تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

المسألة الثالثة

إذا قتل السمك بعضه بعضا ، أو مات بحر الماء أو برده ، أو قتله طير الماء فهل يشبه بالطافي أو بالمصيد؟ فتحصيل أبي طالب ، وإطلاق القاسم ، وهو أحد قولي المؤيد بالله ، أن هذا يشبه الطافي فيحرم (١) ، وأحد قوليه ، والوافي : أن هذا يشبه المصيد فيحل.

قال في الشرح : وقد جوز ذلك أكثر الفقهاء ، منهم أبو حنيفة.

[المسألة] الرابعة

إذا صاد السمك كافر فلا خلاف في جواز أكله إلا عن الناصر ، حجة الأكثر عموم الآية والخبر ، ولا يقال : صيد الكافر كتذكيته ؛ لأنه لا يحتاج إلى تذكية ، وكذلك لو قطع قطعة من السمك وهو حي حلت لعموم الآية والخبر ، وقد ذكر ذلك الإمام يحيى ، وأحد وجهي أصحاب الشافعي.

والوجه الآخر يحرم لقوله عليه‌السلام : «ما أبين من الحي فهو ميت».

قلنا : سلمنا أنه ميت ، وميتة السمك حلال.

[المسألة] الخامسة

في طير الماء ، وقد قال جار الله : إنه من صيد البر ، وإن عاش في الماء ؛ لأنه يفرخ في البر.

وقوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) اختلف العلماء فيما تعلق به التحريم في الآية ، فقال أبو حنيفة وأصحابه : المعنى : أنه يحرم على المحرم الفعل الذي هو الصيد ، كأنه قال : وحرم عليكم ما صدتم في البر ، فيخرج من هذا مصيد غيرهم ، وتصيدهم حيث كانوا غير محرمين ؛ لأن المحرمين هم المخاطبون ، واستدل بقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا

__________________

(١) وهو المختار.

٢٠١

الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وقد روي هذا عن أبي هريرة ، وعطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وسواء صاده لأجله أم لا ، إذا لم يدل ولم يشر.

وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد : لا يباح له ما صيد لأجله ، هكذا في الكشاف.

وقال القاسم ، والهادي : يحرم على المحرم ما ينطلق عليه اسم الصيد من صيد البر ، ويجعلون التحريم يتعلق بالصيد ، سواء قتله المحرم أو غيره ، فدلالة الآية الكريمة محتملة أن التحريم متعلق بالصيد أو بالاصطياد ؛ لأن الصيد مشترك بين الفعل وبين المصيد ، وهذه مسألة أصولية هل يصح أن يراد باللفظة المشتركة كلا معنييها أم لا؟ على تفاصيل بينهم (١) ، فإذا قلنا بالصحة حرم على المحرم التصيد والمصيد معا ، وسواء صاده هو أو غيره ، وإذا قلنا : لا يطلق على معنييه رجع إلى الترجيح والاستدلال على المراد ، وقد ذكرنا تعلق أبي حنيفة بقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فجعل النهي يتعلق بالتصيد.

قال في النهاية : وقد أجمعوا أنه يحرم على المحرم ما صاده ، وقد ورد حديث الصعب بن جثامة (٢) قال : أهديت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحما من حمار وحش) وفي رواية (فخذ حمار وحش) وفي حديث (رجل حمار وحش) فرده وقال : «إنا محرمون» وفي بعضها : «ليس بنا رد عليك ولكنا محرمون» فعلق التحريم بالإحرام ، ولم يقل : هل هو صيد لنا؟ أو هل صاده حلال؟ أو محرم؟.

__________________

(١) يصح على المختار إرادة معاني المشترك ما لم يتنافيا.

(٢) الصعب بن جثامة : في طبقات ابن حجر : الصعب ـ بفتح أوله ، وسكون المهملة ـ ابن جثامة ـ بفتح الجيم ، وتشديد المثلثة ـ الليثي ، صحابي مات في خلافة الصديق على ما قيل ، والأصح أنه عاش إلى خلافة عثمان.

