تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وقيل : نزلت الآية في اللباس عند الصلاة.

ثمرات الآية :

اعلم أنه تعالى أمر فيها بأخذ الزينة ، والأكل ، والشرب ، ونهى عن الإسراف.

فأما أخذ الزينة فاختلف المفسرون في حكم هذا الأمر ، وما هو المأمور به؟

فقيل : إن هذا الأمر للوجوب ؛ لأن ذلك حقيقة الأمر ، والمأمور به ستر العورة في الملأ (١) ، لما ورد في سببها أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة عن مجاهد.

قال ابن عباس ، وعطا ، وإبراهيم ، والحسن ، وقتادة ، وسعيد بن جبير : إن قوله تعالى : (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أراد المسجد الحرام ؛ لأنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.

وقيل : المراد الستر في الصلاة ؛ لأنها مفعولة في المسجد ، ولهذا قال : (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ولو أراد الطواف لكان المسجد واحدا.

قال الحاكم : وهو الظاهر ؛ لأنه الذي يقتضيه اللفظ ، وإن كان السبب الطواف ، فيدخل في ذلك الأعياد ، والجمعة ، والطواف ، وسائر الصلوات ، وخص الصلاة لتأكيد الوجوب للستر فيها ، وإن وجب في سائر الحالات ، فقد يجوز الكشف في حال الخلوة.

ويتعلق بهذه الجملة أمران : أحدهما : بيان العورة.

والثاني : ما حكم صلاة من لم يستر العورة؟ وما حكم طوافه؟.

أما الأول : وهو في بيان العورة ، فهي في الرجل من السرة إلى

__________________

(١) في ب (ستر العورة بالملإ.

٢٨١

الركبة ، والسرة ليست بعورة ، والركبة عورة ، هذا مذهب عامة الأئمة ؛ بدليل حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «كل شيء أسفل من سره إلى ركبه عورة» (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الركبة عورة».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الفخذ عورة».

قيل : وقد يعفى عن دون السرة بقدر الشفة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبل سرة الحسن (٢) ، وهذا الذي قلناه قول أبي حنيفة ، وصحح للشافعي أن السرة والركبة ليستا بعورة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما فوق الركبتين من العورة ، وما أسفل من السرة من العورة».

وقال أهل الظاهر : الفخذ ليس من العورة.

وأما المرأة فصحح للمذهب أن جميع جسمها عورة ما خلا الوجه والكفين ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها» وجاء في التفسير (٣) في قوله تعالى في سورة النور : (وَلا يُبْدِينَ

__________________

(١) وقد صحح في بعض النسخ (كل شيء أسفل من السرة إلى الركبة عورة).

(٢) أي : في سرته ، ولقائل ان يقول يحتمل ان يكون ذلك في حال الطفولية فلا حجة حينئذ ، فالأولى الاحتجاج بالخبر المتقدم في كشف العورة ، وبكشف الحسن لأبي هريرة حين قال له : أرني الموضع الذي كان يقبله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو كما قال. ولد الحسن عليه‌السلام في النصف من رمضان لثلاث سنين من الهجرة ، وهو أصح ما قيل في ولادته ، والحسين عليه‌السلام ليال خلون من شعبان سنة أربع ، وكانت فاطمة عليها وعليهما‌السلام علقت بعد أن ولدت الحسن بخمسين ليلة. جامع الأصول. (ح / ص).

(٣) هذا يصلح على المذهب في الصلاة ، وأما في غير الصلاة فجميعها عورة ، والخاطب ليس له النظر إلا إلى الوجه فقط ـ والله أعلم ـ ونظره ليس لكون الوجه غير عورة ، بل أبيح له فقط ، كالشاهد ، ونحوه.

٢٨٢

زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) الكحل ، والخاتم ، والخلخال ، فأخرجوا القدمين من العورة ، وهذا تحصيل أبي العباس للقاسم ، والأول تحصيل الأخوين للقاسم.

