تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

قال في سنن أبي داود : عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء ، فتيمما صعيدا طيبا ، وصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء (١) ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرا ذلك ، فقال للذي لم يعد : «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد : «لك الأجر مرتين» وقد اختار هذا الأمير الحسين في الشفاء ، وروى هذا الخبر من العلوم (٢) ، واستدل به ، فإذا ثبت هذا حمل ما روي عن علي عليه‌السلام على الاستحباب.

وهكذا في المريض لا يجب عليه تأخير عن أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ؛ لأن المبيح هو المرض ، وسواء كان راجيا لزوال عذره في الوقت أو آيسا.

وقال المؤيد بالله : يجب التأخير ؛ لأن البدل لا يفعل إلا مع الأياس من المبدل ، كالمنقطعة الحيض لا تعتد بالشهور إلى الأياس ، ولو أيس المريض من زوال علته في الوقت فإنه يؤخر ، قاله المؤيد بالله ؛ لأن أحدا لم يفصل.

وقال الناصر وأصحابه (٣) ، والمتوكل أحمد ، والأمير بدر الدين ، والقاضي جعفر : إذا أيس لم يجب التأخير ، وأدلة الفريقين أجلى ، وفي إيجاب انتظار آخر الوقت بحيث يصادف فراغه طلوع الشمس أو غروبها حرج.

__________________

(١) في نسخة ب (بالوضوء).

(٢) العلوم كتاب أمالي الإمام أحمد بن عيسى برواية محمد بن منصور المرادي.

(٣) في الأصل (ص) فيحتمل أنه أصحابه ، لأنه لم يذكر بعده بالله ، حتى يحمل على المنصور بالله.

٨١

الفرع الثاني الترتيب

والكلام فيه كالوضوء ، لكن استدل أهل المذهب بقوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ).

قالوا : والفاء للتعقيب ، وهذا فيه ما تقدم أنها سببية ، فلا تفيد التعقيب ، إنما تفيد لو كانت عاطفة فالأولى الاستدلال بالسنة ، وسقط بعض الترتيب ؛ لأنها طهارة ضرورة ، ولثبوت ذلك في الأخبار ، من كون تيمم راحة اليسرى حصل قبل ذراع اليمنى.

وأما على قول الشافعي : فلا ترتيب بين اليدين.

الفرع الثالث ما يؤدى بالتيمم

فهذا المسألة فيها أقوال للعلماء ، فعند الهادي ، والقاسم ، ومالك ، والشافعي : لا يؤدى إلا فريضة واحدة ، قلنا : ونافلتها (١).

قال الشافعي : وما شاء من النوافل وفرض الكفاية.

وقال أبو حنيفة ، وقول للناصر : يصلي ما شاء حتى يحدث ، أو يجد الماء.

قال داود : قد ارتفع الحدث ، وسبب هذا الخلاف اختلاف المفهوم من الآية ، فأهل القول الأول قالوا : الآية تقضي بوجوب التيمم لكل صلاة ، وكذلك الوضوء ، فخرج الوضوء بالإجماع فبقي التيمم تحت العموم.

وأهل القول الثاني قالوا : قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) إلى قوله : (فَتَيَمَّمُوا) لا يقتضي تكرار ؛ لأن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار.

أما بطلان فعل داود فالأخبار مصرحة بذلك نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) وهذا هو المختار.

٨٢

«التراب طهور المؤمن إلا أن يجد الماء» ونحو ذلك ، وقد روي عن داود : وجوب الغسل إذا وجد الماء.

قال القائلون بالتكرار : روي عن ابن عباس (من السنة أن لا يصلى بتيمم إلا فريضة ، ثم يتيمم للصلاة الأخرى) والسنة إذا أطلقها الصحابي فالمعهود سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

قيل لهم : قد تضاف السنة إلى غيره بدليل : «عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».

وقوله عليه‌السلام : «من سن سنة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة».

قالوا : إنه مأمور به لاستباحة الصلاة.

قيل : إذا أبيحت واحدة أبيحت الثانية.

