بحوث في الملل والنّحل - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٤

الكتاب يتناول آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الاسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في إطار من التحليل والمقارنة والدراسة والتقييم.

أُمور ، منها : المنع من التحدّث عن الرسول ، وفسح المجال لأبناء أهل الكتاب ، حتى يتمكّنوا من نشر الكلم الباطل ، ويمزقوا أُصول الإسلام وفروعه؟ والعجب أنّ التفاسير إلى يومنا هذا مكتظة بأقوالهم وإحاديثهم ، ولها من القيمة عند قرّائها مكان.

١١ ـ قال العلاّمة الشيخ جواد البلاغي : الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، كما ملئت كتب التفاسير بأقوالهم المرسلة ، ممّا لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه ، لأنّ هؤلاء الرجال غير ثقات في أنفسهم ، ومجتمعون على موائد أهل الكتاب من الأحبار والرهبان.

قيل للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو شيء نحوه قال : أخذه من أهل الكتاب ويكفي في ذلك أنّ مجاهداً الآخذ منهم فسر قوله تعالى : ( عَسى أَنْ يَبْعَثَك رَبّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) قال : يجلسه معه على العرش.

وأمّا عطاء ، فقد قال أحمد : ليس في المراسيل أضعف من مراسيل الحسن وعطاء ، كانا يأخذان عن كلّ أحد.

وقال النسائي : وأمّا مقاتل بن سليمان كان يكذب ، وعن يحيى قال : حديثه ليس بشيء ، وقال ابن حبان : كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم. (١)

وأمّا الخرافات والأساطير في تفسير الكون وبدء الخليقة وأحوال الأُمم الماضية فحدث عنها ولا حرج ، فقد ملأوا الصدور والطوامير وتأثّرت بهم طبقات من المسلمين ، ممن كتبوا حول المواضيع السالفة.

يقول الدكتور علي سامي النشار : إنّ الحديث كان معتركاً متلاحماً وبحراً خضماً لا يعرف السالك فيه موطن الأمان ولذلك قام أهل الحديث بمجهود رائع في محض الأحاديث وتوضيح الصادق والكاذب منها عن طريق الرواية وفيها السند ، وعن طريق الدراية وفيها النقد الباطني للنصوص ، ولذلك أنشأوا

____________

١ ـ آلاء الرحمن : ج١ص٤٦ ، نقلاً عن الذهبي.

٨١

علم مصطلح الحديث. (١)

يلاحظ عليه : أنّ جهود أهل الحديث غير منكرة ، ولكنّها لم تكن على وجه تقلع الموضوعات عن كتب الحديث وموسوعاتهم لأنّ القائمين بهذا الأمر كانوا متأثرين بها ، ولأجل ذلك تجد أحاديث التشبيه والتجسيم والجبر والرؤية وعصيان الأنبياء مبثوثة في الصحاح والمسانيد ، وسيمرّ عليك بعضها في هذا الجزء.

ولعل القارئ الكريم يحسب أنّ هذه الكلمات الصادرة من أساتذة الفن ، ورجال التحقيق في الملل والنحل ، صدرت من غير تحقيق وتدقيق ، إلاّ أنّ المراجع للكتب الرجالية ، يقف على صدق المقال ، ويكتشف أنّه كان هناك رجال يتظاهرون بالإسلام ـ وفي الوقت نفسه ـ يبثّون ما لديهم من الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات ، تحت غطاء هذا التظاهر ، وإليك نزراً من تاريخ بعض هؤلاء الرجال :

١ ـ كعب الأحبار

هو كعب بن ماتع الحميري ، قالوا : هو من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب ، أسلم في زمن أبي بكر ، وقدم من اليمن في خلافة عمر ، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم ، وأخذ هو من الكتاب والسنّة عن الصحابة ، وتوفّي في خلافة عثمان ، وروى عنه جماعة من التابعين ، وله شيء في صحيح البخاري وغيره.

قال الذهبي : العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي (ص) ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي‌الله‌عنه ، فجالس أصحاب محمد فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب.

إلى أن قال : حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس ، وذلك من قبيل

__________________

١ ـ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : ج ١ص٢٨٦ ، الطبعة السابعة.

٨٢

رواية الصحابي عن التابعي وهو نادر عزيز ، وحدّث عنه أيضاً أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب.

وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً.

وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي. (١)

ترى الذهبي أيضاً في كتابه « تذكرة الحفاظ » يعرفه بأنّه من أوعية العلم. (٢)

ومعنى ذلك أنّ الصحابة كانوا يعتقدون أنّه من محال العلم والفضل ، ولهذا السبب أخذ عنه الصحابة وغيرهم. وعندئذ يسأل : إذا أخذ عنه الصحابة وغيرهم على أنّه من أوعية العلم ، فما هو ذاك الذي أخذوه عنه؟ هل أخذوا عنه سوى الإسرائيليات المحرّفة والكاذبة؟ فإنّه لم يكن عنده ـ على فرض كونه صادقاً ـ سوى تلك الأساطير والقصص الموهومة. فهل تسعد أُمّة أخذت معالم دينها عن المحدّث اليهودي ، المعتمد على الكتب المحرفة بنص القرآن الكريم؟! ولكن كما قلنا ، هذا الفرض مبني على كونه صادقاً ، أمّا إذا كان كاذباً فالخطب أفدح وأجل ، ولا يقارن بشيء.