٢٠٢

وروي أن عليا عليه‌السلام لما رأى على مائدة عثمان الحجل ، واليعاقيب وهم محرمون ، قام فأنكر ذلك على عثمان.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بخمس بيضات من بيض النعام ، فقال : «إنا محرمون فأطعموه أهل الحل».

وقال في الحديث المسند إلى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «صيد البر لكم حلال ، ما لم تصيدوا ، أو يصاد لكم» وهذا رواه أبو داود ، وفي مسلم ، والسنن ، بالإسناد إلى أبي قتادة أنه كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه ، قال : فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا ، فسألهم رمحه فأبوا ، فأخذه ، ثم اشتد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بعضهم ، فلما أدركوا رسول الله سألوه عن ذلك فقال : «إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى» هكذا في مسلم ، والسنن.

وفي رواية في مسلم : أنه لما سئل رسول الله عن فعل أبي قتادة ، وأخبر أن معهم بقية قال : «كلوه» وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «هل معكم أحد أمره؟ أو أشار إليه بشيء؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا ما بقى من لحمها».

وفي رواية في مسلم : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أخبروه قال : «هل معكم منه شيء؟ قالوا : معنا رجله ، فأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكلها».

وفي مسلم عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي ، عن أبيه قال : كنا مع طلحة بن عبد الله ونحن حرم فأهدي له طير ، وطلحة راقد ، فمنّا من أكل ومنا من تورع ، فلما استيقظ طلحة وفّق من أكله (١) وقال : أكلناه مع رسول الله.

__________________

(١) أي : دعا له بالتوفيق ، واستصوب فعله. بستان.

٢٠٣

قال أبو داود : إذا تنازع الخبران ينظر بما (١) أخذ أصحابه؟ يجاب عن ذلك بأن العموم في الآية يرجح أحد الخبرين ، وبأن قول علي عليه‌السلام مرجح ، وبأن جانب الحظر يغلب ، ومن قال بالتفصيل بين أن يذبح لأجل المحرم أو لأجل غيره جمع بين الأخبار بالتفصيل ؛ لأن الأقوال ثلاثة ، هذا حكم من ثمرات الآية.

الحكم الثاني : إذا ذبح المحرم صيدا كان ميتة ، فيحرم عليه وعلى غيره من حلال أو محرم ، نص على هذا الهادي عليه‌السلام ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وأحد قولي الشافعي ؛ لعموم الآية ، وأحد قوليه : يجوز لغير الذابح.

ويتفرع على هذا لو اضطر محرم إلا أكله وأكل الميتة فعندنا وأبي حنيفة ، ومحمد ، ومالك ، وأحد قولي الشافعي : يقدم الميتة ؛ لأن تحريمه أغلظ ؛ لأنه محرم على المحرم ، لكونه صيدا ، ولكونه ميتة ، فقد اختص بوجهين من الحظر.

وقال أبو يوسف : وأحد قولي الشافعي يقدم الصيد ، أما الحلال فهما سيّان في حقه.

قال الفقيه سليمان بن ناصر : القياس أن يقدم ما اختلف فيه ؛ لأن تحريمه ظني ، وتحريم الميتة قطعي.

الحكم الثالث : أن الآية تقتضي تحريم دلالة المحرم على الصيد وإشارته ، وإعانته لغيره على صيده ، لأنه قد نهى عن قتله ، والأسباب داخلة في التحريم ، وكذلك يحرم عليه قبول هبته ، وإمساكه في يده ، ومنزله ، ويجب عليه إرساله ، ولا يصح منه تملكه ، ووجه الدلالة على

__________________

(١) لعله يريد أصحاب الحديث. وكان من حق ما الاستفهامية إذا لحقها حرف الجر أن يحذف ألفها ، إلا أن يكون المراد بمآخذ أصحابه.

