تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وأما الصنف الثامن :

وهو ابن السبيل فهو المسافر نسب إلى السبيل وهو الطريق للزومه لها ، قال الشاعر :

أنا ابن الحرب ربتني وليدا

إلى أن شبت واكتهلت لداتي

وقد فرض الله تعالى له سهما من الصدقات ، ولكن له شروط تخصص عموم الآية :

الأول : أن يكون فقيرا أو غنيا في بلده ، وليس معه ما يحتاج إليه في سفره.

قال أبو طالب ، والمنصور بالله : سواء أمكنه القرض أو لا ، ورجحه الأمير الحسين لعدم المخصص

وقال المؤيد بالله : إنما يجوز إذا لم يمكنه القرض ؛ لأن الضرورة إنما تحصل بذلك.

الثاني : عدم المانع من الكفر والفسق عند الهادي ، وأن لا يكون من آل الرسول ؛ لأن ذلك قد خص من الفقير فكذا ابن السبيل.

الثالث : أن يكون سفره طاعة أو مباحا ، ذكره في الانتصار لا معصية ؛ لأن الدفع إليه في سفر المعصية يكون معصية من حيث أنه معاونة.

ولأصحاب الشافعي وجهان : في السفر المباح يجوز كالقصر والفطر ، ولا يجوز الدفع إليه ؛ لأنه غير محتاج إلى هذا السفر.

وعموم الآية يقتضي أنه لا فرق بين أن ينشئ السفر من وطنه أو من غيره ، حكاه في الانتصار عن الشافعي.

وقال في الانتصار : المختار ما حكي عن أبي حنيفة ، ومالك : أنه لا بد أن ينشئ السفر من غير بلده ؛ لأنه لا بد من اعتبار الغربة ، وهو المفهوم من قول الهادي : «الذين بعدوا عن أوطانهم».

٤٦١

وقال الفقيه محمد بن سليمان : لا يعطى حتى يجاوز البريد ، ولعله مراد الإمام ، وإنما ياخذ ما يكفيه في سفره ، حيث يكون غنيا في بلده ، ويلزم أن لا يأخذ إلّا دون النصاب وإن احتاج ، كما قيل في المكاتب ونحوه ، ويرد إن أضرب عن السفر وتطيب البقية ، ذكره الإمام يحيى ، وأبو مضر ، ورواية عن القاضي زيد ، والفقيه محمد بن يحيى.

وعن القاضي زيد ، وابن معرف : يرد.

وقيل : وإن بقيت للتقتير طابت لا أن بقيت لكثرة ما أخذ فيردها.

وقال قتادة : (ابن السبيل) : هو الضيف.

وقوله تعالى : (فَرِيضَةً) بالنصب.

قال سيبويه : انتصب على المصدر أي : فرض الله ذلك فريضة ، وقرأ ابن أبي عبلة : (فريضة) بالرفع ، أي : تلك فريضة ، وكل ذلك يدل على الوجوب ، وفي ظاهره دلالة على قول الشافعي بالقسمة ، وقد تقدم دليلنا على الجواز في صنف ، وفي واحد من صنف.

قوله تعالى

(قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) [التوبة : ٦٤ ـ ٦٦]

قال الحاكم : دلت على أن اللعب والاستهزاء بالدين كفر.

ودلت على أن جد الكفر وهزله كفر.

ودلت على صحة توبة المنافق ؛ لأن المعنى نعفو عنه بالتوبة.

٤٦٢

قوله تعالى

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [التوبة : ٧١]

دلت على وجوب موالاة المؤمنين ؛ لأنه تعالى جعل الإيمان علة في ذلك ، ويجب نصرتهم ، وكذلك يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ،

وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرائط ، ذكرت في غير هذا المكان ، وهذه الواجبات معلومة من الدين ضرورة.

قوله تعالى

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢]

قيل : أكبر من عملهم ، وقيل : (أَكْبَرُ) أي : أكبر مما أتاهم في الدنيا.

وقيل : أكبر مما وصف من نعيم الجنة وهو الأظهر من كلام المفسرين.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطي أحدا من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحلّ رضواني عليكم فلا أسخط عليكم أبدا».

قال جار الله : لأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم.

