تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

تجارة عظيمة ، ومعها أربعون راكبا ، منهم أبو سفيان ، وعمرو بن العاص ، وعمرو بن هشام ، فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين ، فأعجبهم تلقي العير ؛ لكثرة الخير ، وقلة القوم ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم ، فخرجوا على كل صعب وذلول ، فنزل جبريل عليه‌السلام فأخبر النبي عليه‌السلام ووعده إحدى الطائفتين إما البعير ، وإما النفير ، فاستشار عليه‌السلام أصحابه وأخبرهم ، فاختاروا العير ، فغضب عليه‌السلام حتى قام أبو بكر ، وعمر ، وسعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ ، فأحسنوا القول ، وقال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض بنا لما أمرك الله ، فسرّ رسول الله وفرح ، وقال : «إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين» (١) والمعنى من الآية في قوله

__________________

(١) وفي الكشاف في هذا المعنى ما لفظه : فقام عند غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض. فو الله لو سرت إلى عدن أبين. ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله ، امض لما أمرك الله ، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس وهو يريد الأنصار ، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : أجل ، قال : قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّبه عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبسطه قول سعد ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم.

٣٢١

تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) أي : حالهم في كراهة تنفيلك كحالهم في كراهة خروجك من بيتك ، فيكون محل الكاف الرفع على أنه خبر ، أو يكون قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) صفة لمصدر محذوف تقديره : ثبتت الأنفال ، واستقرت لله وللرسول مع كراهتهم ثباتا مثل إخراج ربك إياك من بيتك (١) وهم كارهون.

ولهذه الآية ثمرات :

منها : جواز تغنم أموال الكفار ، ولا إشكال في ذلك إذا كان في حال الحرب ، وجواز قتلهم ، وذلك معلوم.

ومنها : جواز كراهة المسلمين للقتال إذا كان ذلك كراهة طبع ، لا كراهة للحق.

ومنها : جواز طلب الرخصة ؛ لأنهم اختاروا العير ، وقيل : كرهوا قتالهم لعدم العدة ، فإنهم لم يكن معهم إلا فارسان (٢).

ومنها : أنه يفعل الأصلح للإسلام ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار النفير على البعير لما فيها من الشوكة والقوة ، وبأخذهم يتقوى الإسلام.

__________________

(١) ومثل هذا اللفظ في الكشاف ، ولفظ الكشاف (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) فيه وجهان أحدهما. أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره. هذه الحال كحال إخراجك. يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني : أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي : الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. (ومِنْ بَيْتِكَ) يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مهاجره ومسكنه ، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه.

(٢) في سيرة ابن هشام ثلاثة : فرس مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وفرس المقداد بن عمرو ، وفرس الزبير بن العوام ، وكان في المشركين مائة فرس. وفي هامشها صوابه مائتي فرس.

٣٢٢

ومنها : استحباب مشورة المسلمين ، واستطابة قلوبهم ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استشارهم.

ومنها : أن للإمام المخالفة لرأي المسلمين إن رأى المخالفة أصلح ؛ لأنه عليه‌السلام كره ما أحبوه ، وأشاروا به ، وهو أخذ العير ، وترك النفير ، والمجادلة كانت من المسلمين ، عن ابن عباس ، وابن إسحاق ، وأبي علي : جادلوا طلبا للرخصة ، وقيل : لعدم علمهم عدد الملائكة وكانوا قلة.

وقيل : المجادلة من المشركين (١) ، عن ابن زيد ، كراهة للحق ، وقد روي أن عبد الله بن أبي أشار بالوقوف في المدينة ، فلما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجع في ثلاثمائة ، وكره خروج النبي عليه‌السلام ، وصحّح الأول ؛ لأن سياق الآية راجع إلى المؤمنين.

وقوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ) يدل على حسن طلب النصرة من الله والاستغاثة به ، واستنجاز ما وعد ؛ لأنه ـ عليه‌السلام ـ لما رأى كثرة المشركين قال : «اللهم أنجز لي ما وعدتني».

وتدل القصة على أن الإرهاب على الكفار ، وتكثير سواد المسلمين من جملة الجهاد ، وقد جاء في حديث : «من كثر سواد قوم فهو منهم».

قوله تعالى

(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١]

يعني : من الجنابة والحدث ، وذلك دليل على أن الماء طهور.

وفي قوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١] دليل على أن ذلك نعمة من الله

__________________

(١) صوابه من المنافقين.

