بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: لجنة ادارة الحوزة العلمية بقم المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الإنسان ، بل الفاعل الذي تصدر عنه هذه الأمور هو النار والإنسان ، ولكن فاعلية كل واحد بقدرته وإفاضة الوجود .

وبذلك يتبين أن أفعال العباد في حال كونها مخلوقة لله ، مخلوقة للإنسان أيضاً ، فالكل خالق لا في عرض واحد ، بل فاعلية الثاني في طول فاعلية الأول . والبيتان التاليان يلخصان هذه النظرية :

وكيف فعلنا إلينا فوضا

وإن ذا تفويض ذاتنا اقتضى

لكن كما الوجود منسوب لنا

فالفعل فعل الله وهو فعلنا

وبذلك يتبين أن الاعتراف بالمرتبة الثالثة والرابعة من القدر لا يلازم الجبر ، بشرط تفسيرهما على النحو الذي تقدم (١) .

*       *      *

ثم ان هناك رسائل ثلاثاً تعد من بدايات علم الكلام في القرن الأول تعرب عن آراء متضاربة في استلزام القول بالعلم الإلهي السابق ، القول بالجبر وعدمه . فالأمويون على الأول وفي مقدمتهم عمر بن عبد العزيز .

وغيرهم على الثاني كالحسن البصري وأصحابه ، نذكر نص الرسالتين إحداهما لعمر بن عبد العزيز والأخرى للحسن وهما يغنيان عن الرسالة الثالثة للحسن بن محمد بن الحنفية ، كما سنذكره .

عرف الأمويون منذ عصر معاوية إلى آخر دولتهم أن سلطتهم على الناس لا تبقى إلا مع إذاعة فكرة الجبر بين الأمة . وقد أشرنا إلى نماذج من أقوال معاوية فيما سبق ونضيف في المقام ما نقله القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي علي الجبائي أنه قال : « إن أول من قال بالجبر وأظهره معاوية ، وإنه أظهر أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ، ليجعله عذراً فيما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه وأنّ الله جعله إماماً وولاه الأمر وفشا ذلك في ملوك بني أمية .

وعلى هذا القول قتل هشام بن عبد الملك غيلان رحمه الله ثم نشأ بعدهم

____________________

(١) ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا : « مفاهيم القرآن » الجزء الأول ص ٢٩٩ ـ ٣٣٤ .

٢٦١

يوسف السمني فوضع لهم القول بتكليف ما لا يطاق وأخذ هذا القول عن ضرير (١) وكان بواسط زنديقاً نبوياً (٢) وقال جهم : « إنه لا فعل للعبد . وتبعه ضرار في المعنى ، وإن أضاف الفعل إلى العبد وجعله كسباً له وفعلاً وإن كان خلقاً لله عنده » (٣) .

الرسائل الثلاث

إن الأمة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الأول ومجموع القرنين التاليين كانت تعيش في مأزق حرج بالنسبة إلى العقائد الإسلامية عامة ، والجبر والاختيار خاصة ، إذ لم تكن العقيدة الإسلامية مدونة ولا مضبوطة ، وتكفينا في البرهنة على ذلك الرسائل الثلاث التي تعد من أقدم الوثائق التاريخية في مسائل علم الكلام :

الرسالة الأولى ـ الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمد بن الحنفية ( م حوالي ١٠٠ ) حفيد الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ويستظهر أنها كتبت بإيحاء من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ( م ٨٦ هـ ) وأن تاريخ تأليفها يرجع إلى سنة ٧٣ هجري (٤) .

الرسالة الثانية ـ ما كتبه الحسن البصري ( م ١١٠ ) إلى الخليفة نفسه والرسالتان تقعان على جانبي النقيض فالأولى تمثل فكرة الجبر لكن بصورة ملائمة ، والأخرى تبين عقيدة الاختيار والحرية .

الرسالة الثالثة ـ رسالة الخليفة عمر بن عبد العزيز رداً على قدري مجهول

____________________

(١) كلمة ضرير وصف لا علم .

(٢) كذا في المصدر ويحتمل أن تكون الكلمة تحريف : « ثنوياً » .

(٣) المغني للقاضي عبد الجبار : ج ٨ ص ٤ .

(٤) ترجمه ابن سعد في الطبقات الكبرى وقال : يكنى أبا محمد وكان من ظرفاء بني هاشم وأهل العقل منهم وكان يقدم على أخيه أبي هاشم في الفضل والهيئة توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز ولم يكن له عقب ( الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٣٢٨ ) .

