يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
وثمرة الآية : الإنصات عند سماع القرآن ، وظاهرها العموم في الصلاة وفي غيرها ، قيل : لكن خرج الوجوب في غير الصلاة بالإجماع ، وبقيت الصلاة.
قال الزمخشري : والإنصات عند سماعه في غير الصلاة سنة.
وعن الحسن ، وأبي مسلم : الإنصات أينما سمع القرآن.
وقال أبو علي : كان هذا في ابتداء التبليغ ليفهموا ويتعلموا.
وعن عمر بن عبد العزيز : عند كل وعظ.
ويتعلق بهذا حكم قراءة المأموم خلف الإمام ، وفي هذا مذاهب للعلماء :
الأول : قول القاسم ، والهادي ، وهو الظاهر من مذهب السادة ، ومالك ، والزهري ، وأحمد ، وإسحاق ، والشافعي في القديم ـ أنه يقرأ في السرية ، وينصت في حال جهر الإمام ، وهذا مروي عن زيد بن علي ، وأحمد بن عيسى ، وعبد الله بن الحسن ، وموسى بن عبد الله ، والحجة على هذا من وجوه ثلاثة :
الأول : ظاهر الآية وهي قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).
الثاني : ما روي في سبب نزولها.
الثالث : الأخبار الواردة عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، من ذلك حديث زيد بن علي عن أبيه عن جده ، عن علي عليهالسلام قال : كانوا يقرءون خلفه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «خلطتم عليّ فلا تفعلوا».
ومنها : حديث أبي هريرة أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقرآن وقال : «هل قرأ منكم معي أحد آنفا»؟ فقال رجل : نعم يا رسول ،
فقال عليهالسلام : «أقول ما لي أنازع القرآن» وانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما يجهر به.
وحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا قرأ فانصتوا» فأما إذا لم يسمع لبعد أو صمم ، أو كانت سرية فعليه القراءة خلف الإمام ، إذ لا دليل على سقوطها عنه ، وقد ثبت وجوبها في القرآن ، وذلك قوله تعالى في سورة المزمل : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) وبالسنة وذلك قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تصلوا إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها» فلو أن المؤتم خالف وقرأ مع سماعه لقراءة القرآن فكلام ابني الهادي أن صلاته تفسد.
قال المرتضى : ولو كان ذلك على وجه النسيان ، والوجه أن النهي يدل على الفساد.
وقال المؤيد بالله : لا تفسد ، وحكاه أبو جعفر ، عن أكثر العلماء ، والوجه أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يأمر من جهر حال جهره بالإعادة.
المذهب الثاني : قول الشافعي الجديد أنه يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإمام بكل حال ، لقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وقوله ـ عليهالسلام ـ : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وبحديث عبادة بن الصامت قال : صلى صلىاللهعليهوآلهوسلم صلاة الفجر فلما سلم قال : «أتقرءون خلفي»؟ قلنا : نعم ، قال : «فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها» وهذا عام ، قلنا : معارض بما سبق.
المذهب الثالث : قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري : لا تقرأ بكل حال ، لحديث ابن عباس عنه عليهالسلام أنه قال : «تكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر».
وحديث عمران بن حصين أنه عليهالسلام نهى عن القراءة خلف الإمام ، وبحديث ابن عمر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من كان له إمام فقراءته قراءة له».
أما لو جهر المؤتم حال إسرار الإمام فذلك هو الواجب عليه ؛ إن كانت قراءة المؤتم جهرية ، ولا منازعة على الصحيح مع إسرار الإمام ، وقد ذكره القاسم.
وعن أبي طالب : إن المؤتم يقرأ في نفسه ، فأخذ من هذا أنه لا يجهر حال إسرار الإمام ، وفي بعض نسخ التحرير : فإنه يقرأ لنفسه ، يعني : لا يتحمل عنه الإمام ، ولو جهر الإمام في سرية قرأ المأموم ؛ لأن جهر الإمام خطأ ، ولو سمع جملة القراءة دون تفاصيلها فهذا فيه وجهان.