قالوا : لا نخالف ابن عباس ، وابن عمر في روايتهما أن السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا فريضة.

قيل لهم : الأصل في إطلاق السنة لما يجوز تركه ، وإنما جازت النافلة مع الفريضة لأنها تبع لها ، ولكل فريق توجيهات شبهية.

الفرع الرابع

إذا لم يجد المصلي ماء ولا ترابا فما تكليفه وقد أمر بالصلاة بقوله تعالى في سورة الإسراء : (أَقِمِ الصَّلاةَ)؟ وأمر بالوضوء في هذه الآية إذا قام إلى الصلاة إذا وجد الماء ، فإن لم يجد فبالتيمم؟.

__________________

(١) قد يجاب بالمنع ، بل المتبادر من السنة : الطريقة والعادة ، وما ذكره يختص بالسنن من الصلوات.

٨٣

قلنا : اختلف العلماء في هذه المسألة ، فعند الهادي ، والناصر ، والشافعي ، وأبي يوسف : يصلي على حالته ، لقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ).

وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يصلي ؛ لأنه مأمور بإحدى الطهارتين ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقبل الله صلاة بغير طهور».

قلنا : أراد مع التمكن لقوله عليه‌السلام : «إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث جماعة في طلب عقد ضاع لعائشة فلم يجدوا ماء ، فصلوا بغير وضوء ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت أية التيمم ، ولم ينكر عليهم ، لكن عند الهادي لا يعيد بعد الوقت ، وعند الشافعي ، ومالك ، وأبي يوسف : يعيد إذا وجد الماء.

وأما إيجاب التسمية والنية في التيمم فمأخذ ذلك من غير هذه الآية (١) ، فهذا جملة من الكلام على هذه الآية الكريمة.

وفي كلام الله سبحانه من الفوائد والأسرار والألطاف ما تضيق عنه السجلات (٢).

[تتمة]

تمام لما سبق في الحكم السادس قبل هذا في طهارة الجنب (٣) متصل بقوله : فعل ذلك رخصة [في أول الإسلام ، ثم نهي عن ذلك ، وأمر بالغسل](٤).

__________________

(١) في جامع البيان (فَتَيَمَّمُوا) أي : اقصدوا ، فتؤخذ النية من الآية ، وكذا في الكشاف ، وقد احتج بالآية على وجوب النية في التيمم الشافعي ، وأبو حنيفة ، والأكثرون ، ذكره النيسابوري ، وخالفوه في الوضوء.

(٢) بياض في الأصل قدر سطر.

(٣) لذي يتعلق بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الآية.

(٤) ما بين القوسين في النسخة أأصل ، وفي النسخة ب حاشية.

٨٤

فإذا قلنا : بوجوب الغسل من التقاء الختانين فالرجال والنساء سواء في الوجوب ؛ لأنه قد ثبت أنهما سواء مع الإنزال في النوم واليقظة سواء كان إيلاج الذكر في صغيرة أو كبيره.

أما إذا أولج البالغ في فرج الصغيرة فالغسل واجب عليه بلا إشكال.

وأما الصغيرة فهل تصير جنبا بهذا أم لا؟

فقال القاضي جعفر وأبو مضر : تصير جنبا بهذا أنزل أم لا.

وقال القاضي يوسف ، والمهدي أحمد : لا تصير جنبا بهذا ، والإيلاج في فرج الميتة عند الهدوية كالإيلاج في فرج الحية خلافا للمؤيد بالله ، والدبر كالقبل ؛ لأن الجميع وطء يوجب الحد ، أو وطء يوجب اللذة ، فدخل اسم الجنابة.

وأما الإيلاج في فرج البهيمة فكذا عندنا ، والشافعي.

وقال أبو حنيفة : وجوبه خاص في الإيلاج في فرج آدمي سواء كان القبل أو الدبر لا فرج غير الآدمي.

أما لو أولج صغير في كبيرة ، أو صغير في صغيرة ، وكان الصغير ممن يجامع مثله ، فلا يمتنع وجوب الغسل لأجل ذلك ؛ لأنه يحلّ (١).