٢٦٢

الهوية افترض أنه ينكر العلم الأزلي ، ليستريح من عواقب الجبر فرد عليه مثبتاً لعلمه القديم ، وخرج بالجبر الشديد الذي ربما لا يقع موقع القبول حتى لدى بعض الطوائف الجبرية كالأشاعرة .

ولأجل إيقاف القاریء على الحالة الحرجة التي كان المسلمون يعانون منها ، ننشر نص رسالة عمر بن عبد العزيز فإنها تغني عن الرسالة المنسوبة إلى حفيد الإمام ، إذ هما تتحدان مآلاً ونهاية ونردفها بنشر رسالة الحسن البصري التي تقع منها على جانب النقيض .

غير أنا نقدم في المقام الخطبة المروية عن الإمام علي (ع) حول القضاء والقدر ثم نردفها بكتاب لابنه الحسن (ع) إلى الحسن البصري عندما سأله عن القدر . وإليك الخطبة :

٢٦٣



١ ـ خطبة الإمام أمير المؤمنين (ع)

روى الكليني عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد مرفوعاً قال : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه (١) ، ثم قال له : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر ، فقال له الشيخ عند الله أحتسب عنائي (٢) يا أمير المؤمنين ؟ فقال له : مه يا شيخ ! فوالله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين .

فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟ فقال له : وتظن أنه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً ؟ إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا

____________________

(١) جثا يجثوا جثواً وجثياً بضمهما : جلس على ركبتيه وأقام على أطراف أصابعه . والتلعة ما ارتفع من الأرض .

(٢) أي منه أطلب أجر مشقتي .

٢٦٤

محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها .

إن الله تبارك وتعالى كلف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يملك مفوضاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، فأنشأ الشيخ يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفراناً

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً

جزاك ربك بالإحسان إحساناً (١)

وقال الرضي : ومن كلام له ( عليه السلام ) للسائل الشامي لما سأله : أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر ؟ بعد كلام طويل هذا مختاره :

ويحك ! لعلك ظننت قضاء لازماً ، وقدراً حاتماً ! ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد . وإن الله سبحانه أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يرسل الأنبياء لعباً ، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثاً ، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً : « ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار » (٢) .

روى هذا النص من الإمام مشايخ الحديث في القرن الثالث والرابع منهم :

١ ـ ثقة الإسلام الكليني ( ت حوالي ٢٥٠ ـ م ٣٢٩ ) في جامعه « الكافي » ج ١ ص ١٥٥ بسند مرفوع .

٢ ـ الصدوق ( ت ٣٠٦ ـ م ٣٨١ ) في توحيده ص ٢٧٣ ، وفي عيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٣٨ بأسانيد ثلاثة .

____________________

(١) الكافي : ج ١ كتاب التوحيد باب الجبر والقدر ص ١٥٥ ـ ١٥٦ .

(٢) نهج البلاغة قسم الحكم الرقم ٧٨ .

٢٦٥

٣ ـ أبو محمد الحسن بن علي الحسيني بن شعبة الحراني الذي يروي عن أبي علي محمد بن الهمام الإسكافي الذي ( توفي عام ٣٣٦ ) فالرجل من أعلام أواسط القرن الرابع .

٤ ـ الشيخ المفيد ( ت ٣٣٦ ـ م ٤١٣ ) في كتابه « العيون والمحاسن » ص ٤٠ .

٥ ـ محمد الرضي جامع نهج البلاغة ( ت ٣٥٩ ـ م ٤٠٦ ) .

٦ ـ محمد بن علي الكراجكي ( م ٤٤٩ ) في كتابه « كنز الفوائد » ص ١٦٩ .

وهؤلاء أساتذة الحديث عند الشيعة لا يمتون للإعتزال ولا للمعتزلة بصلة بل يصارعونهم في كثير من المسائل والمبادیء ولبعضهم ردود على المعتزلة في بعض المجالات كما ستوافيك أسماؤها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة ، وبعد هذا لا يصح تقوُّل بعض المتحذلقين كالدكتور علي سامي النشار حيث رأى أن هذا النص موضوع على لسان علي (ع) ببراعة نادرة يرى فيه محاكاة ممتازة بأسلوب علي (ع) بحجة أنه ورد فيه جميع المصطلحات المعتزلية (١) .

