تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

والناصر ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والليث ، والثوري.

وقال الشافعي : تجب فيها الكفارة ، وجعلها معقودة ، وهو قول الأوزاعي ، وابن حيّ.

ويتفرع على هذا إذا حلف على الغير هل يلزم في ذلك الكفارة أم لا؟ كأن يقول : والله ليقومن زيد ، أو لا قام زيد ، فقالت الهدوية : إن ذلك ينعقد ، وتكون معقودة ، وتجب فيها الكفارة (١) ، وفي شمس الأخبار خبر يدل على هذا (٢).

وخرج أبو مضر ، وعلي خليل للمؤيد بالله : أنه لا كفارة فيها إذا كان قسما بالله ؛ لأنه لا يمكنه الحفظ من الحنث (٣) ، وهو قول الناصر ، والمهدي أحمد ، وبعض أصحاب الشافعي.

أما لو حلف ليحدثنّ أمر ، كأن يقول : والله ليقعنّ المطر ، أو لا يقع ـ فظاهر كلام الشرح أنها معقودة ، فتجب الكفارة إن حصلت المخالفة ؛ لأنه قال : ليحدثن أمر ، أو لا يحدث ، وفي بعض نسخ اللمع ، أو يحدث أمرا ، أو لا يحدث ، ويجعل الضمير للغير ، فأما لو لم تعلق بالغير فلا

__________________

(١) وهو الذي بنى عليه في الأزهار.

(٢) بياض في الأصول قدر سطر.

(٣) وهو قول الإمام شرف الدين ، وقواه في الفتح ، لقوله تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) وهو لا يمكن ، وفي البحر : إذ هو غير مقدور ، قلنا : بل أشبه المقدور لإمكان علاجه ، وفي جواب مولانا أمير المؤمنين القاسم بن محمد عليه‌السلام : إن قصد الحالف أن يجبر على ما حلف عليه وهو يقدر على ذلك ويمنعه فحالف لزمته الكفارة ، وإن أن الغير يخالفه ، ولا يقدر عليه ، أي : على إجباره فغموس ، لا كفارة فيها إلا التوبة ، وإن ظن أنه لا يخالف فلغو ولا كفارة حيث لا قدرة. وكذا عن بعض المشايخ. (ح / ص).

١٦١

تكون معقودة ، والأول أولى ؛ لأن كليهما متعلق بفعل غيره ، وإن كان أحدهما للصانع جل وعزّ ، والأخرى للعبد ، وإن قلنا : إن شرط المعقودة أن يكون البر والحنث متعلق بفعله (١) لزم خروجهما معا ، وإن قلنا : الغموس معقودة ، لكن خرجت الكفارة بالتخصيص بالسنة ، فهذه غير غموس ، فتجب فيها الكفارة.

وفي التذكرة : إذا حلف ليمطرن السحاب ، أو ليفعلن زيد كذا لم تنعقد ، بناء على أن اليمين على الغير لا تنعقد.

وأما موجب اليمين فأمران : الأول : الإثم ، والثاني : الكفارة.

أما الإثم فذلك في الغموس ، ولا إشكال في ذلك ، فإن كفّر على قول الشافعي لم يزل عنه الإثم إلا بالتوبة ؛ لأن لها مدخلا في التكفير كسائر الطاعات ، وأما الكفارة فذلك في المعقودة والغموس على الخلاف ، ولكن إنما تلزم بالحنث وهو الموجب لها.

وقوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ) أي : كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم ؛ لأن الحنث مقدر ، فلو لم يحنث فلا شيء عليه إجماعا ، لكن اختلفوا إذا كفر قبل الحنث ، فعند عامة أهل البيت وأبي حنيفة : لا يصح ذلك ؛ لأن الوجوب إنما يكون باليمين مع الحنث ، وأن الحنث مقدر ، ولأن قوله تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) إنما أمرنا بالحفظ لكيلا تجب الكفارة ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير ، ثم ليكفر عن يمينه» وهذا يوجب الكفارة بعد الحنث ، وهذا قول أبي حنيفة ، وأصحابه.

وقال الشافعي : يجوز أن يكفر قبل الحنث ، إذا كفر بغير الصوم ، وكان الحنث مباحا.

__________________

(١) كقول الناصر ومن معه

١٦٢

وقال مالك في الرواية الظاهرة ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث : إنه يجوز مطلقا ، واحتج الشافعي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايته في للخبر : (فليكفر عن يمينه ثم ليأت الذي هو خير) فجوز التكفير قبل الحنث.

أجاب أهل المذهب : بأنا نحمل ثم هنا على المجاز ، وأنها لغير الترتيب ؛ لما ثبت أن فعل الشيء قبل وجوده لا يصح ، كالصلاة والصوم قبل دخول وقته.

قال في النهاية : للخلاف سبب آخر ، وهو : هل الكفارة رافعة للحنث أو دافعة له؟ فمن جوز قبل الحنث قال : هي دافعة ، ومن قال : لا يجوز قبل الحنث قال : هي رافعة له.