قال الإمام يحيى : يتحمل (١).
وقال الفقيه يحيى بن أحمد : لا يتحمل (٢).
قوله تعالى
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف : ٢٠٥ ـ ٢٠٦]
ثمرة الآية : أنه تعالى أمر نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم بذكره والخطاب وإن كان متأولا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فالتكليف عام ، وهذا الذكر الذي أمر به تعالى يحتمل الوجوب إن فسر بأن الذكر هو تدبر الأدلة ، والاستدلال بها ، أو الصلاة ، وإن أريد الدعاء أو الذكر باللسان ، أو الطاعة أو ضد النسيان ، فهو محمول على الاستحباب ، وكل واحد من هذه المعاني قد فسرت الآية به ، ثم إنه تعالى ذكر آدابا للدعاء :
__________________
(١) وهو اختيار شيخنا ، وقواه الكينعي ، وشيخه ابن راوع ، وبعض المشايخ يقوي الأخير.
(٢) وهو المذهب.
الأول : أن يكون في نفسه ؛ لأن الخفية أبعد من الرياء.
الثاني : أن يكون على وجه التضرع ، وهو التذلل والخضوع ، والاعتراف بتقصيره عما كلف به.
الثالث : أن يكون خفية أي : على وجه الخوف ، والخشية من المؤاخذة ، وقد قرئ (وخفية) من الإخفاء ، وقيل : أراد بالتضرع الجهر ، وبالخفية الإسرار بالقراءة.
الرابع : أن يكون دون الجهر ، قيل : يكون بين الإسرار والجهر المكروه ، فكأنه تعالى قال : في نفسه ، ودون الجهر ، وكأنهما حالتان.
الخامس : أن يكون (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي : بكرة وعشيا ، وخص هذين الوقتين لاختصاصهما بنوع من الفضل ، وقيل : أراد الدوام ، والآصال ما بين العصر والمغرب جمع أصيل.
ثم إنه تعالى نهى عن الغفلة عنه ، فإن حمل الذكر على الواجب فهو نهي تحريم ، وإن حمل على الندب فهو نهي كراهة.
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني : الملائكة ، ووصفهم بالقرب تشريفا لهم ، والمعنى : أن حال هؤلاء الذين هم في أعظم منزلة في عبادته وتسبيحه مع عصمتهم ، فكيف حال المذنب ، وفي هذا حث ولطف مرغب في العبادة ، وأنه ينبغي أن ينظر العبد إلى من هو فوقه في طاعة الله تعالى ، وفي الآية دلالة على تفضيل الملائكة.
وقوله تعالى : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) قيل : أراد يخضعون ، وقيل : يسجدون في الصلاة.
قال في التهذيب : وهذه السجدة في آخر الأعراف مشروعة وفاقا.
قال إبراهيم : إن شاء سجد في آخر الأعراف ، وإن شاء ركع.
وعن أبي حنيفة : كل سجدة في آخر سورة ، أو قريبا من آخر السورة ـ فهو بالخيار إن شاء سجد ، وإن شاء ركع.
وحكم سجود التلاوة أنه مستحب عندنا والشافعي ، وواجب عند أبي حنيفة.
وفي حديث زيد بن علي عن أبيه عن جده ، عن علي عليهالسلام : (عزائم السجدات أربع : الم تنزيل السجدة ، وحم السجدة ، والنجم ، واقرأ.
وإنما قلنا : إن ذلك ليس بواجب لما روي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يسجد حين قرأ زيد بن ثابت (النجم) وروي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قرأها وسجد ، وسجد معه المسلمون والمشركون (١) ، فلما سجد مرة ، وترك مرة ـ دل أن ذلك ليس بواجب.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة.
وروي أن عمر قرأ بالسجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل وسجد فسجدوا معه ، ثم قرأ في جمعة أخرى فتهيئوا للسجود فقال : على رسلكم (٢) إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ، وكان ذلك بحضرة المهاجرين والأنصار (٣).