وأما الأمة فكالرجل ، وروي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يمنع الإماء من التقنع ، والتشبه بالحرائر ، ولم ينكر عليه أحد ، وألحق الأمة المدبرة والمكاتبة وأم الولد بالأمة ، وأبو حنيفة أخرج الذراعين ، والساقين ، والشعر في الحرة من العورة.

وأما الأمر الثاني : وهو في حكم من صلى مكشوف العورة فمذهب الأئمة ، وأبي حنيفة ، والشافعي : أن صلاته لا تصح مع إمكان الستر ؛ لأنه تعالى قال : (خُذُوا زِينَتَكُمْ) وأقل الزينة ستر العورة.

وقال تعالى في سورة المدثر : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) وإذا وجب تطهيره للصلاة وجب لبسه.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» ومعناه : من بلغت المحيض.

وحكي عن مالك أن سترها للصلاة مستحب غير واجب.

وعنه : «من صلى مكشوف العورة لم تلزمه الإعادة».

وعنه : إن قصد الكشف لم تجز الصلاة ، قيل : الخلاف في الخلاء لا في الملأ.

وقال أحمد : جميع بدن المرأة عورة ، تستره في الصلاة.

قال في النهاية : وشذ قوم فقالوا : لا تجزي صلاة الرجل بثوب ليس على ظهره أو بطنه شيء ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يصلي الرجل في الثوب ليس على عاتقه منه شيء».

٢٨٣

وأما إذا طاف عاريا فقد قيل : هذا كما لو طاف محدثا (١) ، وقد اختلفوا في ذلك فقال مالك ، والشافعي : لا حكم لهذا الطواف ، كما لو صلى عاريا.

وقالت الهدوية ، والحنفية : له حكم ، لكن قد نقض ، فلا بد فيه من الإعادة ، أو الجبران بالدم ، واحتجوا بعموم قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وليطوفوا بالبيت العتيق ولم يشترط طهارة.

وقيل : إن هذا الأمر (٢) للندب. واختلف ما المأمور به؟ فقيل : التزين للجمعة ، والأعياد ، وقيل : المشط ، والطيب ، والخاتم ، والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة ، ولهذا ندب السواك.

وروى الحاكم في السفينة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لسلمان : «ألا أحدثك من غرائب حديثي؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فقال : (ما من عبد يقوم في ظلمة الليل ، وغفلة الناس ، فيستاك ويتوضأ ، ويمشط لحيته ، ويأخذ من صالح ثيابه ، وإن حضره طيب مسه ، وإن لم يحضره تمسح بالماء ، فإنه طيب أهل العبادة ، ثم يستقبل القبلة بكل قلبه ، ثم يصلي) إلى آخر الخبر ، وفيه طول ، ثم قال : «إلا جعل الله بينه وبين النار ستة خنادق» إلى آخر الحديث.

وأما الأمر بالأكل والشرب ، فهذا الأمر للإباحة ، وفيه رد لما كان المشركون يفعلون من ترك الأكل للدسم ، واللبن في أيام الحج.

وأما النهي بقوله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا) قيل : أراد بالسرف : الإنفاق في المعصية ، والرياء ، والفخار ، وقيل : لا يتعدى ما أحل له وما حرم عليه ، وقيل : لا يتجاوز ما يليق به من قلة المال وسعته ، فمن له يسير من

__________________

(١) وهو الذي بنى عليه في الأزهار ، قال : والتعري كالأصغر.

(٢) أي : في قوله تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

٢٨٤

المال لو أنفقه في الضيافة والطيب ، وناعم الثياب ، وعياله محتاجون فذلك سرف.

قال في الكشاف : ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد ـ قيل : هو صاحب المعارف ـ : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان ، وعلم الأبدان ، فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال : وما هي؟ قال : قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا). فقال النصراني : ولا يؤثر عن رسولكم شيئا في الطب؟

قال : قد جمع رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطب في ألفاظ يسيرة ، قال : وما هي؟

قال : قوله : «المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، واعط كل بدن ما عودته» فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.

قيل : وذكر في شرح الإفادة عن السيد أبي طالب : أن الأكل يجب إذا دفع به الضرر ، واستجلب به النفع ، ويستحب إذا كان يستجلب به النفع ، ولا يستدفع به الضرر.