وأما لو كان الصغير لا يجامع مثله فجماعة لا يحل ، فيلزم أن لا يوجب الغسل ، والله أعلم.

وهاهنا فائدة ، وهي : أنه لا ترتيب في الغسل عند الأكثر ؛ لأن الآية لم تقض في ذلك بشيء فكيف ما فعل عد ممتثلا (٢).

__________________

(١) وفي نسخة (يحلل). وكذلك في قوله (فجماعة : لا يحل) وفي نسخه (فجماعة : لا يحلل)

(٢) في (ح / ص): (بعد غسل مخرج المني).

٨٥

قال في النهاية : ومنهم من أوجب البداية بغسل الرأس ؛ لحديث أم سلمة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثم تفيضي الماء على سائر جسدك» وحرف ثم للترتيب.

وبالترتيب بين الرأس والبدن قال أبو محمد بن حزم (١).

وفي قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ) أي : من ضيق في الوضوء والغسل ، وهذا دليل أن الله تعالى لا يريد الحرج في ذلك ، فلا يصح الوضوء والغسل مع خشية الهلاك (٢).

أما مع خشية المضرة فقد ورد أن إسباغ الوضوء في السبرات فيه فضل ورفع للدرجات ، فيكون مخصصا للعموم.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨]

النزول

قيل : ذهب رسول الله إلى يهود ليستعين في دية قتيل ، فهموا بقتله (٣) ، وهم بنو النظير ، عن عبد الله بن كثير.

__________________

(١) في النسخة أ ، وب (قال في النسخة المنقول منها إلى هنا مقدم) وابتداء التقديم من قوله (وإذا قلنا بوجوب الغسل من التقاء الختانين).

(٢) هذا يصلح حجة للمؤيد بالله ، أن العبرة بالابتداء ، وعلى ما يختار ـ إن هلك ، وإلا عصى وصح ، والله أعلم. (ح / ص).

(٣) قال في مختصر سيرة بن هشام ، وفي السنة الثالثة ، أو الرابعة كانت غزوة بني النضير ، وسببها ما رواه البخاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إليهم ليستعينهم في دية الرجلين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ ، فهي ـ

٨٦

وقيل : نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام ، عن الحسن.

ثمرة الآية : الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقيام بالقسط ، يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به ، وكذلك الفتوى ، وأن قول الحق لا يترك وجوبه لعدو ولا صديق ، ولا يجوز اتباع الهوى.

قال جار الله : وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجبا مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة ، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياء الله وأحباؤه!؟

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) [المائدة : ١١]

ذكر في سبب نزولها : أقوال :

أحدها : أن المشركين لما رأوا رسول الله هو وأصحابه في صلاة الظهر بعسفان في غزوة ذي أنمار ، فلما صلوا ندموا هلا كانوا أكبوا عليهم ، فقالوا : إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعنون صلاة العصر ، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا لها ، فنزل جبريل بصلاة الخوف.

__________________

على الصواب كما قال ابن إسحاق بعد أحد وبئر معونة ـ فاستند إلى جدار حصن من حصونهم فأمروا رجلا يطرح على رأسه من الحصن حجرا ، فأخبره جبريل عليه‌السلام بذلك ، فقام موهما لهم وترك أصحابه ، ورجع إلى المدينة ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وقيل : نزلت في غورب بن الحارث الذي هم بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم أصبح غازيا عليهم فحصرهم وقطع نخيلهم ، وحرقها. الخ القصة. (ح / ص).

٨٧

ثمرتها : تأكيد المحافظة على صلاة الجماعة اقتداء برسول الله عليه‌السلام ـ وثبوت صلاة الخوف لما نقل من سبب نزولها (١).

قوله تعالى

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) [المائدة : ١٢]

ذكر في معنى الميثاق والنقباء أن الله تعالى لما أمر بني إسرائيل أن يخرجوا من مصر إلى أريحا ، وهي أرض الشام تسكنها الجبابرة والكنعانيون لجهادهم ، وأمر موسى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ من كل سبط كفيلا على قومه بالوفاء بما أمر به توثقة عليهم ، فاختار النقباء ، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل ، وتكفل له النقباء ، وفي هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة ، وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل ، وقد حكى في مجموع علي خليل عن الهادي عليه‌السلام : أنه يجوز التحليف على الأمور المستقبلة ، كأن يحلّف زيدا ليقضين عمرا دينه.

