بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: لجنة ادارة الحوزة العلمية بقم المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

في أن لله نفساً

١ ـ قال عبد الله بن أحمد ، حدثني أبو معمر ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ذر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن بزي ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب قال : « لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن » (١) .

في ان لله رجلاً

١ ـ قال عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثني حرمى بن عمارة ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : « يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه أو رجله عليها فتقول قط قط » (٢) .

وبهذا فسروا آية ( رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) (٣) .

وأخرج ابن خزيمة نحوه ، عن أبي هريرة (٤) .

٢ ـ وروى ابن خزيمة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : « وأما النار فلا تمتلیء حتى يضع الله رجله فيها فتقول قط قط ، فهنالك تمتلیء ـ الحديث » .

وهو حديث اختصام الجنة والنار وأشار إلى أنه مستفيض (٥) والأخبار في وضع الله رجله في النار كثيرة جداً .

٣ ـ روى عبد الله بن أحمد في حديث طويل تقدمت الإشارة إليه في مسألة الضحك ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : « فيتمثل الرب

____________________

(١) السنة : ص ١٩٠ .

(٢) السنة : ص ١٨٤ .

(٣) سورة ص : الآية ١٦ .

(٤) التوحيد : ص ٩٢ .

(٥) التوحيد : ص ٩٣ ـ ٩٥ .

١٤١

فيأتيهم ، فيقول لهم ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس ؟ فيقولون : إن لنا إلهاً ( ما رأيناه ) فيقول : وهل تعرفونه إن رأيتموه ؟ فيقولون : بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناه ، فيقول : ما هي ؟ فيقولون : يكشف عن ساقه ، قال : فعند ذاك يكشف الله عن ساقه . قال : فيخر كل من كان نظره ، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يدعون إلى السجود فلا يستطيعون وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون » (١) .

وأما موضع الرجلين فقد استفاضت الأخبار في أنه على الكرسي .

٤ ـ فمن ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد ، بإسناده عن عمر قال : « إذا جلس على الكرسي سمع له أطيط (٢) كأطيط الرحل الجديد » (٣) .

٥ ـ وبإسناده إلى ابن عباس قال : « الكرسي موضع قدميه والعرش لا يقدر أحد قدره » (٤) .

٦ ـ وقال : « كتب إلي عباس بن عبد العظيم ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : جاءت امرأة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ، قال : فعظم الرب وقال وسع كرسيه السماوات والأرض . إنه ليقعد عليه فما يفضل منه إلا قيد أربع أصابع وإن له أطيطاً كأطيط الرحل إذ ركب » (٥) .

ورواه ابن خزيمة بزيادة « من ثقله » في آخره (٦) . وقال المعلق في ذلك الحديث : « مسألة أطيط العرش به سبحانه كأطيط الرحل وردت في عدة أحاديث ، فمن العلماء من ينكر ذلك ويقول إن الأطيط صفة للعرش لا مدخل له في الصفات ، كالحافظ الذهبي والحق الذي يجب اتباعه في ذلك أن نؤمن بما

____________________

(١) السنة : ص ٢٠٦ .

(٢) أي ليصوت بالله كصوت الرحل ـ وهو كور الناقة ـ بالراكب الثقيل .

(٣ و ٤) السنة : ص ٧٩ .

(٥) السنة : ص ٨٠ .

(٦) التوحيد : ص ١٠٦ .

١٤٢

ورد به النص من غير تشبيه ولا تكييف ، وأن نعتقد أن ربنا ليس محمولاً على العرش ولا محتاجاً إليه بل العرش وما تحته كله محمول بقدرته » (١) .

وذكر في الكتابين أن العرش حملته أربعة ملائكة أحدهم على صورة إنسان والثاني على صورة ثور ، والثالث على صورة نسر ، والرابع على صورة أسد (٢) وعلق عليه في الحاشية بأن هذا لم يرد في حديث صحيح ولعل الراوي أخذه من كعب الأحبار أو غيره من مسلمة أهل الكتاب (٣) .

ومع ذلك ورد في الكتابين وأخرجه ابن حنبل في مسنده (٤) بالإسناد إلى عكرمة مولى ابن عباس : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنشد قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :

رجل وثور تحت رجل يمينه

والنسر للأخرى وليث مرصد (٥)

ورواه في كتاب السنة (٦) بزيادة : « فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : صدق صدق » .

