تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

النزول

قيل : نزلت في غزوة تبوك عن الحسن ومجاهد وجماعة من المفسرين.

وقيل : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يغزو غزوة إلا ورّى فيها فلما رجع من الطائف دعا الناس إلى غزوة الروم أيام إدراك النخل والزرع ، وما جبت العقود في الظل ، وذلك في وقت شدة من الحر ، فعظم ذلك عليهم وكرهوا ، وأظهر عليه‌السلام الأمر في غزوة تبوك لبعد شقتها وكثرة العدو (١) ليتأهب الناس.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قيل : هو عام ، وقيل : خاص ، وإن كان اللفظ عاما لأن كل المؤمنين لا يتثاقلون ، عن أبي علي.

وقوله تعالى : (ما لَكُمْ) توبيخ وتقريع.

وثمرة الآية لزوم إجابة الرسول إذا دعا إلى الجهاد ، وكذا يأتي مثله في دعاء الأئمة ، ويأتي مثل الجهاد الدعاء إلى سائر الواجبات ، وفي ذلك تأكيد من وجوه :

__________________

(١) في نسخة وكثرة الغزاة.

٤٢١

الأول : ما ذكر من التوبيخ.

والثاني : في قوله تعالى : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) وأن الميل إلى المنافع والدعة واللذة لا تكون رخصة في ذلك ، والمعنى تباطأتم وتقاعستم.

وقد قرأ الأعمش (تثاقلتم) وهي شاذة.

والثالث : في قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) وهذا زجر.

الرابع : قوله تعالى : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) وهذا تخسيس لرأيهم.

الخامس : ما أعقب من الوعيد بقوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ).

السادس : ما بالغ فيه بقوله : (عَذاباً أَلِيماً).

السابع : قوله : (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ)(١).

الثامن : (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً).

التاسع : قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يعني في نصرة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه تعالى يعينه على نصرتكم ، وفي هذا تهديد ، وقد ورد الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجب كبه الله في نار جهنم» الواعية : الصارخة ، ذكره في الصحاح ، ولعله أراد هنا الدعوة ؛ لأنها كالصارخة لتجاب.

__________________

(١) في نسخة أقوله (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) سابع.

٤٢٢

قوله تعالى

(إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠]

أراد بقوله عليه‌السلام لصاحبه وهو أبو بكر ، وقد استدل على عظيم محل أبي بكر من هذه الآية ، من وجوه :

منها قوله : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) وقوله : (لا تَحْزَنْ) وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) وقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) قيل : على أبي بكر ، عن أبي علي ، والأصم.

قال أبو علي : لأنه الخائف المحتاج إلى الأمن ، وقيل : على الرسول عن الزجاج ، وأبي مسلم.

قال جار الله : وقد قالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر ؛ لأنه رد كتاب الله.

قوله تعالى

(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) [التوبة : ٤٠]

أي : دينهم ، ولقائل أن يقول : في ذلك دلالة على أنه لا يخلّون في إظهار شعارهم.

قوله تعالى

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) [التوبة : ٤١ ـ ٤٢]

(١) في نسخة (بقوله تعالى (لِصاحِبِهِ)).

٤٢٣

النزول

قيل : نزلت في المتخلفين عن (١) غزوة تبوك من المنافقين ، وقيل : بل استأذنه جماعة من المنافقين في التخلف فنزلت.

وعن مجاهد : لما أمروا بالنفير قالوا : فينا الثقيل ، وذو الحاجة فنزلت.

وذكر الأصم قال : لما نزلت الآية جاء ابن أم مكتوم وقال : يا رسول الله أعليّ جهاد؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل» فرجع ولبس سلاحه وجاء فوقف بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ).

قال الحاكم : إنما وجّه آخر الآية إلى المنافقين مع أن أولها في المسلمين ؛ لأنهم كانوا يظهرون الإسلام (٢) فأجرى عليهم حكم المؤمنين وعرف حالهم ليتحرز من مكابدتهم.

وثمرة الآية : وجوب الجهاد والنفير عند دعاء الرسول على الجميع من الخفيف والثقيل.

قيل : الخفاف الشباب ، والثقال الشيوخ ، عن أنس ، والحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، ومقاتل ، وأبي علي.