قال في (شرح الإبانة) : وحكي عن سعيد بن جبير ، وأصحاب الظاهر : تجب بنفس اليمين مطلقا ، لقوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ).

قلنا : أجمع المفسرون أنه يقدر : وحنثتم ، فسبيله سبيل قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تقديره : فأفطر.

ثم إن الكفارة أصناف كما في الآية ، وهي الإطعام ، والكسوة ، والعتق ، ثم الصوم ، فالثلاث ، الأول على التخيير مع تمكنه منها ، فإن لم يتمكن إلا من أحدها تعين عليه إخراجه ، وإن وصف بأن الباقي واجب عليه ، وإنما بدأ بالإطعام وإن كان العتق أفضل إرشادا للتخفيف ، والله أعلم.

وفي الإطعام مسائل :

الأولى : أنه يجوز تمليكا وإباحة عندنا ، وأبي حنيفة ، وعند الشافعي لا تجوز الإباحة ؛ لأنها ليست بتمليك.

قلنا : كل واحدة من الصورتين تسمى إطعاما فدخل في إطلاق الآية.

١٦٣

وروي أن عليا عليه‌السلام كان يغديهم ويعشيهم خبزا ولحما وزيتا.

ويجب الإدام لقوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) يعم القدر والجنس والصفة.

قيل : أما مع الإباحة فذلك واجب عند من جوزها (١) ، فإن لم يكن معه إدام بقي قدر الإدام لهم ، وهذا القول يلزم منه جواز تفريق الوجبة ، وكذا قولهم : يفرق على الصغير شبع القوي.

وفي النهاية : قيل : يجوز الخبز قفارا (٢) ، وقال ابن حنبل : لا يجزي ، وقال بعض المتأخرين (٣) : لا تفرق الوجبة.

وأما إذا أخرج الحب على وجه التمليك فظاهر كلام الهادي اشتراط الإدام معه (٤) لعموم الآية في قوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) وقال المؤيد بالله : لا يجب (٥) ، كما لا يجب مع صدقة الفطر.

وقال في التهذيب : أوجب الإدام بعضهم ، وأسقطه الأكثر ، وصححه.

الثانية : إذا أخرج القيمة عن الطعام جاز عند القاسم ، والمؤيد بالله ، وأبي طالب ، وأبي حنيفة.

وقال الشافعي ، وخرج للهادي : لا يجوز للأول أنه يسمى مطعما في عرف اللغة فدخل في اسم الإطعام (٦).

__________________

(١) وهو المذهب.

(٢) قفارا ـ بفتح القاف ـ أي : غير مأدوم.

(٣) الفقيه علي.

(٤) الهادي عليه‌السلام يقول بوجوب الإدام ، وليس بشرط.

(٥) وهو المختار للمذهب.

(٦) وهو المختار للمذهب.

١٦٤

وأما الكسوة فتجوز القيمة بالإجماع ، لا قيمة العتق فلا تجوز بالإجماع ، وإذا جوزنا القيمة فإنه إذا أطعم خمسة ، وكسا خمسة ، ينوي أحدهما عن الآخر جاز.

الثالثة : في تقدير الطعام ، فقال المؤيد بالله ، وأبو طالب تحصيلا للهادي : نصف صاع من البر أو دقيقه ، وصاع من غيره ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وهذا مروي عن عمر ، والشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، وقال الشافعي ومالك : إنه مدّ ، ومنشأ الخلاف هل قوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) يراد به الوجبة الواحدة أو إطعام اليوم؟

فقال الشافعي ، ومالك : أراد الوجبة الواحدة ، وهو مروي عن ابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وعطاء ، والحسن.

وأما اشتراط أكله بنفسه فالأكثر أنه غير شرط ، وحكى الحاكم عن الهادي عليه‌السلام أنه شرط وتؤوّل.

وجه الأول : إطلاق تسمية الإطعام عليه ، وحكي عن الهادي أن الأكل غير شرط ، وكذا روى في (الروضة والغدير) أن الأمير بدر الدين قال : مذهب الهادي أن الأكل غير شرط ؛ لأنه ينطلق لفظ الإطعام على التمليك ، وقال الأولون : قوت يوم وهو وجبتان (١) ، قالوا : لأن ما قلنا مروي عن علي عليه‌السلام ، والقياس على فدية الأذى يدل على أنه لا يجوز أقل من نصف صاع من البر ؛ لكن في فدية الأذى يجوز نصف الصاع من سائر الحبوب ، وحديث المظاهر ، وإعانة النبي عليه‌السلام له بالعرق ، واختلفوا في تقديره : هل ثلاثون صاعا؟ أم خمسة عشر صاعا؟ وقد تقدم أنه يفرق على الصغير ما يقدر للكبير.

__________________

(١) ولفظ البحر (لقوله تعالى (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) والأوسط : الأكلتان).

١٦٥

قيل (١) : أما من قلّ أكله لكبر سنه فإنه يعتبر شبعه ؛ لأنه لا حالة له ترجى بعد ذلك.