والمطالع الكريم في مروياته يقف على أنّه يركز على القول بأمرين : التجسيم والرؤية ، وقد اتخذهما أهل الحديث والحنابلة من الآثار الصحيحة ، فبنوا عليهما العقائد الإسلامية وكفروا المخالف ، وإليك كلا الأمرين :

__________________

١ ـ سير أعلام النبلاء : ج ٣ص٤٨٩ ولاحظ تفسير ابن كثير : ج٣ص٣٣٩ سورة النمل حيث قال : ـ بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان ـ : والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقاة عن أهل الكتاب ، ممّا وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب ، سامحهما اللّه تعالى في ما نقلاه إلى هذه الأُمّة ، من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن ، وممّاحرف وبدل ونسخ ، وقد أغنانا اللّه سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ.

٢ ـ تذكرة الحفاظ : ج١ص٥٢.

٨٣

الأوّل : تركيزه على التجسيم

إنّ الأحاديث المنقولة عن ذلك الحبر اليهودي ، تعرب بوضوح عن أنّه نشر بين الأُمّة الإسلامية فكرة التجسيم ، التي هي من عقائد اليهود. قال : إنّ اللّه تعالى نظر إلى الأرض فقال : إنّي واطئ على بعضك ، فاستعلت إليه الجبال وتضعضعت له الصخرة ، فشكر لها ذلك فوضع عليها قدمه ، فقال : هذا مقامي ، ومحشر خلقي ، وهذه جنتي وهذه ناري ، وهذا موضع ميزاني ، وأنا ديان الدين. (١)

ففي هذه الكلمة من هذا الحبر ، تصريح بتجسيمه سبحانه أوّلاً : وقد شاعت هذه النظرية بين أبناء الحديث والحشوية منهم ; وثانياً : التركيز على الصخرة التي هي مركز بيت المقدس; وثالثاً : أنّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض ، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة ، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرف.

الثاني : تركيزه على رؤية اللّه

ومن كلامه أيضاً : إنّ اللّه تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٢) وقد صار هذا النصّ وأمثاله مصدراً لتجويز فكرة رؤية اللّه سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة ، وبالأخص في الآخرة ، وقد صارت هذه العقيدة اليهودية المحضة ، إحدى الأُصول التي بني عليها مذهب أهل الحديث والأشاعرة.

ومن أعظم الدواهي ، أنّ الرجل خدع عقول المسلمين وخلفائهم ، فاتّخذوه واعظاً ومعلماً ومفتياً يفتيهم. وهنالك شواهد على ذلك :

منها : التزلف إلى الخليفة الثاني

قال ابن كثير : أسلم كعب في الدولة العمرية ، وجعل يحدّث عمر عن

__________________

١ ـ حلية الأولياء : ج٦ص٢٠.

٢ ـ الشرح الحديدي : ج ٣ص٢٣٧.

٨٤

كتبه قديماً ، فربما استمع له عمر ، فترخّص الناس في استماع ما عنده ، ونقلوا ما عنده عنه غثّها وسمينها. وليس لهذه الأُمّة ـ وإللّه أعلم ـ حاجة إلى حرف وإحد ممّا عنده. (١)

إنّ لهذا الرجل أساليب عجيبة في اللعب بعقول المسلمين وخلفائهم ، وإليك نماذج منها :

أ. قال كعب ، لعمر بن الخطاب : إنّا نجدك شهيداً وإنّا نجدك إماماً عادلاً ، ونجدك لا تخاف في اللّه لومة لائم. قال : هذا لا أخاف في اللّه لومة لائم فأنى لي بالشهادة. (٢)

ترى أنّه كيف يتزلّف إلى الخليفة ، ويتنبّأ بشهادته وقتله في سبيل اللّه.

ب. نقل أبو نعيم أيضاً : أنّ كعباً مر بعمر ، وهو يضرب رجلاً بالدرة. فقال كعب : على رسلك يا عمر ، فوالذي نفسي بيده إنّه لمكتوب في التوراة ، ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء ، ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء; فقال عمر : إلاّ من حاسب نفسه ، فقال كعب : والذي نفسي بيده إنّها لفي كتاب اللّه المنزل ، ما بينهما حرف : إلاّ من حاسب نفسه. (٣)

وهذه الجملة تعرب عن أنّ كعباً كان يتزلّف إلى عمر ، حتى إنّه يقرأ عليه نصّ التوراة المحرف لتصديق كلامه.

ج. وروي أيضاً : أنّ عمر جلد رجلاً يوماً وعنده كعب ، فقال الرجل حين وقع به السوط : سبحان اللّه ، فقال عمر للجلاد : دعه فضحك كعب ، فقال له : وما يضحكك ، فقال : والذي نفسي بيده إنّ « سبحان اللّه » تخفيف من العذاب. (٤)

__________________

١ ـ تفسير ابن كثير : ج ٤ص١٧ طبع الأفست.

٢ ـ حلية الأولياء : ج٥ص٣٨٨ ـ ٣٨٩.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ حلية الأولياء : ج٥ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

٨٥

والكلمة هذه محاولة من الحبر اليهودي ، لتوجيه عمل عمر ، عندما أمر الجلاّد بترك المجلود.

وهذه الأُمور صارت سبباً لجلب عطف الخليفة ، ففسح له التحدّث في عاصمة الوحي ، وأوساط المسلمين.