قال : وسمعت بعض أولي الهمة البعيدة من مشايخنا يقول : لا تطمح عيني ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة ، كما

٤٦٣

تطمح وتنازع إلى رضاه عني ، وأن أحشر في زمرة المهديّين المرضيين عنده ، وهذا يدل أن لفظ الدعاء بالترضية له موقع.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣]

دلت على وجوب الجهاد ، قيل : بالسيف للكفار ، وجهاد المنافقين بالحجة.

وقيل : جهادهم بإقامة الحدود عليهم ، عن الحسن ، وقتادة.

وقال الضحاك ، وابن جريح : جهاد المنافقين بأن يغلظ عليهم الكلام ، وهذا حيث لا يقابل ذلك مصلحة ، فإن ترتب على الرفق بهم مصلحة من رجاء توبة جازت الملاطفة ، وقد جوزوا التعزية لأهل الذمة ، والوصية لهم فقال تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ).

وقال الهادي : لا تعتق الرقبة الذمية عن كفارة ، وجوز ذلك أبو حنيفة (١) ....

قوله تعالى

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٧٥ ـ ٧٧]

النزول

روي أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا

__________________

(١) بياض في الأصل.

٤٦٤

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له ، فاتخذ غنما فنمت كما تنمى الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل واديا وانقطع عن الجمعة والجماعة ، فسأل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه واد ، فقال : «يا ويح ثعلبة» فبعث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصدقين ومرا بثعلبة وسألاه الصدقة وأقرءاه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي فيه الفرائض ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية ، وقال : ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يكلماه «يا ويح ثعلبة مرتين» فنزلت ، فجاء ثعلبة بالصدقة ، فقال : إن الله منعني أن أقبل منك ، فجعل التراب على رأسه ، فقال : «هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني» فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء بها إلى أبي بكر فلم يقبلها ، وجاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمن عثمان.

وقيل : قتل لثعلبة قريب فأخذ ديتيه فمنع حق الله ، وقيل : كان له مال في الشام حلف بالله لئن آتاه الله من الفضل ، يريد المال ليصدقن ، فأتاه الله ذلك المال ، فلم يفعل.

وقيل : نزلت فيه وفي غيره من المنافقين ، قالوا ذلك.

قال الحاكم : إن قيل : كيف لم تقبل صدقته وهو مكلف بالتصدق؟ أجاب بأن ذلك يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك كيلا يجترئ الناس على نقض العهد ، ومخالفة أمر الله ، ورد سعاة رسول الله ، ويكون لطفا في ترك البخل ، كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل على رجل مات وعليه دين حتى ضمن بالدين.

وقيل : إنه لم يؤد الصدقة تقربا بل تفاديا ، والصدقة طهرة ، ولم يرد ثعلبة ذلك.

وقال المنصور بالله : ثمرة الآية وسبب نزولها أحكام :

٤٦٥

الأول : أن الوفاء بالعهد واجب إذا تعلق العهد بواجب ، والعهد إن حمل على اليمين بالله ، فذلك ظاهر ، وإن حمل على النذر ففي ذلك تأكيد لما أوجب الله تعالى.

الثاني : أن الوفاء بالعهد لازم إن وعد بالواجب ، والوفاء بالوعد بالتبرع يستحب ، وفي الحديث عنه عليه‌السلام ـ : «يعرف المنافق بثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان».

الثالث : أن للإمام أن يفعل مثل ذلك لمصلحة أي : يمتنع من أخذ الواجب إذا حصل له وجه يشابه الوجه الذي حصل في قصة ثعلبة.

قوله تعالى

(فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً)

قيل : هذا أمر له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنهيهم عن الخروج لما علم الله ما في خروجهم من المفسدة ، وهذا دليل أن من علم منه الخساسة والإرجاف فإنه يمنع ؛ لأن خروجه مضرة ، وقيل : ذلك خبر عن حالهم.

قوله تعالى

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ)

النزول

قال في الكشاف : روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم ، فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبيّ بعث إليه ليأتينه ، فلما دخل عليه قال : «أهلكك حب اليهود» فقال : يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبني ، وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلي عليه ، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته فسأله عن اسمه

٤٦٦

فقال : أنت عبد الله بن عبد الله الحباب اسم شيطان ، يعني اسم الحية ؛ لأنه يقال لها : شيطان ، فلما همّ بالصلاة قال له عمر : تصلي على عدو الله ، فنزلت.

