تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

نفوسهم ، وعزموا على الترهب (١).

وقيل : لما حرمت الخمر والميسر ، قال الصحابة : كيف بمن مات من أصحابنا وهم يشربون الخمر ويأكلون القمار؟ فنزلت أنه لا حرج عليهم ؛ لأن ذلك كان مباحا قبل نزول التحريم.

إن قيل : لما خص المؤمنين بنفي الجناح في الطيبات إذا ما اتقوا ، والكافر كذلك؟

قال الحاكم : لأنه لا يصح نفي الجناح عن الكافر ، وأما المؤمن فيصح أن يطلق عليه ، ولأن الكافر سد على نفسه طريق معرفة الحلال والحرام.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [المائدة : ٩٤ ، ٩٥]

النزول

قال الكلبي نزلت الآية بالحديبية ابتلاهم الله بالوحش ، فكان يغشي في رحالهم وهم محرمون ، فيتمكنون من أخذها بأيديهم ، وطعنها

__________________

(١) وقد تقدم شيء من هذا وبيان القصة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ).

١٨١

برماحهم ، فنهوا عن قتلها ، فبينا هم يسيرون إذ عرض لهم حمار وحش فقتله بعضهم ، فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلّم عن ذلك؟ فنزلت الآيات.

قيل : وقد امتحن الله تعالى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيد البر ، كما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر.

ولهذه الآيات ثمرات :

منها تحريم قتل بعض الصيد على المحرم ؛ لأنه تعالى قال : (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) فدل أن المحرّم بعضه ، وأن بعضه حلال (١) ، وهذا الصيد هو البري بلا خلاف ؛ لأنه تعالى قد قال بعد هذه الآية : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) [المائدة : ٩٦].

وصيد البر ما يتوالد في البر ، وصيد البحر ما يتوالد فيه ، ذكر ذلك الحاكم ، فعلى هذا يكون الجراد برّيا ، وقد ذكره في الشرح ، وإذا كان بريا فهل يجوز للمحرم أم لا؟

فقال الحاكم : أجمعوا أنه حلال للمحرم ، وأنه مخصوص من الآية ، وأنه كصيد البحر ، وفي الشرح روي عن علي عليه‌السلام من طريق زيد بن علي أنه قال : «في الجرادة قبضة من الطعام» وروى ذلك عن ابن عباس ، وابن عمر ، وروي عن عمر أنه قال : تمرة خير من جرادة ، وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي.

__________________

(١) يقال : ليس في الآية ما يدل على تحريم قتل بعض الصيد ، وحل بعضه ، وإنما فيها الابتلاء بشيء منه ، وهو ما غشيهم فقط ، والابتلاء الاختبار ، فالأنسب أن يقال : إن الآية دلت على تحريم الصيد عموما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) لأن لفظ الصيد من صيغ العموم ، وخرج صيد البحر من العموم بقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) الآية بعد هذه ، والله أعلم ، وفي البغوي : وإنما بعض فقال : (بِشَيْءٍ) لأنه ابتلاهم بصيد البر تغشاهم.

١٨٢

وعن أبي سعيد الخدري : لا شيء في الجراد ، وهو قول داود ، وهكذا في الشرح ، والمفهوم من قول القاسم : في العضاية شيء من الطعام ، كما في الجراد ـ أنه لا يجوز ، وفي سنن أبي داود أخبار مسندة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الجراد من صيد البحر» لكن أبا داود ضعفها وقال : فيها وهم.

وإذا قلنا : إن صيد البر محرم على المحرم احتجنا إلى بيان الصيد ، وبيان المحرّم عليه ، وبيان التحريم على ما يقع.

أما الصيد فقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) يعم الصيود البرية كلها ، المأكول وغير المأكول ، والمملوك وغير المملوك ، ولا خلاف أن هذا مخصوص بخروج الحية ، والعقرب ، والغراب والفارة ، والحدأة والكلب العقور ، وكذا ما عدا من كل سبع جاز قتله وفاقا ، ولا جزاء عليه عندنا ، وعند أبي حنيفة : يجب فيه الجزاء ، وقد فسر الكلب العقور الذي ذكر في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خمسة لا جناح في قتلهن في الحل والحرم : العقرب ، والفارة ، والغراب ، والحدأة ، والكلب العقور». بأنه الذئب ، لكن قال الأخوان ، وهو ظاهر كلام الهادي في الأحكام : إنما تقتل السباع حال عدوها.

وقال أبو العباس : ولو لم تعد إذا كان عادتها العدو ، وأخذه من قول الهادي عليه‌السلام في الضبع : يجوز قتله إذا كان في ناحية يفترس ، كذلك الآية على عمومها يدخل فيها ما يؤكل وما لا يؤكل ، هذا مذهبنا ، وأبي حنيفة.