وفي الإفادة : من علم من حاله أنه لا يطعم أوسط ما نطعم أهلينا لم يجز إطعامه ، فدل أنه لا عبرة بالأكل ، ولو (٢) قل أكله لكبره.

الرابعة : تعلق بقوله تعالى : (عَشَرَةِ مَساكِينَ) وإطلاقها يدخل فيه المؤمن ، والكافر ، والذمي ، والفاسق.

فأبو حنيفة أخذ بعموم ذلك ، ومذهبنا ، والشافعي خروج الكافر بالقياس على منع صرف الزكاة إليه.

وأما الفاسق فالهادي يقول كذلك (٣) لأنه من أهل النار ، فأشبه الكافر ، والمؤيد بالله يجيز الصرف إليه مهما لم يكن في ذلك إعانة له على المنكر.

الخامسة : هل العدد شرط؟ أم المراد مقدار طعم العشرة؟ فالقاسمية قالوا : (العدد شرط) (٤) المراد طعم العشرة ؛ لأن الله تعالى نص عليه ، فالانتقال إلى التقدير وهو فإطعام طعام يكفي العشرة مجاز لا يثبت إلا بدلالة.

وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك في واحد مفرقا ؛ لأن المقصود الطعام ، وإنما ذكرت العشرة لبيان قدره ، والمنصور بالله في قوله الأخير جوز ذلك إلى واحد ، في وقت واحد (٥) ، وفرع المتأخرون فرعا على المذهب إذا

__________________

(١) الفقيه علي. واختاره أهل المذهب.

(٢) صوابه إذا قل أكله. يعني أنه لا فرق بين صغير وكبير. والله أعلم (ح / ص).

(٣) وهو المختار.

(٤) ما بين القوسين ساقط في ب.

(٥) وقد صرف كفارة إلى بعض الناس إلى شخص واحد في وقت واحد ، في اللظية ، قرب كوكبان. ــ

١٦٦

أطعم عشرة وجبة واحدة ، ثم ماتوا أو غابوا ، هل يستأنف عشرة ثانية للوجبتين معا أو لوجبة؟ فعن علي خليل ، والسيد يحيى بن الحسين : يجوز البناء ، ويجعل العذر مخصصا ، كما يخصص العذر تفريق الصوم ، وعن الفقيه يحيى بن أحمد يستأنف ؛ لأنه لا يعد ممتثلا لإطعام عشرة إلا بوجبتين (١).

السادسة : في اشتراط المسكنة ، فالمفهوم من قول أبي العباس ، والوافي : أنه لا يجوز أن يصرف إلى مسكين واحد عشر كفارتين ـ أن هذا شرط (٢) ، وكذا يفهم من قول أبي حنيفة أنه يفرق الكفارة على الواحد في أيام ، وهو لفظ الآية ، وكلام الأخوين : أنه غير شرط ، بل الفقير والمسكين سواء ، وهذا هو الظاهر من المذهب ، ويقاس الفقير هنا على الزكاة.

ويتعلق بهذه الجملة سؤالان :

الأول أن يقال : قوله تعالى : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) لكن في ذلك تحديد يقدر لا في وجبة ولا في وجبتين ، ولا في قدر من الكيل ، فمن أين أخذ التقدير؟ وقوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) يحتمل أنه أراد الوسط في القدر ، أو الوسط في الجنس فعلى أيهما يحمل؟

جواب الأول : أنا حملناه على تقدير نصف صاع من البر ، وصاع من

__________________

واعلم أن كلام المنصور بالله عليه‌السلام يحتاج إلى تحقيق ؛ لأنه قد سبقه إجماع أهل البيت عليهم‌السلام ، إلا نعلم قائلا بمثل قوله ، بل إجماع الأمة ، وقد ذكر هذا المعنى أعني الإجماع في شرح التجريد في موضعين في كفارة الأيمان. فليحقق. (ح / ص).

(١) وهو المختار ، وعليه الأزهار.

(٢) أن وخبرها خبر عن قوله (فالمفهوم). ووجهه : أنه أخذ من مفهوم قولهم : إنه لا يصرف في المسكين عشر كفارتين اشتراط المسكنة ؛ لأنه إذا صرف فيه عشر كفارتين صار أعلى حالا من المسكين.

١٦٧

غيره ـ بأنه قد ورد في حديث المظاهر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعانه بعرق من تمر ، وامرأته بعرق ، والعرق ثلاثون صاعا.

فإن قيل : إنه قد روي أن العرق خمسة عشر صاعا ، قال في السنن في حديث أبي هريرة أنه خمسة عشر صاعا ، وفي رواية في السنن (أتي بعرق فيه عشرون صاعا).

قلنا : الأخذ بالأكثر هو الأولى.

فإن قيل : إنه لا يقيد المطلق من باب بالمقيد من باب آخر ، كما قلتم في التقييد بالأيمان من كفارة القتل إلى كفارة اليمين فهذا مثله.

قلنا : قد أجمعوا أنه لا يفترق الحال بين الكفارتين ، وهي كفارة الأيمان ، وكفارة الظهار ، وأيضا فإن ما قلنا مروي عن علي عليه‌السلام ـ ، ولا مخالف له من الصحابة ، والمقادير لا تكون عن اجتهاد.