والثالث : قبيح ، وهو أن يأكل لا لدفع مضرة ولا لجلب نفع ؛ لأنه حينئذ يكون إتلافا للمال ، على وجه القبيح ، ولأنه ربما يؤدي إلى التخمة ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الأرض لتضج من المتخم كما تضج من السكران».

ولقائل أن يقول : وقد يكره وهو الزيادة على الشبع ، مع التلذذ ، والأمن من المضرة ، وقد يباح ، وذلك مع اللذة ، مع أنه لا يجلب به نفعا ، ولا يدفع به مضرة ، حيث لم يزد على الشبع.

وقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) وهذا تأكيد لما سبق من أخذ الزينة ، وأكل الطيب ، وإشارة إلى النهي عن فعلهم في البحيرة والسائبة ، والوصيلة ، والحام.

٢٨٥

قال الحاكم : وفي الآية دليل على أن الأشياء على الإباحة.

أما في الحيوان فتخريج المؤيد بالله للهادي عليه‌السلام أن الأصل الحظر ؛ لأن إيلام الحيوان قبيح إلا لدلالة شرعية (١).

قوله تعالى

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٣]

هذه خمسة أشياء ذكر الله تحريمها :

الأول : الفواحش ، وقد اختلف المفسرون ما أريد بها؟ فعن الأصم ، وأبي علي ، وأبي مسلم : أنها عامة في جميع القبائح ، فذكرها الله سبحانه جملة ، ثم فصل ، فكأنه قال : الفواحش التي منها الإثم والبغي.

قوله تعالى : (ما ظَهَرَ مِنْها) قيل : أفعال الجوارح (وَما بَطَنَ) أفعال القلوب ، وقيل : (ما ظَهَرَ) : ما فعل جهرة (وَما بَطَنَ) : ما فعل خفية.

وقيل : إن الفواحش ما يختص بالفروج ظاهرا وباطنا ، وقيل : الباطن الزنا ، والظاهر التعري طائفا ، وقيل : الظاهر طواف الرجل عاريا بالنهار ، وما بطن طواف النساء عاريات ليلا.

الثاني مما ذكر في الآية قوله : (وَالْإِثْمَ) اختلف ما أريد به؟ فقيل : إنه عام في المعاصي ، وقيل : إنه للصغائر ، والفواحش للكبائر ، وقيل : الإثم. لما لا يجب فيه الحد ، وقيل : الخمر ، وأنشد الأخفش :

__________________

(١) وهو المختار للمذهب. (ح / ص). لأن قبح إيلامها لم يكن قضية مبتوتة لا يجوز تغييرها ، كقبح الظلم ، بل قضية مشروطة ؛ لأن وجه القبح فيها والحكم غير معريين ، كما ذكره في الفصول وحواشيه.

٢٨٦

شربت الإثم حتى زال عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

الثالث : قوله تعالى : (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) والبغي عبارة عن الظلم ، والتطاول على الناس.

وأما قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) فقال الحاكم : إنما قال ذلك لأن البغي قد يخرج عن كونه ظلما ، إذا كان بسبب جائز كالقصاص ، يعني : قد تكون صورته صورة البغي ، وقيل : ذكر ذلك تأكيدا كقوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ).

قال الحاكم : ويدخل في البغي ما يفعله البغاة ، والخوارج ، والأمراء ، والحكام ، إذا انتصروا بغير حق.

الرابع : قوله تعالى : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) يدخل في الشرك كل عبادة لغير الله ، وكذلك أنواع الرياء.

وقوله تعالى : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً).

قال جار الله : فيه تهكم ؛ لأنه لا يجوز أن ينزل سلطانا وبرهانا ؛ بأن يشرك به غيره (١).

الخامس قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : تقولوا على الله افتراء عليه وكذبا ، قيل : في الشرك ، وقيل : في التحليل والتحريم ، وقيل : عام ، ورجحه الحاكم.