وقال الشافعي : ما لا يؤكل لا يدخل في المنع ولا جزاء فيه.

حجتنا عموم الآية ، وخبر جابر (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الضبع فقال : «إنها من الصيد» وجعل فيها كبشا) ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خص الخمسة بالجواز فدل أن غيرها بخلافها ، لكن هذا من مفهوم العدد ، والشافعي يقول : الصيد

١٨٣

ينطلق على المعهود صيده ، والمعتاد صيد ما يؤكل ، كذلك لا فرق بين أن يكون الصيد الممنوع في حق المحرم مملوكا أو غير مملوك.

وعن مالك ، والمزني : لا جزاء في المملوك ، كذلك اسم الصيد ينطلق على المتوحش ، وإن استأنس فيدخل في العموم ، وينطلق على ما كانت أمه وحشية ، ولو كان أبوه أهليا.

وأما الفراخ والبيض فالأكثر أن ذلك يدخل في التحريم ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام وابن عباس ، وابن مسعود ، وقد فسر قوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) بالفراخ والبيض ، وقوله تعالى : (وَرِماحُكُمْ) أريد به الكبار.

وقيل : البيض والصغار لا تدخل في اسم الصيد ؛ لأن الصيد للمتوحش الممتنع ، لا ما لا يمتنع ، وإنما المراد : تناله أيديكم بوضع الشرك.

وقيل : قوله (أَيْدِيكُمْ) أراد بذلك صيد الحرم ؛ لأنه تناله الأيدي لكونه مستأنس.

وحكي عن داود ، وابن جرير : لا جزاء في البيض.

فهذا بيان ما ينطلق عليه اسم الصيد ، وأما بيان المحرم عليه :

فقد قال تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) والحرم جمع حرام ، كردح جمع رداج (١) ، والحرام : من دخل في إحرام الحج ، وهو المراد بالآية ؛ لأنها واردة في الصيد البري دون البحري ، ولو أراد من دخل الحرم استوى في ذلك البحري ، وهو حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد ، والبري وصيد البر يحرم على من دخل في الإحرام ، وعلى من دخل في الحرم كما تقدم في أول هذه السورة ، وقد اختلف المفسرون ما المراد

__________________

(١) الرداح : هي المرأة عظيمة الأوراك. (ح / ص).

١٨٤

بهذه الآية فقيل : صيد البر فيكون للمحرم بالحج أو العمرة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد.

وقيل : صيد الحرم وهذا مروي عن أبي علي.

وأما ما يتعلق به التحريم فقد صرحت الآية بتحريم القتل ، وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا توعد للقاتل ، وقد قال في الانتصار : إن ذلك من الكبائر.

وأما تحريم الأكل ، والملك فسيأتي الكلام عليه عند ذكر قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) وقد يستدل على تحريم الأكل بتحريم القتل ؛ لأن القتل أغلظ بدليل أن أكل الخنزير محرم على الحلال والمحرم ، وتحريم قتله يختص بالمحرم.

تكملة لهذه الجملة

إن قيل : لم حرم قتل القملة والنملة ، والبعوضة والقراد ، حيث لا يؤذي؟ فإنه قد ذكر في الشرح أنه إذا قتل القملة والبعوضة لغير ضرورة فعليه صدقة؟

قلنا : أما القمل فقد جعلوا ذلك من التفث ، وهو ممنوع من إزالته ؛ لأنه متولد من جسمه وقالوا : هو إجماع ، وهو يشبه الشعر وليس من الصيد.

وأما البق والنملة ، والبعوضة والقراد فلأنه يتوحش ، وكان من صيد البر فدخل في عموم التحريم ، والشافعي يخص التحريم بالمأكول.

وقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) والكلام في هذه النكتة يتعلق بأمرين :

أحدهما : في بيان القتل الذي يوجب الجزاء.

والثاني : في بيان الجزاء.

١٨٥

أما بيان القتل الذي يوجب الجزاء فقد قال تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فقيد بالعمد ، وفي هذا مسائل :

الأولى : إذا تعمد قتل الصيد ذاكرا لإحرامه فعليه الجزاء ، وهذا إجماع ، والآية نص في ذلك وهي محكمة وفاقا.

وقال مجاهد : لا جزاء على العامد ؛ لأن جرمه أعظم من أن يكفر ، وخلافه ساقط.

وأما إذا كان ناسيا لإحرامه فالجزاء واجب مع تعمد قتل الصيد ؛ لأنه داخل في عموم الآية ، وأحد قولي الناصر : لا جزاء عليه كالخاطئ.

قلنا : هو داخل في عموم الآية.