٣٢٣

سبحانه ، وقد ورد في الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا جاء أول المطر خرج حتى يصيب جسده منه ، تبركا به ويقول : «إنه حديث العهد بربه».

وقد روي أنه فعله ابن عباس ، فقيل : له في ذلك فقال : أما قرأت قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) فأحب أن يتلقاني من بركته.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سال الوادي قال لأصحابه : «اخرجوا بنا إلى هذا الذي سماه الله طهورا حتى نحمد الله عليه ، ونتطهر منه».

ويستحب أن يدعو عند نزوله ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اطلبوا الله سبحانه عند ثلاث : عند التقاء الجيوش ، وإقامة الصلاة ، ونزول المطر».

وقوله تعالى

(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [الأنفال : ١٢]

قيل : الأمر للملائكة ؛ لأنه متصل بقوله : (فَثَبِّتُوا) وقيل : للمؤمنين ، قيل : أراد الأعناق كقوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) ، وقيل : أراد الرءوس وهي فوق الأعناق ، وقيل : أمر بضربهم في المقتل وغير المقتل.

وقيل : خص هذين المحلين ؛ لأن ضرب البنان يبطل النفع كضرب الرقاب.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : ١٥ ـ ١٦]

٣٢٤

النزول

قال الأصم : أجمع المفسرون أنها نزلت يوم بدر ؛ لأنه لم يكن لهم فئة ، وقيل : نزلت فيه وفي غيره.

وقوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً).

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : هو حال من الذين كفروا ، والزحف الجيش الدهم ، يعني : العدد الكثير الذي يرى لكثرته كأنه يزحف ، أي : يدب دبيبا ، ومنه : زحف الصبي ؛ إذا دب على استه قليلا قليلا ، والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم جمع كثير فلا تنفروا فضلا أن تقاربوهم في العدد ، أو حال من الفريقين أي : متزاحفين أنتم وهم ، أو حال من المؤمنين (١).

ثمرة الآية : تحريم الفرار ووجوب المصابرة ، وأن التولي والإدبار من الكبائر ؛ لأنه تعالى توعد عليه ، إلا أن يكون لأحد أمرين :

الأول : التحرف للقتال ، وهو الكر بعد الفر ، وذلك أن يخيل لعدوه أنه يفر ، ثم يعطف عليه ، وهو باب من خدع الحرب ، ومنه الحديث عنه عليه‌السلام : «الحرب خدعة».

الثاني : أن يتحيز إلى فئة ، وهي جماعة أخرى من المسلمين ، سوى الفئة التي هو فيها ينحاز إليهم لينصروه ، ويعودوا معه للقتال ، وقيل : الإمام وجماعة من المسلمين.

__________________

(١) ولفظ الكشاف (زَحْفاً) حال من الذين كفروا. والزحف : الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف ، أي يدب دبيبا ، من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلا قليلا ، سمي بالمصدر والجمع زحوف والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفرّوا ، فضلا أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، أو حال من الفريقين. أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم ، أو حال من المؤمنين).

٣٢٥

واختلف العلماء في دلالة الآية ، فعن الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وأبي سعيد الخدري : أن الآية مخصوصة بيوم بدر ، وقد كان خرج المسلمون جميعا ، فمن فر لم يفر إلى فئة ، فأما في غير يوم بدر فيجوز الفرار ؛ لأن الفئة حاصلة وإن بعدت.

وروي عن ابن عمر : خرجت في سرية وأنا فيهم ففروا ، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون؟ فقال : «بل أنتم العكّارون ، وأنا فئتكم» والعكار : الكرار.

وانهزم رجل من القادسية ، فأتى المدينة إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : يا أمير المؤمنين : هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر : أنا فئتك ، فهذا قول : إن ذلك خاص بيوم بدر.

القول الثاني : أن ذلك عام ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وأبي مسلم.

قال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء ، والآية وإن نزلت يوم بدر فلا يجب قصرها عليه ، وهذا هو الظاهر من أقوال الأئمة ، وقد ادعى أبو طالب الإجماع ، ونظّر دعواه للإجماع بما يحكى من الخلاف.

وإذا قلنا : إن النهي عن الفرار ليس بمخصوص بأهل بدر ، فاختلف العلماء على أقوال :

الأول : أنه يحرم إذا بلغ جيش المسلمين اثني عشر ألفا أو أكثر ، لا إذا كان دون ذلك.

