي الهندي ( المتوفّى ٩٧٥ ) فقد جمعها في كتابه « كنز العمال » الجزء الخامس ، ولا يوجد فيه نصّ صريح على واحد من الخلفاء الثلاث.

نعم في المقام روايات تشير إلى أنّ الخلافة من حقّ قريش ، وهي أحاديث مشهورة موجودة في الكتاب الآنف ذكره.

إذا وقفت على هذين الأمرين ، تقف على أنّ ما ادّعيناه من عدم كون الاعتقاد بخلافة الخلفاء من صميم الدين نتيجة ذينك الأمرين ، وذلك لأنّه إذا كان أصل الإمامة والخلافة من الفروع لا من الأُصول ، من جانب ، وثبت حسب نصوص القوم أنّ النبي لم ينص على خلافة واحد منهم من جانب آخر ، غاية ما في الباب أنّ الأُمّة في صدر الإسلام قاموا بواجبهم الشرعي أو العقلي حيث كان

__________________

١ ـ الإمامة والسياسة : ص ١٨ وص ٢٥ ، ط مصر; الشرح الحديدي : ج١ص ١٦٥.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٣ص ٢٩٣.

٢٩٩

نصب الإمام واجباً بأحد الوجهين ، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال : إنّ خلافة هؤلاء كانت أمراً صحيحاً غير مخالف للأُصول والقواعد ، ولكن يجب أن يعلم أنّه ليس كلّ قضية صحيحة جزءاً من الدين; وعلى فرض كونها من الدين ، فليس كلّ ما هو من الدين يجب أن يعد من العقائد; وعلى فرض كونها من العقائد ، فليس كلّ ما هو يعد من العقائد مائزاً بين الإيمان والكفر أو بين السنّة والبدعة. وهذه مراحل ثلاث يجب أن يركز عليها النظر فنقول :

إنّ غاية جهد الباحث حسب أُصول أهل السنّة هي إثبات كون خلافتهم أمراً صحيحاً ، لأنّ نصب الإمام واجب على الأُمّة عقلاً أو شرعاً ، فلأجل ذلك قاموا بواجبهم فنصبوا هذا وذاك للإمامة ، ونتيجة ذلك أنّ عملهم كان أمراً مشروعاً ولكن ليس كلّ أمر مشروع يعد جزءاً من الدين.

فلو قام القاضي بفصل الخصومة بين المترافعين في ضوء الكتاب والسنّة فحكم بأنّ هذا المال لزيد دون عمرو وكان قضاؤه صحيحاً لا يعد خصوص هذا القضاء ( لا أصل القضاء بالصورة الكلية ) من الدين ، إذ ليس كلّ أمر صحيح جزءاً من الدين ، ولا يصحّ أن يقال إنّه يجب أن نعتقد أنّ هذا المال لزيد دون عمرو ، ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا إنّه من الدين ، ولكن ليس كلّ ما هو من الدين يعد من العقائد فكون الماء طاهراً ومطهّراً حكم شرعي ، ولكن ليس من العقائد ، فأيّ فرق بينه وبين خلافة الخلفاء مع اشتراك الجميع في كونه حكماً فرعياً لا أصلاً من الأُصول.

ولو تنزّلنا مرّة ثانية وقلنا إنّه من العقائد ، ولكن ليس كلّ ما يجب الاعتقاد به مائزاً بين الإيمان والكفر ، أو بين السنّة والبدعة ، إذ للمسائل العقائدية درجات ومراتب ، فالشهادة بتوحيده سبحانه ونبوة نبيّه وإحياء الناس يوم الدين ، تعد مائزاً بين الكفر والإيمان ، وليس كذلك الاعتقاد بعذاب القبر ، أو سؤال منكر ونكير ، أو كون مرتكب الكبيرة مؤمناً. وعلى هذا الأساس يجب على إخواننا أهل السنّة تجديد النظر في هذا الأصل الذي ذهبوا إليه ، وهو جعلهم الاعتقاد بخلافة الخلفاء المشار إليهم ، آية السنّة ، ومخالفته آية البدعة.

٣٠٠