وعن المؤيد بالله : لا يحلف على ذلك ، وفي قوله تعالى في سورة الممتحنة : (يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة : ١٢] دلالة على جواز ذلك ، فعلى هذا إذا طلبت الامرأة كفيلا من زوجها بالقيام بما يجب لها من الحق في المستقبل كان نظيرا لهذا ، وقد يذكر خلاف إذا طلب الرجل السفر هل للامرأة المطالبة بالنفقة أم لا؟ المذهب : لا تطالب ؛ لأنها لم تجب.

__________________

(١) وقد تقدمت في سورة النساء في قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ).

٨٨

وقال أبو يوسف : تطالب بنفقة شهر.

قيل : أما لو عرف الحاكم التمرد منه فله المطالبة بالكفيل (١) ، ومثل هذا لو (٢) شكا رجل العدوان من غيره والضرار ، فله المطالبة بالكفيل بعدم التعرض له ، وقد يفعل الحكام هذا ولا حرج فيه.

وقد ذكر في شرح الإبانة : أن المحارب إذا ظفر به الإمام قبل أن يحدث شيئا حبسه فإذا تاب حلفه لا إذا عاد إلى المحاربة وأخذ منه كفيلا ، وقيل : أراد بالميثاق الإيمان والتوحيد ، وبالنقباء الملوك الذين يقيمون العدل ، وقيل : الميثاق ما أخذ عليهم من العهد في نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ) [المائدة : ١٣] فيها دليل على تأكيد الميثاق وقبح نقضه ، وأنه يسلب اللطف المبعد من المعاصي ويورث النسيان ، ومنه قول الشاعر :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأومأ لي إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلم سر

وسر الله لا يؤتيه عاصي

ولهذا قال : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية.

واختلف في قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) هل ذلك منسوخ أو محكم ، فقيل : هو أمر بالعفو عن الذين نقضوا الميثاق من الكفار ، وقيل :

__________________

(١) أي : للحاكم المطالبة بالكفيل.

(٢) في ب (ومثل هذا لو شكا رجل) الخ.

٨٩

هو منسوخ بآية السيف ، وهي قوله تعالى في سورة براءة : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(١) عن قتادة.

وقيل : بقوله تعالى في سورة الأنفال : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) عن أبي علي.

والقول الثاني : إنها محكمة ، واختلفوا من الذي أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعفو عنهم؟ فقيل : الكفار الذين نقضوا ؛ لأن العفو وترك الهجران (٢) يكون أدعى لهم إلى الإجابة ، وقيل : العفو الذي أمر به على القليل الذين استثنى الله تعالى بقوله : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً) وقيل : الذين أمر بالعفو عنهم هم الذين آمنوا من أهل الكتاب ، وهم القليل ، عن أبي مسلم.

قوله تعالى :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [المائدة : ١٥]

النزول :

روي أن نفرا من اليهود اجتمعوا لأجل زانيين زنيا ، وقالوا : نتحاكم إلى محمد فجاءوه وسألوه ، فقال : «من أعلمكم بالتوراة»؟ قالوا : عبد الله بن صوريا ، فدعاه وناشده الله أن يخبره بحد الزاني في التوراة ، فقال :

__________________

(١) هذا عن قتادة ، وينظر في هذا ، فالمشهور أن آية السيف هي قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة ٥] على ما ذكره المفسرون ، وفي كتاب الناسخ والمنسوخ : وقيل : إنها ناسخة لمائة وأربعة وعشرين آية.

(٢) الهجران : بكسر الهاء. شمس العلوم.

٩٠

الرجم ، فرجمهما ، وقال : «أنا أولى بإحياء سنة أماتوها» (١) ففي ذلك نزلت الآية ، عن قتادة.