في أن لله وجهاً

١ ـ روى عبد الله بن أحمد : حدثني أبي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن عجلان ، حدثني سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله

____________________

(١) التوحيد : ص ١٠٦ لاحظ التناقض في كلامه ولاحظ أن الأخبار تارة فصلت بين العرش والكرسي فجعلته جالساً على العرش واضعاً قدميه على الكرسي وأخرى جعلت جلوسه على الكرسي .

(٢) السنة : ص ١٦١ والتوحيد : ص ٩٢ .

(٣) التوحيد : ص ٩٢ .

(٤) مسند أحمد : ج ١ ص ٢٥٦ .

(٥) التوحيد : ص ٩٠ مع أبيات أخر . قالوا : إنّ أمية تنصر في الجاهلية هو وورقة بن نوفل وكان ينشد الأشعار في تمجيد الله ونسبوا إلى الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أنه قال في حقه : آمن شعره وكفر قلبه .

(٦) السنة : ص ١٨٧ .

١٤٣

عليه وسلم ) : إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ، فإن الله خلق آدم على صورته (١) .

٢ ـ وقال حدثني أبو معمر ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : « لا تقبحوا الوجه فإنّ الله خلق آدم على صورة الرحمن » (٢) .

٣ ـ نقل ابن خزيمة أخباراً كثيرة في ذلك (٣) ثم قال : هذا باب طويل لو استخرج في هذا الكتاب أخبار النبي ( صلی الله عليه وآله ) التي فيها ذكر وجه ربنا ـ عز وجل ـ لطال الكتاب وقد خرجنا كل صنف من هذه الأخبار في مواضعها في كتب مصنفة (٤) ثم استطرد في كلام طويل محاولاً من جهة إثبات ما تقدم لله تعالى ومن جهة أخرى نفي التشبيه (٥) .

في أن الله يرى

لقد تضافرت الأخبار في الكتابين على أن الله يرى يوم القيامة كالبدر المنير . وأنه تعالى لا يرى في الدنيا ، غير أن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) رآه عندما عرج به إلى السماء (٦) ونحن نكتفي بهذين الخبرين .

١ ـ روى ابن خزيمة ، عن معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي قلابة ، عن خالد بن اللجلاج ، عن عبد الله بن عباس : أن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « رأيت ربي في أحسن صورة ، فقال : يا محمد ! قلت : لبيك وسعديك ، قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : يا

____________________

(١) السنة ص ١٦٩ ورواه أيضاً بسند آخر في ص ٦٤ .

(٢) السنة : ص ٦٤ .

(٣) التوحيد : ص ١٠ ـ ١٨ .

(٤) التوحيد : ص ١٨ .

(٥) التوحيد : ص ٢١ ـ ٢٤ .

(٦) راجع التوحيد : ص ١٦٧ ـ ٢٣٠ .

١٤٤

رب لا أدري . قال : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما بين المشرق والمغرب ـ الحديث » (١) . وقد رواه بأسانيد وطرق مختلفة .

٢ ـ وقال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال ؛ حدثني محمد بن اسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحرث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، أن عبد الله بن عمر بن الخطاب بعث إلى عبد الله بن عباس يسأله : « هل رأى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ربه ؟ فأرسل إليه عبد الله بن عباس أن نعم . فرد عليه عبد الله بن عمر رسوله أن كيف رآه ؟ قال : فأرسل أنه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة ملك في صورة رجل وملك في صورة ثور وملك في صورة نسر وملك في صورة أسد » (٢) .

ونختم المقال بما ذكره ابن خزيمة قال : « إنا لا نصف معبودنا إلا بما وصف به نفسه ، إما في كتاب الله أو على لسان نبيه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) بنقل العدل موصولاً إليه ، لا نحتج بالمراسيل ولا بالأخبار الواهية ولا نحتج أيضاً في صفات معبودنا بالآراء والمقاييس » (٣) .

في الجبر والقدر

روى عبد الله بن أحمد ، عن أبيه أحمد بن حنبل ، في كتاب السنة الروايات التالية :

١ ـ روى عبد الله بن أحمد قال : حدثني أبي ، حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا خالد بن صبيح المري ، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله أنه سمع أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء ، أنه قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : « فرغ الله إلى كل عبد من خمس : من أجله ورزقه وأثره ،

____________________

(١) التوحيد : ص ٢١٧ .

(٢) التوحيد : ص ١٩٨ .

(٣) التوحيد : ص ٥٩ .

١٤٥

وشقي أم سعيد » (١) .