وقيل : مشاغيل وغير مشاغيل ، عن الحكم.

وقيل : خفافا من المال وثقالا منه ، عن أبي صالح ، وقيل : نشاطى وغير نشاطى عن ابن عباس ، وقتادة ، وأبي مسلم.

وقيل : ركبانا ومشاة عن عطية العوفي ، وأبي عمرو.

__________________

(١) في أمن.

(٢) في نسخة (لأنهم كانوا يظهرون الايمان).

٤٢٤

وقيل : ذا ضيعة وغير ضيعة ، وقيل : أصحاء ومرضى.

وقيل : أخفاء من السلاح وثقالا به.

واختلف المفسرون هل في الآية نسخ أم لا؟ فقيل : إن فيها نسخا بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ).

وعن ابن عباس : نسخ النفير عن الضعيف بقوله تعالى في هذه السورة (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى).

وقيل : لا نسخ فيها ، ذكره القاضي ابن أبي النجم في كتابه : (البيان).

قال عبد الله بن الحسين في قول من قال : إن فيها نسخا : إن هذا قول مدخول فاسد ، وهي ناسخة غير منسوخة ، وإنها مؤكدة بوجوب الجهاد على الثقيل والخفيف وإنها رادة لقول من قال : إن فينا الخفيف والثقيل.

وقال في الكشاف : وعن صفوان بن عمرو : كنت واليا على حمص فلقيت شيخا كبيرا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك ، فرفع حاجبيه وقال : يا بن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا إلا أنه من يحبه الله يبتليه.

وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهب إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر (١) فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكنني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.

ولكن كلام المفسرين في قوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) إلى آخرها أن الأعذار المذكورة مسقطة لوجوب الجهاد على أهلها إشارة إلى نسخ هذه أو تأويلها.

__________________

(١) في الكشاف (ضرر) وفي النسخة أ(مرض).

٤٢٥

وقوله تعالى : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)

دلت على وجوب الجهاد بالنفس والمال. أما بالنفس فذلك ظاهر ، وسيأتي بيان من رخص له.

وأما بالمال فقد أفادت وجوب الجهاد بالمال ، والآيات متظاهرة بذلك مثل قوله تعالى في هذه السورة : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).

وقوله تعالى في سورة الصف :

(هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).

قال الحاكم : والجهاد بالمال ضروب ،

منها : إنفاقه على نفسه في السير إلى الجهاد.

ومنها : صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد.

ومنها : صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه.

قال جار الله : وقد دلت على وجوب الجهاد بهما إن أمكن أو بأحدهما.

وقد ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام إن دعت إليه حاجة.

وذكر المنصور بالله وجوب دفع ما دعت إليه الحاجة من الأموال في الجهاد قليلا كان أو كثيرا ، ويتعين ذلك بتعيين الإمام.

وأما من طريق الحسبة فقال المنصور بالله : يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلّا المال ، وذكره الهادي في مسائل الطبريين.

٤٢٦

قال محمد بن أسعد : والمشهور من المذهب أن ذلك إنما يكون إلى الإمام.

واعلم أنه يدخل في هذا إلزام الضيفة وإنزال الدور [وتنزيل الدور] ، وقد قال المنصور بالله : للإمام أن يلزم الرعية الضيافة على ما يراه من المصلحة.

وروى الفقيه محمد بن سليمان عن المؤيد بالله أن للإمام إنزال جيشه دور الرعية ، إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند ، واحتاجوا إلى ذلك ، كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة منكر ، وكذا ذكر أبو مضر أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدار.

وروى الأستاذ عن المؤيد بالله أنه لا يجوز.

واعلم بأن الجواز مشروط بأن لا يعرف عدوان من ينزل في الدار من جيشه بظلم أو فساد ، فإن عرف ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر وبين هذا المنكر الواقع من الجند أيهما أغلظ ذكر نظير هذا صاحب قواعد الأحكام.

وأما المذهب (١) ...

فائدة : وإن لم يتمكن الإمام من أخذ المال إلا بالإرصاد التي يفعلها الظلمة من القتالات (٢) ...

وقوله تعالى : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) العرض : متاع الدنيا.

قال عليه‌السلام : «الدنيا عرض حاضر ، يأكل منه البر والفاجر»

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) بياض في الأصل.