الثانية : إذا عاد في قتل الصيد مرة ثانية عامدا ، فعليه الجزاء ، وهو مخرج على قول الهادي ، ونص عليه المرتضى ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، وعامة الفقهاء ، ورواه في التهذيب عن الهادي.

وفي الكشاف : عن عطاء ، وسعيد ابن جبير ، والحسن ، وإبراهيم ، والوجه : أنه داخل في عموم قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً).

وقالت الإمامية ، وداود ، وقول للناصر ، ورواية لمالك ، وابن عباس ، وشريح : لا جزاء على العائد لقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ).

قلنا : المراد عاد إلى ما حرم ؛ لأنه كان مباحا من قبل ، مع أن الانتقام لا ينافي الكفارة.

الثالثة : إذا قتله خاطئا فهل يجب عليه الجزاء أم لا؟

اختلف العلماء في هذا ، فالذي نص عليه القاسم ، ودل عليه قول الهادي أن الخاطئ لا شيء عليه ، وهذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وسالم ، وأبي ثور ، وصاحب الظاهر ، والناصر ، وسعيد بن جبير ، وأحد الروايتين عن الحسن.

١٨٦

وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي : ومروي عن عمر : إن الجزاء يجب على العامد والخاطئ.

وعن الزهري : نزل الكتاب بالعمد ، والسنة بالخطإ.

حجة الأولين : أن الله تعالى قيد ذلك بالعمد ، فقال تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) وقال : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) فلو أوجبنا ذلك في الخاطئ ، لبطل التقييد بالعمد.

قالوا : إنما قيد بالعمد ؛ لأن السبب ورد فيه ؛ لأنه روي أنه عنّ لهم عام الحديبية حمار وحش ، فحمل عليه أبو اليسر (١) فطعنه برمحه فقتله ، فقيل : له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم ، فنزلت.

قلنا : إنه لا يلحق الأدنى بالأعلى ، وإنما الواجب العكس ، وهو إلحاق الأعلى بالأدنى كما ورد في كفارة قتل الخطأ على قول من أوجب الكفارة في العمد.

قالوا : إنا وجدنا إتلاف الأموال يستوي فيها العمد والخطأ؟

قلنا : هذا معارض بظاهر الآية ، ويعارض أيضا بثبوت القود في العمد لا في الخطأ ، وسبيل هذا سبيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في سائمة الغنم الزكاة».

قالوا : وجدنا فاعل السبب يتعلق به الجزاء وهو كالخاطئ ، وذلك كحفر البئر ونصب الشبكة ، وأيضا الدال يجب عليه.

__________________

(١) وفي الكشاف مثل ما هنا ، وصوب بأبي قتادة ، والبغوي أيضا مثل الكشاف ، وكذا في النيسابوري أيضا ، وفي جامع الأصول أبو قتادة ، وسيأتي ذكر أبي اليسر ، واسمه واسم أبيه ونسبه في آخر هود في قوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) الآية وسيأتي في تفسير قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) الآية قصة أبي قتادة بعد قصة الصعب بن جثامة ، فلعلهما قضيتان. والله أعلم. (ح / ص) ..

١٨٧

قلنا : ما ورد في الدلالة مروي عن علي عليه‌السلام ، وعمر ، وابن عباس ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وما قلنا في الدال هو قول سعيد بن جبير ، وعطاء ، والشعبي ، وأبي حنيفة.

وقال الشافعي ، ومالك : لا شيء على الدال مع المباشر ، والمذهب يجب على الدال والمباشر ، بدليل ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمن سأله : «هل أشرت هل أعنت؟».

ولو اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد فعلى كل واحد جزاء عندنا ، وأبي حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والحسن ، والشعبي.

وقال الشافعي ، وعطاء : جزاء واحد ، لنا أن من في قوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) للعموم ، كما في قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً).

ولو قتله قارن ، فعندنا ، وأبي حنيفة : عليه جزاءان ؛ لأن الجزاء إنما وجب لهتك حرمة الإحرام ، وهو محرم بنسكين ، فكأن ذلك إحرامين.

قال الشافعي : لا يجب عليه إلا جزاء واحد.

إن قيل : سبب العقوبة إذا تكرر لم تكرر العقوبة. سؤال .. (١) والشافعي أخذ بظاهر الأدلة ، وذلك قول تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) ولم يقل : مثلا ما قتل.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في الضبع شاة» ولم يفصل (٢).

__________________

(١) بياض في الأصل. لو قيل : اختلاف نوع المحرم به كاختلاف جنس الموجب للعقوبة ، كالزنى ، والشرب لم يبعد ، والله أعلم.