الثاني : أنه يحرم إذا كان عدد الكفار لا يبلغ ثلاثة أمثال عدد المسلمين ، فإن بلغ عددهم ذلك حل الفرار.

القول الثالث : وهو الذي صححه الحاكم أن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده ، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار ، وإن ظن الهلاك جاز الفرار ، لقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وهذا

٣٢٦

الذي ذكره أنه يجوز مع خشية الهلاك الفرار إلى فئة وإن بعدت ـ إذا لم يقصد الإقلاع عن الجهاد ، وحمل عليه حديث ابن عمر ، ويكون حكم الآية باقيا غير منسوخ.

القول الرابع : ما ذكره أبو طالب ، وحكاه عن الكرخي أن الثبات والمصابرة واجب إذا لم يخش الاستئصال ، وعرف عدم نكايته للكفار ، والتجأ إلى مصر للمسلمين أو جيش ، وهكذا أطلق في (شرح الإبانة) ، فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة.

قال الفقيه بدر الدين محمد بن سليمان ـ رحمه‌الله تعالى ـ : الأولى أن يقال : إذا خشي استئصال المسلمين ، أو أنه يلحقهم وهن جاز الفرار ، ولو عرف النكاية ؛ لأن خشية الاستئصال تبيح قتل المسلم الذي تترس به الكفار ، فيكون هذا أولى وأخرى ، ونتأول كلام أبي طالب على هذا.

قال الحاكم : وتكون الآية ثابتة ، وحكمها ثابت على التفصيل.

وقال عطاء بن أبي رباح : إنها منسوخة بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ).

قال الحاكم : إذا أمكن الجمع فلا نسخ ، وهؤلاء الذين اعتبروا التفصيل من أبي طالب ، والكرخي لم يعتبروا العدد.

وقال الإمام يحيى : هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة ، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافا كثيرة ؛ لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً) فأوجب الله المصابرة على الواحدة للعشرة ؛ لأنه خبر معناه الأمر ، فلما شق ذلك على المسلمين رحمهم‌الله تعالى ، وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين ، فقال تعالى في السورة هذه :

٣٢٧

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ).

وعن ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فلم يفر ، فمع هذا لا يجوز الفرار إلا لأحد الأمرين ، وسواء كان الفئة التي فر إليها قريبة أو بعيدة لحديث ابن عمر ، يعني : من الفرار لضعفي عدد المسلمين.

قال الإمام عليه‌السلام : فإن غلب على ظنه أنه إن لم يفر هلك ، لم يجب الفرار وفاقا.

وفي الجواز احتمالان : يجوز لئلا يهلك نفسه ، ولا يجوز لظاهر الآية.

وفي مهذب الشافعي إذا زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين جاز الفرار ، لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون ، فالأفضل الثبات ، وإن ظنوا الهلاك فوجهان : يلزم الانصراف ، لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

الثاني : يستحب ولا يجب ؛ لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة.

وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار ، وإن ظنوه فوجهان : يجوز لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ولا يجوز ، وصححوه لظاهر الآية (١).

فرع

ذكره في الانتصار قال : إذا لقى رجلا مسلما رجلان من أهل الحرب ، وطلباه القتال جاز له الفرار ؛ لأنه غير متأهب ، فإن كان طالبا

__________________

(١) وظاهر المذهب أنه لا يجوز الفرار إلا إلى فئة ، أو لخشية الاستئصال ، أو نقص عام في الإسلام ، كما اختاره الإمام المهدي عليه‌السلام.

٣٢٨

لهما ، احتمل أن لا يجوز ، كما لو كانوا جماعة ، واحتمل أن يجوز ، وهو المختار ؛ لأن فرض الجهاد إنما يجب على الجماعة دون الأفراد.

وقال أبو طالب : وكذا القول في قتال أهل البغي : إنه لا يجوز الفرار.

تكملة لهذه الجملة

وهي أن يقال : قد ثبت في الآية أن الفرار لغير الأمرين من الكبائر.

وقد روي عن ابن عباس «أن الفرار من الزحف من أكبر الكبائر» حكاه في الكشاف.