يلاحظ عليه : أن الكاتب لم يتحمل جهد التتبع حتى يقف على مصادر الحديث في كتب الشيعة في القرن الثالث والرابع فألقى الكلام على عواهنه فحكم بوضع النص وقد عرفت وجوده في كتب الشيعة الذين كانوا هم والمعتزلة متصارعين وأما ما تمسك به من وجود مصطلحات المعتزلة في الكلام فهو ناشیء عن عدم إلمام الرجل بتاريخ تكوّن المعتزلة فإنهم أخذوا أكثر مبادئهم من خطب الإمام علي (ع) في التوحيد والعدل مضافاً إلى أن « عطاء بن واصل » مؤسس المنهج تتلمذ على يد « أبي هاشم » ولد « محمد بن الحنفية » ، وهو أخذ عقائده عن أبيه وهو عن علي (ع) وهذا شيء قطعي في التاريخ ولا ينكره إلا المتعصب وهو

____________________

(١) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج ١ ص ٤١٢ .

٢٦٦

مما تعترف به أئمة الاعتزال كما سيوافيك نصوصهم في الجزء الثالث إن شاء الله .

إن مسألة القضاء والقدر وكون الإنسان مخيراً أو مسيراً ليست من المسائل التي طرحتها المعتزلة بل من المسائل القديمة التي كانت مطروحة عند جميع الأمم وقد عرفت عقيدة المشركين المعاصرين للنبي الأكرم كما عرفت بعض الأحاديث المروية عن الخلفاء حول القدر والجبر فلو كان وجود تلك المصطلحات شاهداً على وضع النص فليكن ذلك شاهداً على كون أحاديث القدر بأجمعها موضوعة لاشتمالها على مصطلحات لم تكن موجودة في عصر الرسول الأكرم ( صلی الله عليه وآله وسلم ) .

والعجب العجاب أن الدكتور ينكر النص ولكنه يصحح روايات أبي هريرة ويقول : « وقد أكثر حقاً من روايات الحديث لكثرة ملازمة الرسول » (١) .

ولا أظن من درس تاريخ حياة أبي هريرة أن يوافق الدكتور في هذا الرأي فإنه أسلم بعد خيبر وما أدرك من حياة الرسول إلا سنتين وبضعة أشهر ومع ذلك فهو أكثر الصحابة حديثاً .

فيفوق عدد أحاديثه أحاديث عائشة وعلي (ع) مع أن علياً (ع) عاش في كنف النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) من لدن ولادته إلى أن لبى الرسول دعوة ربه فمرويات الإمام في الصحاح والمسانيد حوالي خمسمائة حديث ومرويات أبي هريرة تناهز خمسة آلاف حديث .

____________________

(١) المصدر السابق : ج ١ ص ٢٨٥ .

٢٦٧



٢ ـ كتاب الحسن السبط (ع) إلى الحسن البصري

كتب الحسن بن أبي الحسن البصري (١) إلى أبي محمد الحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ : أما بعد فإنكم معشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة والأعلام النيرة الشاهرة أو كسفينة نوح ( عليه السلام ) التي نزلها المؤمنون ونجا فيها المسلمون كتبت إليك يا بن رسول الله عند اختلافنا في القدر وحيرتنا في الاستطاعة ، فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك عليهم السلام . فإن من علم الله علمكم وأنتم شهداء على الناس والله الشاهد عليكم ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .

فأجابه الحسن ( عليه السلام ) : « بسم الله الرحمن الرحيم وصل إلي كتابك ولولا ما ذكرته من حيرتك وحيرة من مضى قبلك إذاً ما أخبرتك ، أما بعد : فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره ، [ و ] أن الله يعلمه فقد كفر ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر ، إن الله لم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً ولم يهمل العباد سدى من المملكة بل هو المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم ، بل أمرهم تخييراً ونهاهم تحذيراً فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً وإن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم وبينها فعل وإن لم يفعل

____________________

(١) هو الحسن بن يسار مولى زيد بن ثابت أخو سعيد وعمارة المعروف بالحسن البصري مات سنة ١١٠ هـ وله تسع وثمانون سنة .

٢٦٨

فليس هو الذي حملهم عليها جبراً ولا ألزموها كرهاً بل منَّ عليهم بأن بصرهم وعرفهم وحذرهم وأمرهم ونهاهم لا جبلاً لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين والسلام على من اتبع الهدى » (١) .

____________________

(١) تحف العقول ص ٢٣١ ورواه المجلسي في البحار ج ١٠ ص ١٣٦ نقلاً عن كتاب العدد القوية لدفع المخاوف اليومية تأليف الشيخ الفقيه رضي الدين علي بن يوسف بن المطهر الحلي . وأيضاً رواه الكراجكي في كنز الفوائد ص ١٧٠ الطبعة الأولى . بأدنى اختلاف في اللفظ .