٢ ـ حدثني أبي ، حدثنا هشيم ، حدثنا علي بن زيد ، سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يحدث قال : قال عبد الله : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : « إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً على حالها لا تغير ، فإذا مضت الأربعون صار علقة ومضغة كذلك ، ثم عظاماً كذلك ، فإذا أراد الله أن يسوي خلقه بعث إليها ملكاً فيقول الملك الذي يليه : أي رب أذكر أم أنثى ؟ ، أشقي أم سعيد ؟ قصير أم طويل ؟ أناقص أم زائد ؟ ، قوته وأجله ، أصحيح أم سقيم ؟ ، قال : فيكتب ذلك كله . فقال رجل من القوم : فيم العمل إذاً وقد فرغ من هذا كله ؟ فقال : اعملوا فكل سيؤخذ لما خلق له » (٢) .

٣ ـ حدثني أبي ، حدثنا بهز بن أسد ، حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود ، عن أبي نضرة ، عن أسير بن جابر ، قال : « طلبت علياً في منزله فلم أجده ، فنظرت فإذا هو في ناحية المسجد . قال : فقلت له : كأنه خوفه قال : فقال : إيه ليس أحد إلّا ومعه ملك يدفع عنه ما لم ينزل القدر فإذا نزل القدر لم يغن شيئاً » (٣) .

٤ ـ حدثني أبي ، حدثنا معاذ بن معاذ ، حدثنا ابن عون ، قال : « حدث رجل محمداً عن رجلين اختصما في القدر فقال أحدهما لصاحبه : أرأيت الزنى بقدر هو ؟ قال الآخر : نعم ، قال محمد : آي وافق رجل حياً » (٤) .

٥ ـ حدثني أبي ، قال عبد الله بن الحارث المخزومي ، حدثنا شبل بن عباد ـ مولى لعبد الله بن عامر ـ ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد قول الله : ( إِنِّي

____________________

(١) السنة : ص ١٢٥ .

(٢) السنة : ص ١٢٦ .

(٣) السنة : ص ١٣٢ .

(٤) السنة : ص ١٣٤ ـ ١٣٥ .

١٤٦

أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (١) قال : « علم من إبليس المعصية وخلقه لها » (٢) .

٦ ـ حدثني أبي ، حدثنا عصام بن خالد الحضرمي ، حدثنا العطاف بن خلد ، عن شيخ من أهل البصرة ، حدثني طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، حدثني أبي ، عن جدي أنه قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : « يا رسول الله : العمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف ؟ قال : بل على أمر قد فرغ منه . قال : قلت : يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال : إن كلاً ميسر لما خلق له » (٣) .

٧ ـ حدثني أبي ، حدثنا وكيع ، حدثنا ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (٤) قال : « إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت » (٥) .

٨ ـ حدثني أبي ، حدثنا إسحاق بن عيسى ، أخبرني مالك ، عن زياد بن سعد ، عن عمرو بن مسلم ، عن طاووس اليماني ، قال : « أدركت ناساً من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقولون كل شيء بقدر ، قال : وسمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس » (٦) .

٩ ـ حدثني أبي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن سعيد بن حيان ، عن يحيى بن يعمر ، قال : « قلت لابن عمر : إن ناساً عندنا يقولون : الخير والشر بقدر ، وناس عندنا يقولون : الخير بقدر والشر ليس بقدر . فقال ابن عمر : إذا رجعت إليهم فقل لهم : إن ابن عمر يقول إنه منكم بريء وأنتم منه براء » (٧) .

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ٣٠ .

(٢ و ٣) السنة : ١٣٤ ـ ١٣٥ .

(٤) سورة الرعد : الآية ٣٩ .

(٥) السنة : ١٣٤ ـ ١٣٥ .

(٦) السنة : ١٣٩ .

(٧) السنة : ص ١٤١ .

١٤٧

١٠ ـ حدثني أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن محمد ، قال : « كنت عند سالم بن عبد الله فجاءه رجل فقال : الزنى بقدر ؟ فقال : نعم . قال : كتبه علي ؟ قال : نعم ، قال : كتبه علي ؟ قال : نعم ويعذبني عليه ؟ قال : فأخذ له الحصا » (١) .

١١ ـ حدثني أبي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة : « أما بعد ، فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان كان من الخطايا التي قدر الله عليك ، وقدر أن تبتلى بها » (٢) .

١٢ ـ حدثني أبي ، حدثنا وكيع ، حدثنا العلاء بن عبد الكريم سمعت مجاهداً يقول : ( لَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ) قال : أعمال لا بد لهم من أن يعملوها » (٣) .

١٣ ـ حدثني أبي ، حدثنا وكيع ، وابن بشر قالا : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : ( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) (٤) وأنا قدرتها عليك (٥) .