وهذا جلي فيمن فر يوم بدر ، فما حكم من فر بعد يوم بدر إلى وقتنا ـ هل يقطع بفسقه؟ وتكون الدلالة عليه قاطعة؟ أو يقال : التفسيق لا يكون إلا بدليل قاطع؟

جواب ذلك : أنه إن فر غير متحرف ، ولم يكن ذلك لخشية هلاك ، ولا كان عدد الكفار زائدا على مثلي عدد المسلمين ، وكان فراره إلى غير المجاهدين ، فالدلالة قائمة بفسقه ، وإن اختل أحد ما ذكرنا بأن يخشى الهلاك دون النكاية ، أو كان العدد من الكفار أكثر من مثلي عدد المسلمين ، فقد صارت المسألة خلافية ، فلا يقطع بفسقه.

قال الإمام عليه‌السلام في الانتصار : ومن فر ثم مات ولم يتب ، فرأي الزيدية وجماهير المعتزلة أنه يقطع بعذابه ، ورأي المرجئة ، وهو محكي عن الشافعي : أنه لا يقطع بعذابه ، وهذه المسألة من مسائل علم الكلام ، وشرحها في كتبه.

قوله تعالى

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧]

قيل : أراد بذلك ما فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر ، وذلك أن قريشا لما طلعت

٣٢٩

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني اسألك ما وعدتني» فجاءه جبريل عليه‌السلام فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فقال لما التقى الجمعان لعلي ـ رضي الله عنه ـ : «اعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها في وجوههم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه ومنخريه منها شيء فانهزموا».

ثمرة ذلك أنه يستحب للإمام إذا لقي العدو أن يفعل كما فعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمى بثلاث حصيات في الميمنة والميسرة ، وآخرهن وراء ظهره.

وقيل : نزلت يوم خيبر ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمى بسهم فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق (١) وهو على فرسه.

وقيل : في يوم أحد فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمى بحربة فأصاب أبي بن خلف ، وكسر ضلعا من أضلاعه ، فحمل وهو يقال له : لا بأس عليك ، فقال : لو كان مآبي بالناس لقتلهم.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤] الاستجابة بمعنى الإجابة ، قال الشاعر (٢) :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

__________________

(١) ينظر في الرواية ، فالثابت أن قتل ابن أبي الحقيق كان في حصنه ، وذلك في بعث بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتله لما كثر أذاه ونكايته في المسلمين ، فانتدب له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعة من الخزرج ، أمر عليهم عبد الله بن عتيك. فقتلوه داخل حصنه. وانظر سيرة ابن هشام وغيرها.

(٢) وبعده :

فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة

لعل أبا المغوار منك قريب

٣٣٠

قيل : أراد بالدعاء التحريض على الطاعة ، وبالإجابة الامتثال.

وقيل : الدعاء إلى الجهاد ؛ لأنه تحصل به الحياة ، مثل قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).

وقيل : إلى الشهادة ، لقوله تعالى : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ).

وقيل : إلى العلم ؛ لأن الجهل موت ، ولبعضهم :

لا تعجبن الجهول حلته (١)

فذاك ميت وثوبه كفن

وقيل : إلى الإيمان ، وقيل : إلى القرآن ؛ لأن فيه الحياة والنجاة.

وثمرة الآية وجوب ما دعا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن المدعو إليه قد يكون فرضا على الأعيان ، وقد يكون من فروض الكفايات.

قال في الكشاف (٢) : وروى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصلاة ، فعجل في صلاته ثم جاء فقال : «ما منعك عن إجابتي»؟ قال : كنت أصلي ، قال : «ألم تخبر فيما أوحي إلي (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)» ، قال : لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك» قال جار الله : وفيه قولان :

أحدهما : أن هذا مما اختص به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والثاني : أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير ، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته ، تم كلام جار الله.

وهاهنا بحث وهو أن يقال : إذا كان الخروج في الصلاة واجبا فلم لم يأمره بالإعادة؟ جواب هذا من وجوه :

__________________

(١) في نسخة أ(حليته) وفي الكشاف (حلته) والبيت للزمخشري ، وقد أورده في الكشاف. لأنه إذا قال : ولبعضهم ، فالمراد أنه له.

(٢) الكشاف ٢ / ١٥١ ـ ١٥٢. بلفظه.

٣٣١

الأول : أن المخالفة لا تفسد العبادة ، ويكون هذا حجة للفقهاء الذين يقولون إذا صلى مع مطالبة الغريم صحة صلاته.

الثاني : أن هذا يشبه من صلى إلى غير القبلة معتقدا أنها القبلة.

وقلنا : إنه لا يعيد كما قال أبو حنيفة ، ويكون حجة له.