احتج أبو حنيفة بقوله تعالى في سورة الانشقاق : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ
__________________
(١) ذكر القصة وفي سجود المشركين ، في قصة الغرانيق الزمخشري ، وقد انتقد الزمخشري في إيراده مثل هذه القصة المكذوبة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وللإمام الناصر الأطروش كلام نفيس في هذه القصة أورده الأمين في دائرة المعارف الإسلامية الشيعية.
(٢) قوله : (على رسلكم) قال الجوهري : يقال : افعل كذا وكذا على رسلك بالكسر ، اتئد فيه ، كما يقال : على هنئك.
(٣) سيأتي ذكر الأقوال والقصة في سورة مريم في قوله تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا).
الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) فذم على ترك السجود ، وهو لا يذم إلا على ترك واجب.
قلنا : ذلك وارد في الكفار ، أو أراد بالسجود الخضوع.
قالوا : قوله تعالى في سورة الجرز : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) فجعل تعالى ذلك من شرائط الإيمان.
قلنا : أجمعوا أن ترك السجود بها لا يخرج من الإيمان فبطل الظاهر ، ولنا أن نحمله على الندب أو على سجود الصلاة بما بينا من الأدلة.
تفسير
سورة الأنفال
سورة الأنفال
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
والحمد لله وحده ، وصلواته على محمد وآله.
قوله تعالى
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال : ١]
النزول
قيل : نزلت في أهل بدر (١) ؛ لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «من أتى مكان كذا فله كذا ، ومن قتل قتيلا فله كذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا» فسارع الشباب ، وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما فتح الله تعالى عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم ، فقال الأشياخ : لا تذهبوا به دوننا ؛ لأنا كنا ردأ لكم ، وجرى بين أبي أنيس أخي بني سلمة وبين سعد بن معاذ كلام ، فنزلت الآية ، وقسم رسول الله بينهم بالسواء ، عن ابن عباس.
وروي أن أبا بكر ، وعمر ، وسعد بن عبادة قالوا : الناس كثير ، والقسمة قليلة ، ولم يمنعنا من القتال إلا أنا كرهنا أن نفارقك ، فنزلت الآية.
__________________
(١) كانت وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان ـ وقيل : العاشر من رمضان ـ وهي يوم الفرقان ، ويوم التقى الجمعان ، ونزلت سورة الأنفال في قسمة غنائمها ، وفي الثالثة في شوال ، يوم الحادي عشر منه كانت وقعة أحد.
وعن سعد بن أبي وقاص قال : فيّ نزلت الآية ؛ لأنه قتل أخي عمير ، فقلت به سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، فأمرني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم برده فرددته ، وبي ما لا يعلم إلا الله من قتل أخي ، وأخذ سلبي ، فنزلت الآية ، وأعطاني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم السيف.
وقال الأصم : سألوا عنها ؛ لأنها كانت حراما على من قبلهم ، فنزلت.
وقال الطحاوي : الغنائم لم تكن أخذت قبل يوم بدر.
والمعنى : يسألونك عن الأنفال ، أي : عن حكم الأنفال ، سؤال مسترشدين ، والسائل جماعة من الصحابة.
وقيل : إن (عَنِ) صلة ، أي : يسألك الشباب (١) الأنفال ؛ لأنك فرضت لهم ، وفي قراءة ابن مسعود : (يسألونك الأنفال) أي : تسليمها.
واختلف ما أريد بالأنفال فقيل : الغنائم عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء ، وأبي علي.
وقال أبو مسلم : الغنائم والفيء.
وقيل : النفل ما يشرط لمن له عناية زائدة على سهمه ، وقيل : ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال ، من دابة ، أو عبد ، أو متاع.
وقيل : الأنفال : الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس عن مجاهد ، وأنهم سألوه عن الخمس (٢) ، وقيل : ما فضل من المال ولم يقسم عن ابن عباس.
__________________
(١) في الأصل (يسألونك الشباب الأنفال) وهذا لا يستقيم إلا على (أكلوني البراغيث) لأن فيها الجمع بين فاعلين.