ولها ثمرات منها : ثبوت الرجم للزاني المحصن ، وهذا قول العلماء ، وقول الخوارج مخالف للإجماع ، وقد تظاهرت الأخبار بخلاف قولهم ، من نحو رجم ماعز.

ومنها : أن الإسلام ليس شرط في الإحصان الذي يشترط للرجم ، وهذا نص عليه الهادي في الأحكام ، ورواه في شرح الإبانة عن القاسم ، والشافعي.

قال : وعند الناصر ، وزيد بن علي ، وأبي حنيفة ، ومحمد : الإسلام شرط.

حجتنا فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رجم اليهوديين ، فإن الرواية مستفيضة بذلك.

قالوا : كان هذا وهو مأمور بأن يحكم بما في التوراة ، ثم نسخ بما أمر الله تعالى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أشرك بالله فليس بمحصن» وبما روي أن كعب بن مالك استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نكاح كتابية ، فقال : «دعها فإنها لا تحصنك».

ومنها : أن على العالم بيان ما أخفي من الشرائع وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة.

ومنها : حسن العفو عن الخاطئ فيما لا يتعلق بتركه مصلحة لقوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي : عن كثير مما تخفون ، وليس في إظهاره غرض إلا إظهار حكم لا بد من بيانه. أما لو تعلق بإظهار عيوب الكافر والمبتدع مصلحة حسن ذلك.

__________________

(١) وقد تقدم في أول آل عمران في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) الآية مثل ما هنا مع زيادة ألفاظ.

٩١

قال النووي ، والإمام يحيى : إذا غسل إنسان الميت المبتدع ، ورأى شيئا من المساوئ ، ، وكان إظهارها ، لا أن كان مسلما فإنه يحرم.

وقال الحسن : والمراد بقوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي : عن كثير منكم ، لا يؤاخذه لأجل التوبة.

قوله تعالى

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) [المائدة : ١٧]

ثمرة ذلك : أن الكفر يتعلق بالقول ، ولكن إذا كان معه اعتقاد كفر إجماعا ، وإن لم يكن معه اعتقاد ، بل قال : هو كافر ، أو يهودي ، فنص المؤيد بالله : أنه يكفر ، وادعى الإجماع.

وعن أبي هاشم ، وأبي مضر : لا يكفر ؛ لا لو (١) نطق مكرها لم يكفر وفاقا.

وعن الفقيه الشهيد : إن كان في قوله نقص على الباري تعالى ، كأن يقول : هو ظالم كفر إجماعا وإن لم كأن يقول : هو يهودي ، فمحل الخلاف ، ولا خلاف في المكره (٢) ، والحاكي ، ومن سبقه لسانه أنه لا يكفر.

قال الحاكم : وتدل على أن التشبيه كفر ؛ لأنه لا فرق بين من (٣) يشبه الله وبين أن يقول : إن الله هو المسيح.

__________________

(١) وفي نسخة (لأنه لو نطق مكرها) إلخ.

(٢) إذا لم يعتقد ، إذ لم يشرح بالكفر صدرا. (ح / ص).

(٣) في نسخة (بين أن يشبه الله) (ح / ص).

٩٢

ويدل آخر الآية وهو قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ)(١) دل هذا على أنه يجوز الحجاج في الدين.

قوله تعالى

(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [المائدة : ٢٦]

قال الحاكم : دل ذلك على أن من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه ؛ لأن ذلك حكمه ، بل يحمد الله تعالى إذا أهلك عدوا من أعدائه.

قوله تعالى

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) [المائدة : ٢٧]

المعنى : اتل على أهل الكتاب ، أو على الناس قصة ابني آدم ، وأن قابيل قتل هابيل حسدا له لما تقبل قربان هابيل ، بأن أحرقته النار ، ولم يتقبل قربان قابيل ، وكان علامة القبول في وقتهم أن تحرقه النار ، قيل : لأنه لم يكن ثم فقراء يأكلونه ، فحسده فقتله.

والثمرة : التحذير من الحسد ، وبيان قبحه ، وقوله : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ) قيل : كان في شريعتهم أن المقتول يستسلم للقاتل ولا يدافع عن نفسه ، وإلا فكان هابيل أشد ، وهذا عن مجاهد ، والحسن ، وأبي علي.