ومنها : تزلّفه إلى عثمان

ومن الخطب الفادح ، أنّه صار بأفانين مكره ، موضع ثقة لعثمان ومفتياً له في الأحكام ، يصدر الخليفة عن فتياه ، ويعمل بقوله ، وإليك ما يلي :

أ. ذكر المسعودي أنّه حضر أبو ذر ، مجلس عثمان ذات يوم ، فقال عثمان : أرأيتم من زكى ماله هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب : لا يا أمير المؤمنين ، فدفع أبو ذر في صدر كعب ، وقال له : كذبت يا ابن اليهودي ، ثمّ تلا : ( ليسَ البرَّ أَنْ تُولّوا وُجُوهكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِوالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ البِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخرِ وَالمَلائِكةِ وَالكِتابِ والنَّبِيّينَ وَآتى المالَ عَلى حُبّهِ ذَوي القُربى وَاليَتامى وَالمساكِينَ وَابنَ السَّبيلِ والسائلينَ وَفِي الرِقابِ وَأقامَ الصَّلاةَ وَآتىَ الزَّكاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ). (١)

فقال عثمان : أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه في ما ينوبنا من أُمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب : لا بأس بذلك ، فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال : يابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا ، فقال له عثمان : ما أكثر أذاك لي ، غيّب وجهك عنّي فقد آذيتنا. (٢)

ب. ونقل أيضاً : أتى عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال ، فَنُضِدَ البدر ، حتى حالت بين عثمان وبين الرجل القائل ، فقال عثمان : إنّي لأرجو لعبد الرحمن خيراً ، لأنّه كان يتصدّق ، ويقري الضيف ، وترك ما ترون; فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين ، فشال أبوذر العصا فضرب بها رأس كعب ، ولم يشغله ما كان فيه من الألم ، وقال : يابن اليهودي

____________

١ ـ سورة البقرة : الآية ١٧٧.

٢ ـ مروج الذهب : ج٢ص٣٣٩ ـ ٣٤٠.

٨٦

تقول لرجل مات وترك هذا المال إنّ اللّه أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على اللّه بذلك ، وأنا سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً » فقال له عثمان : وار عنّي وجهك. (١)

ومنها : تزلّفه إلى معاوية

نرى أنّ كعباً يتنبّأ بمولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهجرته وملكه ، فيقول : مولده بمكة ، وهجرته بطيبة ، وملكه بالشام. (٢)

فماذا يريد كعب بقوله : وملكه بالشام؟ هل هو إلاّ تزلف إلى معاوية ، وأنّه يريد أن يقول : إن ملك النبي لن يستقر إلاّ فيها؟ وقد كان معاوية يمهد وسائل الملك لنفسه بالشام.

وقال أيضاً : إنّ أوّل هذه الأُمّة نبوة ورحمة ، ثمّ خلافة ورحمة ، ثمّ سلطان ورحمة ، ثمّ ملك وجبرية ، فإذاكان ذلك ، فإنّ بطن الأرض يومئذ خير من ظهرها. (٣)

فترى أنّه يتنبّأ بالسلطنة ويعدّها رحمة ، وهذا المضمون انتشر في الصحاح والمسانيد بكثرة ، وقد روى الترمذي ، قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة ثمّ ملك بعد ذلك ». (٤)

و روى أبو داود قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خلافة النبوّة ثلاثون سنة ثم يؤتي اللّه الملك من يشاء ». (٥)

وسيوافيك أنّه أخذ منه أبو هريرة ، ولأجل ذلك نرى تلك الفكرة ـ فكرة الملك ـ جاءت في روايات أبي هريرة ، قال : الخلافة بالمدينة والملك بالشام. (٦)

__________________

١ ـ مروج الذهب : ج٢ص٣٤٠.

٢ ـ سنن الدارمي : ج ١ص٥.

٣ ـ حلية الأولياء : ج ٦ص٢٥.

٤ ـ سنن الترمذي : ج ٤ ، كتاب الفتن ، باب ما جاء في الخلافة ص٥٠٣ ، رقم ٢٢٢٦.

٥ ـ سنن أبي داود : ج٤ص٢١١.

٦ ـ كنز العمال : ج ٦ص٨٨.

٨٧

وقد أخذ عن ذلك الحبر الماكر عدة من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة ، ومعاوية وغيرهم. (١)

قال الذهبي : توفي في خلافة عثمان (٢). وقال أبو نعيم في حلية الأولياء إنّه توفّي كعب قبل مقتل عثمان بسنة (٣). وعلى ذلك توفّي عام ٣٤.

وقال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٤ : ففي هذه السنة توفّي كعب الأحبار. (٤)

نعم توفّي في ذاك العام ، لكن بعد ما ملأ المجتمع الإسلامي بأساطير ، وقصص ، وعقائد إسرائيلية ، حسبها السذّج من المحدّثين أنّها حقائق راهنة ، فنقلوها ناسبين لها إلى كعب تارة ، وإلى النبي الأعظم أُخرى ، وعليها بنيت العقائد وانتظمت الأُصول ، ومن تفحّص في كتب الحديث والتفسير والتاريخ ، يقف بوضوح على أنّ كثيراً من المحدّثين والمفسرين والمؤرّخين ، اعتمدوا على أقواله ومروياته من دون أي غمز وطعن أو تردد وشك ، وهذا من عجائب الأُمور وغرائبها.