(٢) سألوه عن الخمس في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) أي : عن الخمس.
وقوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)
اختلف في هذه الإضافة التي أضافها إلى الرسول ، فقيل : هي إضافة ولاية عن أبي علي ، يضعها كيف شاء.
وعن أبي مسلم : يضعها كما أمر الله ، وقيل : هي إضافة ملك.
قال ابن أبي النجم في التبيان : وهذا هو الذي رجحه المنصور بالله فيفعل رسول الله فيها ما أراد ، كما أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم سوّى بين المقاتلة المشروط لهم ، وبين الشيوخ وهم أهل الرايات (١).
واختلف العلماء هل في هذه الآية نسخ أم لا؟ فقيل : هذه وردت في الغنائم ، ونسختها آية القسمة ، وهي قوله تعالى في هذه السورة : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والسدي ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعامر ، وأبي علي ، وذكر هذا الإمام في الانتصار ، وذكر هذا هبة الله.
وقيل : ليست بمنسوخة بل حكمها ثابت عن ابن زيد.
وعن أبي : نسخ ذلك ، حمله على ما صار إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من غير قتال.
وهاهنا سؤال يستوضح به دلالة الآية : وهو أن يقال : إذا حملت الأنفال على الغنيمة كما هو الظاهر؟ فالشرط الذي فعله رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن قويت عنايته من الشباب ، وأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ترك الوفاء به وقسم ، وأن الله تعالى جعل حكم القسمة إليه ، أو جعل الغنيمة ملكا له ـ في ذلك دلالة على أن شرط الإمام لا يلزم ، وهذا أحد أقوال الشافعي ، وقوله الآخر ، وأبي حنيفة ، والمذهب : إن ذلك لازم ، واحتج أهل المذهب بجواز
__________________
(١) لا حجة في القسمة كما ذكره المنصور بالله على كونه يملك ، إذ لا مانع من ذلك مع الولاية العامة المفوضة. (ح / ص).
الشرط لمن له عناية ، ولزوم الوفاء به ؛ بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر قال : «من قتل قتيلا فله كذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا» احتج الناصر على أن ذلك يجب الوفاء به ، ويلزم الإمام ؛ لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر قال ذلك ، وموعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يجب عليه الوفاء به ، ولا يجوز عليه الكذب ، والخلف ، والتبديل.
قيل : وذكر الهادي في الأحكام مثل ذلك ، وهذا يخالف ما ذكر في الكشاف والحاكم : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم حين نزل قوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) سوّى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بين الشباب المقاتلة وأهل الرايات سؤال (١) ...
ويتعلق بهذا حكم آخر : وهو أن للإمام أن ينفل من رآه ، لكن اختلفوا في أمرين :
أحدهما : هل له أن ينفل بعد إحراز الغنيمة إلى دار الإسلام أم لا؟ فمذهبنا والشافعي له ذلك ، وهذا قول مالك.
والحجة قوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).
وقال أبو حنيفة : لا ينفل بعد إحراز الغنيمة إلى دار الإسلام ؛ لأن الغنائم قد ملكوها.
الخلاف الثاني : هل التنفيل مقدر أم لا؟ فمذهبنا والشافعي أنه غير
__________________
(١) بياض في الأصل بمقدار سطرين. وذكر في (ح / ص) : لعل الجواب ـ والله أعلم ـ أن يقال : إن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قال ذلك مشروطا بأن لا يحصل نزاع ، ولا تشاجر ، فإن حصل ذلك رجع إلى القسمة بالتسوية بينهم ، والله أعلم.
ولو قيل : هذا اجتهاد منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ترجح له في ذلك الوقت خلافه لمصلحة ، ودفع مفسدة لم يكن ذلك بعيدا ، إذ يكون لزوم الوفاء بمثل هذا مشروطا بأن لا تظهر المصلحة في خلافه ، ولا يعارض ذلك مفسدة ، ويشهد لهذا النظر ما يأتي قريبا ، وقصة المدري. (ح / ص).