٢٠٤

ذلك من الآية أن التحريم يتناول أفعالنا ، وقد قال تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) وهذا قول أبي حنيفة (١) ، وأحد قولي الشافعي ، وقوله الآخر : لا يلزمه إرساله.

ولو أحرم ومعه جلد صيد أو لحمه زال ملكه ، وحرم عليه استعماله ، كذلك إذا أحرم وفي منزلة صيد لزمه إرساله ، وزال ملكه ، هذا أحد قولي الشافعي.

وقال أبو حنيفة : واحد قولي الشافعي : لا يلزمه إرساله ، ولا يزول ملكه. حجتنا ما تقدم.

وإن أخذ الصيد حال الإحرام وأمسكه حتى حل لزمه إرساله ، فإن كان معه قبل الإحرام وأمسكه حتى حل فتردد أبو طالب في هذا (٢) ، والمخالف جعل هذا حجة له ، وشبهه بما لو لبس قميصا محرما (٣) ولم ينزعه حتى حل.

الحكم الرابع : إذا قتل الحلال صيدا في الحرم.

فقال مالك ، والشافعي ، وزفر : يجب عليه الجزاء كما إذا قتله وهو محرم.

وقال أهل المذهب ، وأبو حنيفة : ضمانه ضمان القيمة.

وقال داود : هو منهي عن ذلك ، ولا جزاء عليه ، أما تحريم قتله فقد

__________________

(١) يقال : إذا حمل أبو حنيفة لفظ الصيد على الاصطياد فلا يحتاج إلى تقدير ، فلا يؤخذ تحريم قبول الهبة والإمساك ، وانتفاء صحة التملك من هذه الآية ، والله أعلم. (ح / ص).

(٢) المختار : أنه يرجع إلى ملكه ؛ لأنه بقي له فيه حق يرجعه إلى ملكه.

(٣) نصب محرما هنا على أنه حال من الفاعل المستتر في لبس.

٢٠٥

استدلوا بقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وهذا يتناول من دخل الحرم ، كما يتناول من أحرم ، فلهذا قال الراعي :

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

يعني : في حرم المدينة.

وأما الجزاء الذي يجب على من دخل في الإحرام ، فقد أوجبه مالك ، والشافعي على من دخل في الحرم ؛ لأنه يطلق عليه أنه محرم ، كما سبق.

وقال أهل المذهب ، وأبو حنيفة : لا يجب هنا ؛ لأنه منع من ذلك لحق الغير ، فأشبه الحلال إذا قتل صيدا مملوكا ، والاستدلال بالآية على تحريمه ، وهي قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يلزم منه ما قاله مالك ، والشافعي ، ويلزم تحريم صيد البر على من دخل الحرم ، وإن صيد من غير الحرم لقوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ينفر صيدها» لا يلزم منه ذلك (١).

ولو أن الرامي كان في الحرم فرمى صيدا إلى الحل وهو حلال ، فحكى الفقيه محمد بن يحيى عن أصحاب الشافعي وجوب الجزاء ، وهذا جلي على استدلالهم بقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أنه يجب في ذلك الجزاء.

قال الفقيه محمد بن يحيى : ولا نص لنا ، قال : والأقرب أن لا شيء عليه (٢) ، والوجه فيما ذكره الفقيه محمد بن يحيى : أن هذا ليس من صيد الحرم.

__________________

(١) أي : لا يلزم منه تحريم صيد الحل على الحلال الداخل في الحرم.

(٢) وهو المختار للمذهب.

٢٠٦

واختلف أصحاب الشافعي إذا مرق السهم في جانب من الحرم ، وكان الرمي من الحل ، والإصابة في الحل هل يجب الجزاء؟

قال صاحب الوافي : لا شيء عليه في قطع السهم ، فعلى هذا يجوز عندنا لأهل الحرم أن يأكلوا صيد البر إذا صيد خارج الحرم ، وذبح خارج الحرم ، ثم أدخل الحرم.