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير من روايات ذلك الرجل وتسويلاته. فمن أراد الوقوف على أحواله وأقواله وما بثّ بين المسلمين من أساطير وقصص إسرائيلية ، فليرجع إلى المصادر التالية. (٥)

هذا وإنّ صاحب الثقافة المنحرفة يبثّ فكرته بين المجتمع في ظل دعامتين مؤثرتين :

__________________

١ ـ سير أعلام النبلاء : ج ٣ص٤٩٠.

٢ ـ تذكرة الحفاظ : ج ١ص٥٢.

٣ ـ حلية الأولياء : ج٦ص٤٥.

٤ ـ الكامل في التاريخ : ج ٣ص٧٧.

٥ ـ الأعلام للزركلي : ج ٥ص ٢٢٨ تذكرة الحفاظ : ج ١ص٥٢ سير أعلام النبلاء : ج٣ص ٤٨٩ ـ ٤٩٤ ; حلية الأولياء : ج ٥ص ٣٦٤ و ج ٦ ص ١ ـ ٤٨ ; الإصابة : ج ١ص ١٨٦ النجوم الزاهرة : ج١ص٩; الكامل : ج ٣ص ١٧٧ شرح ابن أبي الحديد في أجزائه المختلفة : ج ٣ص ٥٤ و ج٤ص ٧٧ ـ ١٤٧ و ج ٨ص ٢٦٥ و ج١٠ص٢٢ وج ١٢ص ٨١ وص١٩١ وج ١٨ص٣٦.

٨٨

الأُولى : يحاول الاتسام بالعلم ، ويعرّف نفسه للمجتمع بأنّه عالم كبير ، ومفكّر اجتماعي بلا منازع ، حتى يتّخذ لنفسه من هذا الطريق مكاناً في القلوب تنعطف إليه النفوس وترتاح به.

الثانية : يحاول الاتّصال بأصحاب السلطة ، حتى يتخذهم سناداً وعماداً في مقابل العواصف القارعة التي يثيرها صلحاء الأُمّة ومفكّروها الواقعيون.

فإذا تهيّأت لأصحاب الفكرة المنحرفة هاتان الدعامتان ، سهل لهم النفوذ في عقول بسطاء الأُمّة ، وتمكّنوا من نفث أفكارهم المسمومة في نفوسها ، ولا تمر الأيام حتى تصبح أفكارهم حقيقة راهنة لا يمكن تجاوزها ، ولا الدعوة على خلافها ، بل تصير المخالفة لها ارتداداً عن الدين ، وتشبّثاً بالباطل.

ومن عجائب الأُمور أنّ الأحبار والرهبان عندما تظاهروا بالإيمان ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، هيمنوا على عقول المسلمين من خلال الأمرين المذكورين.

فمن جانب عرفوا بأنّهم من أوعية العلم ، وأنّ عندهم علوم الأوّلين والآخرين بتفصيلاتها ، وأنّهم حفظة التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السماوية.

ومن جانب آخر استعانوا بالحكم السائد ، بحيث صاروا موضع ثقة عنده ، يسمع لكلامهم ويصدر عن رأيهم.

عند ذلك أخذت الإسرائيليات والمسيحيات ، مكان السنّة النبوية وصار نقلتها مصادر الحكم والفتيا ، فأصبحت آراؤهم وأقوالهم مدارك الفقه وسناد التاريخ ، ومعياراً للحقّ والباطل في العقائد ، فيا لها من رزية عظمت ، ويا لها من مصيبة كبرت.

هذا هو كعب الأحبار فقد استعان في بث ثقافته ( الثقافة اليهودية ) بهاتين الدعامتين ، فهلم معي ندرس حياة بعض زملائه ، وسوف تقف على أنّ الخط الذي مشى عليه كعب ، قد مشى عليه زملاؤه ، وإليك البيان :

٨٩

٢ ـ وهب بن منبه اليماني

وقد ابتلي المسلمون بعد كعب الأحبار بكتابي آخر قد بلغ الغاية في بثّ الإسرائيليات بين المسلمين حول تاريخ الأنبياء والأُمم السالفة ، وهو وهب بن منبه. قال الذهبي : ولد في آخر خلافة عثمان ، كثير النقل عن كتب الإسرائيليات ، توفّي سنة ١١٤ وقد ضعّفه الفلاس. (١)

وقال في تذكرة الحفاظ : عالم أهل اليمن ، ولد سنة أربع وثلاثين وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير ، فإنّه صرف عنايته إلى ذلك وبالغ ، وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام. (٢)

وترجمه أبو نعيم في حلية الأولياء ترجمة مفصلة استغرقت قرابة ستين صفحة ، وبسط الكلام في نقل أقواله وكلماته القصار. (٣)

وقد خدع عقول الصحابة بأفانين المكر ، حيث صار يعرّف نفسه بأنّه أعلم ممّن قبله ومن عاصره بقوله لبعض حضّار مجلسه : يقولون عبد اللّه بن سلام أعلم أهل زمانه ، وكعب أعلم أهل زمانه ، أفرأيت من جمع علمهما؟ يعني نفسه. (٤)

وقد تسنّم الرجل ، منبر التحدّث عن الأنبياء والأُمم السالفة يوم كان نقل الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممنوعاً وأخذ بمجامع القلوب فأخذ عنه من أخذ ، وكانت نتيجة ذلك التحدّث ، انتشار الإسرائيليات حول حياة الأنبياء في العواصم الإسلامية ، وقد دوّن ما ألقاه في مجلد واحد ، أسماه في كشف الظنون « قصص الأبرار وقصص الأخيار ». (٥)

__________________

١ ـ ميزان الاعتدال : ج٤ص٣٥٢ ـ ٣٥٣.