وقيل : أراد أن يصلي عليه فجذبه جبريل.

فقال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : فإن قلت : كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه؟ وأجاب بأن في ذلك وجوها : منها أن ذلك كان مكافأة له على صنيع سبق ، وذلك لأن العباس لما أخذ أسيرا يوم بدر لم يجدوا له قميصا ، وكان رجلا طوالا فكساه عبد الله قميصه فقال له المشركون يوم الحديبية : إنا لا نأذن لمحمد ولكن نأذن لك ، وقال : لا ، إن لي في رسول الله أسوة حسنة ، فشكر رسول الله له ذلك.

ومنها : إجابة له إلى مسألته ، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يرد سائلا ، وكان يتوقر على دواعي الخير والمروءة ، ويأمر بعادات الكرام.

ومنها : أن ذلك إكراما لابنه الرجل الصالح ، فقد روي أنه قال له : أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك ، وأن تقوم على قبره ، لا تشمت به الأعداء ، وعلما بان تكفينه لا ينفعه مع كفره.

ومنها : أن إلباسه له لطف لغيره ، وقد روي أنه قيل له : لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر ، فقال : «إن قميصي لن يغني عنه شيئا من الله ، وإني آمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب».

فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأن في ترحمه واستغفاره دعاء إلى التراحم والتعاطف ؛ لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان دعا ذلك المسلم إلى أن يتعطف على من واطى قبله لسانه ، ورآه حتما عليه.

٤٦٧

فإن قيل : كيف استجاز الصلاة عليه؟

قال الحاكم والزمخشري : لم يتقدم نهي عن الصلاة عليهم ، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم.

قال الحاكم : وهذا أمر شرعي ، ويجوز أن يختلف فيه الأمر ، وصحح هذا ، وقيل : لم يعلم نفاقه. وقيل : جوز أنه تاب.

وثمرة هذه الآية الكريمة أحكام :

الأول : انه لا تجوز الصلاة على الكافر ، وذلك إجماع ، وأنه لا يجوز القيام على قبره إكراما له ؛ لأنه المراد بقوله : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).

وقيل : أراد لا تتولى دفنه.

وأما استنباط وجوب الصلاة على المؤمن من هذه الآية فقال الحاكم : في الآية دلالة على أنها مشروعة ، لو لا ذلك لما خص الكافر بالنهي ، والاحتجاج على الوجوب بالخبر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلوا خلف من قال لا إله إلّا الله ، وعلى من قال : لا إله إلّا الله» والأمر للوجوب ، وما خرج من هذا فبمخصص كالصلاة على المنافقين ؛ فإنها خرجت بالآية.

وأما الصلاة على صاحب الكبيرة : فخارج من العموم ، بحديث الذي قتل نفسه بمشاقص. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما أنا فلا أصلي عليه» وبالقياس على الكافر لأنهما من أهل الوعيد.

وجوز أبو حنيفة ، والشافعي ، وزيد ، وأحمد بن عيسى : الصلاة على صاحب الكبيرة من أهل الملة لعموم الخبر. قلنا : مخصصة بما ذكرنا.

وروي أن عليا عليه‌السلام لم يصلّ على أهل النهروان.

وما روى الطبري أنه صلى يوم الجمل على الفريقين : محمول على أنه التبس عليه المؤمن بالباغي.

٤٦٨

قال في الشفاء : والإجماع على وجوبها على الكفاية ، جملة ، ومن أخرج الشهيد من الصلاة ـ وهو مالك ، والشافعي ـ : فلأخبار.

ومن قال : يصلى عليه كما هو مذهب الأئمة ، وأبي حنيفة ، فلأخبار ، وذلك أنه روي من طريق ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى على شهداء أحد ، وبلغت التكبيرات على حمزة سبعين ، وفي رواية أبي داود عن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل على شهداء أحد فرجح أهل المذهب ما روي من الصلاة ؛ لأن المثبت أولى ، ولأنه يحتمل ما روي أنه لم يصل يعني بنفسه ، وأمر الغير لشدة ما نالهم من الجهد.