٤٢٧

والقاصد : القريب الذي لا مشقة فيه ، والشقة : المسافة ، وهذا تأكيد لوجوب الجهاد ، سواء عرف حصول الغنيمة أم لا ، وسواء قربت المسافة أم بعدت.

قوله تعالى

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) [التوبة : ٤٣]

في هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز للإمام التقصير في النظر ، ويجب عليه الفحص فيما يصدره من الأحكام ، وذلك لأن الله تعالى لما أوجب النفير على الخفيف والثقيل ، استأذنه المنافقون ، واعتذروا بمعاذير غير صادقة ، فأذن لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بترك النفير لظنه صدق معاذيرهم فلم يكن بإذن من الله تعالى.

قال في الحاكم عن قتادة ، وعمر : شيئان فعلهما رسول الله من غير استئذان : إذنه للمنافقين وأخذ الفدية من الأسارى ، فعاتبه الله تعالى ، وكان ذلك صغيرة من النبي عليه‌السلام ـ ؛ لأن قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) دلالة على الخطيئة ، وكذلك قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).

وقيل : لم يكن ذنبا ولكن تركا للأفضل ، فالمعنى لم أذنت لهم بترك الأفضل.

وقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) جيء به لتعظيمه كما يقال : عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ، والأول عن أبي علي وغيره.

وقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) ويعني بالوحي ، أو بالفحص ، والمراد فإذا تبين لك الذين صدقوا فلك أن تأذن.

إن قيل : إذا كانت المعاذير صادقة سقط النفير عنهم من غير استئذان فكان الإذن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يفيد؟

٤٢٨

ولعل جوابه أن إذنه عليه‌السلام بيان لإذن الله ،

وقد قال المنصور بالله في المهذب : من ترك الجهاد مع الإمام ، واعتل بأنه يعين بالمال ، أو أنه قد وقع له إذن من الإمام سقطت عدالته ، وحكم بخطئه ، فحصل من هذا وجوب الفحص على الإمام ، وأن إذنه لا يفيد من لا عذر له ، ومن كان له عذر استغنى عن إذن الإمام.

قوله تعالى

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة : ٤٤ ـ ٤٥]

ثمرة ذلك : التحريض على الجهاد والمدح على من حرّض عليه ، وذم من حاص عنه ، وذلك لأنه تعالى بين حال المؤمنين وشدة حرصهم على الجهاد بأنه ليس من عادتهم الاستئذان وهو طلب الإذن ، لكن للمفسرين في معنى ذلك قولان :

الأول : محكي عن ابن عباس ، والأصم ، وأبي علي.

قال الحاكم : وأكثر المفسرين أن المراد لا يستأذنونك في القعود ، وترك الجهاد بالمعاذير الكاذبة ، كما كانت عادة المنافقين.

والثاني : أن المراد لا يستأذنونك في الجهاد تملقا ، بل يكتفون بالدعاء العام ، عن أبي مسلم.

وقوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فيه المعنيان.

ابن عباس ومن معه : في القعود.

وأبو مسلم : في الخروج للجهاد تملقا.

٤٢٩

تنبيه : يقال عادة عدّة من الفضلاء طلب استطابة نفوس الأئمة بطلب الإذن من الإمام في التأخر ، أو ترك الهجرة ، فهل لذلك من فائدة؟ أو الأفضل ترك ذلك؟

ولعل الجواب والله أعلم على ما يفهم من كلام المفسرين أن ذلك لا يفيد مع عدم العذر ، ومع العذر هو مستغن عن الإذن ، وقد تقدم قول المنصور بالله في هذا ، وإنما تكون فائدته كشف العذر واستطابة نفس الإمام ، واستعلاما له ، هل العذر الذي طلب الإذن لأجله عذر في رأي الإمام أم لا؟

قال جار الله : وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبدا ، ولنجاهدنّ معه بأموالنا وأنفسنا.

قوله تعالى

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) [التوبة : ٤٦ ـ ٤٧]

من هذه الآية الكريمة نقتطف ثمرات هي أحكام شرعية :

الأولى : من قوله : (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) وذلك أن عدة الحرب من الكراع والسلاح ، وجميع ما يستعان به على العدو من جملة الجهاد فما صرف في المجاهدين صرف في ذلك ، وهذا جلي فيما يتقى به من نكاية العدو ، كالدروع والمجانّ ، وما ينكى به العدو من السلاح والنبال.

فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والمراوح والطبول ونحو ذلك مما يضعف به قلب العدو فهو داخل في الجهاد ، وقد قال تعالى في

٤٣٠

سورة الأنفال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ويكون ذلك كلباس الحرير حالة الحرب ، وهذا جلي حيث لا يؤدي إلى السرف ، والتشبه بالفساق ، نحو استعمال الملاهي.

الثانية : أن الفعل يحسن بالنية ، ويقبح بالنية ، وإن استويا في الصورة ؛ لأن النفير واجب مع نية النصرة ، وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ، وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل منه من إرادة المكر بالمسلمين.

الثالثة : أن للإمام منع من يتهم بمضرة المسلمين أن يخرج للجهاد فله نفي الجاسوس ، والمرجف ، والمخذل ، والمعنى : ولو أرادوا الخروج لتأهبوا له بالعدة.

وقوله تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) وذلك لأن خروجهم للفساد قبيح ، والأمر بالنفير الذي أمر به تعالى ، حيث يخلو عن القبيح.

وقوله تعالى : (فَثَبَّطَهُمْ) أي : خذلهم وضعّف رغبتهم في الانبعاث.

وقوله تعالى : (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ).

قال جار الله : جعل الله تعالى إلقاء الكراهة للخروج في قلوبهم أمرا بالقعود.

وقيل : هو قول الشيطان بالوسوسة.

وقيل : هو قولهم لأنفسهم.

وقيل : هو إذن رسول الله لهم في القعود.

فإن قيل : لم خطأ رسول الله في الإذن بالقعود والخروج قبيح؟

٤٣١

قيل : التخطئة في الإقدام بغير إذن (١).

وقوله تعالى : (إِلَّا خَبالاً) الخبال : هو الشر والفساد.

وقوله تعالى : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) الإيضاع الإسراع ، يقال : أوضع البعير وضعا إذا أسرع ، والخلال جمع خلل ، وهو الفرجة بين الشيئين ، وجمعه خلال ، كجمل وجمال ، والمعنى لا تسرعوا بينكم بالنمائم ، وإفساد ذات البين. وقيل : المعنى لا تسرعوا فيما يخل بكم.

وقرأ ابن الزبير : (ولأرقصوا) من رقصت الناقة رقصا إذا أسرعت ـ بالقاف ـ وهي قراءة شاذة ، وقرئ في الشاذة أيضا ولأوفضوا.

قوله تعالى

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [التوبة : ٤٩]

قيل : نزلت في المنافقين.

وقيل : في الجد بن قيس من المنافقين ، قيل : قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد علم قوم أني مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر ـ يعني بنات الروم ـ أن لا أصبر فلا تفتني بهن ، فأذن لي في القعود ، وأنا أعينك بمال ، فاعرض عنه رسول الله وقال : «أذنت لك» وهذا فيه تأكيد أن من طلب القعود لعذر لا يعذر له ، فإذن الإمام لا يفيد.

__________________

(١) هذا الجواب يصلح لمن لا يجيز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاجتهاد والجواب على قول من يجيز له ذلك وهو المقرب عند أهل أصول الفقه وهو الأخير من جوابي صاحب الكشاف فليراجع تمت.

٤٣٢

قوله تعالى

(وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) [التوبة : ٥٤]

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : قرأت في بعض الأخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره للمؤمن أن يقول : كسلت ؛ كأنه ذهب إلى هذه الآية ، فإن الكسل من صفات المنافقين ، فما ينبغي للمؤمن أن يسنده إلى نفسه.

وقوله تعالى

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٥٥]

قيل : بالسبي والغنيمة ، وقيل : بالمصائب.

وقيل : المعنى لا تعجبك في الحياة الدنيا ، فإن بالله يريد أن يعذبهم بها في الآخرة ، وفي الآية دلالة على أن الكافر مخاطب بالواجبات.

قوله تعالى

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة : ٥٨]

نزلت في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم غنائم حنين فقال له : اعدل يا رسول الله ، فقال : «ويلك ، إن لم أعدل فمن يعدل».