٢ ـ تذكرة الحفاظ : ج ١ص١٠٠ ـ ١٠١.

٣ ـ حلية الأولياء : ج١ص٢٣ ـ ٨١.

٤ ـ تذكرة الحفاظ : ج ١ص١٠١.

٥ ـ كشف الظنون : ج ٢ص٢٢٣ ، مادة قصص.

٩٠

وهب بن منبه والتركيز على القدر

وليته اكتفى بهذا المقدار ولم يلعب بعقيدة المسلمين ولم ينشر نظرية الجبر التي لو ثبتت لما بقيت للشرائع دعامة ، ويظهر من تاريخ حياته أنّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار والمشيئة عن الإنسان ، حتّى المشيئة الظلية التي لولاها لبطل التكليف ولغت الشريعة.

روى حماد بن سلمة عن أبي سنان قال : « سمعنا وهب بن منبه قال : كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء في كلّها : من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر ، فتركت قولي» (١).

والمراد من القدر في قوله : « كنت أقول بالقدر » ليس القول بتقدير اللّه سبحانه وقضائه ، بل المراد هو القول بالاختيار والمشيئة للعبد كما يظهر من ذيل كلامه.

وهذا النقل يعطي أنّ القول بنفي القدر والمشيئة للإنسان ، قد تسرب إلى الأوساط الإسلامية ، عن طريق هذه الجماعة وعن الكتب الإسرائيلية. أفيصح بعد هذا أن نعدّ القول بنفي المشيئة عقيدة جاء بها القرآن والسنة النبوية ، ونكفّر من قال بالمشيئة للإنسان ولو مشيئة ظلية تابعة لمشيئته سبحانه ، ونقاتل في سبيل هذه العقيدة؟!

٣ ـ تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير

الإسرائيليات المبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ ترجع أُصولها إلى رجال الكنائس والبيع ، وقد تعرّفت على اثنين منهم وهما كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وثالثهم هو تميم الداري وله دور كبير في بثّها حيث إنّه أوّل من تولى نشر هذه الأساطير ، وقد حدّث عنه علماء الرجال والتراجم وأطبقوا على أنّه كان نصرانياً قدم المدينة فأسلم في سنة ٩ هجرية ، وله من الأوّليات أمران :

____________

١ ـ ميزان الاعتدال : ج٤ص٣٥٣.

٩١

١ ـ كان أوّل من أسرج في المسجد.

٢ ـ أوّل من قصّ بين المسلمين ، واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً ، فأذن له. (١) وكان يسكن المدينة ثمّ انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان. (٢)

هذا ما اتّفقت عليه الكتب الرجالية ، ويستنتج منها ما يلي :

إنّ الرجل كان قصّاصاً في المدينة يوم لم يكن هناك من يعارضه ويكافئه ، وبما أنّ الرجل كان قد قضى شطراً من عمره بين الأحبار والرهبان ، فمن الطبيعي أن يقوم بقص كلّ ما تعلّمه من أساتذته من الإسرائيليات والأساطير المسيحية وبثّها بين المسلمين وهم يأخذونها منه زاعماً أنّها حقائق راهنة.

ومن المؤسف أنّ السياسة الحاكمة سمحت لهذا الكتابي الذي أسلم في أُخريات حياة الرسول بأن يتحدّث عن الأُمم السالفة والأنبياء السابقين. وفي الوقت نفسه منعت عن التحدّث عن رسول اللّه ونشر كلامه وتدوينه ، بحجة واهية قد تعرّفت عليها.

أو ليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم » على ما رواه أبو هريرة حيث إنّه قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا باللّه وما أُنزل إليكم ». (٣)

وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا بعدم تصديق هؤلاء القصّاصين من أهل الكتاب ، فما فائدة نقل هذه القصص وبثها بين المسلمين وإتلاف عمر الشباب والكهول بالاستماع إليها؟!

__________________

١ ـ كنز العمال : ج ١ص٢٨١ الرقم ٢٩٤٤٨.

٢ ـ الإصابة : ج ١ص ١٨٩ الاستيعاب في هامش الإصابة; أُسد الغابة : ج ١ص٢١٥ وغيرها من المصادر.

٣ ـ صحيح البخاري ، الجزء التاسع ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة : ص ١١١.

٩٢

ولكن ابن عباس يقول أشد مما نقله أبو هريرة : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء؟ وكتابكم الذي أُنزل على رسول اللّه أحدث الكتب تقرأونه محضاً لم يشب وقد حدثكم أنّ أهل الكتاب بدّلوا كتاب اللّه وغيّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً؟!

ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! لا واللّه ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أُنزل إليكم. (١)

إنّ ابن عباس الذي هو وليد البيت النبوي أعرف بسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبي هريرة ، فهو ينهى عن السؤال والاستماع إلى كلماتهم بالمرة.

وبذلك يعلم أنّ ما أسند إلى النبي في المسانيد من القول : « حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ». (٢) إمّا موضوع ، أو مؤوّل محمول على ما علم من صدق الكلام.

طعن الشيطان لكلّ بني آدم إلاّ عيسى

إذا كان كعب الأحبار وزميله وهب بن منبه والمتقدّم عليهما تميم الداري ، هم القصّاصون في المجتمع الإسلامي والمتحدّثون عن التوراة والإنجيل ، وكانت الصحابة ممنوعة عن التحدث عن النبي فمن الطبيعي أن ينتشر في العواصم الإسلامية الأساطير الخرافية حتى ما يمس بكرامة الأنبياء وكرامة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا البخاري ينقل في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : قال النبي : كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه باصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب. (٣)

__________________

١ ـ أضواء على السنّة المحمدية : ص ١٥٤ ـ ١٥٥ ، نقلاً عن البخاري من حديث الزهري.