وهاهنا فروع وهو أن الميت إذا كان كافرا أو صاحب كبيرة ، واضطر المسلمون إلى القيام على قبره والصلاة عليه لخوف يلحقهم هل ذلك يستباح أم لا؟

فالجواب : أن ذلك يستباح ؛ لكن لا ندعو له ولا نفعل إلا ما هو على صفة الصلاة.

وحد الخوف : ما أخرجه عن حد الاختيار لما روي في صلاة الحسين عليه‌السلام على سعيد بن العاص ، ويؤخذ من سبب النزول ، وتكفينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبد الله بن أبي حسن المكافأة على الإحسان.

وباقي الفروع ـ من صفة الصلاة وأحكامها ـ استثمارها من غير الآية الكريمة.

قوله تعالى

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا

٤٦٩

أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ)

هذه الآية الكريمة قاضية بنفي الحرج وهو الإثم على من ترك الجهاد لهذه الأعذار ؛ بشرط النصيحة لله ولرسوله.

وقد فسر الضعف بالعجز لكبر أو زمانة ، أو ضعف بنية.

وفسر المرض : بأن يقعده ، وتدخل فيه كل علة.

قيل : لا إن كان خفيفا لا يقعد ، وهل يفسر بأن يؤلمه الخروج ، أو بأن يخشى زيادة علة كما قيل في التيمم ، لعل الأول أرجح قياسا على الضعفاء (١) ......

والعذر الثالث : عدم الوجود لما يحتاج إليه من النفقة والمركوب ذكره الحاكم ، وقد ذكر في شرح القاضي زيد أن الراحلة شرط في الجهاد ، وهل يأتي الخلاف الذي في الحج فيمن كان قويا على المشي هل يقوم مقام الراحلة (٢) ... وقد تقدم ما قيل في قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) وإنما ينتفي الخروج إذا نصحوا لله ولرسوله.

(نَصَحُوا لِلَّهِ) أي : نصحوا أولياءه.

وقيل : بالموالاة لهم ، وأن يريد لهم مثل ما يريد لنفسه عن أبي مسلم ، وقيل : بالدعاء لهم ، ونفع أهل الخارجين بما أمكن.

وقيل : بالدعاء إلى الله.

قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أن النصح في الدين واجب ، وأنه

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) بياض في الأصل.

٤٧٠

يدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والشهادات والأحكام والفتاوى ، وبيان الأدلة.

وقوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) يدل على أن المستودع والوصي ، والملتقط لا ضمان عليهم ، مع عدم التفريط ، وأنه لا يجب عليهم الرد بخلاف المستعير.

وقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) هذه في العادم للوجود ، والطالب للإعانة ، ولم تحصّل له ، ولا حرج عليه ، وفيه إشارة إلى أن المعونة إذا بذلت له من الإمام لزمه الخروج ، والنظر في أمرين :

الأول : إذا بذل غير الإمام هل يلزمه القبول ـ ويفرق بينه وبين بذل المال للحج ، وشراء الماء ـ أو لا يجب.

والثاني : هل يجب عليهم سؤال المعونة حيث يلزمهم القبول؟

أما جواب السؤال للإمام فجوازه ظاهر ، وجواب الأول (١) ...

وفي الآية دلالة على جواز البكاء ، وإظهار الحزن على فوات الطاعة ، وإن كان معذورا.

وسبب نزول قوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) أن عبد الله بن زائدة وهو ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إني شيخ ضرير ، نحيف الجسم ، خفيف الحال ، فهل لي من رخصة في التخلف عن الجهاد؟

فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت عن الضحاك.

وقيل : نزلت في عائذ بن عمرو ، عن قتادة.

__________________

(١) بياض في الأصل.

٤٧١

وقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) قيل : نزلت في جماعة من ضعفاء المسلمين.

وقيل : في سبعة نفر من قبائل شتى.

وقيل : في جماعة من الأشعريين ، منهم أبو موسى الأشعري.

قوله تعالى

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) إلى قوله تعالى : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ).