١٤ ـ حدثني أبي ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا حميد ، قال قدم الحسن مكة ، فقال لي فقهاء مكة : الحسن بن مسلم وعبد الله بن عبيد لو كلمت الحسن فأخلأنا يوماً ، فكلمت الحسن فقلت : يا أبا سعيد إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوماً ، قال : نعم ونعمة عين ، فواعدهم يوماً فجاؤوا فاجتمعوا وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم ، فسألوه عن صحيفة طويلة فلم يخطیء فيها شيئاً إلا في مسألة . فقال له رجل : يا أبا سعيد من خلق الشيطان ؟ قال : سبحان الله ، سبحان الله ، وهل من خالق غير الله ! ثم قال : إن الله خلق الشيطان وخلق الشر وخلق الخير ، فقال

____________________

(١) السنة : ١٤٣ .

(٢ و ٣) السنة : ص ١٤٣ ـ ١٤٤ .

(٤) سورة النساء : الآية ٧٩ .

(٥) السنة : ١٤٤ .

١٤٨

رجل منهم : قاتلهم الله يكذبون على الشيخ (١) .

١٥ ـ حدثني أبي ، حدثنا إسماعيل ـ يعني ابن علية ـ ، حدثنا خالد الحذاء قال : قلت للحسن : أرأيت آدم ، أللجنة خلق أم للأرض ؟ قال : للأرض . قال : قلت : أرأيت لو اعتصم ؟ قال : لم يكن بد من أن يأتي على الخطيئة (٢) .

التدرع باللاكيفية

إن دلالة الأحاديث المتقدمة على التشبيه والتجسيم مما لا كلام فيه غير أن جماعة منهم ـ لأجل الفرار عنهما ـ يتدرعون بلفظة « بلا كيف ولا تشبيه » أو غيرهما من العبارات المشابهة . فيقولون تارة : « إن لله يداً ورجلاً ووجهاً وقدماً بلا كيف ولا تشبيه ، وأخرى : إن لله يداً لا كالأيدي ، ووجهاً لا كالوجوه ، وقدماً لا كالأقدام ، وثالثة : إن له يداً تناسب ذاته وهكذا سائر الأعضاء » .

يقول الإمام الخطابي : « وليست اليد عندنا الجارحة وإنما هي صفة جاء بها التوقيف ، فنحن نطلقها على ما جاء ولا نكيفها وهذا مذهب أهل السنة والجماعة » (٣) .

ويقول ابن عبد البر : « أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئاً فيها » (٤) .

إلى غير ذلك من الكلمات التي اتخذتها الأشاعرة وقبلهم بعض الحنابلة درعاً يتقون به عار التشبيه والتمثيل . وسيوافيك عند البحث عن عقائد الأشاعرة أن هذه الألفاظ لا تفيد شيئاً ، وإليك إجمال ذلك :

____________________

(١) السنة : ص ١٤٤ .

(٢) السنة : ص ١٤٥ .

(٣) فتح الباري : ج ١٣ ص ٤١٧ .

(٤) فتح الباري : ج ١٣ ص ٤٠٧ .

١٤٩

أولا : إذا كان المصدر للاعتقاد بأن لله سبحانه أعضاء هي هذه الأحاديث ـ أو بعض الآيات على ما زعموا ـ فليس فيها شيء يدل على هذه الكلمة : « بلا كيف » ، بل هي إضافة منهم بلا دليل . فليس لأهل الحديث الذين يفرون من التأويل ، وحتى يسمون الحمل على المجاز والكناية تأويلاً ، إلا الأخذ بحرفية هذه الأحاديث بتمامها ، لا التصرف فيها .

وثانياً : إن اليد وأضرابها ، موضوعة حسب اللغة للأعضاء المحسوسة التي يعرفها كل من عرف اللغة ، فإجراء هذه الصفات عليه سبحانه يمكن بإحدى صورتين :

١ ـ أن يجري عليه بما هو المتبادر عند أهل اللغة بلا تصرف فيه . وهذا ما عليه المشبهة والمجسمة .

٢ ـ أن يجري عليه بما أنها كناية عن معان كالبخل في قول اليهود ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (١) والإحسان والجود في قوله سبحانه : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (٢) وهذا ما عليه أهل التنزيه ، وليس ذلك تأويلاً للقرآن أبداً ولا اتباعاً لخلاف الظاهر ، إذ لهذه الألفاظ عند الأفراد ظهور تصوري ويراد منها الأعضاء ، وعند التركيب مع سائرها والوقوع في طي الجمل ظهور آخر ، فربما يتحد الظهوران ، مثل قولك لولدك : اغسل يدك قبل الغذاء . وربما يختلفان كما في الجملتين المتقدمتين ، وليس هنا وجه ثالث حتى يتدرّع به أهل الحديث والحنابلة ، دعاة التنزيه لفظاً لا معنى . وما يتفوه به هؤلاء من أن لله يداً لا كالأيدي فإن رجع إلى أحد هذين المعنيين فنعم الوفاق إما مع أهل التشبيه أو مع أهل التنزيه وإلا فيكون أشبه بلقلقة اللسان .