إن قيل : إن من داخل الحرم يطلق عليه أنه محرم ، والصيد يطلق على المصيد ، فيلزم أن لا يجوز لمن في الحرم وإن كان حلالا أن يرمي صيدا إلى خارج الحرم ، ويلزم أن يحرم على من داخل الحرم ما ذبح خارج الحرم ، وإن كان غير محرم (١) ؛ لأنه محرم ؛ لأجل كونه في الحرم ، فبم يخرج من هذا؟ (سؤال) (٢) ..

وقد قال في الروضة : إذا قتل المحرم مصيدا في الحل ، وأكل منه في الحرم فلا قيمة عليه ، فحصل من هذا جواز أكل الصيد البري لمن داخل الحرم إذا ذبح خارجه.

قال أبو مضر والوافي : يغلّب جانب الحظر حيث يكون بعض قوائم الصيد في الحرم ، وبعضها في الحل.

قيل : ويغلب الحظر إذا كان في الحرم نهر فيه صيد ، ولو ذبح الحلال صيدا في الحرم فهو ميتة إجماعا إن كان من صيد الحرم ، فإن صاده من خارجه فأدخله وذبحه داخل الحرم ، فنص الهادي أنه ميتة (٣) ،

__________________

(١) أي : غير داخل في الإحرام.

(٢) بياض في الأصل ب المذهب يحل لكن يحتاج إلى الدليل ، يقال : لا دليل على من حكم بالحل ، وإنما الدليل للبقاء على الأصل ، وهو جواز التصيد ، فعلى المحرّم الدليل. (ح / ص).

(٣) وهو المذهب.

٢٠٧

وهو قول أبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي ؛ لأنه من صيد الحرم ، ولأن من دخله كان آمنا ، فقد صار منهيا عنه ، وأحد قولي الشافعي : أنه حلال ، والاستدلال بالآية محتمل وهو قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) هل يريد : التصيد؟ فهو صاده وهو غير داخل في اسم الحرم ، أو يريد المصيد ، وبدخوله الحرم صار من صيده ، فيحرم.

وأما الجراد في الحرم للحلال [فيحرم مطلقا](١).

قوله تعالى

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) [المائدة : ٩٧]

معنى (قِياماً لِلنَّاسِ) أي : انتعاشا لدينهم ولدنياهم ؛ بما يحصل من قضاء أغراضهم في الحج والتجارة ، وأراد بالشهر الحرام : ذا الحجة ؛ لأنه الذي يفعل فيه الحج.

وقيل : أراد جنس الأشهر الحرم ، (وَالْهَدْيَ) يعم النعم ، (وَالْقَلائِدَ) ما يقلد منها ، فخصه لأنه يحصل به الفضل ، وظهور شعار الحج.

دلت على أحكام :

الأول : أن البيت الحرام هو الكعبة ، فيكون هذا بيانا لما ورد في الخبر (أن الصلاة في البيت الحرام بمائة ألف صلاة في غيره) وقد ذكر معنى هذا في الشفاء ، وقد صحح هذا الحاكم ، وفي الحديث : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حديث الإسراء : «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق» وقيل : البيت الحرام هو الحرم

__________________

(١) حرام على المذهب لقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً).

٢٠٨

كله ؛ لأنه روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسري به من بيت أم هاني ، وقد قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد. وروى أنه أسري به من المسجد (١).

وقيل : إنه ما داخل الميقات ؛ لأنه قد فسر قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بأنه ما داخل الميقات ، وجعل هذا لأهل المذهب.

الحكم الثاني : جواز التجارة في سفر الحج ، وأن الزمان المذكور والمكان لهما فضيلة ؛ لذلك خصهما بالذكر.