قال في النهاية : سبب الخلاف أنه قد ورد في فدية الأذى في الحج مدّان ، وفيمن أفطر في رمضان عمدا مد.

السؤال الثاني : أن يقال : إذا كان لا منافاة بين الجنس والصفة ، وقد قلتم : يحمل على الأوسط في الصفة فيدخل الإدام ، فكذا في الجنس فيحمل عليهما ، فإذا حمل عليهما لزم أن يكون الواجب الوسط ، فيختلف ذلك بحال المكفر كما قلتم في الفطرة ، ولانصرم (١) بأن الناس سواء ، فإن عدل إلى الأعلى جاز ، وإن عدل إلى الأدنى لم يجز ، ومن جوز في الفطرة العدول إلى الأدنى مع الكراهة ، قال لأنه قد ورد التخيير بصاع من شعير ، أو صاع من قمح ، ولم يرد هنا تخيير بين صاع من تمر ، ونصف صاع من بر ، وقد قال في النهاية : اختلف أصحاب مالك هل المراد أهل المكفر أو أهل البلد؟ وقال مالك : المد لأهل المدينة خاصة لضيق

__________________

(١) أي : نقطع.

١٦٨

معاشهم ، وفي سائر البلدان بالوسط ، وقال ابن القاسم : المدّ لأهل كل بلد.

ويقال أيضا : قوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) يمنع من التفسير بصاع من غير البر ؛ لأن الواحد لا يأكل الصاع في يوم ، وتفسير القدر الأوسط بهذا ينفي الأخذ من حديث المظاهر ، وأنه يكون مقيدا لما أطلق في كفارة اليمين ؛ لأن التقييد بالأوسط يمنع من ذلك ، وقد روي عن ابن عباس ، والضحاك : تعطى كما تعطى أهلك في اليسر والعسر.

ويقال : إذا أخرج الطعام قفارا من غير إدام لزم أن لا يجزي ، ولا يقال : يبقى قدر الإدام في ذمته ، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه ، وقد ذكر في أعلى الإدام اللحم ، وأوسطه الزيت أو السمن ، وأدناه الملح ، وذكر غير هذا ، فهذا يحتاج إلى إيضاح.

وأما الكسوة فقد قال تعالى : (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي : كسوة العشرة ، ولم يبين صفة الكسوة ، لكن الواجب أن يحمل على ما ينطلق عليه اسم الكسوة ، وقد قال الهادي : يكون ذلك ساترا لأكثر الجسم ، فلا تجزي العمامة وحدها ، كما لا تجزي القلنسوة والجورب ، وكذا السراويل.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي : تجوز العمامة أو السراويل ؛ لأنه ينطلق عليه اسم الكسوة ، ولأبي حنيفة رواية : أن السراويل لا تجزي ، وقال مالك : ما يجزي في الصلاة ، فالرجل ثوب والمرأة درع وخمار ، ويجوز على المذهب الرقيق ؛ لأنه يطلق عليه اسم الكسوة ، وأما الحرير فقد جوزه المنصور بالله ، وقال : إنه أفضل (١) ، لكن الرجل لا يلبسه ، بل يبيعه أو يكسوه أهله ، وقيل للمذهب : لا يجزي إلا لمن جاز له لبسه من امرأة أو معذور ، وكذا ذكره الإمام أبو حنيفة ، وفي مهذب الشافعي وجهان.

__________________

(١) واختير للمذهب.

١٦٩

أما لو كسا صغيرا بإذن وليه ـ اعتبر ما يليق بالكبير ، كما قيل في الإطعام.

وروي إجزاء الثوب الواحد ، عن الحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وإبراهيم ، وابن عباس ، قالوا : يجزي إزار ، أو رداء ، أو قميص ، أو سراويل.

وقيل : إنما يجزي ثوبان ، عن سعيد بن المسيب ، والضحاك ، وابن سيرين ، وقيل : ثوب ثمنه خمسة دراهم.

قال الحاكم : والصحيح أن الواجب ما يقع عليه اسم الكسوة.

وأما العتق فقد قال تعالى : (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) لفظ الرقبة مطلق يدخل فيه الذكر والأنثى ، والصغير والكبير ، والسليم والمعيب ، والمسلم والكافر ، والفاسق والذي لغير رشده ، والمدبر ، وفي صور من هذه خلاف.

أما المعيب فظاهر مذهبنا يجزي مطلقا ؛ لأنه يطلق عليه اسم الرقبة ، فدخل في إطلاق الاسم.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز عتق الأعمى ، والأخرس ، والمجنون ، والمقطوع عضوين أخوين

وقال الشافعي : لا يجوز عتق من به آفة تضر بعمله كالأقطع ، ويجوز الأخرس.