وباختصار : إن القائل بأن له يداً لا يخلو في إجراء اللفظ عليه سبحانه أن يريد أحد وجهين : إما أن يريد المعنى الحقيقي وهو العضو المحسوس فيكون مجسماً ومشبها ، أو يريد المعنى المجازي وهو البخل أو الجود فيكون مؤولاً ، وهو

____________________

(١) و (٢) سورة المائدة : الآية ٦٤ .

١٥٠

يتحرز عن كلتا الطائفتين ، فليس هنا وجه ثالث يلتجیء إليه أهل الحديث والحنابلة والأشاعرة .

فظهر أن قولهم بأن لله يداً كالأيدي ، لا مفاد صحيح له .

وبعبارة ثالثة : إن لفظة اليد إما مشترك معنوي يطلق على جميع مصاديقه وأفراده من الواجب والممكن بوضع ومعنى واحد . أو مشترك لفظي يجري على كل من الواجب والممكن بمعنى ووضع خاص .

فعلى الأول يجب أن يكون بين يد الإنسان ويد الواجب وجه مشترك وهو عين القول بالتشبيه .

وعلى الثاني يجب أن يكون المعنى الذي يجري على الإنسان مبائناً لما يجري على الله سبحانه فهل هو البخل والجود ؟ فهذا هو التأويل بزعمكم ، أو غيرهما فبينوه لنا ما هو ؟ .

الصحاح والمسانيد ومسألة التشبيه والتجسيم

ربما يتصور القاریء أن أمثال كتاب « السنة » لابن حنبل وكتاب « التوحيد » لابن خزيمة ، تشتمل على أحاديث التشبيه والتجسيم ، وأما الصحاح فهي خالية عن هذه الأساطير . ولكنه إذا سبرها سرعان ما يرجع عن هذه الفكرة ويرى أن الصحاح كلها وعلى رأسها الصحيحان قد زخرت بها ، حتى مع غض النظر عن رؤية الله بهذه العيون المادية على ما رووا عن رسول الله من أنه قال : « إنكم ترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر » فالصحاح أيضاً تزخر بأحاديث التشبيه والتجسيم والجبر وما أشبه ذلك التي ورثها الرواة المسلمون من اليهود المجسمة والمجبرة . . . وإليك نماذج من ذلك :

١ ـ إن لله مكاناً

قد احتل تحيز الله سبحانه بمكان معين في الصحاح مكانة عظيمة فتارة ترى أن مكانه حيال المصلي وأمام وجهه . وأخرى بأنه فوق العرش وهو يئط

١٥١

تحته أطيط الرحل بالراكب . وثالثة بين السحب الكثيفة وإليك بعض ما روی في ذلك المجال :

١ ـ روى عبد الله بن عمر أن رسول الله رأى بصاقاً في جدار القبلة فحكه بيده ثم أقبل على الناس فقال : « إذا كان أحدكم يصلي لا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى » (١) .

٢ ـ روى جبير بن محمد عن جده قال : « أتى رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أعرابي فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس ، وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك . قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : ويحك أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله : إن عرشه على سماواته لهكذا ، وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب .

قال ابن بشار : « إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته » (٢) .

٣ ـ روى أبو رزين قال : قلت : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : « كان في عماء ، ما تحته هواء وما فوقه هواء وماء ثم خلق عرشه على الماء » (٣) .

قال ابن منظور : « العماء ( ممدودة ) : السحاب المرتفع وقيل الكثيف . قال أبو زيد هو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال وقال ابن سيده : العماء : الغيم الكثيف الممطر » .

____________________

(١) صحيح البخاري ج ١ كتاب الصلاة باب « حك البزاق باليد في المسجد » ولاحظ أيضاً كتاب الصلاة باب « هل يلتفت لأمر ينزل » وصحيح مسلم ج ٢ باب « النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة » .

(٢) سنن أبي داود : ج ٤ ص ٢٣٢ ، رقم الحديث ٤٧٢٦ باب في الجهمية .

(٣) سنن ابن ماجة ج ١ ، ص ٧٨ ، باب فيما أنكرت الجهمية .