٢٦٩



٣ ـ رسالة عمر بن عبد العزيز في الرد على القدرية (١)

حدثنا أبو حامد بن جبلة ، ثنا محمد بن إسحاق السراج ، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام ، ثنا محمد بن بكر البرساني ، ثنا سليم بن نفيع القرشي ، عن خلف أبي الفضل القرشي عن كتاب عمر بن عبد العزيز :

١ ـ إلى النفر الذين كتبوا إلي بما لم يكن لهم بحق في رد كتاب الله ، وتكذيبهم بأقداره النافذة في علمه السابق الذي لا حد له إلا الله وليس لشيء مخرج منه ، وطعنهم في دين الله وسنة رسوله القائمة في أمته .

٢ ـ أما بعد ، فانكم كتبتم إلي بما كنتم تستترون فيه قبل اليوم في رد علم الله والخروج منه إلى ما كان رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) يتخوفه على أمته من التكذيب بالقدر .

٣ ـ وقد علمتم أهل السنة كانوا يقولون : « الاعتصام بالسنة نجاة ، وسينقص العلم نقصاً سريعاً » وقول عمر بن الخطاب وهو يعظ الناس : « إنه لا عذر لأحد عند الله بعد البينة بضلالة ركبها حسبها هدى ، ولا في هدى تركه

____________________

(١) نقلها أبو نعيم الأصبهاني في كتابه « حلية الأولياء » : في ترجمة عمر بن عبد العزير ج ٥ ص ٣٤٦ ـ ٣٥٣ . ونحن ننقلها عما نشره « المعهد الألماني للأبحاث الشرقية » تحت عنوان « بدايات علم الكلام » عام النشر ١٩٧٧ م .

٢٧٠

حسبه ضلالة . قد تبينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر » فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى ؟ .

٤ ـ وإنكم ذكرتم أنه بلغكم أني أقول إن الله قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون ، فأنكرتم ذلك علي وقلتم إنه ليس يكون ذلك من الله في علم حتى يكون ذلك من الخلق عملاً .

٥ ـ فكيف ذاك كما قلتم ؟ والله يقول ( إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) (١) يعني العائدين في الكفر وقال : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (٢) .

٦ ـ فزعمتم بجهلكم في قول الله ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٣) أن المشيئة في أي ذلك أحببتم ، إليكم من ضلالة أو هدى .

٧ ـ والله يقول : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٤) ، فبمشيئة الله لهم شاؤوا ، لو لم يشأ لم ينالوا بمشيئتهم من طاعته شيئاً ، قولاً ولا عملاً لأن الله لم يملك العباد ما بيده ولم يفوض إليهم ما يمنعه من رسله . فقد حرصت الرسل على هدى الناس جميعاً فما اهتدى منهم إلا من هداه الله ، ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعاً فما ضل منهم إلا من كان في علم الله ضالاً .

٨ ـ وزعمتم بجهلكم أن علم الله ليس بالذي يضطر العباد إلى ما عملوا من معصيته ولا بالذي يصدهم عما تركوا من طاعته ، ولكنه بزعمكم كما علم أنهم سيعملون بمعصيته ، كذلك علم أنهم سيستطيعون تركها .

٩ ـ فجعلتم علم الله لغواً ، تقولون : لو شاء العبد لعمل بطاعة الله وإن كان في علم الله أنه غير عامل بها ، ولو شاء ترك معصيته وإن كان في علم

____________________

(١) سورة الدخان : الآية ١٥ .

(٢) سورة الأنعام : الآية ٢٨ .

(٣) سورة الكهف : الآية ٢٩ .

(٤) سورة التكوير : الآية ٢٩ .

٢٧١

الله أنه غير تارك لها فأنتم إذا شئتم أصبتموه وكان علماً ، وإذا شئتم رددتموه وكان جهلاً ، وإن شئتم أحدثتم من أنفسكم علماً ليس في علم الله ، وقطعتم به علم الله عنكم وهذا ما كان ابن عباس يعده للتوحيد نقضاً وكان يقول : « إن الله لم يجعل فضله ورحمته هملاً بغير قسم ولا احتظار ولم يبعث رسله بإبطال ما كان في سابق علمه » فأنتم تقرون بالعلم في أمر وتنقضونه في آخر ، والله يقول ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) (١) . فالخلق صائرون إلى علم الله ونازلون عليه ليس لهم دونه معصر ( ؟ ) ولا لهم عنه محيص ، وليس بين علم الله وبين شيء هو كائن حجاب يحجبه عنه ولا يحول دونه . إنه عليم حكيم .