وقيل : كان السيف ممنوعا فيهم كما كان في أول الإسلام ، وفي شريعة عيسى ، وقيل : معناه إن بدأتني لم أبدأك ، لكن أدفعك ، عن ابن عباس.

__________________

(١) وسيأتي مثل هذا قريبا في قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

٩٣

قوله تعالى

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة : ٢٩]

أي : ترجع (١) بإثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ، ، عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقيل : إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، عن أبي علي ، والزجاج ، وقيل : معناه بإثمي لو بسطت يدي إليك ، وأراد : بمثل إثمه ، والمراد عقوبة إثمي ؛ لأن إرادة المعصية لا تجوز ، وإرادة عقاب العاصي جائزة ؛ لأنه حسن وإذا جاز أن يريد الله جاز أن يريده العبد.

قوله تعالى

(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١]

في ذلك دلالة على أن الندم إذا لم يكن لقبح المعصية لم يكن توبة ، قيل : إن ندمه كان لاسوداد جسمه وكان أبيض ، وأن آدم عليه‌السلام ـ سأله عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا ، قال : بل قتلته ، ولذلك اسود جسمك ، وقيل : ندم لتعبه من حمله لأخيه ؛ لأنه لما قتله تركه في العراء فخشي عليه من السباع فحمله في جراب على ظهره سنة ، حتى أراه الله تعالى فعل الغراب ، وقيل : ندم لحزن [أبيه](٢) آدم.

__________________

(١) وفي التهذيب مثله ولفظه (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ) أي : ترجع (بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) قيل : إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقيل : إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، عن أبي علي ، والزجاج ، وقيل : إثم قتلي وإثمك هو قتل جميع الناس حيث سن القتل ، ومعنى تبوء بإثمي أي : بعقاب إثمي ، لأنه لا يجوز لأحد أن يريد معصية الله تعالى ، ولكن يريد عقابه المستحق عليه كما يريد عقاب الكفار)

(٢) ما بين القوسين ثابت في بعض النسخ .. روي أنه بكى عليه مائة سنة ، ويعقوب بكى على يوسف ثمانين سنة. (ح / ص).

٩٤

وروي أن آدم مكث بعد قتله حزينا مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر وهو :

تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي طعم ولون

وقل بشاشة الوجه الصبيح

أهابيل إن قتلت فإن قلبي

عليك اليوم مكتئب قريح

قال جار الله (١) : نسبة الشعر إلى آدم كذب بحت ، وما هو إلا منحول ملحون ، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر (٢).

وفي ذلك دلالة على أن إرادة الله تعالى لدفن الميت فلذلك أضاف الفعل إلى نفسه بقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ).

قوله تعالى

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢]

ظاهر دلالة الآية : أن قتل النفس الواحدة من غير مبيح لقتلها كقتل الناس جميعا وإحياءها كإحياء الناس جميعا ، وفي توجيه ذلك وجوه :

الأول : أنه كان كذلك من جهة الاقتداء ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٦٠٨. الزمخشري استهجن نسبة هذا الشعر إلى آدم عليه‌السلام ، وقال : إنه ملحون منحول ، وما هو إلا كذب بحت .. ثم يقال أيضا : وهل كان آدم يتكلم العربية ، الظاهر عدم ذلك.

(٢) هذا صحيح في نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وينظر في غيره من الأنبياء هل ذلك ثابت أم لا.

٩٥

يوم القيامة من غير أن ينقص من وزرهم شيء» فيكون عقاب القاتل المسبب كعقاب ما فعل وما حصل بسبب فعله ، وكذلك ثواب الفاعل يثاب على الفعل وعلى ما حصل بسبب فعله ، ولهذا صور كثيرة :

منها : ثواب الوالد ، والواقف ، والعالم ، على أثر ما فعل ، ويكون نظيرا لما قيل في قوله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) ومطابقا للحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له» وهذا معنى الحديث.