وأما على قول الهدوية الظاهر فهم يخالفون في الأمرين ، فيقولون في مسألة المطالب بالدين ، وبإزالة المنكر : لا تصح الصلاة إذا استمر ، ويقولون في مسألة القبلة : إذا علم الخطأ في الوقت أعاد (١) ، ويعللون فساد الصلاة مع المطالبة ، أو حصول المنكر بأنه قد صار مأمورا بالخروج ، وما منع الواجب قبح (٢).

ولعل الجواب على قولهم (٣) : إنه يقبح إذا كان المكلف قد عرف وجوب الخروج من الصلاة لا إذا لم يعلم ، ولم يخبره الرسول بأن الخروج كان واجبا عليه حتى فرغ من الصلاة.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال : ٢٧ ـ ٢٨]

النزول

قيل : نزلت في أبي لبابة.

__________________

(١) كمن صلى إلى غير جهة إمامه جاهلا.

(٢) ولأبي طالب احتمالان إذا صلى وصي يعرف : أنها تصح.

(٣) يعني : عن السؤال على أصل الهدوية. (ح / ص).

٣٣٢

قال في الكشاف (١) : روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير ، على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء ، من أرض الشام ، فأبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبوا ، وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن عبد المنذر ، وكان مناصحا لهم ؛ لأن عياله وماله في أيديهم ، فبعثه إليهم ، فقالوا : ما ترى هل ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار إلى حلقه إنه الذبح.

قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت ، فشد نفسه على سارية من سواري المسجد ، وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت ، أو يتوب الله عليّ ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه ، فقيل : له : قد تيب عليك فحل نفسك ، فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يحلني ، فجاء فحله بيده ، فقال : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يجزيك الثلث أن تتصدق به» [وهذا من التصلب في دين الله] وعن المغيرة : نزلت في قتل عثمان رضي الله عنه (٢).

وقيل : نزلت في رجل من المنافقين أفشى بسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لما روي عن عطاء بن أبي رباح قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : إن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «إن أبا سفيان في مكان كذا فاخرجوا إليه ، واكتموا» فكتب رجل من المنافقين إليه أن محمدا يريدكم ، فخذوا حذركم ، فأنزل الله هذه الآية.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١٥٣

(٢) هاتان القصتان نقلا من الكشاف باللفظ ، إلا ما بين قوسي الزيادة فمن المصنف.

٣٣٣

وقيل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ؛ لما كتب إلى مكة حين هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج إليها ، فكتب إليهم.

ثمرة الآية : النهي عن خيانة الله ورسوله ، وقد فسر ابن عباس بأن المعنى : لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سننه.

وعن الحسن : من ترك شيئا من الدين فقد خان الله ، واختاره قاضي القضاة ، وقيل : لا تخونوا بإظهار الدين في العلانية ، والمخالفة في السر ، وفعل المنافقين عن الحسن ، والسدي ، وأبي مسلم.

وقيل : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) في مال الله الذي هو الغنائم ، وسائر أموال الله ، وقيل : بترك النصيحة في دين الله ، وقيل : بإفشاء السر ، (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) قيل : إذا خانوا الله فقد خانوا أماناتهم ، وقيل : المعنى : أمانة بعضكم لبعض.

وقيل : الأموال أمانة في أيديكم فلا تخونوها في إنفاقها في المعاصي ، فيدخل في الخيانة جميع ما ذكر ، وكذلك إفشاء سر الغير.

ومنها الحديث : «المجالس بالأمانات» وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كلمك أخوك بكلمة فالتفت فتلك أمانة».

ويدخل في الخيانة عدم الحفظ ، والتفريط في الأمانات ، والفتوى بغير حق ، وكتم العلم ؛ لأن في الحديث : «العلماء أمناء الله على خلقه».

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) دل أن ذنب العالم بالخطيئة أعظم (١).

وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) يعني : امتحانا شديدا في التكليف ، وخص المال والولد لأنهما الداعيان إلى الخيانة ، والحرص على تثمير المال.

__________________

(١) وقد تقدم في أول البقرة في قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

٣٣٤

وقيل : إن الذي دعا أبا لبابة إلى إعلام بني قريظة ـ أنه كان له فيهم مال وولد ، فأراد أن يتقرب إليهم مخافة على ماله وولده ، وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول : اللهم إني أعوذ بك من الفتن ، فقال : إذا يزول مالك وولدك قل : إني أعوذ بك من مضلات الفتن.