مقدر ، بل ذلك إلى اجتهاد الإمام ، وقد وردت أخبار مختلفة في تنفيل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال في الشرح : وروى أصحاب المغازي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطى صفوان بن أمية في غزاة حنين مائة من الإبل ، وأعطى سهيل بن عمرو مائة ، وأعطى دون المائة رجالا من قريش ، حتى أثر ذلك في نفوس الأنصار ، فتكلموا بما تكلموا ، فقال لهم رسول الله : «أما ترضون أن ينصرف الناس بالأموال ، وتنصرفون برسول بالله»؟ فقالوا : قد رضينا.
وفي حديث عبادة بن الصامت وغيره : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع ، وينفلهم إذا أقبلوا الثلث ، وتفسير البدأة سيأتي.
وقال ابن عمر : ينفل قدر نصف السدس.
وقال الأوزاعي : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) كان ينفل في البدأة الربع ، وفي الرجعة الثلث (١).
قال أبو العباس : البدأة : أن تنفذ سرية إلى دار الحرب ، والرجعة : أن ترجع من دار الحرب قبل أن تدخلها ، فترد سرية إلى دار الحرب ، ويجوز أن ينفل من أيّ صنف رأى من الأموال.
وقال مكحول : لا يجوز في الذهب والفضة.
__________________
(١) قال في النهاية : والمعنى كان إذا نهضت سرية من جملة العسكر أولا على العدو فأوقعت بهم نفلها مما غنمت ، وإذا فعلت ذلك عند عود العسكر نفلها الثلث ؛ لأن الكرة عليهم أشق ، والخطر فيها أعظم ، وذلك لقوة الظهر عند دخولهم ، وضعفه عند رجوعهم ، وهم في الأول أنشط ، وأسرع في المسير ، وفي الإمعان ، وهم في بلادهم ، وهم عند القفول أضعف وأوهن ، وأشهى للرجوع إلى أوطانهم ، فزادهم لذلك.
وإذا نفل رجل جارية أو سلعة جاز له الوطء والبيع ، وإن لم يدخلها دار الإسلام ، عند محمد (١).
وقال أبو حنيفة : لا يجوز ذلك حتى يحرزها إلى دار الإسلام.
والسلب من الغنيمة يقسم بين الغانمين عند الهادي عليهالسلام ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والثوري ، إلا أن يجعلها الإمام للقاتل.
وقال الشافعي ، والليث ، والأوزاعي : السلب للقاتل وإن لم يجعله له الإمام.
حجتنا : أنه داخل في الغنيمة ، وقد قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) وإذا وجب الخمس لم يكن للقاتل ، ولأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أذن لخالد بن الوليد وقد أخذ سلبا على بعض القاتلين ، وذلك في قتل المدري (٢) ، الذي من أهل اليمن للرومي الذي كان يشتد على المسلمين ، وذلك في غزاة مؤتة ، وقيل له : لم أخذت وقد جعله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم للقاتل؟ىفقال : استكثرته ، فلما أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خالدا برده فتكلم على خالد ، فجعله النبي صلى اللهعليهوآلهوسلم لخالد ، ولو كان للقاتل لما جعله لخالد.
قالوا : إنه جعله على وجه التنفيل.
قلنا : لو كان مستحقا لم ينفله.
قالوا : لو لم يكن للقاتل لما أمر خالدا برده إليه ابتداء؟
قلنا : أمر برده إلى القاتل على وجه التنفيل ، وله أن ينفل (٣).
__________________
(١) أي : محمد بن الحسن الشيباني.
(٢) قوله (المدري) وهكذا في شرح القاضي زيد ، والذي في النهاية (المددي) منسوب إلى المدد ، وهم الذين يلحقون بعد الجيش ، هذا معنى ما في النهاية. (ح / ص).
(٣) ولو قيل : أمر بالرد إلى خالد لمصلحة ، وهي صيانة الأمراء من الإقدام عليهم ، وهضم جانبهم ، ويكون ذلك نوعا من الاستعانة ، كما في إسقاط القصاص ونحوه لمصلحة لم يبعد ، والله أعلم (ح / ص).