(٢) قال عليه : إن الآية نزلت باعتبار الأكثر والأغلب ، وهو الإحرام بنسك واحد ، فلا حجة لهم في عدم التثنية. كما ذكروا.

١٨٨

تكملة لهذا

وهي إذا جرح الصيد ، أو أفزعه فإنه يلزمه أن يتصدق ، وتكون كثرة الصدقة وقلتها على قدر فزعه ، نص على ذلك الهادي ، وهذا قول عطاء ، وابن أبي ليلى.

فإن قيل : في الآية دلالة الجزاء في القتل فما دليل الصدقة في الجرح والإفزاع؟

قلنا : قد وجه ذلك بأن فعله معصية وفاقا لأجل الضرر ، فأشبه الجناية على ملك الغير (١) فيجبر ، وأجمعوا أنه لا يجب غير الصدقة.

وفي التهذيب عن أبي حنيفة ، والشافعي : لا شيء في الإفزاع (٢).

الأمر الثاني : في بيان الجزاء ، وقد قال تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وفي ذلك قراءات ، فقراءة عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب (فجزاء) بالتنوين ، و (مثل) بالرفع بدل من جزاء ، وقراءة أبي جعفر ، ونافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبي عمرو : (فجزاء) من غير تنوين على الإضافة إلى مثل ، وجر (مثل) ، وقراءة الأعمش ، وعبد الله (فجزاؤه) بالهاء و (مثل) بالرفع ، وعن السلمي (فجزاء) منون ، و (مثل) منصوب بجزاء ، وقراءة محمد بن مقاتل (فجزاء مثل ما قتل) بنصبهما ، والأولتان هما المشهورتان.

وتوجيه قراءة نافع ومن معه : أن أصله فجزاء بالتنوين ومثل بالنصب ، كما قرأ السلمي ، ثم أضيف كما تقول : عجبت من ضرب زيدا ، ثم تقول : من ضرب زيد بالإضافة ، والمعنى : فليجز جزاء مثل ما قتل ، ولم يظهر بين القراءات فرق في الدلالة على الحكم.

__________________

(١) أما في الجرح فالشبه واقع ، وأما في الإفزاع فيحقق. (ح / ص) ..

(٢) ال في (ح / ص) قلت : وهو الأظهر ، وإلا لزم في إفزاع شاة الغير ونحوها ، ولا شيء فيه ، فاختل القياس

١٨٩

واختلف في إطلاق النعم على ما ذا؟ فقيل : هو الإبل ، والبقر ، والغنم ، وقيل : الإبل فقط.

واعلم أن العلماء اختلفوا في تفسير المماثلة المذكورة في الآية ، فظاهر مذهب الأئمة عليهم‌السلام أن المماثلة هي مماثلة الخلقة ، أو الفعل ، وهذا قول مالك والشافعي ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام وابن عباس ، والسدي ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن ، وكذلك قد روي عن عمر وابن مسعود أنهما قضيا في اليربوع بجفرة (١).

وعن عمر ، وابن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد : أنهم حكموا في الظبي بتيس.

وعن عمر ، وعثمان ، وابن عباس : في الحمامة شاة.

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : المماثلة مماثلة القيمة ، وسبب هذا الخلاف أن المماثلة الحقيقية غير ثابتة إجماعا ؛ لأن مثل الظبي ظبي مثله ، ولم يقل أحد بذلك ، وبقي المماثلة غير الحقيقية وهي تنطلق على مماثلة الخلقة والفعل ، ومماثلة القيمة ، فقال الأولون : ترجح المماثلة في الخلقة والفعل ، وتفسر المماثلة المرادة في الآية بذلك لوجوه :

الأول : أن ذلك هو السابق إلى فهم السامع لغة وعرفا ، أن المثل ما شابه الشيء في خلقه أو فعله.

الوجه الثاني : خبر جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الضبع فقال : «هي من الصيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، فقيل : له : سمعت هذا من رسول الله؟ قال : نعم.

الوجه الثالث : أنه قد روي عن أعيان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فعن علي عليه‌السلام أن في النعامة بدنة ، وعنه أيضا : في الظبي شاة.

__________________

(١) الجفرة : من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر.

١٩٠

وعن عمر وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد : أنهم حكموا في الظبي بتيس.

وعن عمر ، وابن مسعود أنهما قضيا في اليربوع بجفرة.

وعن عمر : أنه قضا في الضب بجدي.

وعن عمر ، وعثمان ، وابن عباس : في الحمامة شاة.

وعن ابن عباس : في القمري ، والدبسي ، والحجل ، والحمام الأخضر شاة شاة ، وكذلك عن علي ، وعمر ، وابن عباس : أنهم قضوا في الضبع بكبش.