١٠ ـ وقلتم : لو شاء لم يعذب بعمل .

١١ ـ بغير ما أخبر الله في كتابه عن قوم ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ) (٢) وأنه سيمتعهم قليلاً ( ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٣) ، فأخبر أنهم عاملون قبل أن يعملوا وأخبر أنه معذبهم قبل أن يخلقوا .

١٢ ـ وتقولون أنتم إنّهم لو شاؤوا خرجوا من علم الله في عذابهم إلى ما لم يعلم من رحمته لهم .

١٣ ـ ومن زعم ذلك فقد عادى كتاب الله بالرد . ولقد سمى الله رجالاً من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه فما استطاع آباؤهم لتلك الأسماء تغييراً وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلاً ، فقال : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) (٤) فالله أعز في قدرته وأمنع من أن يملك أحداً إبطال علمه في شيء من ذلك ، فهو المسمي لهم بوحيه الذي ( لَّا يَأْتِيهِ

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٥٥ .

(٢) سورة المؤمنون : الآية ٦٣ .

(٣) سورة هود : الآية ٤٨ .

(٤) سورة ص : الآيتان ٤٥ و ٤٦ .

٢٧٢

الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) (١) أو أن يشرك في خلقه أحداً أو أن يدخل في رحمته من قد أخرجه منها أو أن يخرج منها من قد أدخله فيها . ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق ، بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليماً وعلى كل شيء شهيداً قبل أن يخلق شيئاً ، وبعد ما خلق لم ينقص علمه في بدئهم ولم يزد بعد أعمالهم ولا تغير بالجوائح التي قطع بها دابر ظلمهم ، ولم يملك إبليس هدى نفسه ولا ضلالة غيره . وقد أردتم بقذف مقالتكم إبطال علم الله في خلقه وإهمال عبادته ، وكتاب الله قائم بنقض بدعتكم وإفراط قذفكم . ولقد علمتم أن الله بعث رسوله والناس يومئذٍ أهل الشرك ، فمن أراد الله له الهدى لم تحل ضلالته الّتي كان فيها دون إرادة الله له ، ومن لم يرد الله له الهدى تركه في الكفر ضالاً فكانت ضلالته أولى به من هداه .

١٤ ـ فزعمتم أن الله أثبت في قلوبكم الطاعة والمعصية ، فعملتم بقدرتكم بطاعته وتركتم بقدرتكم معصيته ، وإن الله خلو من أن يكون يختص أحداً برحمته أو يحجز أحداً عن معصيته .

١٥ ـ وزعمتم أن الشيء الذي يقدر إنما هو عندكم اليسر والرخاء والنعمة وأخرجتم منه الأعمال .

١٦ ـ وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى أو أنكم الذين هديتم أنفسكم من دون الله ، وأنكم الذين حجزتموها عن المعصية بغير قوة من الله ولا إذن منه .

١٧ ـ فمن زعم ذلك فقد غلا في القول لأنه لو كان شيء لم يسبق في علم الله وقدره لكان لله في ملكه شريك ينفذ مشيئته في الخلق من دون الله والله يقول : ( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (٢) وهم له قبل ذلك كارهون ( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) (٣) وهم له قبل ذلك محبون وما كانوا على شيء من ذلك لأنفسهم بقادرين . ثم أخبرنا بما سبق لمحمد ( صلی الله عليه وآله وسلم )

____________________

(١) سورة فصلت : الآية ٤٢ .

(٢) و (٣) سورة الحجرات : الآية ٧ .

٢٧٣

من الصلاة عليه والمغفرة له ولأصحابه فقال ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (١) وقال : ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) (٢) ، فكرماً غفرها الله له قبل أن يعملها ثم أخبرنا بما هم عاملون قبل أن يعملوا وقال ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ) (٣) . فضلاً سبق لهم من الله قبل أن يخلقوا ورضواناً عنهم قبل أن يؤمنوا .

١٨ ـ وتقولون أنتم إنهم قد كانوا ملكوا رد ما أخبر الله عنهم أنهم عاملون وإن إليهم أن يقيموا على كفرهم مع قوله ، فيكون الذي أرادوا لأنفسهم من الكفر مفعولاً ولا يكون لوحي الله فيما اختار تصديقاً .

١٩ ـ بل ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (٤) و ( هي ) في قوله ( لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٥) ، فسبق لهم العفو من الله فيما أخذوا قبل أن يؤذن لهم ـ

٢٠ ـ وقلتم : لو شاؤوا خرجوا من علم الله في عفوه عنهم إلى ما لم يعلم من تركهم لما أخذوا .