واعلم أنه قد روي في مسلم ، والسنن أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «من قتل قتيلا فله سلبه» وجعل لهذا بابا في إعطاء السلب القاتل. وروي حديث خالد ، وجعل لإعطاء السلب غير القاتل بالاجتهاد بابا ، وجاء بهذا الحديث ، وترجم في مسلم : باب إعطاء السلب بعض القاتلين بالاجتهاد.
وروي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطى سلب أبي جهل أحد قاتليه ، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء ، فأعطاه معاذ بن عمرو بن الجموح ، فهذه ثلاثة أخبار تقضي بأن الخيار للإمام.
أما لو قال الإمام : «من قتل قتيلا فله سلبه» كان السلب له عند الجميع.
وحديث معاذ بن عمرو ، ومعاذ بن عفراء جعله في (شرح الإبانة) حجة لنا.
قال في (شرح الإبانة) : وروى عبادة بن الصامت أن النبي عليهالسلام لم يجعل السلب للقاتل إلا بعد إذنه له به ، والشافعي يجعله للقاتل بشروط ، وهي : أن يقتله بالسيف لا لو رماه بسهم من صف إلى صف ، بل يكون حال المبارزة ، وأن يقتله مقبلا لا مدبرا ، وأن يكون المقتول ذا قوة وجلد ؛ لا لو كان زمنا ، أو أعمى ، أو جريحا.
__________________
ــ وفي (ح / ص) (القياس أن يقال : أمره لخالد بالرد إلى السالب بالاستحقاق ، واسترجاعه لخالد من السالب على وجه التأديب ، لما تكلم على خالد وهضم جانبه ، وهو الأمير ، والذي في أصول الأحكام في أواخر السير أن المتكلم في حق خالد عوف بن مالك ، وهو راوي الحديث ، والقاتل : المددي ، الذي عرقب فرس الرومي ، ثم قتله ، وأخذ سلبه ، إلى أن قال فيه : فلو كان يستحقه القاتل لم يجز أن يمنع حقه بجناية غيره ، فيحقق. في الحاشية ، وكذا في شرح التجريد أن المتكلم عوف بن مالك. وفي شرح القاضي زيد ، وهكذا في نهاية بن الأثير ، حيث قال : ومنه حديث عوف بن مالك : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من اليمن ، هو منسوب إلى المدد ، فالمعنى أنه راوي الحديث.
قال في النهاية : ومنهم من جعله للقاتل على كل حال.
قال : وسبب الخلاف هل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من قتل قتيلا فله سلبه» هل ذلك على جهة النفل أو على جهة الاستحقاق؟
قال في النهاية : ذهب قوم إلى أن النفل يكون من الخمس الواجب لبيت المال ، وإليه ذهب مالك.
وقال قوم : من خمس الخمس ، وهو حظ الإمام فقط ، وهو الذي اختاره الشافعي.
وقال قوم : من جميع الغنيمة (١) ، وهو الذي اختاره أحمد ، وأبو عبيدة.
وسبب الخلاف هل بين الآيتين تعارض أم هما على التخيير ، وهما قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) فمن رأى أن قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) ناسخ لقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) قال : لا نفل إلا من الخمس ، أو من خمس الخمس ، ومن قال : هما على التخيير جوز التنفيل من جملة الغنيمة وجميعها.
قال : وللخلاف سبب آخر ، وذلك اختلاف الآثار ، يعني : أنه قد روي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم نفل بعد القسمة ، وذلك يدل على أنه نفل من الخمس.
وروي أنه نفل قبل القسمة.
قال : واختلف في جواز الوعد بالتنفيل قبل الغنيمة ، فمنهم من منعه خشية أن تسفك الدماء بغير حق ، ومنهم من جوزه ؛ لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم فعله ، وكره مالك الوعد به ، ولهذه الجملة تكاميل ستأتي إن شاء الله عند ذكر آية
__________________
(١) وهو المذهب.