الوجه الرابع : أنه لم يرو عن أحد من الصحابة السؤال عن حال الصيد المقتول في سمنه وكبره ؛ لأن القيمة تختلف بذلك.

احتج أبو حنيفة بوجوه :

الأول : أن المماثلة في القيمة محتملة ، فرجحناها بالقياس على إتلاف سائر الأموال ، فإنما تضمن بقيمتها.

قلنا : يمنع من هذا النص ، وأقوال الصحابة من غير نكير.

الثاني : قالوا : الحمل على المثل في القيمة يعم ما له مثل ، وما لا مثل له ، وقد وافقتمونا في ما لا مثل له ، فالتفصيل بغير دلالة تحكم.

قلنا : يخص ما لا مثل له بدليل ، فقد روي عن ابن عباس في الصيد يصيده المحرم لا يجد مثلا من النعم ، فقال ابن عباس : ثمنه يهدى إلى مكة ، وكذلك روي عن غيره.

الثالث : قالوا : لو كان المطلوب مماثلة الخلقة لم يفتقر إلى حكم عدلين ؛ لأن ذلك يعلم مشاهدة.

قلنا : احتيج إلى العدلين لجواز أن يشبه الصيد بشيئين من النعم ، ولهذا اختلف في حمار الوحش بما ذا يشبه هل بالبقر أو بالإبل؟

١٩١

قال في (شرح الإبانة) : أوجبنا فيه بقرة ؛ لأنه أشبه بها ، ولأن البقرة الوحشية خير من حمار الوحش ، وفيها بقرة ، فلم نوجب في الأدنى خيرا مما في الأعلى.

الوجه الرابع : ذكره جار الله (١) : أن التخيير إنما يستقيم استقامة ظاهرة إذا قوّم ، ثم خير في القيمة بين الهدي ، والكفارة ، والصيام ، فأما إذا كان التخيير بين المثل في الخلقة وبين غيره كان التقدير فجزاء مثل ما قتل ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، فكأنه خير بين المثل ، وبين غير المثل ، وعلى التفسير بأن مثل القيمة لا تخيير فيه ، ولكن التخيير فيما يفعل بالمثل ، هل يكون هديا بالغ الكعبة ، أو غيره من الصدقة والصيام؟

أما قوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) فهو يحتمل هل أراد ما يعدل القيمة ، أو ما يعدل المثل في الخلقة.

وأما قراءة الإضافة وهي قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ) فاللفظ يقضي أن الجزاء لمثل الصيد لا له (٢) ، فالحنفية يقولون : إن الجزاء لمثل الغزال مثلا ، وذلك قيمة غزال آخر لو كان حيا ؛ (لأن الميت لا يقوم) (٣) ولا يلزمهم أن يكون الجزاء للمثل الذي هو القيمة ؛ لأن القيمة لا جزاء لها ، وإن قلنا : الجزاء لمثل الغزال المقتولة والمماثلة لها.

__________________

(١) لفظ الكشاف أوضح مما أورده المصنف بالمعنى عن الكشاف ، ولفظ الكشاف : على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزي بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم ، إنما يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف إذا قوّم ونظر بعد التقويم أيّ الثلاثة يختار ، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير ـ فإذا كان شيئا لا نظير له قوّم حينئذ ، ثم يخير بين الإطعام والصوم ـ ففيه نبوّ عما في الآية. ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) كيف خير بين الأشياء الثلاثة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم

(٢) يقال : هذا ينافي ما سبق له في توجيه قراءة نافع وغيره ، فعلى ما سبق لا وجه لهذا.

(٣) ما بين القوسين محذوف من بعض النسخ ، لأنه قد أغنى عنه قوله لو كان حيا.

١٩٢

قالوا : وغير المقتول لا جزاء له ، فحصل أن الجزاء هو المثل ، ويعود النزاع في المماثلة ، فلا يكون في قراءة الإضافة دليل لأحد المذهبين.

وكذا قوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) قرئ (كفارة) بالتنوين و (طعام) بالرفع ، وقرئ : (كفارة) بالإضافة ، و (طعام) بالجر ، وليس المقصود أن الكفارة للطعام ، وإنما المراد أن الطعام هو الكفارة (١).

وقوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) لا يقال : هذا يدل أنه يرجع في كل وقت إلى حكم العدلين ، وهذا لا يتأتى إلا في القيمة ؛ لأنا قلنا : المماثلة في الخلقة مما قد حكم به ، فقد استمر في كل وقت ؛ لأنه قد (٢) يختلف الشبه فيما لم يكن قد حكم به ، وعند ذلك يرجع إلى حكم العدلين لاختلاف الشبه في كل وقت.