وقال الليث : لا يجوز من فيه عيب ، ولعلهم يحتجون بقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

وأما الكافر فلا يجزي عندنا ، ومالك ، والشافعي ، ونخرجه من العموم ؛ لما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إن عليّ رقبة ، ومعه أمة خرساء ، أتجزي هذه؟ فامتحنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدها مؤمنة ، قال : «اعتقها ، فإنها مؤمنة» فعلل بالإيمان.

١٧٠

وقال أبو حنيفة : تجزي الذمية لإطلاق اسم الرقبة عليها.

قلنا : ينتقض بالمرتدة.

وأما الفاسقة فاشترط إيمان الرقبة مالك ، والشافعي ؛ لأنهم يقيدون ذلك بالإيمان المذكور في كفارة القتل.

قلنا : بل تجزي لإطلاق الاسم عليها ؛ ولأنا لا نقيد مطلق باب بالمقيد في باب آخر ، أما لو كان في عتق الفاسق إعانة له على معصيته من باب حرب المسلمين ونحو ذلك لم يجز.

وأما ولد الزنى فيجزي عند القاسم ، والهادي ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي إعتاقه في الكفارة (١) ؛ لأنه يطلق عليه اسم الرقبة ، وقد انقرض خلاف عطاء ، والشعبي ، والنخعي.

وأما المدبر فجوز القاسم ، والهادي ، والشافعي إعتاقه في الكفارة ، ومنعه أبو حنيفة ، ومالك.

وجه الجواز أن الرق ثابت عليه ؛ لأنه يباع في حالة ، أما الشافعي فهو يجعله كالعتق المشروط فذلك جلي.

وأما مذهبنا فقد تعلق برقبته حق الله تعالى ، ففي كفارة الظهار إذا لم يجد سواه ، فجواز عتقه ظاهر ؛ لأنه يباع للحق الواجب كالدين ، وهاهنا حق المرأة واجب ، وأما في كفارة اليمين إذا حنث فيقال : جواز عتقه عن الكفارة يبطل ما قد تعلق له من الحق ، وإلا لزم ذلك في أم الولد ، وقد نص القاسم على أن عتقها عن الكفارة لا يجوز.

قال أبو طالب : ولا خلاف في ذلك بين جمهور الفقهاء ؛ لأنها قد استحقت الحرية بسبب آخر.

__________________

(١) وهو المختار ، وهو مفهوم الأزهار.

١٧١

قيل : ومن جوز بيعها جوز عتقها عن الكفارة ، أما لو فرضنا في كفارة اليمين أنه معدم فإن الكفارة دين لله تعالى ، تعلق بذمته إن كان فقيرا فالنظر يقضي بجواز ذلك على قولنا ، وسبيل ذلك ما لو لزمه دين لله من زكاة ، أو مظلمة ، أو نذر للفقراء ، ولا يملك شيئا إلا هذا المدبر ، فإنا إذا جوزنا له بيعه لذلك ـ جوزنا عتقه عن الكفارة ، وإن لم نجوز بيعه لذلك ، وإنما نجوز بيعه لحق الآدمي ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الله عنه أغنى ، وأنت إلى ثمنه أحوج» لزم ألا يجزي ، هذا ما يقضي به النظر ، وقد حكينا نص العلماء رضي الله عنهم.

وهكذا المكاتب لا يجوز عتقه قبل التفاسخ عندنا ، والشافعي ، أدّى شيئا أم لم يؤد ، وذلك لأنه ممنوع من التصرف فيه ، وقال أبو حنيفة : إذا لم يؤد شيئا جاز عتقه عن الكفارة قبل التفاسخ.

والممثول به لا يعتق عن الكفارة ، ذكره بعض المتأخرين (١) ؛ لأنه قد تعلق به حق الحرية ، كذلك إذا نذر أن يعتق هذه الرقبة ، ثم أعتقها عن الكفارة ، وأما لو شرى رحمه المحرم ناويا لعتقه عن الكفارة فإنه لا يجزيه ؛ لأنه تحرر بغير تحريره ، ولأنه عتق بسبب متقدم ، فأشبه أم الولد ، هذا مذهبنا ، والشافعي.

وقال أبو حنيفة وصاحباه : يجزيه لأن شراءه كالإعتاق.

وأما عتق المشترك مع اليسار (٢) فيجزي عن الكفارة ، ويضمن ، بخلاف ما لو كان معسرا ، فإن الرقبة غير تامة ، وكذلك عتق الحمل الرقبة غير تامة ،

__________________

(١) هو الفقيه علي ، ذكره في الغيث في أول كتاب العتق ، وكذا في الهداية والأحكام ، والبيان. والمختار الإجزاء ، وهو الذي بنى عليه في الأزهار.

(٢) حيث لا تلزم السعاية بنفس الشراء .. ولا بد أن يعتق جميع الرقبة لفظا أو نية ، والله أعلم (ح / ص).