الحكم الثالث : أن التقليد سنة ، لذلك خص المقلدات بالذكر ، لكن عندنا أن ذلك عام للنعم جميعها ، وهو قول الشافعي ، لكن تقلد الغنم بما يخف عليها.

وقال أبو حنيفة : التقليد للبقر والإبل ، ولا تقلد الغنم.

وقيل : أراد بالقلائد ما كان يفعل من تقلّد الحاج شيئا ؛ لئلا يتعرض له ، وهذا مروي عن قتادة.

قوله تعالى

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠]

قد فسر الخبيث والطيب بالحرام والحلال ، وصالح العمل وطالحه ، وصحيح المذاهب وفاسدها ، وجيد الناس ورديئهم فتحصل الثمرة ، من

__________________

(١) وهذا هو الذي بني عليه ، كما ذكره الزمخشري والحاكم ، وهو الذي ينصرف إليه الذهن عند الإطلاق ، فهو المراد بالخبر المذكور. (ح / ص).

٢٠٩

ذلك أنه ينبغي إجلال الصالح ، وتمييزه عن الطالح ، وأن التراب إذا كان حراما لم يجز التيمم به ؛ لأن ليس بطيب ، وقد قال تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.)

وأن الحاكم إذا تخاصم إليه الكافر والمؤمن ، ميز المؤمن في المجلس.

وأما المؤمن والفاسق ، فقال الناصر : إنه يسوي بينهما ، فإذا أمضى الخصومة قرب أهل الخير والصلاح.

قال في الانتصار : ظاهر المذهب التسوية بين الرفيع والوضيع.

وقال مالك : إذا كان المدعى عليه من أهل الفضل لم يأمر له الحاكم إن كان ثم خصمه ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام.

قال الإمام يحيى : والمختار أن الحاكم يسأل المدعي فإن كانت له بينة أحضر الفاضل لسماعها وإلا لم يحضره ، وأمر من يحلفه.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) [المائدة : ١٠١ ـ ١٠٢].

النزول

قيل : كان رجل يطعن في نسبه يقال له : عبد له (١) ، فقال : يا رسول الله من أبي؟ فقال : «أبوك خرافة» (٢) فساءه ذلك ، وسأله آخر في هذا

__________________

(١) في بعض النسخ (عبد له) كما هنا ، والذي في جامع الأصول (حذافة) وهو عبد الله بن حذافة السهمي ، وكذا في البغوي.

(٢) في التهذيب (حذافة) وفي نسخ الثمرات خرافة.

٢١٠

المجلس ، فقال : أين أبي؟ فقال : «في النار» وقيل : كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتحانا واستهزاء ، فيقول بعضهم : من أمي؟ ويقول بعضهم : أين أبي؟ ويقول آخر : ضلت ناقتي فأين هي؟ فنزلت.

وقيل : سألوه عن البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، وقيل : سألوه بمشاورة اليهود (١) ، فنزلت ، ولهذا قال بعد ذلك : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) عن مجاهد.

وفي الكشاف أن سراقة بن مالك ، أو عكاشة (٢) بن محصن قال : يا رسول الله الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله حتى أعاد مسألته ثلاث مرات؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويحك ما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم (٣) لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم لكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».

المعني بقوله تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) صفة تلك الأشياء (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) وذلك وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنه وقت الوحي (تُبْدَ لَكُمْ) تلك التكاليف الشاقة التي تسوؤكم وتؤمرون بتحملها ، فتعرّضون نفوسكم لسخط الله بالتفريط (عَفَا اللهُ عَنْها) يعني : عما سلف ، أي : عن مسألتكم.

وقوله تعالى : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ).

__________________

(١) أي : بعد أن شاوروا اليهود.

(٢) عكاشة : بتشديد الكاف وتخفيفها ، والتثقيل أكثر ، ذكره في جامع الأصول.

(٣) أي : مستحلين.

٢١١

قيل : قوم عيسى ، سألوا المائدة ثم كفروا بها ، عن ابن عباس.