وروي أن قبيصة أصاب ظبيا وهو محرم ، فسأله عمر فشاور عبد الرحمن بن عوف ، ثم أقره بذبح شاة ، فقال قبيصة لصاحبه : والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره ، فأقبل عليه ضربا بالدرة ، وقال له : أتغمص (٣) الفتيا ، وتقتل الصيد وأنت محرم ، قال الله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وهذا عبد الرحمن ، وأنا عمر.

وقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) قيل : أراد الحرم المحرم ، فلا يجوز الذبح في غيره.

وأما التصدق فمذهبنا ، والشافعي : لا يجوز في غير الحرم ، وقال أبو حنيفة : يجوز ، وقد ادعى الحاكم الإجماع على أن الذبح في الحرم ، وعلى أن الصوم يجوز في أي مكان ، والخلاف في الصدقة كما ذكر.

__________________

(١) فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه.

(٢) في نسخة (لأنه إنما يختلف الشبه)

(٣) الغمص : التصغير.

١٩٣

قال أهل المذهب ، والشافعي : المقصود بالبلوغ لأجل التصدق ، لا لأجل نفس الذبح ، وإسالة الدم.

وقال أبو حنيفة : المقصود الذبح ؛ لأنه لو ذبح في غير الحرم ، وتصدق به في غير الحرم لم يجز.

و (هَدْياً) قيل : انتصب حالا من (جزاء) الموصوف بمثل ، وقيل : حالا من الضمير في (بِهِ) وقيل : بيانا ، وقيل : بدلا من (مِثْلُ) في من نصبه ، أو من محله في من جرّه ، وقيل : التقدير فليهد بذلك الجزاء هديا ، فيكون التخيير بين ثلاثة أشياء في الذي يفعل بالجزاء ، وفي هذا ترجيح لقول أبي حنيفة.

وقوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) والمعنى : أو عدل الإطعام صياما.

اعلم أن دلالة الآية على قدر الإطعام ، وقدر الصوم فيها إجمال ، ومن ثم اختلف العلماء حتى روي عن سعيد بن جبير : أنه يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام ، وأقوال العلماء متفرقة.

فأما أبو حنيفة فقد قال : المثلية معتبرة في القيمة ، وإذا عدل إلى الإطعام أطعم القيمة ، فجعل لكل مسكين نصف صاع ، وإنما قدره بنصف الصاع ؛ لأن السنة قد وردت بذلك في فدية الأذى ، فإن أحب الصوم صام عن كل نصف صاع يوما ؛ لأنه قائم مقامه في كفارة الظهار ، هذه طريقة أبي حنيفة.

وأما الشافعي فقال : يقوّم المثل ، وهو الشاة مثلا ، فيتصدق بقيمتها لكل مسكين مدا ، أو يصوم عن كل مد يوما.

وأما مالك فقال : المماثلة في الخلقة كقولنا ، والشافعي ، لكن إذا أحب العدول إلى الإطعام قوم الصيد ؛ فيطعم قيمته لكل مسكين مدا ، أو

١٩٤

يصوم عن كل مد يوما ؛ لأن المقصود بالجزاء أنه عن الصيد لا عن مثله ، وهذا هو قول الناصر ، أنه يقوّم الصيد ، لكن له قولان في تقدير الصوم والإطعام ، هل يجعل لكل مسكين مد ، أو مدان.

وقالت القاسمية : المماثلة في الخلقة كما تقدم ، فإذا عدل إلى الإطعام ، فعدل البدنة طعام مائة مسكين ، أو صوم مائة يوم ، والبقرة بالسبعين ، والشاة بالعشر ، ووجهوا ذلك إلى أن قالوا : قد ثبت في صوم التمتع أن يصوم عشرة أيام بدل للشاة ، وثبت في كفارة الظهار أن إطعام المسكين وصوم اليوم يتعادلان ، وثبت أن الشاة عشر البدنة في هدي التمتع والإحصار ، فثبت بمجموع الظواهر ما قالوه ، ويتعلق بهذه الجملة أحكام غير ما فرغنا منه :

الأول : هل هذا الجزاء المذكور على التخيير أو على الترتيب؟ فمذهب عامة الأئمة وجمهور الفقهاء من أبي حنيفة ، والشافعي ، وغيرهما : أن ذلك على التخيير ؛ لأنه تعالى جاء بلفظة أو ، وحقيقتها التخيير.

وقال ابن عباس في رواية ، وابن سيرين ، وزفر ، ومجاهد ، وعامر ، والسدي : إنهما على الترتيب.

قالوا : وإنما دخلت أو لبيان أن الجزاء لا يعدو أحد هذه الأشياء ، ولأنا وجدنا الكفارات من الظهار والقتل على الترتيب.