١٥٢

وعلى هذه الأحاديث نسجت عقيدة أهل الحديث والسلفية ، وقال ابن تيمية محيي طريقتهم في القرن الثامن بعد اندراسها :

إنه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، علي على خلقه » (١) .

إن هذه الروايات ونظائرها التي اكتفينا بالقليل منها أوجدت حجاباً غليظاً أمام الحقائق ، فلم يقدر أحد حتى المتحررون من أهل السنة كالشيخ محمد عبده وأتباع منهجه وتلامذة مدرسته على رفض تلك النصوص المخالفة للعقل الذي به عرف سبحانه وصدق نبيه وإعجاز كتابه . حتى التجأ الإمام أحمد ـ لأجل هذه الأحاديث ـ إلى تأويل الآيات الدالة على كونه سبحانه محيطاً بالعالم كله ، أعني قوله سبحانه : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٢) وقال : إن المراد هو إحاطة علمه سبحانه لا معيته وجوداً (٣) .

نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا

لم يقتنع أصحاب الحديث بما وصفوا به سبحانه من نسبة التحيز والمكان إليه حتى أثبتوا له الهبوط إلى السماء الدنيا . روى أبو هريرة أن رسول الله قال : « ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فاستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ » (٤) .

بل لم يقتنعوا بهذا وأثبتوا له الضحك . وهذا البخاري روى في حديث : « فلما أصبح غدا إلى رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) فقال : ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما » (٥) .

____________________

(١) مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية ، والعقيدة الواسطية ص ٤٠١ .

(٢) سورة الحديد : الآية ٤ .

(٣) السنة : ص ٣٦ طبع القاهرة .

(٤) صحيح البخاري : ج ٢ ص ٥٣ باب « الدعاء والصلاة من آخر الليل » .

(٥) صحيح البخاري : ج ٥ ص ٣٤ باب ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) من كتاب مناقب الأنصار .

١٥٣

وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة . قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : يقتل هذا فيلج الجنة ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد » (١) .

له سبحانه أعضاء ، كأعضاء الإنسان

وذهب أصحاب الصحاح في هذا المجال إلى أكثر من ذلك ولم يقفوا عند ما ذكرناه من الصفات حتى أخذوا يصورونه كإنسان له أعضاء كالوجه واليد والأصابع والحقو ، والساق والقدم ، والقلم يخجل من نشر هذه الأساطير التي أدرجت ـ مع الأسف ـ باسم الحديث عن النبي الخاتم ( صلی الله عليه وآله وسلم ) في الكتب وزخرت بها الصحاح ، ونسجت على منوالها العقائد والأصول ، وعد من خالفها مرتداً كافراً يضرب عنقه وتقسم أمواله على الورثة .

ولأجل إيقاف القاریء على صدق ما ادعيناه في حق أصحاب الصحاح نأتي من كل مورد بنموذج أو نموذجين :

١ ـ الوجه

عن أبي هريرة عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً . . . » (٢) .

عن أبي هريرة عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإنّ الله خلق آدم على صورته » (٣) .

وقد أخذه أبو هريرة عن الأحبار وعلى رأسهم كعب الأحبار أستاذه في

____________________

(١) صحيح مسلم ج ٦ ص ٤٠ باب « بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة » من كتاب الإمارة .

(٢) صحيح البخاري ج ٨ ص ٥٠ كتاب الاستئذان باب « بدو السلام » .

(٣) صحيح مسلم : ج ٨ ص ٣٢ باب « النهي عن ضرب الوجه » من كتاب البر والصلة والآداب .

١٥٤

الأساطير والقصص . فهذه هي التوراة قد جاء فيها في الإصحاح الخامس من سفر التكوين : لما خلق الله آدم ، خلقه على صورة الله .

وكان على أبي هريرة أن يبين عرض وجه آدم بعد أن بين أن طوله كان ستين ذراعاً والله يعلم طول وجهه وعرضه وهو القائل ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (١) .

٢ ـ له سبحانه يدان

روى أبو هريرة عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « إن يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة ، سحّاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه ، وعرشه على الماء وبيده الأخرى الفيض أو القبض ، يرفع ويخفض » (٢) .

٣ ـ له سبحانه أصابع

روي عن عبد الله قال : « جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا محمد إن الله يجعل السماوات على أصبع والأرضين على اصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلائق على أصبع فيقول أنا الملك . فضحك النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٣) .

٤ ـ له سبحانه حقو (٤) !