١٧٢

قوله تعالى

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) [المائدة : ٨٩]

الكلام في بيان الوجود والعدم ، وبيان صفة صوم الثلاثة

أما الأول ففي ذلك مسائل :

الأولى : في حد العدم الذي يبيح له الصوم ، وقد اختلفوا في ذلك فقال ط : هو أن لا يملك قدر إحدى الكفارات الثلاث من الإطعام أو الكسوة أو العتق ، فإن وجد قدر إطعام عشرة مساكين كان ذلك مانعا له من الصوم ، وهذا قول المؤيد بالله ، قيل (الفقيه محمد بن سليمان) : لكن يبقى له قوت يوم كما ذكر المؤيد بالله في دين المخلوقين فيكون ملك قوت عشرة مساكين مانعا من الصوم ، ولا يجب عليه إخراجه ، فمتى (١) إن نقص عن قوت العشرة صام ؛ لأنه غير واجد لطعم عشرة.

وقال الشافعي ، والوافي في حد الإعسار الذي يبيح له الانتقال إلى الصوم : أن يكون ممن تحل له الزكاة.

وفي التهذيب عن أبي حنيفة : الواجد أن يكون معه مائتا درهم.

قال : وعن قتادة ، والشافعي : من فضل له بعد الإخراج ولعياله قوت يوم وليلة.

وكفارة العبد ، والمدبر ، وأم الولد ، والمكاتب الصوم ؛ لأنه غير واجد ، إذ الواجد من يملك وهو لا يملك ، وكذا العبد الموقوف ، وكذا العبد المعتق بعضه بأن يكون الباقي وقفا ؛ لأنه يغلب المسقط في حق الله ، والله أعلم.

الثانية : إذا كان ماله غائبا عنه فقال الإخوان ، وأبو حنيفة ، وصححه القاضي زيد : يجوز له أن يكفر بالصوم ؛ لأنه لا يسمى واجدا.

__________________

(١) في النسخة ب (فمتى إن نقص)

١٧٣

وقال مالك ، والوافي : ينتظر ، ولا يجزئه التكفير بالصوم ، وسبب الخلاف هل ينطلق عليه اسم الوجود أم لا؟ ولكن كم حد مسافة الغيبة ، فقال الفقيه محمد بن سليمان : مسافة القصر ، وكل على أصله.

وعن المؤيد بالله : ثلاثة أيام ، وذلك لأن عنده أن مسافة القصر ثلاثة أيام ، وقد يعلل ذلك بأن المسافة لو سارها لم يصل ماله إلا وقد فرغ من الصوم ، وهذا لا معنى له ، وإلا لزم في كفارة الظهار إذا كان ماله غائبا ، ولم يتمكن من شراء رقبة أن لا يجزيه الصوم إلا أن تكون المسافة شهرين ، وهذا غير ثابت ، وقد يخرج للمؤيد بالله من الكفارة إلى التيمم أنه إذا أراد أن يتيمم لما لا وقت له أن يكون بينه وبين الماء أكثر من زمن ما يتيمم له ، وهذا غير مناسب ، بل النظر فيما يطلق عليه اسم الوجود ، وقد ذكروا في التيمم : أن من بعد عنه الماء قدر ميل في قول المنصور بالله وغيره فهو غير واجد (١) ، وذكروا في وجود الحاكم لزواجة من لا ولي لها أن لا يوجد في البلد (٢) ، وكذلك من وجب عليه مثلي فعدم ، قيل : يعتبر الوجود في البلد ، فإن لم يوجد فيه لزمته القيمة ، وفي غيبة الولي الغيبة المنقطعة ، والمناسب في هذا الرد إلى التيمم ؛ لأن الله تعالى ذكر الوجود في البابين.

الثالثة : إذا كان معه رقبة يحتاج إلى خدمتها هل يجزيه الصوم أم لا؟

ظاهر قول أبي طالب ، وتخريج أبي العباس ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، ومالك : لا يجزئه الصوم ؛ لأنه واجد ، إن قيل : المراد بقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي : ما يستغني عنه كما قلتم في التيمم ، أجيب بأن التيمم قد يباح مع الوجود ، وذلك في حق المريض؟

قلنا : كلامنا في صحيح أبيح له التيمم إن لم يجد الماء ، كما أن

__________________

(١) وهو المختار.

(٢) لعله يريد الناحية ، فيستقيم الكلام.

١٧٤

كلامنا في مكفر أبيح له الصوم إن لم يجد إحدى الثلاث ، وكلام المنصور بالله ، والوافي ، والشافعي في إباحة الصوم مع وجود الرقبة المحتاج إليها جلي ، وإلا كان يلزم ألا يجزئه الصوم مع وجود كسوة له لا يستغني عنها ، يأتي بقوت عشرة مساكين ، وهذا مستبعد.

الرابعة : أن العبرة بالوجود ووقت الإخراج ، لا وقت الوجوب ، على ما خرجه أبو طالب ، وصاحب الوافي ليحيى ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، وقول للشافعي ؛ لأن الآية الكريمة تناول حال الأداء ، وللشافعي أقوال : العبرة بحال الوجوب ، وقول بأغلظ الحالين.

وجه قولنا : أن الله تعالى أباح الصوم بشرط العدم ، وإذا صام مع العدم دخل في عموم الآية ، ولو أيسر بالكفارة قبل الفراغ من الصوم انتقل عنه ؛ لأنه لا يجزئه صوم مع الوجود ، فإن أبطل بعضه بطل كله.