القسمة للغنيمة والمفهوم من كلام كثير من العلماء جواز التنفيل مع قولهم : إن آية القسمة ناسخة لقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ).
قال في التهذيب : وعن سعيد بن المسيب : لا نفل بعد رسول الله.
ومن ثمرات الآية الكريمة : الدلالة على وجوب الإصلاح ، وأنه من جملة الإيمان ؛ لأنه قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : كاملي الإيمان ، وقوله تعالى : (ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : أحوال بينكم ، والمعنى : ما بينكم من الأحوال ، وإنما أنث ؛ قيل : لأن المراد بذات البين نفس الشيء ، وقيل : المعنى : أصلحوا الحال ذات بينكم ، وقيل : قد يضعون اسم المذكر على المؤنث وعكسه ، كالدار والحائط.
قوله تعالى
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٢ ـ ٤]
هذه الآية قد تضمنت أن المؤمن من اجتمعت فيه الخصال ؛ لأن إنما للنفي والإثبات ، فقد أثبت الإيمان لمن جمع هذه الخلال ، ونفاه عمن لم يجمعها ، وهي تفيد أحكاما لزوم الوجل بذكر الله ، والوجل الخوف.
وقيل : ذلك من يهم بالمعصية فيذكر الله فينزع ، عن السدي.
ومنها : وجوب التدبر عند قراءة القرآن وسماعه ، والتدبر ليعرف ما أمر به ، وما نهي عنه ، وما وعد به ، وما توعّد عليه ، ليزداد إيمانا إلى إيمانه ، وهذا يجب على الجاهل ، ويستحب لمن قد عرف.
ومنها : لزوم التوكل على الله ، وله شرائط في التوكل في أمر الدنيا ، وهي : أن يطلب الحلال ، ويشكر على حصوله ، ويصبر على الحرمان ،
ويرضى بما قسم له ، ويعتقد فيما فات أن ذلك لمصلحة ، ويعتقد أن ما ناله من نعمة الله فهو من الله تعالى ، أو بتسبيبه ، ولا يظهر جزعا.
وليس من تعلق بالتجارة والحرف يخرج عن التوكل ، وقد قال تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «طلب الحلال فريضة بعد الفريضة» وقد فعل ذلك سادات الأمة ، وأعيان الصحابة والتابعين ، وذم صلىاللهعليهوآلهوسلم من ترك السعي ، وذلك فيما رواه الحاكم عن ابن عباس قال : (مر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوم في قباء بالمدينة ، فمنهم من يصلي ، ومنهم من يتذاكر العلم ، ومنهم من يتدارس القرآن ، فوقف عندهم ساعة ، ثم قال : «من أنتم»؟ فقالوا : يا رسول الله نحن قوم قرأنا القرآن فمررنا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) فتوكلنا على الله فهو حسبنا ، فنحن المتوكلون ، وأن الله سيرزقنا من حيث لا نحتسب ، فقال : «يا قوم قوموا وتفرقوا ، واكتسبوا ، وابتغوا من فضل ربكم ، فإن الله لم يأمرنا بهذا» ثم قال في آخر الخبر : «أنتم المتواكلون على الناس» وفي حديث : لما قالوا نحن المتوكلون ، قال : «كذبتم ، أنتم المتوكلون ، إنما المتوكل رجل ألقى الحب وهو ينتظر الغيث» وقد ورد في ذلك أخبار وآثار.
وقسم العلماء المكاسب إلى واجب ، ومندوب ، ومحظور ، ومكروه ، فما دفع به مضرة نفسه ومن يعول فذلك واجب ، وما يبتغي به على الإنفاق في القرب فمندوب ، وما كان بوجه حرام أو طلب مفاخرة فحرام ، وما قصد به الكثرة والثروة فمكروه ، ولم يبق للمباح صورة على هذا التقسيم.
وقد ذكر في المنتخب من الإحياء (١) أن ترك التكسب أفضل لعابد
__________________
(١) كتاب المنتخب ـ المنتزع من كتاب إحياء العلوم للغزالي.