عن أبي هريرة عن النبي ( صلی الله عليه وسلم ) قال : « خلق الله الخلق

____________________

(١) سورة التين : الآية ٤ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٩ ص ١٢٤ باب « وكان عرشه على الماء » من كتاب التوحيد .

(٣) صحيح البخاري : ج ٦ ص ١٢٦ تفسير سورة الزمر .

(٤) الحقو : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف .

١٥٥

فلما فرغ قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن ، فقال له : مه ، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك قالت : بلى يا رب قال : فذاك » (١) .

٥ ـ الله سبحانه وساقه !

روي عن أبي سعيد قال : سمعت النبي يقول : « يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً » (٢) .

٦ ـ الله سبحانه وقدمه !

روي عن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : « يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه فتقول : قط قط » (٣) .

هذه نماذج مما ورد في الصحاح من أحاديث التشبيه والتجسيم اكتفينا من كل مورد بحديث واحد . وقد تركت هذه الأحاديث آثاراً سلبية في معتقدات المسلمين فمن مشبه يقول : « اعفوني من الفرج واللحية وسلوني عما وراء ذلك » (٤) إلى متمسك بظواهرها لكن بلا تكييف ، إلى مؤول يحملها على معان بعيدة عن ظاهرها ليتخلص عن مغبة التجسيم .

ولو أنهم رجعوا إلى الذكر الحكيم وعرضوا هذه الأحاديث عليه لميزوا الصحيح عن الزائف ، والمقبول عن المردود .

( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ) (٥) .

*       *      *

____________________

(١) صحيح البخاري : ج ٦ ص ١٣٤ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٦ ص ١٥٩ تفسير سوره ن والقلم .

(٣) صحيح البخاري : ج ٦ ص ١٣٨ تفسير سورة ق .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني : ص ١٠٥ فصل المشبهة .

(٥) سورة النساء : الآية ٦٦ .

١٥٦

الجبر في ثوب الإيمان بالقدر

ذلك بعض ما ورد في الصحاح حول التجسيم والتشبيه وإنّا نجل النبي الأكرم ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وصحابته الأخيار عن أن ينبسوا بشيء منها ببنت شفة ، وإنّما هي أساطير وأوهام أخذها الضعاف من الرواة عن الأحبار والرهبان من دون اكتراث ولا مبالاة .

وأما أحاديث الجبر ونفي الاختيار وأن الإنسان في الحياة كالريشة في مهب الرياح فحدث عنها ولا حرج . فالصحاح تزخر بها في باب الإيمان بالقدر ، وسيوافيك بعضها عند البحث عنه ، ولو صحت هذه الأحاديث لما بقي لبعث الأنبياء وتكليف العباد بالواجبات والمحرمات وغيرها معنى معقول .

ونذكر هنا ما لا نذكره هناك :

١ ـ روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : « خرج علينا رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وفي يده كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان ؟ قلنا : لا يا رسول الله إلّا أن تخبرنا . فقال للذي بيده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ، وقال للذي في شماله : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً . قال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه ؟ فقال : سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار ، وإن عمل أي عمل ، ثم قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) بيده فنبذهما ثم قال : فرغ ربكم من عمل العباد ، فريق في الجنة وفريق في السعير » (١) .

____________________

(١) جامع الأصول : ج ١٠ ص ٥١٣ ، رقم الحديث ٧٥٥٥ .

١٥٧

ولا يخفى أن السؤال الوارد في الحديث موجه جداً ، والجواب عنه غير مقنع ، فما معنى قوله « سددوا وقاربوا » ؟ لأنه إذا كان الأمر قد فرغ منه فما معنى التسديد والتقارب وما معنى الحث على التوبة والإنابة ؟ ولماذا جعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير مع كونه رحماناً على الكل ، لا قسياً ولا متعنتاً ؟ .

٢ ـ روى البخاري ومسلم والترمذي عن علي بن أبي طالب (رض) : قال : « كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال : ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة . قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له . أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة . وأما من كان من أهل الشقاء ، فسيصير لعمل أهل الشقاء » ثم قرأ ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ) (١) . أخرجه البخاري ومسلم (٢) .

وفي رواية الترمذي قال : « كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فجعل ينكت بها ثم قال : ما منكم من أحد أو من نفس منفوسة ، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار ، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة فقال رجل : يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة ليكونن إلى أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى أهل الشقاوة . فقال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : بل اعملوا فكل ميسر ، فأما أهل السعادة ، فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة ، فييسرون لعمل أهل الشقاوة » ثم قرأ ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ ) (٣) (٤) .