وقوله تعالى :

(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

قيل : نزلت في جد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قدم المدينة : «لا تجالسوهم ولا تكلموهم».

وقيل : جاء عبد الله بن أبي يحلف لا يتخلف عنه أبدا.

وقد دلت على أحكام :

الأول : وهي لزوم الاستخفاف بالكافر ؛ لأن المعنى فأعرض عنهم إعراض استخفاف.

وقيل : فأعرضوا كما قصدوا أنهم لا يؤبون ولا يعاتبون فلا تعاتبوهم ؛ لأن العتاب لا يجدي فيهم ؛ لأنهم رجس : أي : نجس ، فمعاتبتهم كمعالجة النجس وتقليبه ؛ فإنه لا يزداد إلا نتنا.

ومن أمثالهم إنما يعاتب الأديم ذو البشرة. والمعاتبة المعاودة ، أي : إنما تعاد إلى الدباغ ما سلمت بشرته.

٤٧٢

وبشره الأديم طاهرة : تضرب مثلا لمن ينفع فيه العتاب ، وهذا دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا عرف أنه لا يؤثر أنه يكون منهي عنه ، وفي هذا قولان للفقهاء :

أحدهما : أنه لا يحسن ؛ لأنه يكون عبثا.

والثاني : اختاره في الانتصار أنه لا يجب ويبقي الحسن لقوله تعالى في سورة الأعراف : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ).

الحكم الثالث من الأحكام : أن الكافر نجس ؛ لأنه تعالى وصفهم أنهم رجس ، والرجس النجس ، وهذا قول الهادي ، والناصر ، والقاسم ، ومالك.

وقال المؤيد بالله ، والمنصور بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : إن الكافر طاهر ، وإنما المراد وصفهم بالرجس لخساستهم ، وهذا الذي صححه الأمير الحسين ، وقد تقدم ذكر ذلك.

الحكم الرابع : أنه لا يجوز تعظيم الكافر ، ويأتي مثله من استحق الوعيد ؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يرضى عنه ، والمراد بالرضاء عنه إرادة مدحه وتعظيمه ، والرضاء بالفعل إرادة إيجاده ذكر هذا الحاكم ، ولا إشكال أن الرضاء بالفعل القبيح يكون قبيحا ، فيكون الرضاء بالكفر كفرا ، وبالفسق فسقا ، وقد يستدل على هذا بقوله تعالى في سورة الشمس : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) فأضاف العقر إليهم لما رضوا به ، والعاقر واحد ، وبقوله تعالى في سورة النساء : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ).

وأما الرضا عن الفاعل فاختلفوا هل يكون رضاء بالفعل أم لا؟

٤٧٣

قال في التهذيب : وعن أبي علي أنه يكون رضاء بالفعل.

وقال أبو هاشم : لا يكون رضا بالفعل ، وصححه الحاكم ،

وعلى هذا تفريع وهو في مدح الظلمة ، ونحوهم من أهل الكبائر (١) فالمذهب أنه يكون معصية ، إلا أن يكون تقية أو يفعل ذلك لمصلحة ويوري به ، فإن لم يكن كذلك لم يكن رضاء بالمعصية على قول أبي هاشم ، وعلى قول أبي علي يكون رضاء بالفعل ، فيكفر إن رضي به بتعظيم الكافر ، ويفسق إن رضي بتعظيم الفاسق.

وقد فرع على هذا : مدح الظلمة على المنابر ، فإنه يكفر على قول أبي علي ، وقد ذكره (٢) ... لا على قول أبي هاشم ؛ فإن تعظيم الظالم لا يكون رضاء بكفره.

ولو عظمه لمصلحة كرجوى الإسلام أو نصرة الدين ونحو ذلك ، جاز كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع لعدي بن حاتم المخدة ، وهم بالصلاة على عبد الله بن أبي على ما تقدم ، ولعل الخلاف إذا مدحه لأجل كفره أو عظّمه لأجل كفره لا إذا مدحه لأمر آخر.

قوله تعالى

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً).

قيل : أراد من سكن البادية ، وذلك لبعدهم عن سماع الشرائع ، وملابسة أهل الحق ، وفي هذا إشارة إلى ذم سكون البادية ، وهو يطابق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بدا فقد جفا».