٢١ ـ فمن زعم ذلك فقد غلا وكذب ولقد ذكر بشراً كثيراً هم يومئذٍ في أصلاب الرجال وأرحام النساء فقال ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) (٦) ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ) (٧) ، فسبقت لهم الرحمة من الله قبل أن يخلقوا والدعاء لهم بالمغفرة ممن لم يسبقهم بالإيمان من قبل أن يدعوا .

____________________

(١) سورة الفتح : الآية ٢٩ .

(٢) سورة الفتح : الآية ٢ .

(٣) سورة الفتح : الآية ٢٩ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٤٩ .

(٥) سورة الأنفال : الآية ٦٨ .

(٦) سورة الجمعة : الآية ٣ .

(٧) سورة الحشر : الآية ١٠ .

٢٧٤

٢٢ ـ ولقد علم العالمون بالله أن الله لا يشاء أمراً فيحول مشيئته غيره دون بلاغ ما شاء ، ولقد شاء لقوم الهدى فلم يضلهم أحد وشاء إبليس لقوم الضلالة فاهتدوا . فقال لموسى وأخيه : ( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) (١) ، وموسى في سابق علمه أنه يكون لفرعون عدواً وحزناً فقال ( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (٢) .

٢٣ ـ فتقولون أنتم : لو شاء فرعون كان لموسى ولياً وناصراً ، والله يقول : ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) (٣) . وقلتم : لو شاء فرعون لامتنع من الغرق والله يقول : ( إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ) (٤) . فثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأولين ، كما قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (٥) فصار إلى ذلك بالمعصية التي ابتلي بها ، وكما كان إبليس في سابق علمه أنه سيكون ( مَذْمُومًا مَّخْذُولًا ) (٦) وصار إلى ذلك بما ابتلي به من السجود لآدم فأبى ، فتلقى آدم بالتوبة فرحم وتلقى إبليس باللعنة فغوى ثم أهبط آدم إلى ما خلق له من الأرض مرحوماً متوباً عليه ، وأهبط إبليس بنظرته مدحوراً مسخوطاً عليه .

٢٤ ـ وقلتم أنتم : إن إبليس وأولياءه من الجن قد كانوا ملكوا رد علم الله والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال : ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (٧) حتى لا ينفذ له علم إلا بعد مشيئتهم .

____________________

(١) سورة طه : الآية ٤٣ ـ ٤٤ .

(٢) سورة القصص : الآية ٦ .

(٣) سورة القصص : الآية ٨ .

(٤) سورة الدخان : الآية ٢٤ .

(٥) سورة البقرة : الآية ٣٠ .

(٦) سورة الإسراء : الآية ٢٢ .

(٧) سورة ص : الآية ٨٤ ـ ٨٥ .

٢٧٥

٢٥ ـ فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في رد علم الله ؟ فإن الله جل وعلا لم يشهدكم خلق أنفسكم ، وكيف يحيط جهلكم بعلمه ؟ وعلم الله ليس بمقصر عن شيء هو كائن ، ولا يسبق علمه في شيء فيقدر أحد على رده . ولو كنتم تنتقلون في كل ساعة من شيء إلى شيء هو كائن ، لكانت مواقعكم عنده . ولقد علمت الملائكة قبل خلق آدم ما هو كائن من العباد في الأرض ( من الفساد ) وسفك الدماء فيها ، وما كان لهم في الغيب من علم ، فكان في علم الله الفساد وسفك الدماء ، وما قالوه تخرصاً إلا بتعليم العليم الحكيم لهم فظن ذلك منهم ، وأنطقهم به .

٢٦ ـ فأنكرتم أن الله أزاغ قوماً قبل أن يزيغوا وأضل قوماً قبل أن يضلوا .

٢٧ ـ وهذا مما لا يشك فيه المؤمنون بالله : إن الله قد عرف قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم وبرهم من فاجرهم . وكيف يستطيع عبد هو عند الله مؤمن أن يكون كافراً أو هو عند الله كافر أن يكون مؤمناً ؟ والله يقول : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) (١) . فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبداً إلا بإذن الله .

٢٨ ـ ثم آخرون « اتخذوا » من بعد الهدى ( عِجْلًا جَسَدًا ) (٢) فضلوا به فعفا عنهم لعلهم يشكرون ، فصاروا ( مِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (٣) وصاروا إلى ما سبق لهم . ثم ضلت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يرحموا فصاروا في علمه إلى ( صَيْحَةً وَاحِدَةً ، فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) (٤) ، فنفذوا إلى ما سبق لهم لأن صالحاً رسولهم وأنّ الناقة ( فِتْنَةً لَّهُمْ ) (٥) وأنه مميتهم كفاراً ، فعقروها .