قلنا : هذا معارض بكفارة اليمين ، وفدية الأذى ، فلا يخرج عن حقيقة اللفظ وهو التخيير.

وإذا قلنا بثبوت التخير ، فهل ذلك التخيير إلى القاتل للصيد أو إلى الحكمين؟

١٩٥

فأطلق أهل المذهب أن الخيار إلى القاتل ، وحكي هذا في (شرح الإبانة) عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف.

وإطلاق (شرح الإبانة) عن الناصر ، والشافعي ، وذكره أبو جعفر للقاسمية ، ومثله في النهاية لمالك أن الخيار إلى الحكمين.

وجه القول الأول : أن الله سبحانه وتعالى رتب حكم العدلين على المماثلة واستئناف الإطعام والصوم ، ولم يشترط فيه حكم ، وإذا حكم في صيد بمثل له فهل يعاد الحكم في قتل آخر ، أو يستمر ظاهر المذهب أنه يستمر ، وعن مالك يعاد الحكم.

الحكم الثاني : إذا أراد أن يطعمهم فهل يعتبر العدد ، كما في كفارة اليمين أو لا يعتبر؟ .. (١)

الثالث : إذا أراد الصوم هل يجب التتابع في ذلك؟ (٢)

قال جار الله : وفي قراءة جعفر بن محمد ، وروى محمد بن جعفر (٣) ، وذلك نسختان في الكشاف (يحكم به ذو عدل منكم) ، وأراد به من يعدل ، لا أنه أراد الوحدة.

وقيل : أراد الإمام ، وقرأ الأعرج : (أو كفارة طعام مسكين) وأراد الواحد الدال على الجنس ، وقرئ : (أو عدل) ـ بكسر العين ـ ، وعدل الشيء بالكسر ما عدل به في المقدار ، وعدل الشيء بالفتح : ما عادله من غير جنسه ، كالصوم والإطعام ، وهاتان القراءتان شاذتان.

قال الحاكم : وكما دلت الآية على الرجوع إلى ذوي العدل في المماثلة ففي ذلك دلالة على جواز الاجتهاد ، وتصويب المجتهدين ،

__________________

(١) بياض قدر ثلاثة أرباع السطر. (لا يعتبر ذلك على المذهب).

(٢) بياض قدر نصف سطر. (ظاهر ما اختاروه للمذهب وجوب التتابع ، وقوي).

(٣) ينسب ابن جني في المحتسب هذه القراءة إلى محمد بن علي ، وجعفر بن محمد.

١٩٦

وجواز تعليق الأحكام بغالب الظن ، وجواز رجوع العامي إلى العالم ، وأن عند التنازع في الأمور يجب الرجوع إلى أهل البصر (١).

قوله تعالى

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المائدة : ٩٦]

هذه الآية قد تضمنت تحليل صيد البحر عموما في الصيد ، وعموما في كل إنسان من حلال أو محرم ، ولم تخص الإباحة ليلا من نهار ، والمراد بالطعام المذكور ما قذف به البحر ميتا (٢) ، وهذا مروي عن أبي بكر ، وعمر ، وابن عباس ، وابن عمر ، وقتادة.

وقيل : المملوح ، عن ابن عباس أيضا ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وإنما سمي طعاما ؛ لأنه يدخر ويطعم ، فصار كالمقتات من الأغذية.

وقوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي : منفعة للمقيم والمسافر ، عن ابن عباس والحسن ، وقتادة.

وقال جار الله : أراد مصيدات البحر مما يؤكل ، ومما لا يؤكل ، فيجوز تصيّدها ، وقوله تعالى : (وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ) أراد : ما يؤكل فكأنه قال : أحل لكم الجميع فما لا يؤكل فالتحليل للانتفاع به ، وما يؤكل فالتحليل ليكون طعاما.

__________________

(١) البصر ـ بالباء الموحدة ، والصاد المهملة مفتوحتين ، وهو العلم والخبرة بالشيء ، ولا يقال : بصر بضم الباء وسكون الصاد ، إذ هو الحرف والجانب من كل شيء ، واستعماله في هذا الموضع خطأ وتصحيف. شرح ابن بهران.

(٢) والمذهب خلافه ، إلا أن يقذفه البحر حيا.

١٩٧

وتظهر ثمرات ذلك في مسائل :

الأولى

في بيان ما يحل من حيوانات الماء. وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء :

الأول : قول مالك ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، ومجاهد : أنه يجوز أكل جميع حيوان البحر ، من الضفادع ، والسرطان ، وحية الماء ، وغير ذلك أخذا بعموم الآية.

الثاني : قول الشافعي أنه يؤكل ما لا يعيش إلا في الماء ، ككلب الماء ، والجرّي (١) والمارماهي ، ولا يجوز أكل الضفادع.