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) بياض في الأصل.

٤٧٤

قوله تعالى

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً).

أي : لا يقصدون به الثواب ، بل يعدّونه كالعقوبة ، وفي هذا دليل على أن الإنفاق إنما يجزي إذا قصد الثواب ، وامتثال أمر الله تعالى لا إذا قصد التقية والرياء ، ولو قصد القربة مع تخصيص القريب ، والمحسن جاز وهو يطابق قوله تعالى في سورة الليل : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى).

قوله تعالى

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ).

قيل : عطف (الصلوات) على قوله : (ما يُنْفِقُ) أي : يتخذ ما ينفق قربات ، وكذلك صلوات الرسول بسبب الإنفاق ، يتخذها قربة ، أي : تقربه إلى الله عن أبي مسلم.

وقيل : إنها معطوفة على (قُرُباتٍ) ، أي : يتخذون الإنفاق لأجل القربة ، ولأجل صلوات الرسول عن أبي علي ؛ لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم صل على آل أبي أوفى»

وهو يستثمر من هذه مسألة : وهي أن من قصد بإخراج الزكاة القربة إلى الله بأداء الواجب ، وحصول البركة ، والنماء في الزرع ، وصرف الآفات أجزته ، فلا يقال : إنه مشرك ، فلا تجزيه.

قوله تعالى

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً).

هذا دلالة : على وجوب صدقة من المال ، لكن الدلالة مجملة.

٤٧٥

قال أبو علي ، وأكثر المفسرين : المراد الصدقة المفروضة ، وصححه الحاكم.

وعن عكرمة : هي صدقة الفطر.

وعن الحسن ، والأصم : ليست المفروضة ، بل كفارة للذنوب التي أصابوها ، وبيان هذا المجمل من جهة السنة ، في بيان المأخوذ منه.

قوله تعالى

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

سبب نزولها : أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيهم فأتاهم وصلى فيه ، فحسدهم إخوانهم بنو غنم ابن عوف ، وقالوا : نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي فيه ، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوانهم ، وهو الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفاسق ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن يستعدوا فإني ذاهب إلى قيصر ، وآت بجنود ونخرج محمدا وأصحابه من المدينة ، فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء ، وقالوا للنبي : بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، والشاتية ، ونحن نحب أن تصلي فيه ، وتدعو لنا بالبركة ، فقال : «أنا على جناح سفر وحال شغل ،

٤٧٦

وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه» فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد ، فنزلت عليه ، فدعا بمالك بن الدّخشم ، ومعن بن عدي ، وعامر ابن السكر ، ووحشي قاتل حمزة وقال لهم : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه» ففعل وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، والمعنى بقوله : (ضِراراً) أي : مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ، وقوله : (وَكُفْراً) يعني : تقوية للنفاق.

وقوله تعالى : (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ليفرقوا بين المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد قباء فأرادوا اختلاف كلمتهم.

وقوله تعالى : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ) أي : وإعدادا لمن حارب الله ، وهو الراهب ؛ لأنهم أعدوه له يصلي فيه ويظهروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) قيل : أراد مسجد قباء ، عن ابن عباس ، والحسن ، وعروة ابن الزبير ، وابن زيد ، ورجحه الزمخشري وقال : لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع.

وقيل : مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن ابن عمر ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن ثابت ، والأصم ، وأبي علي.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هو مسجدي هذا» رواه أبو سعيد الخدري ، وأبي ابن كعب.

وقيل : كل مسجد أريد به وجه الله ، عن أبي مسلم.

ولهذه الآية ثمرات :

الأولى : أن مساجد الكفار لا تكون مساجد ، ولا حرمة لها ، وقد قال المنصور بالله في المهذب : مساجد الباطنية ، والمشبهة ، والمطرفية ،

٤٧٧

والمجبرة ، لا حكم لها ، ولا حرمة ، ولا يصح الوقف عليها ، وخرب المنصور بالله كثيرا منها وسبل بعضها.

وقال أبو مضر عن أبي طالب : إن الوقف على مساجد المشبهة يباع للمصلحة.

قال الفقيه محمد بن يحيى : بناء على أن الواقف جهل ، أو يأخذه تضمينا ، وإلّا عاد إلى مالكه.