قال : ويدخل في ذلك كل بدعة وضلالة ، وفتوى بغير حق ، وشهادة زور.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) هذا فيه دلالة على أن الكذب على الله وتكذيبه كبيرة ، فينقض الوضوء ولكن ذلك مع التعمد.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٧٧.

٢٨٧

قوله تعالى

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٥ ـ ٥٦]

ثمرة الآية : أنه تعالى أمر بدعائه ، وأن يكون الداعي متضرعا ، أي : متذللا ، ويكون خفية ؛ لأنه أبعد من الرياء.

قال في الكشاف : وعن الحسن ـ رحمه‌الله ـ إن الله يعلم القلب التقي ، والدعاء الخفي ، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره ، وإن كان لقد فقه الفقه الكثير ولا يشعر الناس به ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزّور وما يشعرون به ، يعني : الزوار ، ولقد أدركنا قوما ما كان على وجه الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وقد أثنى على زكريا فقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا.

وقد ذكر الغزالي آدابا للدعاء ، وهي : ترصّد الأزمان الشريفة ، والأحوال الشريفة ، كحال السجود ، والتقاء الجيوش ، ونزول الغيث ، وإقامة الصلاة وبعدها ، واستقبال القبلة ، ورفع اليدين ، ومسح الوجه بهما في آخره ، وخفض الصوت بين المخافتة والجهر ، وأن لا يتكلف السجع ، وقد فسر به الاعتداء في الدعاء ، والتذلل والخشوع ، وأن يجزم بالطلب ، ويوقن بالإجابة ، وأن يلح في الدعاء ، ويكرره ثلاثا ، ولا يستبطئ الإجابة ، وأن يفتتح الدعاء بذكر الله.

٢٨٨

قال النواوي : وبالصلاة على رسول الله بعد الحمد ، ويختمه بذلك ، والتوبة ، ورد المظالم.

قال النواوي : والمختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون ، وجماهير العلماء من السلف والخلف ـ أن الدعاء يستحب ، قال الله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) والأحاديث كثيرة ، منها (الدعاء هو العبادة).

وحكى القشيري عن بعضهم : أن السكوت والجمود تحت جريان الحكم أتم.

قال القشيري : والأولى أن يقال : ما كان للمسلمين فيه نصيب أو لله فالدعاء أولى ، وإن كان للنفس حظ فالسكوت أتم.

قال الحاكم : ويؤخذ من هذه الآية استحباب الإسرار بالتأمين بعد الفاتحة ؛ لأنه دعاء. وعن الشافعي : يجهر ، هذه ثمرة.

الثانية : النهي عن الاعتداء في الدعاء ، وقد اختلف ما هو؟ فقيل : التجاوز للحد بأن يدعو أن الله سبحانه ينيله درجة الأنبياء ، وقيل : هو رفع الصوت عن ابن جريج في الدعاء ، وعنه : الصياح مكروه وبدعة ، وقيل : الدعاء على المؤمنين ، وقيل : تكلف السجع.

قال في الكشاف (١) : وقيل : هو الإسهاب (٢) في الدعاء.

قال : وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة ، وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار ، وما قرب إليها من قول وعمل ، ثم قرأ قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)».

__________________

(١) الكشاف ٢ / ٨٣.

(٢) أي : الإكثار والتطويل.

٢٨٩

قال في الأذكار : إن العلماء والأبدال لا يزيدون على سبع كلمات ، ويشهد له ما في آخر البقرة : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) إلى آخرها ، وقوله تعالى في سورة إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) إلى آخره.

قال النواوي : والمختار الذي عليه جماهير العلماء أنه لا حجر في ذلك ، ولا تكره الزيادة على السبع ، بل يستحب الإكثار من الدعاء مطلقا.

وقوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) هذا نهي عن الفساد ، قيل : بظلم المؤمنين وقتلهم ، وقيل : بعبادة غير الله ، وقيل : بمعاصي الله ، وقيل : لأنه حصل بمعاصي الله حبس المطر فتفسد الأرض (١).

قوله تعالى

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف : ٥٨].