قال الحاكم : وقد أمر الله تعالى بالعلم بذلك ، وطريق العلم به التفكر في أحوالهما ، وزوالهما ، وقلة الانتفاع بهما ، وكثرة الضر ، وأنه قد يعصي الله بسببهما.

ودل سبب نزول الآية على جواز إظهار الجزع على المعصية ، وإتعاب النفس ، وتوبيخها ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينكر على أبي لبابة ، ودل على أنه يستحب اتباع المعصية بالصدقة ؛ لأنه عليه‌السلام قال : «يجزيك ثلث مالك» وهذا سبيل قوله تعالى في سورة هود : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ).

قوله تعالى

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠]

وما ذكر في قصتها من خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستخلافه لعلي عليه‌السلام على ما معه من الودائع ـ دلالة على جواز إيداع الوديعة للعذر ، وذلك مجمع عليه.

قوله تعالى

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنفال : ٣٤]

المعنى : بيان استحقاقهم للعذاب بالصد عن المسجد الحرام ، وذلك منعهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن العمرة ، وقيل : من الصلاة عند الكعبة ، وعن

٣٣٥

الطواف ، وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم ، فنصد من نشاء ، وندخل من نشاء ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي : وما كانوا أولياء المسجد الحرام ، عن الحسن ، وأبي علي ، وأبي مسلم.

وقيل : أولياء الله.

دلت على أن المنع من المسجد الحرام كبيرة يستحق عليها العذاب ، وأنه لا ولاية لكافر ولا فاسق ؛ لقوله تعالى : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) فيكون هذا أيضا في المسجد الحرام ، وتقاس : سائر الولايات للمساجد ، وأموال الله تعالى ، فلا يأخذ الظالم زكاة ، ولا حقا لله تعالى ، ولا يولّ ولاية على شيء من أحوال الإسلام ؛ لأنه ليس بمتق.

وفي هذا فروع ومسائل ، بعضها مجمع عليه ، وبعضها مختلف فيه ، فولاية الإمام والقاضي والمحتسب إنما تكون مع العدالة والتقوى وفاقا ، وولاية الوصي ونحوه لا تجوز مع الخيانة ، ومع الأمانة والفسق الخلاف المعروف ، وطلب الولاية من الظلمة فيه الخلاف معروف (١) ، فمن أخذ من إشارة الآية في سلب الولاية منع ، ومن جوز ذلك خصص ذلك بأدلة خاصة.

قوله تعالى

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥]

المكاء : الصفير ، وقيل : الصوت ، والتصدية : التصفيق ، والمعنى : ما كان دعاؤهم عند البيت إلا المكاء والتصدية.

__________________

(١) في أ(فيه خلاف معروف).

٣٣٦

وسبب نزولها : أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة يصفقون ، ويصفرون ، ويخلطون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاته.

وقيل : نزلت في رجلين من بني عبد الدار كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قام إلى الصلاة يقوم أحدهما عن يمينه ، والآخر عن يساره يصفقان ، ويصفران ، يخلّطان عليه صلاته ، قتلا ببدر عن مجاهد.

وثمرة ذلك أنه لا يجوز التخليط على المصلي ، ولذا قال عليه‌السلام لما سمع من يقرأ : «خلطتم عليّ» وفي حديث عنه عليه‌السلام : «لا يمنعن قارئكم مصليكم».

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) [الأنفال : ٣٦]

النزول

قيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، استأجر ألفين ليقاتل بهم يوم أحد ، عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأنفق أربعين أوقية ، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا من الذهب ؛ ليصدوا عن سبيل الله.

وقيل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وهم اثنا عشر ، منهم عتبة ، وشيبة أبناء ربيعة ، وأبو جهل كان كل واحد يطعم كل يوم عشر جزائر (١).

وقوله تعالى : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي : تكوى بها جلودهم في نار جهنم (٢).

ثمرة الآية : حظر المعاونة على معصية الله ، وأن الإنفاق في ذلك

__________________

(١) الجزائر : جمع جزور ، وهي الناقة.

(٢) هكذا في نسخة ب بعد التصحيح ، وفي أ(أي : يكون بها خلودهم في نار جهنم).

٣٣٧

معصية ، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم ، وكذلك بيع الكراع والسلاح ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين ، وقد تقدم طرف من ذلك ، وأنه إذا قصد نفع نفسه (١) لا المعاونة ففي ذلك الخلاف السابق (٢) ، ويدخل في ذلك من أودع وديعة وطلبها صاحبها لينفقها في المعصية فإنه يكتمها ، ولا يسلمها كما ذكره أبو رشيد ، وقاضي القضاة ، وأبو مضر.