قال أصحاب الشافعي : وكذا السرطان لا يؤكل ، وهو مما يعيش في غير الماء.

القول الثالث : مذهبنا على ما ذكره الأخوان وهو قول بعض أصحاب الشافعي : أن العبرة بالصورة فما حرم مشابهه في البر فهو حرام ، ككلب الماء ، وخنزيره والجرىّ ، والمارماهي ، وهذا قول المنصور بالله ، وأجاز أبو حنيفة الجري والمارماهي (٢).

وجه ما قلنا : أن قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) سواء حمل على الصيد أو على الفعل ، فإنه ينصرف إلى المعهود صيده ، والمعهود هو السمك (٣) ، ولأن عليا عليه‌السلام كان ينهى السماكين عن بيع الجرى ،

__________________

(١) الجري ـ بالكسر ، والتشديد : سمك طويل أملس ، لا يأكله اليهود ، وليس عليه فصوص ، قاموس ، ويسمى بالفارسي مارماهي ، نهاية. وفي التمهيد بالضم ، وفي النهاية بهما مع التشديد.

(٢) وستأتي الإحالة إلى هذا الخلاف في آخر سورة طه.

(٣) فليس كل بحري سمك.

١٩٨

والمارماهي ، وذلك لا يكون إلا توقيفا ، ولأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحل لكم ميتتان السمك والجراد» يدل تخصيص ذكر السمك أن غيره بخلافه (١) ، ولأن التحليل لا يتعلق بالأعيان ، وكذا التحريم إنما يتعلق ذلك بالأفعال ، لكن لا بد من محذوف سواء فسر الصيد بالمصيد أو بالفعل ، فإن علق بالمصيد فالمراد الأفعال المتعلقة بالصيد من الأكل ونحوه ، وإن علق بالفعل فالمراد بصيد ما كان مصيدا من حيوان البحر.

وفي النهاية عن الليث بن سعد : أن إنسان الماء ، وخنزير الماء لا يؤكل.

ونخص الضفادع ، ونحوها مما يستخبث بقوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) وللخلاف سبب آخر وهو : هل يطلق لفظ الكلب والخنزير ، والإنسان على كلب الماء وخنزيره وإنسانه لغة أو لا؟ وإذا أطلق فهل الاسم المشترك يعم بالإضافة إلى مدلوليه أو لا يعم؟ .. (٢)

المسألة الثانية

في الميت من حيوان البحر بغير تصيد ، وفي هذه المسألة أقوال :

الأول : قول الشافعي ، ومالك أن ذلك حلال لعموم الآية ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحل لكم ميتتان ودمان ، السمك والجراد ، والكبد والطحال» ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البحر : «هو الطهور ماؤه والحل ميته».

الثاني : مروي عن أبي حنيفة في النهاية : أنه إن مات حتف أنفه حرم مطلقا ؛ لا إن مات بسبب آخر ، واحتج بعموم قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ).

__________________

(١) فهذا من مفهوم العدد ، وبه فسر ميتتان ، فلا يقال : هو مفهوم لقب.

(٢) بياض في الأصل مقدار سطرين (المقرر أنه يعم ما لم يتنافيا).

١٩٩

الثالث : مذهب الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ أنه إن فارق الماء حيا بأن يجزر عنه الماء أو يأخذه الصائد ثم يموت حل ، وادعوا في هذا الإجماع ، وعموم الآية يدل عليه ، وهي قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ).

وأما إذا مات طافيا فإنه يحرم ، ويخص ذلك بحديث جابر قال : قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما اصطدتموه حيا فمات فكلوه ، وما وجدتموه طافيا فلا تأكلوه».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكله ، وما وجدته طافيا فلا تأكله».

قال في سنن أبي داود : هذا الحديث موقوف على جابر ، وقد أسند هذا أيضا من وجه ضعيف ، واحتج الشافعي بالحديث المسند من طرق في كتاب مسلم ، (أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث جيشا إلى الساحل ليتلقى عيرا لقريش ، وأمر على ذلك الجيش أبا عبيدة ، فلما قل زادهم وأصابتهم المجاعة ، فوقع لهم على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعا بالعنبر.

قال أبو عبيدة : ميتة ، قال فقال : قد اضطررتم فكلوا ، قال : فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا ، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا وأقعدهم في وقب عينه ، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ، ثم رحّل (١) أعظم بعير معنا فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق (٢) ، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرنا ذلك له فقال : «هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معك من لحمه شيء فتطعمونا؟» قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه فأكله.

__________________

(١) رحّل أي : شد عليه الرحل.

(٢) الوشيقة : اللحم يغلى قليلا ثم يقدد.

٢٠٠