دلت على أن الذي لا ينبت لا يسمى طيبا ، فيلزم أن لا يتيمم به ؛ لأنه تعالى قد قال : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

قوله تعالى

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) [الأعراف : ٦٥]

لما ذكر الحاكم قصة هود ـ ذكر اختلاف الناس في موضع قبره ، فقيل : هو بمكة ، وقيل : هو بحضر موت عن أمير المؤمنين ، وقيل : إنه بين الركن والمقام.

قال : وروي أن بين الركن والمقام قبر تسعة وتسعين نبيا ، وفيه قبر

__________________

(١) ويحتمل أن يقال : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) الخ يريد به الدعاء على المؤمنين.

٢٩٠

صالح ، وهود ، وشعيب ، وإسماعيل ، وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النهي عن الصلاة على المقبرة (١).

قوله تعالى : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) [الأعراف : ٧٧]

أضاف العقر إليهم لما رضوا به ، ولم يعقرها إلا قدار (٢) ومصدع ، دل على أن الراضي كالفاعل ، فيكون الراضي بالكفر كافرا ، وبالفسق فاسقا.

قوله تعالى

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) [الأعراف : ٨٥]

إيفاء الكيل والميزان واجب ، على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن ، والبخس : النقص ، وقيل : الظلم.

قوله تعالى

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) [الأعراف : ١٠٢]

دل على وجوب الوفاء بالعهد.

__________________

(١) في الأصل بياض قدر نصف سطر. ولعل مكانه (وقد طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون) ، فينظر في الرواية ، ولعل الجواب هو : (أن ما قيل في قبور الأنباء والصلاة عليها يحتمل أن تكون قد زالت بسيل أو نحوه فلم يبق لها أصل ، هذا على فرض صحة الرواية)

ويمكن أن يقال (إن هذه القبور مواضعها غير معلومة ، بل يجوز في كل موضع من هذا المكان أنه فيه وأنه في غيره ، والأصل الإباحة ، والله أعلم. ذكر معنى ذلك في شرح المناسك للنواوي. (ح / ص).

(٢) هو : قدار بن سالف ـ بالدال المهملة.

٢٩١

قوله تعالى

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) [الأعراف : ١٤٢]

قيل : هي القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، وقيل : الحجة ، وعشر من المحرم ، ولا يقال : يلزم من هذا أن الحجة لا تنقص كما قالت الإمامية ، فإنهم يحتجون بقوله عليه‌السلام : «شهرا عيد لا ينقصان» لأنه وإن تم في سنة جاز أن ينقص سنة أخرى ، وفي الآية دلالة أن الأيام تدخل في الليالي ؛ لأن في سبب نزولها أنهم أمروا بصوم الثلاثين ، فلما صاموا الثلاثين استاك في الحادي والثلاثين ؛ لقطع الخلوف ، فجاءه الملك وأمره بصوم عشر لا يقطع فيها الخلوف ، وفي هذا دلالة على قول الشافعي : إنه لا يستاك الصائم بعد الزوال ؛ لأنه يقطع الخلوف ، والمذهب أنه لا يكره ، وهو قول أبي حنيفة ؛ لعموم الأدلة في استحباب السواك.

قال في الكشاف : لما وعدهم موسى لأربعين ليلة قعدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ، وقال لهم السامري : إن موسى قد مات فأحدثوا ما أحدثوا ، هذا بالمعنى (١).

قوله تعالى

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأعراف : ١٥٠ ـ ١٥١]

اعلم أن المفسرين اختلفوا فيما فعله موسى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كونه ألقى

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١١١.

٢٩٢

الألواح ، وكونه أخذ برأس أخيه ، فقيل : لما سمع حديث العجل فعل ذلك لما حصل معه من فرط الدّهش ، وشدة الضجر ، غضبا لله وحمية لدينه ، وكان في نفسه حديدا شديد الغضب ، هكذا ذكر في الكشاف.