وقيل : في ابن أبي الحوّاظ (١) من المنافقين ، وقيل : غير ذلك.

وفي تعقيب هذا بقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) إشارة إلى

__________________

(١) في الكشاف والبيضاوي والنيسابوري بحذف لفظ ابن.

والجوّاظ بالمعجمة الكثير اللحم المختال في مشيته ويقال للذي جمع ومنع وفي الحديث لا يدخل الجنة جوّاظ تمت شمس العلوم

٤٣٣

أن من خرج عن أهل الصدقات لا يعطى لأجل لمزه إن لم يعط ، فيتفرع على هذا أن من خاف الإمام من أذاه لم يكن من أهل الصدقات ، والله أعلم.

قوله تعالى

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٦٠]

اعلم أن ثمرات هذه الآية متكاثرة وهي منقسمة إلى ما قد خصص ، وخرج عن دلالة الظاهر ، وإلى ما هو باق على دلالة اللفظ ، ونحن نتبع ذلك شيئا فشيئا بمشيئة الله ، ونترجم ذلك بنكت.

النكتة الأولى : تتعلق بقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) وهذا اللفظ بعمومه يجمع الصدقة الواجبة ، والصدقة التي هي نافلة ، ثم إن الصدقة الواجبة تتنوع أنواعا :

منها : الزكوات بما هو العشر ، أو نصف العشر ، أو ربع العشر ، أو زكاة المواشي ، والفطرة.

ومنها : الكفارة : نحو كفارة اليمين ، والظهار ، والصلاة ، والصوم ، وما يتعلق بالحج من الفداء والجزاءات ، والكفارات.

ومنها : ما يجب صرفه من المظالم ، واللقطة.

ومنها ما يؤخذ من أموال الكفار ورءوسهم ، ولهذا سمى الله تعالى الغنائم صدقة في سبب نزول الآية ، وذلك في قسمة غنائم حنين ، فإذا كان هذا اللفظ يعم ما ذكر فهل تحمل الآية على عمومها في قسمتها على ما ذكر أو يخص البعض.

٤٣٤

واعلم أن الكلام يتعلق بطرفين :

الأول : في عموم الصدقات.

والثاني : ذكر المصارف.

فالذي يفيده إطلاق اللفظ : أن جميع الصدقات تشترك فيها الأصناف الثمانية ، كما لو قال قائل : ما بيدي من المواشي لزيد وعمرو وبكر وخالد ، فإن جميع ما بيده من أصناف المواشي يكون بين المذكورين أرباعا.

وقد اختلف المفسرون فقيل : أراد الزكوات ، وقيل : الصدقات عموما.

واعلم أن العلماء ـ رضي الله عنهم ـ قد قسموا الصدقات وجعلوا مصارفها مختلفة ، فالكفارة لم يذكروا أنها تصرف في الثمانية المصارف ، وقد ورد قوله : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) و (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) وورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في فدية الصوم «أطعم عن كل يوم مسكينا» وورد قوله تعالى في سورة البقرة : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) وورد في الفطرة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أغنوهم في هذا اليوم».

وقد حكى السيد يحيى في كتابيه : (الجوهرة) و (الياقوتة) أنه لا يجوز التأليف بها عند القاسم ، والهادي ، وأبي طالب ، ويجوز ذلك عند المنصور بالله.

وورد في الغنيمة قوله تعالى : (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ).

فيقال : هل هذه الأدلة مخصصة لعموم لفظ الصدقات ، وأن الزكوات مجمع عليها في أن مصرفها الثمانية الأصناف؟ أم كيف تنزيل الأدلة على القواعد الأصولية (١) .....

__________________

(١) بياض في الأصل.

٤٣٥

وأما ذكر المصارف فقد قلنا : ظاهر اللفظ يقضى بالقسمة بين الثمانية الأصناف ويؤيد هذا وجهان :

الأول : ما يقتضيه اللفظ اللغوي أن الواو للجمع والاشتراك.

والثاني : ما رواه أبو داود في سننه أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أعطني من الصدقات؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيك حقك» وقد ذهب إلى هذا الشافعي وعكرمة ، والزهري ، إلا أن يستغني أحدها دفع إلى الآخرين ، بلا خلاف.