وقيل : قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها.

وقيل : سألوا أن يحول الصفا ذهبا ، عن السدي ، وقيل : سألوا استهزاء فكفروا بالسؤال.

وقيل : سألوا عن فرائض فلما كلفوها لم يحتملوا مشقتها ، كقوله : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

وقيل : سألوا عن الحلال والحرم ، فلما بيّن تركوا العمل ، فأصبحوا بسبب المسألة كافرين ، أو بالمسألة مع الاستهزاء.

ثمرة الآية : أنه تعالى نهى عن السؤال في أشياء وهو ما ذكر ، فإن كان ذلك استهزاء أو تعنتا فلا إشكال أنه معصية ، وإن كان عن أمور التكليف ، وكان في حال ضجره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كثرة سؤالهم فذلك منهي عنه ، بعد معرفتهم لذلك ، ولكراهته لسؤالهم ، وقد ذكر في آداب القارئ أنه لا يسأل شيخه في حال ضجره ، ولا يضجره بالسؤال ، وإن كان خلاف ذلك بل سألوا تفقّها عما يحتاجون إليه ، فقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينتظر بالجواب بنزول الوحي ، كما سألته امرأة أوس عن ظهار زوجها لها ، وغير ذلك.

وقال تعالى في سورة الأنبياء : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣]

وقد روى الحاكم في السفينة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «العلم خزائن ومفاتيحه السؤال فاسألوا يرحمكم الله ، فإنه يؤجر عليه أربعة : السائل والمتكلّم ، والمستمع والمستجيب لهم» (١).

__________________

(١) قد روي هذا الحديث من طريق أهل البيت عليهم‌السلام بسند لا يرقى إليه الشك بلفظ (العلم خزائن ، ومفاتيحه السؤال ، فاسألوا يرحمكم الله ، فإنه يثاب عليه أربعة : السائل ، والمعلم ، والمستمع ، والمستجيب لهم). (ح / ص).

٢١٢

وقد روي عن الأصم أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المجلس عن أشياء حتى غضب ، وكانت السؤالات في هذه الأقاويل عن شيء لم يتضيق العمل عليهم ، وقد فسر قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْها) أي : أغناكم عنها.

وقيل : (عَفَا اللهُ عَنْها) أي : لم يذكرها ، وقيل : عفا عن مسألتكم فلم يؤاخذكم بما فرط منكم.

قال الحاكم : ومع البيان لا يسأل ؛ لأن مع السؤال ربما كان المصلحة في التشديد فيجب الإمساك كما ذكر في الحج ، ومن ذلك حديث بقرة بني إسرائيل.

قوله تعالى

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [المائدة : ١٠٣]

المعنى : لما تقدم ما بين من الحلال والحرام بين ما تعتقده الجاهلية.

وقيل : لما تقدم السؤال عنها تعقبه الجواب ، فقال تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ) أي : ما شرع وما أمر ، وقيل : ما خلق ، وكانت الجاهلية إذا وضعت الناقة خمسة بطون الخامس ذكر نحروه فأكل لحمه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى شقوا أذنها (١) ولم يجزّ لها وبر ، ولا تركب ، ولا يحمل عليها ، ولا تمنع من ماء ولا كلاء ، وتحرم على النساء لا يذقن لبنها ولا لحمها ، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء.

وقيل : البحيرة من الغنم إذا ولدت عشرة أبطن ، نحروا أذنها أي :

__________________

(١) الضمير عائد على المولودة.

٢١٣

شقوها ، وإذا كان البطن العاشر حيا ذكرا أكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتا اشترك فيه الرجال والنساء ، وإن كان ذكرا وأنثى نحروهما جميعا وقالوا : وصلت أخاها فهي وصيلة ، وقيل : البحيرة هي بنت الوصيلة ، عن أبي علي.