قال : وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت ، فرفع منها ستة ، وبقي سبع ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء ، وبقي سبع وفيه الهدى والرحمة ، وجر بذؤابة أخيه لما أصابه من الدهش ، وذهاب الفطنة ، وظن أن أخاه قد قصّر في كفهم ، فلما بين له أخوه عدم تقصيره ، وأن القوم استضعفوه رجع واستغفر لنفسه فيما سلف منه ولأخيه ، إن كان قد فرّط في الاستخلاف ، فعلى هذا يكون فعل موسى عليه‌السلام ذنبا صغيرا ؛ لأن ذنوب الأنبياء صغائر (١).

وقال الحاكم : إنه ألقى الألواح تعظيما لا استخفافا ؛ لأن الاستخفاف بكلام الله كفر.

وقيل : لم تكن العادة في ذلك الزمان كما هي الآن من كون إلقاء الشيء وطرحه استخفافا.

قال : وما روي من تكسر التوراة فهو من رواية الحشوية.

وأما جره برأس أخيه ، فالمعنى : أنه أدناه إليه ليسائله ، وقيل : قبض على رأسه ولحيته على وجه التسلي ، كما يفعله الواحد عند ما يناله الغم الشديد ، وقيل : كما يفعله الواحد منا عند الغضب من قبضه على لحيته ، وعضه على يده وشفتيه ، فلا يكون هذا ذنبا من موسى عليه‌السلام ، ولا شبهة أنه قد أنكر على أخيه ، ولكن اختلف ما أنكر؟ فقيل : ظن أن أخاه قد قصر فأنكر ، وقيل : هذا لا يظنّ بهارون ؛ لأن ترك الإنكار عظيم.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١١٩. وسيأتي ذكر هذه القصة في طرفي قوله تعالى : (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) الآية.

٢٩٣

قال أبو مسلم : لكن ترك الإنكار لما ذكره الله تعالى في سورة طه حاكيا عن موسى عليه‌السلام حيث قال : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) فأنكر عليه ترك اتباعه ، ولم يكن منه استخفافا بهارون ؛ لأنه نبي ، وهو أكبر منه سنّا ، والاستخفاف بالنبي كفر.

قال الحاكم : وتدل الآية على سقوط الأمر بالمعروف حال الخوف ؛ لأنه قال : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) وتدل الآية على أن الغضب والأسف على نقصان الدين من المبتدع محمود ، «تم كلامه».

وفي الآية دلالة أنه يجوز الاحتراز عن الأمور التي تؤدي إلى شماتة الأعداء.

قوله تعالى

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) [الأعراف : ١٥٦]

قال الحاكم : دل ذلك على حسن سؤال نعيم الدنيا ، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة ، فإن قيل : إذا تكفل الله بذلك فما فائدة السؤال؟

أجاب بأن في ذلك انقطاعا إلى الله ، وأن المسئول زيادة التفضل.

قال الحاكم : ويجوز أن يكون ذلك مشروطا بالدعاء ومصلحة عنده.

قوله تعالى

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٦٤]

اختلف المفسرون في الذين قالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) هل هم من الناجين؟ أم من المعذبين؟ فقال الأكثر : هم من الناجين ، وإنما

٢٩٤

أنكروا وعظ الواعظين ؛ لأنهم أيسوا من رجوعهم ، وأن الوعظ لا يجدي ، وعند ذلك يصير عبثا ، ويحصل بذلك الاستهزاء بالواعظ.

قال الزمخشري : ويقبح ، وإنما وعظت الأمة الثانية لأنهم لم ييأسوا كما أيس الآخرون ، فدلت على سقوط الأمر عند الأياس من التأثير.

وأما حسنه فقيل : يقبح أيضا ، وهو الذي أشار إليه الزمخشري ، وإنما قالت الأمة الثانية : (مَعْذِرَةً) لرجائهم لإيمانهم ، وقيل : أما الوجوب فيسقط ، وأما الحسن فيبقى ، ولهذا قالت الأمة الثانية معذرة ، واختار هذا الإمام يحيى (١) ، واحتج بهذه الآية ، فعلى هذا يكون الناهون عن الوعظ ممن نجا ، وهذا مروي عن الحسن ، وعكرمة ، والأصم ، وأبي علي.