وذهب طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد :

طائفة من الصحابة وهم : عمر ، وابن عباس ، وحذيفة.

وطائفة من التابعين وهم : عطاء ، وإبراهيم ، وسعيد بن جبير ، والحسن.

وطائفة من الأئمة : قال في الشفاء : الهادي ، والقاسم ، وأسباطهما ، وزيد ، والمؤيد بالله.

قال : وهو قول القاسمية والناصرية جميعا.

وطائفة من الفقهاء وهم : أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك.

قال في التهذيب : وادعى فيه مالك الإجماع ، وخرجوا عن ظاهر دلالة الآية المذكورة والخبر بوجوه :

الأول : أن الله تعالى قال في سورة البقرة : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فدلت على أنه تعالى ذكر العدد لبيان جنس من يستحقها.

الثاني : الخبر وهو قوله عليه‌السلام لمعاذ : «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم».

٤٣٦

الثالث : حديث سلمة بن صخر فإنه عليه‌السلام جعل له صدقة بني زريق.

الرابع : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه.

الخامس : المعارضة للفظ بالمعنى فإن المقصود منها سد الخلة.

قال صاحب النهاية : هذا أقرب إلى المعنى والأول أقرب اللفظ ، ويؤيد هذا. أنها مستحقة بالمعنى لا بالاسم. لأنا لو قلنا : تستحق بالاسم لزم أن من كان فقيرا ، غازيا ، غارما ، مسافرا أن يستحق سهاما ، وأجمع أنه لا يستحق سهاما لهذه الأسباب جميعا.

ثم نعود إلى ذكر الأصناف صنفا صنفا.

فقوله : (لِلْفُقَراءِ) دلالة اللفظ تقضي بالاستغراق. ولما كان متعذرا سقط الاستغراق.

وهل يحمل على الجنس أو على أقل الجمع؟

قال الشافعي : يحمل على أقل الجمع وهو ثلاثة.

وقال محمد : إلى اثنين.

ومذهبنا ، وأبي حنيفة : أن المراد الجنس فيجوز في واحد ؛ لوجهين :

الأول : ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل صدقة بني زريق لسلمة بن صخر.

الثاني : أن الاستغراق لما تعذر حمله على الواحد كما إذا قال : لا أتزوج النساء ولا أشرب الماء حمل على الأقل. قال في الشرح : وقياسا على النذور ، مفهومه أن ذلك وفاق.

وللمؤيد بالله قولان في الوقف على الفقراء هل يحمل على الجنس أو في أقل الجمع ، وهو كالنذر فهذه دلالة اللفظ.

٤٣٧

وأما دلالة المعنى ففي ذلك نكتتان :

الأولى : في ماهية الفقير.

والثانية : من يخرج من عموم اللفظ.

أما الأولى : وهي ماهية الفقير الذي له أخذ الزكاة ففي ذلك أقوال :

الأول : إطلاق أهل المذهب أنه الذي لا يملك إلا المنزل وثياب الأبدان ، والخادم ، وسواء بلغ النصاب أم لا.

قيل : وزيادة لا تبلغ النصاب ، وآلة جهاد عام أو خاص ، من فرس ، ودرع ، ونحو ذلك ، بلغ النصاب أم لا.

القول الثاني : يحكى عن الناصر ، والشافعي : أن المانع من أخذ الزكاة أن يملك الكفاية إلى الدخل ، وقد يخرج للمرتضى وأبي طالب.

وفي النهاية : عن الشافعي المانع أقل ما يقع عليه الاسم من الغنى.

وعن مالك : يرجع في حد الغنى إلى الاجتهاد ؛ لأنه يختلف باختلاف الحاجات ، والأشخاص والأمكنة.

وفي التهذيب : عن الثوري : من ملك خمسين درهما ، ورواه في الترمذي عن الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وعبد الله بن المبارك.

وقيل : من ملك أربعين درهما ، وقيل : بحسب أحوال الناس من غير تقدير ، وهو اختيار القاضي.

وقيل : المال الكثير لا يمنع إذا لم يكن له كسب.