____________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١٢٢ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٤٨ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٥٩ .

(٤) سورة يۤس : الآية ٢٩ .

(٥) سورة القمر : الآية ٢٧ .

٢٧٦

٢٩ ـ وكان إبليس فيما كانت فيه الملائكة من التسبيح والعبادة فابتلي فعصى فلم يرحم ، وابتلي آدم فعصى فرحم . وهم آدم بالخطيئة فنسي ، وهم يوسف بالخطيئة فعصم ، فأين كانت الاستطاعة عند ذلك ؟ هل كانت تغني شيئاً فيما كان من ذلك حتى لا يكون ، أو تغني فيما لم يكن حتى يكون ، فنعرف لكم بذلك حجة ؟ بل الله أعز مما تصفون وأقدر .

٣٠ ـ وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى ، وإنما علمه بزعمكم حافظ وإن المشيئة في الأعمال إليكم ، إن شئتم أحببتم الإيمان فكنتم من أهل الجنة . ثم جعلتم بجهلكم حديث رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) الذي جاء به أهل السنة ـ وهو مصدق للكتاب المنزل ـ أنه من ذنب مُضاهٍ ذنباً خبيثاً ، في قول النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) حين سأله عمر : « أرأيت ما نعمل أشيء قد فرغ منه أم شيء تأتنفه ؟ فقال (ع) : « بل شيء قد فرغ منه » . فطعنتم بالتكذيب له ونفرتم ( ؟ ) من الله في علمه إذ قلتم : إن كنا لا نستطيع الخروج منه فهو الجبر . والجبر عندكم الحيف .

٣١ ـ فسميتم نفاذ علم الله في الخلق حيفاً .

٣٢ ـ وقد جاء الخبر أن الله خلق آدم فنثر ذريته في يده فكتب أهل الجنة وما هم عاملون ، وكتب أهل النار وما هم عاملون . وقال سهل بن حنيف يوم صفين : « أيها الناس ، اتهموا رأيكم على دينكم ، فوالذي نفسي بيده ، لقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع رد أمر رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) لرددناه . والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسهلت بنا على أمر نعرفه قبل أمركم هذا » .

٣٣ ـ ثم أنتم بجهلكم قد أظهرتم دعوة حق على تأويل باطل تدعون الناس إلى رد علم الله فقلتم : « الحسنة من الله والسيئة من أنفسنا » وقال أئمتكم وهم أهل السنة : « الحسنة من الله في قدر سبق والسيئة من أنفسنا في علم قد سبق » .

٣٤ ـ فقلتم : لا يكون ذلك حتى يكون بدؤها من أنفسنا كما بدء السيئة من أنفسنا .

٢٧٧

٣٥ ـ وهذا رد الكتاب منكم ونقض الدين ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه حين نجم القول في القدر : « هذا أول شرك هذه الأمة ، والله ، ما ينتهى بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً » .

٣٦ ـ أنتم تزعمون بجهلكم أن من كان في علم الله ضالاً فاهتدى ، فهو بما ملك ذلك حتى كان في هداه ما لم يكن الله علمه فيه ، وأن من شرح صدره للإسلام فهو مما فوض إليه قبل أن يشرحه الله له ، وأنه إن كان مؤمناً فكفر فهو مما شاء لنفسه وملك من ذلك لها وكانت مشيئته في كفره أنفذ من مشيئة الله في إيمانه .

٣٧ ـ بل أشهد أنه من عمل حسنة فبغير معونة كانت من نفسه عليها ، وأن من عمل سيئة فبغير حجة كانت له فيها وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وأن الله لو أراد أن يهدي الناس جميعاً لنفذ أمره فيمن ضل حتى يكون مهتدياً .

٣٨ ـ فقلتم : بمشيئته شاء لكم تفويض الحسنة إليكم وتفويض السيئة ، ألقى عنكم سابق علمه في أعمالكم وجعل مشيئته تبعاً لمشيئتكم .