٢ ـ مسند أحمد : ج ٣ص ٤٦.

٣ ـ صحيح البخاري : ج٤ص ١٢٥ ، باب صفة إبليس وجنوده ص ١٢٥ ، و ج ٤ كتاب بدء الخلق ص ١٦٤.

٩٣

وقد نقله أحمد في مسنده باختلاف يسير. ومعنى هذا الحديث الذي ينقله عن ذلك الصحابي عن الرسول : أنّ الشيطان يطعن كلّ ابن آدم إلاّ واحداً منه وهو عيسى بن مريم ، وأمّا الأنبياء كموسى ونوح وإبراهيم وحتى خاتمهم ، لم يسلموا من طعن الشيطان. أو ليس ذلك الحديث يخالف كتاباللّه حيث يقول : ( إِنّ عِبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ، إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِين ) (١) ؟!

فإذن ، كيف يمكن أن يقول النبي ذلك وقدأُوحي إليه أنّه ليس للشيطان سلطان على عباد اللّه المخلصين (٢) وخيرهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدّمهم نبي العظمة؟! ومن المحتمل جداً أنّ هذا الخبر وصل إلى أبي هريرة من رواة عصره ، نظراء كعب الأحبار أو زميله تميم الداري وأضرابهما وقد نسبوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. إنّ هذا الحديث ونظائره أوجد مشاكل في الدين وأعطى حججاً بأيدي المخالفين حتى يهاجموا الرسول الأكرم والأنبياء ، ويزعموا بأنّهم سقطوا في الخطيئة واقترفوا الآثام ، إلاّعيسى بن مريم فإنّه أرفع من طبقة البشر وإنّه وحده قد استحقّ العصمة والصون من الآثام.

فهؤلاء المحدّثون لو فرض أنّهم صادقون في نيّاتهم ، لكنّهم كالصديق الجاهل أضروا بالإسلام بنقل هذه القصص والأساطير وأيّدوا العدو بها وأتعبوا المسلمين من بعدهم.

تميم الداري وقصة الجساسة

إنّ لتميم الداري حديثاً معروفاً باسم حديث الجساسة ، نقله مسلم في الجزء الثامن من صحيحه ص ٢٠٣ تجد فيه من الغرائب ما تندهش منها العقول.

روي عن فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس ـ وكانت من المهاجرات الأُول ـ : سمعت نداء المنادي ( منادي رسول اللّه ) ينادي :

__________________

١ ـ سورة الحجر : الآية ٤٢.

٢ ـ سورة النحل : الآية ٩٩ والحجر : الآية ٤٢.

٩٤

الصلاة جامعة ، فخرجت إلى المسجد فصلّيت مع رسول اللّه ، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى رسول اللّه صلاته جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : ليلزم كلّ إنسان مصلاّه.ثمّ قال : أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم. قال : إنّي واللّه ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأنّ تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدّثني حديثاً وافق الذي كنت أُحدثكم عن مسيح الدجال ، حدّثني أنّه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهراً في البحر ، ثمّ أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس ، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقالوا : ويلك ما أنت؟ فقالت : أنا الجسّاسة. قالوا : وما الجسّاسة؟ قالت : أيّها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق. قال : لما سمّت لنا رجلاً فزعنا منها أن تكون شيطانة. قال : فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير ، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك ما أنت؟ قال : قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم؟ قالوا : نحن أُناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم ، فلعب بنا الموج شهراً ثمّ أرفأنا إلى جزيرتك هذه ، فجلسنا في أقربها ، فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا : ويلك ما أنت؟ قالت : أنا الجسّاسة. قلنا : وما الجسّاسة؟ قالت : اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق ، فأقبلنا إليك سراعاً وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة. فقال : أخبروني عن نخل بيسان. قلنا : عن أي شأنها تستخبر؟ قال : أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له : نعم. قال : أمّا إنّه يوشك أن لا يثمر. قال : أخبروني عن بحيرة الطبرية. قلنا : عن أي شأنها تستخبر؟ قال : هل فيها ماء؟ قالوا : هي كثيرة الماء. قال : أما إنّ ماءها يوشك أن يذهب. قال : أخبروني عن عين زغر. قالوا : عن أي شأنهاتستخبر؟ قال : هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له : نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها. قال : أخبروني عن نبي الأُميّين ما فعل؟ قالوا : قد

٩٥

خرج من مكة ونزل يثرب. قال : أقاتله العرب؟ قلنا : نعم. قال : كيف صنع بهم؟فأخبرناه أنّه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم : قد كان ذلك؟ قلنا : نعم. أما إنّ ذاك خير لهم أن يطيعوه وإنّي مخبركم عنّي إنّي أنا المسيح وإنّي أوشك أن يؤذن لي في الخروج ، فأخرج فأسير في الأرض ، فلا أدع قرية إلاّ هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرّمتان عليّ كلتاهما ، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها وإنّ على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : وطعن بمخصرته في المنبر هذه طيبة ، هذه طيبة ، هذه طيبة ، يعني : المدينة ، ألا هل كنت حدّثتكم ذلك؟ فقال الناس : نعم ، فإنّه أعجبني حديث تميم إنّه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ألا إنّه في بحر الشام أو بحر اليمن لا بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ، ما هو. وأومأ بيده إلى المشرق. قالت : فحفظت هذا من رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ). (١)