وأما السائبة : فكان الرجل يقول : إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة ، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها ، وقيل : كان إذا أعتق عبدا قال : هو سائبة ، فلا عقل بينهما ولا ميراث.

وأما الوصيلة : فهي الشاة تواصل بين بطون وتلد فيها الإناث ، فإذا ولدت السابع ذكرا نحروه لآلهتهم ، وإن كان أنثى استحيوها ، وإن كان ذكرا وأنثى تركوهما فلم يذبحوهما ، وقالوا : وصلت أخاها.

وقيل : الوصيلة : ولد البحيرة في البطن العاشر إذا كان ذكرا أكله الرجال دون النساء ، وإن كان أنثى اشترك في أكله الرجال والنساء.

وأما الحام : فقيل : هو الفحل إذا ركب ولد ولده ، قيل : حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا كلاء ، إلا أن يموت فيأكله الرجال والنساء.

وقيل : إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قيل : حمى ظهره فلا يركب ، ولا يمنع من ماء ولا كلاء.

وقيل : البحيرة ما تبحر أذنها للطواغيت ، والسائبة : ما سيبت لطواغيتهم ، والوصيلة : الناقة تبتكر بالأنثى ، ثم تثني بالأنثى ، وكانوا يضيفون ذلك إلى الله تعالى ، والمضيف الرؤساء ، وهم لا يعقلون ، وإنما يقلدون رؤساءهم.

ثمرة ذلك : تحريم هذه الأشياء.

٢١٤

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أول من غير دين إبراهيم ، ونصب الأوثان عمرو ابن لحي ، ولقد رأيته يجر قصبه في النار ـ أي : أمعائه ـ» والأقصاب الأمعاء ، واحدها قصب ـ بضم القاف وسكون الصاد ـ.

قال الحاكم : واستدل بعضهم على بطلان الوقف بالآية ؛ لأن الملك لا يخرج من ملك صاحبه إلى إلا مالك آخر ، أو على وجه القربة إلى الله تعالى ، كتحرير الرقاب.

قال الحاكم : وليس بصحيح ؛ لأن الوقف قربة كالعتق (١) ، ولقائل أن يقول : يستدل بالآية على نظير ذلك ، وهو ما يلقى في الأنهار والطرق ، وقرب الأشجار من طرح البيض والفراريخ ونحو ذلك ، فلا يجوز فعله ، ولا يزول ملك المالك ، ويحتمل أن يقال : قد رغب عنه وصيره مباحا.

وأما كسر البيض على العمارة ، والطرق ، والأبواب ، فالظاهر عدم الجواز ؛ لأن في ذلك إضاعة مال ، ولم يرد بفعله دليل.

قوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [المائدة : ١٠٤]

ثمرة ذلك : قبح التقليد ، ووجوب النظر ، واتباع الحجة ، وهذا في المسائل العقلية.

وعن العنبري ، وأبي مضر جواز ذلك ، واستدل أبو مضر بقوله تعالى في سورة الأحزاب : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب : ٥] وغلّطه الكني.

__________________

(١) هذا يصلح حجة على العاري عن وجه القربة ، يعني : أنه لا يصح.

٢١٥

وأما المسائل العملية الاجتهادية فيجوز لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقد فسر التقليد بأنه قبول قول الغير من غير حجة (١) ، وهذا كتقليد أولاد الكفار لآبائهم ، ونحو ذلك ، ولهذه المسألة تفصيل في كتب الكلام (٢).

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥]

قيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا : سفهت أباك ، وضللته ، وقيل : كانوا يغتمون لموت آبائهم وعشائرهم على الكفر ، فنزلت تسلية لهم ، كما قال تعالى لنبيه عليه‌السلام : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).

وثمرة الآية : أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره.

قال الحاكم : فيبطل قول من قال : يعذب الأطفال لكفر آبائهم ، قال : ويبطل قول من يقول : إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

قال النواوي في الأذكار : وأما الأحاديث الصحيحة (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) فليست على ظاهرها ، وله تأويلات أظهرها : أن المراد إذا كان له سبب في البكاء كأن يوصي به.