٣٩ ـ ويحكم ، فوالله ، ما أمضى لبني إسرائيل مشيئتهم حين أبوا أن يأخذوا ما آتاهم بقوة حتى نتق ( الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) (١) . فهل رأيتموه أمضى مشيئة لمن كان قبلكم في ضلالته حين أراد هداه حتى صار إلى أن أدخله بالسيف في الإسلام كرهاً بموقع علمه بذلك فيه ؟ أم هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبو أن يؤمنوا حتى أظلهم العذاب فآمنوا وقبل منهم ، ورد على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم . وقال : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) (٢) أي علم الله الذي قد خلا في خلقه ( وَخَسِرَ هُنَالِكَ

____________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١٧١ .

(٢) سورة غافر : الآية ٨٤ ـ ٨٥ .

٢٧٨

الْكَافِرُونَ ) (١) وذلك كان موقعهم عنده أن يهلكوا بغير قبول منهم بل الهدى والضلالة والكفر والإيمان والخير والشر بيد الله يهدي من يشاء ويذر من يشاء ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (٢) . كذلك قال ابراهيم (ع) : ( رَبِّ . . . وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) (٣) ، قال : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) (٤) ، أي إن الإيمان والإسلام بيدك وإن عبادة من عبد الأصنام بيدك ، فأنكرتم ذلك وجعلتموه ملكاً بأيديكم دون مشيئة الله عز وجل .

٤٠ ـ وقلتم في القتل إنه بغير أجل .

٤١ ـ وقد سماه الله لكم في كتابه فقال ليحيى : ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) (٥) فلم يمت يحيى إلا بالقتل ، وهو موت كما مات من قتل شهيداً أو قتل خطأ كما مات بمرض أو بفجأة كل ذلك موت بأجل استوفاه ورزق استكمله وأثر بلغه ومضجع برز إليه ، ليس ( لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ) (٦) ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلا بلغته ولا موضع قدم إلا وطئته ولا مثقال حبة من رزق إلا استكملته ولا مضجع حيث كان إلا برزت إليه ، يصدق ذلك قول الله عز وجل ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ) (٧) ، فأخبر الله بعذابهم بالقتل في الدنيا وفي الآخرة بالنار وهم أحياء بمكة .

٤٢ ـ وتقولون أنتم : إنهم قد كانوا ملكوا رد علم الله في العذابين الذين أخبر الله ورسوله أنهما نازلان بهم .

____________________

(١) سورة غافر : الآية ٨٥ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٨٦ .

(٣) سورة إبراهيم : الآية ٣٥ .

(٤) سورة البقرة : الآية ١٢٨ .

(٥) سورة مريم : الآية ١٥ .

(٦) سورة آل عمران : الآية ١٤٥ .

(٧) سورة آل عمران : الآية ١٢ .

٢٧٩

٤٣ ـ فقال : ( ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) (١) يعني القتل يوم بدر ( وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ) (٢) فانظروا إلى ما أرادكم فيه رأيكم كتاباً سبق في علمه بشقائكم إن لم يرحمكم .

٤٤ ـ ثم قول رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « بني الإسلام على ثلاثة أعمال : الجهاد ماض منذ يوم بعث الله رسوله إلى يوم تقوم فيه عصابة من المؤمنين يقاتلون الدجال لا ينقض ذلك جور جائر ولا عدل عادل ، والثانية : أهل التوحيد لا تكفروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك ولا تخرجوهم من الإسلام بعمل ، والثالثة : المقادير كلها خيرها وشرها من قدر الله » . فنقضتم من الإسلام جهاده وجردتم شهادتكم على أمتكم بالكفر وبرئتم منهم ببدعتكم وكذبتم بالمقادير كلها والآجال والأعمال والأرزاق ، فما بقيت في أيديكم خصلة بني الإسلام عليها إلا نقضتموها وخرجتم منها .

*       *      *

هذه رسالة عمر بن عبد العزيز إلى بعض القدريين مجهولي الهوية ، وقد نسب إليهم إنكار علمه الأزلي في أفعال العباد ، ومصائرهم ، ونحن نتبرأ ممن ينكر علمه الوسيع المحيط بكل شيء ، ونؤمن بما قاله سبحانه : ( وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٣) وقوله سبحانه : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (٤) .

ولكن نتبرأ من كل من جعل علمه السابق ذريعة إلى نسبة الجبر إلى الله سبحانه ونؤمن بأن علمه السابق المحيط لا يكون مصدراً لكون العباد مجبورين في مصائرهم وأنهم يعملون ويفعلون ، ويختارون بمشيئتهم التي منحها الله لهم في حياتهم ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة .

____________________

(١) سورة الحج : الآية ٩ .

(٢) سورة الحج : الآية ٩ .

(٣) سورة الأنعام : الآية ٥٩ .

(٤) سورة الحديد : الآية ٢٢ .

٢٨٠