بالعبادات القلبية ، ولعالم يشتغل بتربية العلم ؛ لينتفع الناس به في دينهم كالمفتي ، والمفسر والمحدث ، وأمثالهم ، ورجل تكفل بمصالح المسلمين كالسلطان والقاضي ، فهؤلاء يكفون من الأموال المرصدة للمصالح ، والأوقاف لذلك ، ويكون اشتغالهم بما هم عليه أفضل من الكسب ، ولهذا قال تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ولم يوح إليه وكن من المتاجرين.
قال : وكذلك أشار الصحابة على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ بترك التجارة لما ولي الخلافة ، إذ كان ذلك يشغله عن المصالح ، وكان يأخذ كفايته من مال المصالح ، فرأى أن ذلك أولى ، ولما توفى أوصى برده إلى بيت المال ، تم كلامه ، وهذا زيادة في التحرج ، أعني : رد أبي بكر ما استنفقه.
لكن للتكسب آداب لا بد منها :
منها : معرفة ما يقدم عليه ، وأن تكون أموره مطابقة للشرع ، وأن لا يشغله ذلك عن المساجد ، وأن لا يكثر الحلف ، ويروج السلعة ، ولا يخل بنصح المشتري في بيان العيب.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) قيل : إقامتها أن يؤديها في أوقاتها بشرائطها.
وقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قيل : أراد الإنفاق على النفس والعيال ، عن أبي مسلم ، وقيل : في سبيل الخير عن أبي علي ، وقيل : الزكاة المفروضة ، وقيل : النفقات الواجبة.
تكملة لهذه الجملة.
قال الحاكم : لا يجوز أن يقول الإنسان لغيره : هو مؤمن على الحقيقة ، يعني : على القطع ، وإنما يجوز من جهة الظاهر.
وأما إذا أخبر عن نفسه (١) فقال : هو مؤمن حقا ، فمنهم (٢) من يجوز ذلك ، وأن يقول : أنا مؤمن حقا ، ومنهم من قال : لا يجوز ، إلا أن يقول : إن شاء الله تعالى (٣) ؛ لأنه قد لا يحيط بعلمه ، وأنه أدى ما كلف به ، فلو علم جاز.
قوله تعالى
(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) [الأنفال : ٥ ـ ٧]
النزول
قيل : نزلت في غزوة بدر عن جماعة من المفسرين ، وذلك أن جبريل عليهالسلام أخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وسلم أن عير قريش أقبلت من الشام ، فيها
__________________
(١) الشك هل يقطع الإنسان بإيمانه. الخ.
(٢) هو قول قاضي القضاة ، ذكره عنه الإمام المهدي عليهالسلام في المقدمة في فضل الأسماء ، حيث قال : قال القاضي : لا يبعد أن يعلم الوفاء في الحال إذا تحفظ عليه ، أي : بالغ في حفظه ، وعدم الغفلة عنه ، وحينئذ يتقارن العلم والمعلوم ، وإنما يجب تأخر العلم عن المعلوم إذا كان اكتسابيا ، وهذا ضروري ، إذ هو علم بحال النفس ، فيصح مقارنته ، وإنما كان فيه صعوبة ولغز ؛ لأنه استحضار لأشياء كثيرة في وقت واحد ، فالقاضي يجيز : أنا مؤمن من غير تقييد بالمشيئة ، والتحفظ ذكره النجري في شرحه.
(٣) هما الشيخان أبو علي ، وأبو هاشم ، قالا : إذ لا سبيل له إلى أن يعلم وفاؤه بما كلف به الجميع من فعل الواجبات ، وترك المحظورات ، وإنما قلنا : إنه يتوقف على ذلك لأنه إذا جوز أن يكون قد ترك واجبا ، أو فعل قبيحا ، فقد جوز أن يكون قد فعل كبيرة ؛ لأن ما من معصية إلا وهو يجوز أن تكون كبيرة ، ذكر هذا النجري في شرحه على المقدمة (شرح القلائد)