كذلك حكى القاضي يوسف عن أبي طالب : أنه لا يصح الوقف على مساجد المشبهة والمجبرة ، وأنه يباع ؛ لأن حكمه حكم مسجد الضرار الذي أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدمه وإحراقه.

وما حكى عن أبي طالب : أن المشبه إذا بنى مسجدا كان مسجدا ففيه نظر ، وهو يحتاج التأويل.

ولو كان مال الظالم مستغرقا لغرماء معروفين ثم سبل في ملكه مسجدا : لا يصح تسبيله ؛ لأنه مطالب ، وقد ذكر بعض المشرعين للمذهب أن من وقف وهو مستغرق مطالب بالدين لم يصح وقفه : كمن صلى وصبي يغرق.

قال جار الله : وقيل : كل مسجد بني مباهاة ، ورياء ، وسمعة ، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب فهو لا حق بمسجد الضرار.

قال : وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني ضرارا ، وكل مسجد بني ضرارا ، أو رياء ، أو سمعة فهو ينتهي إلى المسجد الذي بني ضرارا.

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ : أنه أمر أن لا يبنى في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه.

٤٧٨

الثانية : أن نية القربة في عمارة المسجد شرط ؛ لأن النية هي التي تميز بين الأفعال ، وفي الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة ، وقد أفرد الحاكم بابا في فضل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفضل مسجد قباء.

الثالثة : أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار ، ذكر ذلك الحاكم ؛ لأنه قال تعالى : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) وأراد بالقيام الصلاة ، وقد جاء الحديث صريحا وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كثر سواد قوم فهو منهم».

وروي أن بني عمرو بن عوف : سألوا عمر أن يأذن لمجمع بن حارثة أن يؤمهم في مسجد قباء ، فقال : لا ، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فو الله لقد صليت بهم والله يعلم إني لا أعلم ما أضمروا فيه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه فعذره وصدّقه ، وأمره بالصلاة بقومه.

الرابعة : أن الطهارة مشروعة ؛ لأن الله تعالى قال : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قيل : أراد الطهارة للصلاة من الأحداث ، والجنابة ، وتطهير الثياب عن أبي علي.

وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأهل قباء : «إن الله أثنى عليكم في طهوركم ، فما ذا تفعلون؟» قالوا : نتوضأ من الحدث ، ونغتسل من الجنابة ، ونتبع الحجارة الماء ، فقال : «هو ذاكم فعليكموه».

وقيل : كانوا لا ينامون الليل على جنابة ، ويتبعون الماء أثر البول.

وعن الحسن : التطهر من الذنوب.

وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا عن آخرهم.

٤٧٩

قوله تعالى

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)

قيل : هذا إشارة إلى الجهاد بالنفس والمال ، والجهاد : قد يكون بالسيف ، وقد يكون باللسان ، وذلك إظهار الحجج والأدلة.

قال الحاكم : وموقعه أبلغ ؛ لأن الجهاد تابع له.

وقيل : أراد العبادات المالية والبدنية ، والدلالة مجملة.

وقوله تعالى : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) خبر يراد به الأمر.

وقوله تعالى : (التَّائِبُونَ) والمعنى : هم التائبون ، وفي قراءة ابن مسعود : التائبين ـ بالياء ـ إلى آخرها بدلا من (الْمُؤْمِنِينَ).

وقيل : نصب على المدح.

وقوله تعالى : (السَّائِحُونَ) أراد الصائمين ؛ لأنهم منعوا أنفسهم من الشهوات كالسائح في الأرض في منع نفسه من ذلك ، عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، وسفيان بن عيينة.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «سياحة أمتي الصوم».

وقال الحسن : الذين صاموا عن الحلال وأمسكوا عن الحرام.

وقيل : هم الغزاة لأنهم يسيحون في الأرض : عن عطاء.

وقيل : هم طلبة العلم : عن عكرمة.

وقيل : السائر في الأرض لوجه من وجوه البر ، وهذه صفات الإيمان وهي إحدى عشرة خصلة.

وقوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ)

يشمل ما تقدمه وما عدا ما ذكر من الأوامر والنواهي.

٤٨٠