ويأتي مثل هذا : إذا أوصى بوصية أثيب على الوصية ، وعلى فعل الغير ؛ لأنه سبب وصيته ، ولو لم يمتثل الموصي إليه أثيب على إيصائه فقط ، ولا تقل : أثيب على فعل غيره.

ومن هذا السّلام الابتداء ثوابه أكثر من ثواب الرد ، وإن كان الابتداء سنة ، والرد واجب (١) ؛ لما كان المبتدئ سببا للرد ، وللسيد الأفضل حمزة بن القاسم :

وما سنة أربى على الفرض فضلها

إذا ما هناك العاملون تفاضلوا

فقل من بدانا بالسلام ففرضنا

تحيته والبدؤ للرد فاضل

فهذا وجه ذلك ، لا أنه يجب عليه دية الناس.

قال الحاكم : وقد قال مشايخنا : إن المعصية تعظم لوجهين :

أحدهما : ما يقارنها.

والثاني : ما يحصل في المستقبل من التأسي ، وكذا الطاعة ، وقيل : إن عليه إثم كل قاتل عن أبي علي : لأنه سن القتل ، فالمعنى : فكأنما قتل الناس جميعا ، يعني : من قتل الناس بغير حق.

__________________

(١) رفع (واجب) على أن الواو للحال لا للعطف ، والرد مبتدأ وواجب خبره ، ولم يعطفه على اسم إن وخبرها.

٩٦

وقال السدي : المعنى : أنه بمنزلة من قتل الناس جميعا عند المقتول.

وقيل : يجب عليه القصاص مثلما لو قتل الناس جميعا ، وعن ابن زيد.

وقيل : من قتل نفسا فقد وجب على المؤمنين معاداته ، وأن يكونوا خصومه ، كما لو قتلهم جميعا ؛ لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم ، عن أبي مسلم.

وقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها) قيل : نجاها من هلاك ، أو غرق ، أو حريق ، أو غير ذلك ، عن مجاهد.

وقيل : من شد على عضد نبي أو إمام ، عن ابن عباس.

وقيل : من عفا عما وجب له من القصاص ، عن الحسن ، وابن زيد.

وقيل : من حرمها ، عن قتادة ، والضحاك.

وقيل : زجر عن قتلها ، عن أبي علي.

وقيل : فكأنه أحيا الناس جميعا عند المقتول ، عن السدي.

وقيل : وجب موالاته على جميع المؤمنين كما لو أحياهم ، عن أبي مسلم ، وقيل : إحياؤها بأن ينقذها من نار جهنم ، والإحياء توسع بمعنى : نجاها ، وإلا فالمنجي هو الله ، لكن يرد سؤالان :

الأول : لم قال : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ، ولم كتب على بني إسرائيل بسبب ابني آدم؟ قلنا : في ذلك وجهان :

أحدهما : للحسن والأصم : أن قابيل وهابيل كانا من بني إسرائيل (١).

__________________

(١) فعلى هذا ليسا بولديه الأولين القريبين منه ، وإنما هما من أحفاد آدم من ولد يعقوب.

٩٧

الوجه الثاني : أنهما من صلب آدم ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبي علي ، وأبي مسلم ، وهو الصحيح لظاهر اللفظ ، وتواتر الأخبار ، ولأنه لم يعرف التنقير إلا من الغراب ، وإنما كان الكتب على بني إسرائيل ؛ لأن الاقتداء يحصل في قتل الواحد فيهم ، كما يحصل في قتل أحد ابني آدم للآخر.

السؤال الثاني؟ : أن يقال : لم خصّ بني إسرائيل بالذكر؟

قال : لأنهم أول من تعبدوا بذلك ، فخصوا بالذكر ، وإلا فحكم الجميع واحد في عظم القتل ، وقد قال الحسن لما سئل عن ذلك : والله ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.

وقال جار الله (١) : إنما جعل الواحد كالجماعة ؛ لأن كل إنسان يدلي بما يدلي به الآخر من الكرامة على الله تعالى ، فإذا قتل نفسا فقد أهان ما أكرمه الله.