وقد علّق المحقّق المصري أبو رية على هذا الحديث وقال : لعل علماء الجغرافية يبحثون عن هذه الجزيرة ويعرفون أين مكانها من الأرض ، ثمّ يخبروننا حتى نرى ما فيها من الغرائب التي حدثنا بها سيدنا تميم الداري ؟!! (٢)

وأعجب منه أن يحدث نبي العظمة الذي يقول سبحانه في حقّه : ( وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظيماً ). (٣)

عن تميمم الداري ويستشهد بكلام نصراني دخل في الإسلام حديثاً ، ونعم ما قال شاعر المعرة :

*فيا موت زر إنّ الحياة ذميمة*

__________________

١ ـ صحيح مسلم : ج ٨ باب في الدجّال ص ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ، .

٢ ـ أضواء : ص ١٧١.

٣ ـ سورة النساء : ص١١٣.

٩٦

٤ ـ ابن جريج الرومي ورواية الموضوعات

عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي ، ولاؤه لآل خالد بن أسيد الأموي ، ولد سنة ٨٠ وتوفّي عام ١٥٠ ، قال أحمد بن حنبل : كان من أوعية العلم وهو وابن أبي عروبة أوّل من صنف الكتب ، وقال عبد الرزاق : كان ابن جريج ثبتاً لكنّه يدس. (١)

ونقل الذهبي أيضاً عن عبد اللّه بن حنبل قال : « إنّ بعض هذه الأحاديث الذي يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها ». (٢)

نعم ، روى الكليني بسنده عن الفضل الهاشمي ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن المتعة فقال : « الق عبد الملك ابن جريج ، فسله عنها ، فإنّ عنده منها علماً ، فلقيته ، فأملى علي شيئاً كثيراً في استحلالها ، وكان فيما روى لي فيها ابن جريج أنّه ليس فيها وقت ولا عدد ، وإنّما هي بمنزلة الإماء ، يتزوج منهن كم شاء ، وصاحب الأربع نسوة يتزوج منهن ما شاء ، بغير ولي ولا شهود ، فإذا انقضى الأجل ، بانت منه بغير طلاق ، ويعطيها الشيء اليسير ، وعدتها حيضتان ، وإن كانت لا تحيض فخمسة وأربعون يوماً. قال : فأتيت بالكتاب أبا عبد اللّه عليه‌السلام ، فقال : « صدق ». وأقر به. (٣)

ولعلّ إرجاع الإمام عليه‌السلام سائله إليه ، لأجل اعترافه بالحق في تلك المسألة ، وليس هذا دليلاً على وثاقته مطلقاً.

حصيلة البحث

إنّ هذه العصابة التي أتينا بأسمائهم وذكرنا عنهم شيئاً ، كانوا هم الأُسس في تسرب القصص الخرافية لليهود وإلمسيحيين إلى متون كتب المسلمين وصارت

__________________

١ ـ تذكرة الحفاظ : ج ١ص١٦٩ ـ ١٧١.

٢ ـ ميزان الاعتدال : ج ٢ص ٦٥٩.

٣ ـ الوسائل : ج ١٤ ، كتاب النكاح ، الباب ٤ من أبواب المتعة ، الحديث ٨.

٩٧

نواة لكثير من القصّاصين والوضّاعين الذين نسجوا على منوالهم ونقلوا كلّ ما سمعوه من غث وسمين باسم الدين ، ولأجل ذلك نجد كثيراً من كتب التفسير والتاريخ والحديث حتى ما يسمّى بالصحاح والمسانيد ، مملوءة بالإسرائيليات والمسيحيات بل والمجوسيات.

يقول « جولد تسيهر » في هذا المضمار في كتابه « العقيدة والشريعة » : هناك جمل أخذت من العهد القديم والعهد الجديد وأقوال للربانيّين ، أو مأخوذة من الأناجيل الموضوعة وتعاليم من الفلسفة اليونانية ، وأقوال من حكم الفرس والهنود ، كلّ ذلك أخذ مكانه في الإسلام عن طريق الحديث ـ إلى أن قال ـ : ومن هذا الطريق تسرب كنز كبير من القصص الدينية حتى إذا ما نظرنا إلى الرواة المعدودة من الحديث ونظرنا إلى الأدب الديني اليهودي ، فإنّنا نستطيع أن نعثر على قسم كبير دخل الأدب الديني الإسلامي من هذه المصادر اليهودية. (١)

نحن لا نصدق هذا المستشرق الحاقد على الإسلام في كلّ ما يقول ويقضي ، إلاّ أنّنا نوافقه في أنّ ما يؤثر عن أمثال كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وتميم الداري ، وعبد الملك بن جريج وغيرهم ، من الإسرائيليات ، ليس من صلب الإسلام وحديثه. والعجب أنّ هذه الجماعة لم تتمكن من إخفاء نواياها السيئة ، فترى أنّ اليهودي منهم ينقل فضائل موسى ويرفعه فوق جميع الأنبياء ، كما أنّ النصراني منهم أخذ يرفع مقام المسيح عليه‌السلام على جميعهم ويصفه بالعصمة وحده دون غيرهم.