قوله تعالى

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال : ٣٨ ـ ٣٩]

النزول

قيل : نزلت في أبي سفيان وأصحابه ، والمعنى : قل لأجلهم (٣) هذا القول ، ولو أراد خطابهم لقال : إن تنتهوا يغفر لكم ، وهي قراءة ابن مسعود ، وقيل : هو عام.

ثمرة الآية أحكام :

الأول : أن الكافر إذا تاب من كفره وكان حربيا فإنه تسقط عنه جميع حقوق الله من زكاة ، وصيام ، وكفارة ، وحد زنى ، وشرب ، وقطع ، وكذلك حقوق بني آدم من قصاص ، وغصب ، وسرق ؛ لأن ذلك داخل

__________________

(١) أما في السلاح ، والكراع فلا يجوز ، ولو قصد نفع نفسه.

(٢) في تفسير قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.

(٣) الظاهر أن اللام للتعدية ، كما في قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ).

٣٣٨

في عموم قوله تعالى : (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) فإن كان معه أمانة لزمه ردها ، لقوله عليه‌السلام يوم فتح مكة : «كل دم أو مأثرة حق فإنه تحت قدمي هاتين ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر» فإن كان عليه دين لآدمي فظاهر المذهب أنه لا يسقط ، وذلك إذا كان قرضا ، أو من ثمن مبيع ، أو إجارة (١) ...

فإن كان عليه مظلمة لا يعرف لها مالك لم تسقط أيضا ؛ لأن ذلك (٢) ..

الثاني : إذا دخل الحربي (٣) في الذمة فإنه يسقط عنه ما يسقط بالإسلام ؛ لأن في دخوله في الذمة انتهاء عن الحرب ، وعن معاداة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) ..

الثالث : إذا أسلم الذمي فإنه يسقط عنه جميع حقوق الله تعالى المالية ، وكذلك الصوم والصلاة ، وأما الحدود (٥) .............

الرابع : إذا ارتد المسلم فإنه يسقط عنه جميع حقوق الله تعالى التي لزمته في حال الإسلام ، وفي حال الكفر ، عندنا وأبي حنيفة.

__________________

(١) بياض في الأصل. وفي (ح / ص) (القياس سقوطها لعموم الدليل ، وفي شرح النجري الآية خاصة في حقوق الله تعالى.

(٢) بياض في الأصل. وفي (ح / ص) (ينظر في عدم السقوط ، والصحيح السقوط)

(٣) العجمي مطلقا ، والعربي الذكر غير الكتابي.

(٤) بياض في الأصل ، وفي (ح / ص) «الذي يظهر عدم السقوط إذ لم ينتهوا عما هم عليه ، إذ أعظم ما هم عليه الكفر. يؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الإسلام يجب ما قبله).

(٥) بياض في الأصل. في (ح / ص) (قال في البيان : مسألة ـ ويسقط الحد بالإسلام من الكافر والمرتد ، إلا حد القذف في الذمي والمرتد فلا يسقط ، ومثله في الأزهار في حد الزنى).

٣٣٩

وقال الشافعي ، والوافي : لا تسقط ، وظاهر الآية معنا ؛ لأنه داخل في عموم اسم الكفار ، وللحديث : «الإسلام يجب ما قبله» (١) ...

وقوله تعالى

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال : ٣٩]

ثمرة ذلك الأمر بوجوب الجهاد مهما بقي كافر.

وقوله تعالى : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قيل : حتى لا يكون شرك ، عن ابن عباس ، والحسن ، وقيل : حتى لا يفتن مؤمن عن دينه ، عن ابن إسحاق ، والربيع.

قوله تعالى

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال : ٤١]

هذه الآية الكريمة تضمن ثلاثة فصول :

الأول : في بيان الغنيمة ما هي.

والثاني : في بيان مصرفها ، والحق الواجب فيها ، وبيان مصرف هذا الحق.

والثالث : في كيفية الإخراج.

أما الفصل الأول وهو في بيان الغنيمة

فقد ذكر في ذلك أشياء ، بعضها مجمع عليه ، وبعضها مختلف فيه ، وهي أنواع :

__________________

(١) بياض في الأصل قدر سطرين

٣٤٠