وعن الحسن : نجت فرقتان ، يعني : الواعظة ، والساكتة ، وهلكت فرقة وهم الذين صادوا ، وقيل : هم ممن هلك ، وهذا رواية ابن عباس.

وقيل : القائلون لم تعظون هم الموعوظون لما وعظوا ، قالوا للواعظين : لم تعظون قوما تزعمون أن الله مهلكهم أو معذبهم؟ وقد يستدل أن الذرائع محرمة ؛ لأنه قد روي أنهم نصبوا الشراك الجمعة ، وأخذوها الأحد.

قوله تعالى

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ) [الأعراف : ١٦٥]

قيل : النسيان عبارة عن الترك فلهذا يعذبوا ، وقيل : تعرضوا للنسيان فلهذا عذبوا. وأما النسيان فهو فعل الله ، ولا يعذبون عليه.

__________________

(١) وقد تقدمت هذه الأقوال في أول البقرة في قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) الخ.

٢٩٥

قوله تعالى

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) [الأعراف : ١٧١]

دلت الآية على أن التخويف بالهلاك تصح معه التوبة ، ولا يكون إلجاء كما لو أحضر المرتد للقتل.

قوله تعالى

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) [الأعراف : ١٧٥]

نزلت في بلعم بن باعوراء ، من علماء بني إسرائيل ، وقيل : من الكنعانيين وقيل : غير ذلك ، وفي ذلك دلالة على ذم علماء السوء ، وأن العلم من غير عمل صفة ذم ، لذلك مثله الله تعالى بالكلب في خسة حاله.

قوله تعالى

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠]

المعنى : سموه بها ، وفي ذلك أمر بدعائه بالأسماء الحسنى ، وهو أمر ندب إذا حمل على التلاوة بالتسعة والتسعين ، وحث على ذلك ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة».

قال البخاري : معنى (أحصاها) أي : حفظها.

قال النواوي : هذا تفسير الأكثر ؛ لأن في الصحيح في رواية : «من حفظها» وقيل : أراد من عرف معانيها ، وآمن بها ، وقيل : معنى من حفظها بحسن الرعاية وتخلق بالعمل لمعانيها ، وإن أريد التسمية بما فيه مدح دون ما فيه إلحاد فذلك وجوب.

٢٩٦

قوله تعالى

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف : ١٨٩]

ثمرة هذه الآية : أنه تعالى لما قال : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) جعل حال الإثقال يخالف ما قبله ، وأنه يختص بالدعاء ؛ لأجل أنه حال الخوف ، وقد ذهب الهادي عليه‌السلام أن الحامل إذا أتى عليها من الحمل ستة أشهر كان تصرفها كتصرف المريض ينفذ من الثلث (١) ، وهو قول مالك ، والليث ، واحتجوا بالآية لأنه تعالى فرق بين حال الخفة والإثقال.

وقال المؤيد بالله ، وأبو العباس ، وأبو حنيفة ، والشافعي : تصرّفها من الجميع ما لم يأخذها الطلق.

قلنا : إنه يجوز عليها بعد الستة وضع الحمل في كل وقت ، فدلت الآية على أنه يجوز الدعاء بطلب أمور الدنيا ، وأن حصول الولد منّة يشكر عليها.

وقوله تعالى

(جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) [الأعراف : ١٩٠]

والضمير يرجع إلى الولدين الذكر والأنثى لا إلى آدم وحواء ، وقد فسر الشرك في أولادهما بأنهم جعلوا الخلق والنعم إضافة إلى غير الله ، ولهذا سموا أولادهم عبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد اللات ، وعبد الدار ، وعبد شمس ، مكان عبد الله ، فيحصل من هذا كراهة التسمية بهذه الأسماء ونظائرها ، وأما عبد النبي ، وعبد الإمام فهل يكره (٢) ...

__________________

(١) وهذا هو المختار للمذهب.

(٢) بياض في الأصل قدر سطر.

٢٩٧

وكذا يكره بما يستعمل في حق الله كملك الأملاك ، ولهذا جاء في الحديث : «إن أخنع اسم عند الله رجل سمي بملك الأملاك» ومعنى أخنع أي : أوضع.