وقوله تعالى : (بِغَيْرِ نَفْسٍ) في ذلك دلالة على ثبوت القصاص وهي عامة ، وسيأتي شرح الكلام في ذلك (٢).

وقوله تعالى : (أَوْ فَسادٍ) عطف على (نَفْسٍ) أي : وبغير فساد ، قيل : أراد بالفساد الشرك ، وقيل : أراد قاطع الطريق.

قوله تعالى

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي

__________________

(١) الكشاف ١ / ٦٠٩.

(٢) سيأتي قريبا في شرح قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

٩٨

الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٣٣ ـ ٣٤]

النزول

قيل : إنها نزلت في قوم من أهل الكتاب ، كان العهد بينهم وبين رسول الله ، فنقضوا العهد ، وأفسدوا ، وقطعوا السبيل ، عن الضحاك ، وقيل : إنها نزلت في العرنيين ، وذلك أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة مظهرين للإسلام فاستوخموها ، واصفرت ألوانهم ، فبعثهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها فصحوا ، فمالوا على الرعاة فقتلوهم ، واستاقوا الإبل ، وارتدوا ، فبعث رسول الله من ردهم ، وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ، وسملهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا ، عن سعيد بن جبير وغيره ، وهو الذي ذكره الهادي عليه‌السلام.

وقيل : إنها نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي ، وكان قد عاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمر قوم من كنانة بهم يريدون الإسلام ، وأبو برزة غائب فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فنزلت فيهم عن الكلبي.

وقيل : نزلت في قطاع الطريق ، وعليه أكثر المفسرين ، وجل (١) الفقهاء ، وهو إطلاق أبي طالب.

ثمرات الآية : تظهر في أحكام ، والكلام يتعلق بأمور :

منها : ماهية المحاربة المقصودة في الآية.

الثاني : بيان المحارب الذي يكون جزاؤه ما ذكر.

والثالث : بيان المحارب الذي يكون المتعرض له محاربا.

__________________

(١) جل الشيء وجلاله ـ بضم الجيم : معظمه ، وقوم جلة ـ بالكسر عظماء سادة. قاموس.

٩٩

والرابع : بيان الجزاء الذي ذكره الله تعالى وكيفية إيقاعه.

الخامس : بيان ما يسقط ذلك.

أما الأول : وهو بيان المحاربة المرادة ، فالآية فيها إكمال لماهيتها ، معنى حرب الله تعالى هو : حرب أوليائه ، وإنما أضافه إلى نفسه تفخيما للأمر كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) أي : يؤذون أوليائه ، وفي الحديث عنه عليه‌السلام حاكيا عن ربه : «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» ،.

وقد اختلف المفسرون في ماهيتها ، فقيل : المحاربة بالكفر ؛ لأن الآية نزلت فيهم ، والمحاربة لا تليق إلا بهم ، وهذا مروي عن الحسن ، والأصم ، وردّ بأنه تعالى قيّد قبول التوبة من قبل القدرة ، وتوبة الكافر مقبولة قبل القدرة وبعدها ، وقيل : في المرتدين ؛ لأنها نزلت في العرنيين.

وقد قال في السنن : أمر عليه‌السلام بقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمر أعينهم ، وروي سمل (١) أعينهم ، وفي نسخة : وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.

قال أبو قلابة : هؤلاء قوم سرقوا (٢) ، وقتلوا ، وكفروا بعد إيمانهم ، وحاربوا الله ورسوله.

قال : ولم يذكر في إحدى الروايات (من خلاف) إلا في رواية حماد ابن سلمة ، وقيل : المراد بالمحاربة قطع الطريق ، وهذا قول أكثر

__________________

(١) السمل ، والسمر للعين : هو إذهاب نور العين ، وذلك بحديدة محماة تكحل بها العين فيذهب نورها ، وبصرها.

(٢) في الشفاء (نزلت في أناس من بجيلة ، وساق القصة إلى أن قال : وقيل : نزلت في العرنيين ، وهكذا في أصول الأحكام تارة جعلها في أناس من بجيلة ، وتارة في العرنيين.

١٠٠