____________________

(١) سورة الليل : الآية ٥ ـ ٧ .

(٢) جامع الأصول : ج ١٠ ص ٥١٣ ، رقم الحديث ٧٥٥٥ .

(٣) سورة الليل : الآية ٥ ـ ١٠ .

(٤) جامع الأصول : ج ١٠ ص ٥١٥ ـ ٥١٦ رقم الحديث ٧٥٥٧ وذيله .

١٥٨

٣ ـ وفي أخرى للترمذي : قال : « بينما نحن مع رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وهو ينكت في الأرض إذ رفع رأسه إلى السماء ثم قال : ما منكم من أحد إلا قد علم ـ وفي رواية إلا قد كتب ـ مقعده من النار ومقعده من الجنة قالوا : أفلا نتكل يا رسول الله ؟ قال : لا ، اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له » وأخرج أبو داود الرواية الأولى من روايتي الترمذي (١) .

وهذه الروايات لا تصف العبد فقط بأنه مكتوف اليد بل تصف الله أيضاً مكتوف اليد ومغلولها فلا يخضع القدر لقدرته ، فلا يقدر على تغييره وتبديله . وهذا بنفسه نفس عقيدة اليهود التي نقلها القرآن عنهم ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) .

كلام أحمد حول القدر

السابر في كتب أهل الحديث يرى أنهم يهتمون بأمر التقدير أكثر من اهتمامهم بسائر المسائل العقائدية وكأنّ الاعتقاد بالتقدير عندهم أهم من الاعتقاد بالمبدأ والمعاد .

ولأجل ذلك لا ترى تشاجراً ولا بحثاً مبسوطاً حول إمكان المعاد ، ورفع شبهاته وتبيين خصوصياته . ولكن التقدير قد احتل مكانة مرموقة في مجال العقيدة .

وهذا القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى قد أخرج في كتابه ما أملاه أحمد بن محمد بن حنبل أو كتبه باسم « عقيدة أهل السنة » ومما جاء فيه (٣) : قال : « والقدر خيره وشره ، وقليله وكثيره ، وظاهره وباطنه ، وحلوه ومره ، ومحبوبه ومكروهه ، وحسنه وسيئه ، وأوله وآخره ، من الله ، قضاء قضاه ، وقدر قدره عليهم ، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل ، ولا يجاوز قضاءه ، بل

____________________

(١) المصدر السابق .

(٢) سورة المائدة : الآية ٦٤ .

(٣) طبقات الحنابلة : ج ١ ص ٢٥ ـ ٢٧ .

١٥٩

هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له ، واقفون فيما قدر عليهم لأفعاله ، وهو عدل منه عز ربنا وجل ، والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر ، من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة ، بل لله الحجة البالغة على خلقه ، « لا يسأل عما يفعل وهم يسألون » وعلم الله عز وجل ماض في خلقه بمشيئة منه ، قد علم من إبليس ومن غيره ممن عصاه ـ من لدن أن عصى تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة ـ المعصية ، وخلقهم لها ، وعلم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها . وكل يعمل لما خلق له ، وصائر لما قضى عليه وعلم منه ، لا يعدو واحد منهم قدر الله ومشيئته . والله الفاعل لما يريد ، الفعال لما يشاء .

ومن زعم أن الله شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والمعصية ، فعملوا على مشيئتهم ، فقد زعم أن مشيئة العباد أغلظ من مشيئة الله تبارك وتعالى ، فأي افتراء أكثر على الله عز وجل من هذا ؟ .

ومن زعم أن الزنى ليس بقدر ، قيل له : أرأيت هذه المرأة ، حملت من الزنى وجاءت بولد ، هل شاء الله عز وجل أن يخلق هذا الولد ؟ وهل مضى في سابق علمه ؟ فإن قال : لا ، فقد زعم أن مع الله خالقاً وهذا هو الشرك صراحاً .

ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ، ليس بقضاء وقدر ، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره ، وهذا صراح قول المجوسية . بل أكل رزقه وقضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله .

ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر من الله عز وجل ، وأن ذلك ( ليس ) بمشيئته في خلقه ، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله . وأي كفر أوضح من هذا . بل ذلك بقضاء الله عز وجل وذلك بمشيئته في خلقه ، وتدبيره فيهم ، وما جرى من سابق علمه فيهم . وهو العدل الحق الذي يفعل ما يريد ، ومن أقر بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر والقماءة » (١) .

____________________

(١) طبقات الحنابلة للقاضي محمد بن أبي يعلى ج ١ ص ٢٥ ـ ٢٦ .

١٦٠