إن قيل : من أين نشأ هذا الخلاف؟ وبما ذا تعلق هؤلاء في أقوالهم؟

قلنا : من قال بالنصاب الشرعي جعل ذلك من اعتبار الشرع ، وقد ورد قوله عليه‌السلام : «أمرت أن أخذها من أغنياءكم وأردها في فقرائكم» وإذا كان الأغنياء هم أهل النصاب وجب أن يكون الفقراء ضدهم.

٤٣٨

ومن لم يعتبر النصاب رجع إلى المعنى اللغوي ، ثم اختلفوا فمن قال : أقل ما يقع عليه الاسم من الغنى مانع ، قال : اطّرده : بمعنى أن النصاب مانع ، ولو لم يكفه هو ومن يمون إلا مدة يسيرة.

ومن قال : هو غير مقدر بل يختلف بالحالات من الأشخاص والأماكن والمؤن الكثيرة ، والقليلة جعل لكل غنىّ.

ومن قدر بالخمسين أو الأربعين تعلق بما رواه أبو داود بإسناده إلى النبي عليه‌السلام أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن سأل ومعه ما يغنيه جاء يوم القيامة خموش أو كدوح أو خدوش في وجهه» فقيل : يا رسول الله وما الغنى؟

فقال : «خمسون درهما ، أو قيمتها من الذهب». وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا» والأوقية أربعون درهما.

قلنا : هذا خرج للنهي عن السؤال ، وقد ورد في النهي عن السؤال ما رواه أبو داود من سأل ومعه ما يغنيه فإنما يستكثر من النار ، فقالوا لرسول الله وما يغنيه؟ فقال : «قدر ما يغدّيه ويعشيه».

وقد جمع بين الأخبار فقيل : أراد بقوله : «ما يغديه وما يعشيه» غنى النفقة ، وبالأربعين والخمسين غنى الكسوة ، ثم إن ثم فروعا نشأت :

منها : إذا ملك من أصناف من كل مال دون النصاب :

فعن الأمير الفاضل جمال الدين علي بن الحسين أنها تحرم ، وأنه قد صار غنيا عرفا.

وذكر السيد يحيى بن الحسين أن هذا لا يعتد به لاختلاف العرف ، والأول أظهر.

ومنها : إذا ملك سلعا أو أراضي قيمتها النصاب ، فقال المؤيد بالله :

٤٣٩

وتخريج الحقيني والأزرقي يحرم عليه ؛ لأن ذلك قد يجب فيه الزكاة ، لو كان للتجارة.

وقال الحقيني وخرجه الأزرقي أيضا : يجوز له لأنه ليس بغنىّ في الشرع ، والتقدير بأنه قد يكون به غنيا في صورة ينتقض بمن ملك من الحب دون نصابه ، وقيمته نصاب من النقد ؛ لأنه قد يملكه للتجارة ، والخلاف حيث لم يصر غنيا عرفا كأن يملك من الأراضي ما يساوي أموالا جمة.

ومنها : إذا كان فقيرا وقبض النصاب أو أكثر منه في حالة واحدة هل يجوز له ذلك أم لا؟

فعلى قول الشافعي ، ومالك ، وقاضي القضاة ، وعبد الله بن الحسن (١) : إن العبرة بالكفاية ـ يجيزون له أخذ الكفاية ، وإن كان أنصباء بناء على أنه لا يطلق عليه اسم الغنى إذا لم يكن معه قدر حاجته.

ومن اعتبر الغنى الشرعي ، اختلفوا : فالذي نص عليه الهادي عليه‌السلام : أنه لا يجوز ، وهو قول أحمد بن عيسى ، والحسن بن زياد ، والوجه أن تملك الصدقة صادف حال الغنى.

وقال القاسم والمؤيد بالله : يجوز ، وهو قول أبي حنيفة ، ومحمد ؛ لأن حال الملك حال الفقر.

ويقال في التحقيق : علة الملك هي الفقر ، وعلة الغنى هي الملك يظهر بذلك ترجيح قول القاسم والمؤيد بالله لأنه ملك أولا ، وبعد الملك حكم عليه بالغنى.

وإن نظرنا إلى أن الإباحة تعلقت بقدر الحاجة والزائد ممنوع فأشبه قول القائل أعط زيدا درهما فأعطى درهمين ظهر ترجيح قول الهادي.

__________________

(١) هو العنبري تقدمت ترجمته.

٤٤٠