الخامسة : إذا نسي الرقبة ، أو المال وصام هل يجزيه ذلك أم لا؟

قلنا : روي عن أبي حنيفة أنه يجزئه ، وذكر أبو طالب احتمالين ، وأما المؤيد بالله فقال : لا يجزيه التيمم مع نسيان الماء ، ولا الصوم مع نسيان المال ، وسبب الخلاف هل يطلق عليه اسم الوجود أم لا؟ وقد جوزت الهدوية التيمم مع نسيان الماء ، لكن قالوا : التيمم يجوز مع وجود الماء للتعذر ، ولهذه المسألة شبه مما لو صلى إلى جهة يعتقد أنها القبلة فانكشف الخطأ (١) ، والله أعلم.

__________________

(١) ففي المصلي يعيد في الوقت لا بعده ، وهنا يعيد إذا ذكر المال قبل تمام الصوم ، وإلا فلا ؛ لأن الفراغ مما لا وقت له كخروج وقت المؤقت ، والله أعلم (ح / ص).

وظاهر المذهب أنها تجب الإعادة ، وأن النسيان غير عذر ، نصوا عليه في كفارة الظهار فكذا هنا بخلاف المصلي فكما ذكر ، وقد ذكروا الفرق في الظهار وهو أن الانتقال إلى الصوم مشروط بعدم الوجود وهو واجد ، وفي الصلاة قد أمر بالتحري فأجزأه لخبر السرية ، والله أعلم. (ح / ص).

١٧٥

وأما بيان صفة صوم الثلاثة فاختلف العلماء هل تجب المتابعة فيها أم لا؟ فظاهر كلام الهدوية وجوب التتابع ، وهو قول الناصر ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، وذلك مروي عن علي وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وسفيان ، وقتادة.

وقال الشافعي ، ومالك : إن شاء تابع ، وإن شاء فرق ، وهو مروي عن الحسن.

إن قيل : الآية مطلقة فمن أين وجب التتابع؟

جواب ذلك : أن في قراءة عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب : (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وقراءة الشاذة تجري مجرى خبر الواحد ، وقد روي أن سعيد بن جبير كان يصلي تارة بقراءة ابن مسعود ، وتارة بقراءة زيد ، والخلاف مبني على أصل ، وهو هل يعمل بالقراءة التي ليست في المصحف أم لا؟

قال في النهاية : وله سبب آخر وهو : هل يحمل المطلق في هذه الآية على التتابع الواجب في أصل الشرع ، كصوم رمضان ، وهذا لا يثبت طريقا لنا ؛ لأنا لا نقيد المطلق في باب بالمقيد في الباب الآخر.

ويتعلق بهذا فرعان :

الأول : أن يقال : إذا فرق بين صوم الثلاثة لعذر يرجى زواله فقد قلتم : يجزي عند أبي العباس ، وأبي طالب ، خلافا للمؤيد بالله ، وإن كان لا يرجى ثم زال أجزأ عند الجميع ، وهذا صام ثلاثة أيام متفرقات غير متتابعات ، فلم يمتثل الأمر.

جواب ذلك أن يقال : قد ثبت بالإجماع أن امرأة لو أوجبت على نفسها صوم شهرين متتابعين ، أو لزمتها كفارة قتل ، وفرقت للحيض. جاز لها البناء ، وكان الإجماع مخصصا لجواز التفريق لعذر ، وإن ثبت في الحيض ثبت في غيره ؛ إذ الكل عذر.

١٧٦

الفرع الثاني : ذكره في التفريعات : أن الشيخ الزّمن إذا حنث عن يمين ، أو كان عليه كفارة قتل ، أو تمتع بالعمرة إلى الحج ، وكان غير قادر على الأصل من الكفارات ، ولا من الهدي فإنه لا يجوز أن يطعم في كفارة اليمين بدل صوم ثلاثة أيام ، ولا في كفارة القتل بدل صوم شهرين ، ولا في التمتع بدل صوم العشرة الأيام ، بل يبقى الأصل في ذمته حتى يقدر عليه ؛ لأن البدل لم يلزمه (١).

قوله تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) [المائدة : ٨٩].

قيل : المراد عن الإكثار من الحلف ، وقيل : من الحنث ، عن أبي علي (٢) إذا لم يكن البقاء على اليمين معصية ، فلو حلف لا فعل مباحا فهل يلزم حفظ اليمين هنا فلا يجوز الحنث أم يجوز؟

قلنا : في ذلك خلاف ، فعن الشافعي : يجوز الحنث ، وذكره بعض المفرعين للمذهب.

قال الإمام يحيى : بل هو الأولى ؛ لأن في بقائه على اليمين مخالفة للمصلحة الشرعية.

وعن الزمخشري ، وأبي حنيفة ، والناصر ، والقاضي زيد ، وأبي مضر : لا يجوز الحنث ، أما لو منع نفسه من واجب أو مندوب فلا إشكال أن الحنث أولى وجوبا في الواجب ، وندبا في المندوب ، وعليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فليأت الذي هو خير».