نعم ليس كلّ ما ورد في الشريعة الإسلامية ووافق التعاليم اليهودية والنصرانية ، مأخوذاً من كتبهم لأنّ الشرائع السماوية واحدة في جوهرها متحدة في أُصولها ، وبينها مشتركات كثيرة والاختلاف إنّما هو في الشرعة والمنهاج لا في الجوهر واللباب ، قال سبحانه : ( لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرعَةً وَمِنْهاجاً ). (٢)

__________________

١ ـ العقيدة والشريعة في الإسلام تأليف المستشرق « جولد تسيهر » ترجمة الأساتذة الثلاثة.

٢ ـ سورة المائدة : الآية ٤٨.

٩٨

فالاختلاف إنّما هو في الطرق الموصلة إلى ماء الحياة ، أعني : الأُصول والتعاليم السماوية النازلة من مصدر الوحي. فلو كان هناك اختلاف فإنّما هو في القشور والأثواب ، لا في الجوهر واللباب. وقد فصلنا الكلام في ذلك في « مفاهيم القرآن ». (١)

خاتمة المطاف

وأخيراً نقول : إنّ المتظاهرين بالإسلام من الأحبار والرهبان الذين كان لهم دور كبير في بثّ الإسرائيليات وتكوين المذاهب ، ليسوا منحصرين في من ذكرناهم ، بل هناك جماعة منهم لعبوا دوراً في هذا المضمار يجد المتتبع أسماءهم ويقف على أقوالهم في كتب الرجال والتراجم والروايات والأحاديث ، كعبد اللّه بن سلام الذي أسلم في حياة النبي ، وطاووس بن كيسان الخولاني ، الحمداني بالولاء من التابعين ، ولد عام ٣٣ وتوفّي عام ١٠٦ ، وغيرهم ممّن تركنا البحث عنهم اختصاراً.

ولإتمام البحث نأتي بنص بعض المحقّقين في ذاك المجال وهي كلمة للدكتور « رمزي نعناعة » حول الإسرائيليات ، قال : تسرب كثير من الإسرائيليات عن طريق نفر من المسلمين أنفسهم أمثال : عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، فقد روي أنّه أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب يوم اليرموك ، فكان يحدّث الناس ببعض ما فيها اعتماداً على حديث مروي. (٢)

وعن هؤلاء المفسرين الذين لا يتورّعون عن تفسير القرآن بمثل هذه الخيالات والأوهام يقول النظام : « لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا في كلّ مسألة ، فإنّ كثيراً منهم يقول بغير رواية من أساس ، وليكن عندكم عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر

__________________

١ ـ مفاهيم القرآن : ج ٣ص ١١٩ ـ ١٢٤.

٢ ـ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حدّثوا عني ... ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. مسند أحمد : ج ٣ص ٤٦.

٩٩

الأصم في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم. (١)

وقال أيضاً حول قصة آدم وحواء : ونقرأ تفسير الطبري وتفسير مقاتل بن سليمان في هذه القصة فيتجلّى لنا بوضوح انّهما أخذا ما جاء في التوراة وشروحها من تفصيل لهذه القصة ، ووضعوه تفسيراً لآيات القرآن الكريم وهم يروون ذلك عن وهب بن منبه تارة ، وعن إسرائيل عن أسباط عن السدي تارة أُخرى. (٢) ومثلاً نجد القرآن الكريم قد اشتمل على موضوعات وردت في الإنجيل كقصة ولادة عيسى بن مريم ومعجزاته ، فجاء المفسرون ينقلون عن مسلمة اليهود والنصارى شروحاً لهذه الآيات. (٣)

وقال أيضاً : ولم يقتصر تأثير الإسرائيليات على كتب التفسير ، بل تعدّاها إلى العلوم الإسلامية الأُخرى ، فقد عني بعض المسلمين بنقل تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم كما فعل أبو إسحاق والطبري في تاريخيهما وكما فعل ابن قتيبة في كتاب المعارف ... كذلك كان لليهود أثر غير قليل في بعض المذاهب الكلامية ، فابن الأثير يروي عند الكلام على « أحمد بن أبي دؤاد » أنّه كان داعية إلى القول بخلق القرآن ، وأخذ ذلك عن بشر المريسي وأخذ بشر من الجهم بن صفوان ، وأخذ الجهم من الجعد بن أدهم ، وأخذه الجعد عن أبان بن سمعان ، وأخذه أبان عن طالوت ابن أُخت لبيد الأعصم وختنه ، وأخذه طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي وكان لبيد يقول : خلق التوراة ، وأوّل من صنف في ذلك طالوت وكان زنديقاً فأفشى الزندقة. (٤)

وسيوافيك أنّ القول بقدم القرآن وكونه غير مخلوق ، أيضاً تسرّبت من اليهود حينما قالوا بقدم التوراة ، أو من النصرانية حينما قالوا بقدم « الكلمة » التي هي المسيح. فللأحبار والرهبان دور راسخ في خلق هذه

__________________

١ ـ الحيوان للجاحظ : ج ١ص٣٤٣ ـ ٣٤٦.

٢ ـ تفسير مقاتل : ج ١ص ١٨ وتفسير الطبري : ج ١ص ١٨٦ ومابعده.

٣ ـ تفسير الطبري : ج ٣ص ١٩٠ وص ١١٢.

٤ ـ الكامل لابن الأثير : ج ٥ ص ٢٩٤ حوادث سنة ٢٤٠; ولاحظ الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير للدكتور رمزي نعناعة : ص ١١٠ ـ ١١١.

١٠٠