قال جار الله : في قوله : (جَعَلا) وفي قوله : (آتاهُما) أي : جعل أولادهما ، وآتى أولادهما ، على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، بدليل قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

قال جار الله (١) : ووجه آخر : أن يكون الخطاب لقريش الذين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم آل قصي ، والمعنى : خلقكم من نفس قصي ، وجعل منها زوجها أي : من جنسها ، كونها عربية قرشية ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح الخلق ـ جعلا له شركاء فيما آتاهما ، أي : سميا أولادهما الأربعة : عبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد قصي ، وعبد الدار ، ويجعل الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما في الشرك.

قوله تعالى

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩]

النزول

قيل : لما نزلت سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبريل فقال : «لا أدري حتى اسأل ، ثم رجع فقال : يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفوا عمن ظلمك» (٢).

وعن جعفر الصادق : أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق ، وليس في

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١٣٧.

(٢) وسيأتي هذا بعينه في سورة النور في قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) الآية.

٢٩٨

القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها ، وهذا الأمر أمر ندب ؛ لأن العفو عن الظلم لا يجب ، ولعل ذلك إجماع.

وقيل : لما نزل قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) الآية ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كيف يا رب والغضب» فنزل : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) الآية.

وهذه ثلاثة أشياء مأمور بها :

الأول : قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) قيل : معنى ذلك خذ المتسهل من أخلاق الناس ، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم ، حتى لا ينفروا ، وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يسروا ولا تعسروا» قال الشاعر :

خذ العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي (١) حين أغضب

ولا تنقريني نقرك الدف مرة

فإنك لا تدرين كيف المغيب

ويدخل في ذلك ترك الاستقصاء ، وقبول المعاذير.

وقيل : (خُذِ الْعَفْوَ) يعني : الفضل من أخلاق الناس ، يعني : اجعل ذلك عادتك عن الحسن ، وابن الزبير ، وأبي علي.

وقيل : خذ الفضل ، وما سهل من صدقاتهم ، وهذا كان قبل نزول آية الزكاة ، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها ، فهذا مروي عن ابن عباس ، والسدي ، والضحاك ، والأصم.

وقيل : المراد اعمل في دينك ودنياك بما يتيسر عليك ، ففي الدين لا تصم الوصال ، ونحو ذلك من الخصال ، وفي الدنيا بمعنى لا تحرص.

وأما الثاني : فهو قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) قيل : تأمر بالمعروف ؛

__________________

(١) سورة الخمر حدته واشتداده ، وسورة السلطان حدثه ، ومن المجد : أمره وعلامته وارتفاعه ، ومن البرد : حدته.

٢٩٩

لأن العرف المعروف ، عن قتادة ، وعروة ، وقيل : بكل خصلة جميلة ، وقيل : بلا إله إلا الله عن عطاء.

وأما الثالث : وهو قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) قيل : معناه لا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ، ولا تمارهم ، واحلم عليهم ، وقيل : اهجرهم هجر استخفاف لا هجر ترك ، وقيل : أراد كف عن جهادهم ، ثم نسختها آية السيف.

قوله تعالى

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف : ٢٠٤]

النزول

قيل : كانوا يتكلمون في الصلاة ، ويسلم بعضهم على بعض فنهوا عن ذلك ، وأمروا بالاستماع ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، والزهري ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، وعبيد بن عمير ، وعطاء بن أبي رباح.

وروى أبو هريرة : (أنها نزلت في رجل من الأنصار كان كلما قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا قرأ معه) فنزلت ، وقيل : نزلت في الخطبة ، عن سعيد بن جبير ، وجماعة.

وقيل : نزلت في رفع الأصوات خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في الصلاة ، وحين يسمعون ذكر الجنة أو النار ، عن أبي هريرة ، والكلبي.

وقيل : كان المشركون يقول بعضهم لبعض : إذا صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه.

وسئل أحمد بن حنبل عن ذلك؟ فقال : أجمعت الأمة أنها نزلت في الصلاة.

٣٠٠