وفي الأحكام قال : معنى الحفظ التكفير لها إذا حنث ، فيكون المعنى : أن لا يهمل ، وقد ذكر هذا في الشرح أن الحفظ أن لا يحنث ،

__________________

(١) يعني : لم يشرع هنا بدل الصوم. والله أعلم (ح / ص).

(٢) هذا الوجه هو الذي بنى عليه في شرح التجريد ، وقال : لا معنى للقول بحفظها قبل الحلف ، وفي الكشاف أيضا ، لم يذكر الوجه الأول وهو الحفظ عن الإكثار.

١٧٧

وإذا حنث لا يترك الكفارة ، وقد دخلت ثمرات هذه الجملة في أثناء هذا الكلام.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩٠ ـ ٩١]

النزول

قيل : لما نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] قال عمر بن الخطاب : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية فقال عمر : انتهينا يا رب.

وقيل : لما لاحى سعد بن أبي وقاص رجلا من الأنصار يسمى عتبان بن مالك ، وقد كانا شربا الخمر ، فضربه بلحي جمل ، فشج سعدا فنزلت الآية.

وثمرة الآية تحريم هذه الأشياء ، فالتحريم المتعلق بالخمر هو شربها ، أو تناولها ، أو التصرف فيها ؛ لأن الأعيان نفسها لا تتصف بالتحريم والتحليل ، فكأنه تعالى قال : إنما شرب الخمر.

وأما الميسر فهو القمار.

قال الأزهري : والميسر ـ الجزور التي كانوا يتقامرون على أجزائها ، وهذا إذا حصلت المقامرة بما له قيمة ، فإن كان لا قيمة له ، ففي ذلك خلاف بين المفرعين من المتأخرين كالكعاب ، والبعر ، والشطرنج عندنا ، وفي مهذب الشافعي : إن لم يكن الشطرنج بعوض ، ولم يترك لأجله فرض ، ولا مروءة لم يحرم.

١٧٨

وأما الأنصاب فقيل : هي الأوثان ؛ لأنها كانت تنصب للعبادة لها ، وقيل : هي الحجارة التي كانوا يذبحون عندها للأصنام.

وقيل : حجر تصب عليه دماء الذبائح للأصنام.

وأما الأزلام : فهي القداح ، واحدها قدح زلم ، وهي سهام كانوا يجعلون عليها علامات ، أفعل ، أو لا تفعل ، فيعملون على ما يخرج من ذلك في سفر ، أو إقامة ، أو غيرها من الأمور.

قال الحاكم : ويدخل في ذلك كلما يستدل به على مستور ، نحو الضرب بالحصى ، والقرعة (١) ، فهذه الأشياء محرمة ، لكن في الآية تأكيد لتحريم الخمر من وجوه :

الأول : تصدير الجملة بإنما ، وهي للتأكيد.

الثاني : أنه سبحانه قرنها بهذه الأشياء القبيحة ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شارب الخمر كعابد الوثن» (٢).

الثالث : أنه تعالى جعلها رجسا كما قال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).

قيل : أراد بقوله : (رِجْسٌ) يعني : إثم (٣) وفساد ، وقيل : خبيث ، وقيل : يجب تجنبه كما يجب تجنب النجس.

الرابع : قوله : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) والشيطان لا يأتي منه إلا الشر ، وقيل : أراد من الأعمال التي يدعو إليه ، ويزينها.

__________________

(١) ليس المراد القرعة المشروعة ، بل ما يدل على الأمور المستورة المغيبة. وقل : بل هي مرادة ، وقد ورد بها الشرع.

(٢) وفي نسخة (كعابد وثن).

(٣) رفع هنا (اثم وفساد) لأنه تفسير (رجس) المرفوع في الآية ، وإلا فحق اللفظ أن يكون منصوبا بيعني.

١٧٩

الخامس : قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوهُ) فأمر بالاجتناب ، والضمير يرجع إلى المقدر ، وهو شرب الخمر وتعاطي هذه الأشياء.

السادس : قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يدل على أنه لا فلاح مع عدم الاجتناب.

السابع : قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ) يعني بسبب الشرب.

الثامن : قوله تعالى : (وَالْبَغْضاءَ) وهذا تأكيد.

التاسع : قوله : (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فأفردهما بعد أن عدهما مع غيرهما.

العاشر : قوله تعالى : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ).

الحادي عشر : قوله : (وَعَنِ الصَّلاةِ) فأفردها مع أنها داخلة في الذكر ، لكن خصها لزيادة فضلها.

الثاني عشر : قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) والمعنى : انتهوا عما نهاكم الله عنه ، وحصول العداوة والبغضاء إنما تحصل من الأفعال في حال السكر.

وعن قتادة : كان الرجل يقمر في ماله ، فيبقى حزينا سليبا ، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء.

قوله تعالى

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) [المائدة : ٩٣]

النزول

قيل : نزلت في عثمان بن مظعون ، وأصحابه لما حرموا اللحم على

١٨٠