قال الحاكم ، والزمخشري : ولا يستدل بذلك على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر.

__________________

(١) أي : من غير مطالبة بحجة ، لأنه لو علم أنه قال ذلك بغير حجة لم يجز تقليده ، والله أعلم

(٢) أي : الكلام في أصول الفقه ، وليس علم الكلام.

٢١٦

قال الحاكم : ولو استدل على وجوبهما بقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كان أقرب ؛ لأنه يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات.

وعن أبي بكر أنه قال : «إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول على هذه الأعواد : «إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يده يوشك أن يعمهم الله بالعقاب».

وعن ابن مسعود أنها قرئت عنده فقال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها اليوم مقبولة ، ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم ، فحينئذ عليكم أنفسكم.

وعن أبي ثعلبة الخشني : أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيرا ، سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا ما رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ، ودع أمر العوام ، وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كالقبض على الجمر ، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله».

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ

٢١٧

عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المائدة ١٠٦ ـ ١٠٨]

النزول

قيل : نزلت الآية في عدي بن يزيد (١) ، وتميم بن أوس [الداري](٢) وهما نصرانيان ، وبديل بن أبي مريم ـ هذه كنية والد بديل ـ حكى ذلك محمد بن إسحاق.

وقيل : بديل بن أبي مارية عن الكلبي ، وقيل : ابن أبي ماوية ، عن عكرمة ، وابن سيرين ، وقتادة.

وقال ابن ماكولا : هو بزيل بالباء المنقوطة بنقطة من تحتها ، ثم زاي معجمة ، وأما بديل فمن أوهام بعض المفسرين.

قال في الكشاف : وبديل مولى عمرو بن العاص.

وفي التهذيب : مولى العاص السهمي ، وذلك أنهم خرجوا تجارا من المدينة ، قيل : إلى الشام ، وقيل : إلى الحبشة ، فلما نزلوا الشام مرض بديل ، وقيل : مرض في البحر فكتب صحيفة فيها متاعه وطرحها في متاعه ولم يخبر صاحبيه ، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ، ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ، فأصاب أهل بديل الصحيفة ، فطالبوهما بالإناء فجحدا ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت.

وقيل : كان الحكم في رجل توفى وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، فأبيح شهادة الذميين لقلة المسلمين ، ثم نسخ ذلك ، ولما حلف

__________________

(١) في الكشاف (عدي بن زيد) وفي كثير من التفاسير (عدي بن بدّا).

(٢) وقد أسلم تميم ، وحسن إسلامه.

٢١٨

النصرانيان حلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند المنبر ، وكتما ما شاء الله ، ثم وجد الإناء ، قيل : وجد بمكة ، فقالوا : اشتريناه من عدي ، وتميم عن ابن عباس ، وقيل : لما طالت المدة أظهرا الإناء ، فبلغ ذلك بني سهم ، فقالا لما طالبوهما : كنا اشتريناه ، فرفع ذلك إلى رسول الله فنزلت (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً).

ونحن نذكر ثمرات هذه الآية الكريمة بعد أن نذكر جملة مما ذكر في معناها.

فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) اختلف في تفسير الشهادة ، فقيل : أراد الشهادة المؤداة عند الحاكم في الحقوق ، وهذا هو الظاهر.

وقيل : أراد بالشهادة الحضور ، مثل (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) ومثل : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وقيل : أراد بالشهادة الأيمان بالله ، كقوله تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وقوله : (بَيْنِكُمْ) الخطاب للمؤمنين ، وقوله : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يعني حضر أسباب الموت ، ونظيره : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) وقوله : (حِينَ الْوَصِيَّةِ) أي وقت الوصية ، وقوله : (اثْنانِ) هما الشاهدان ، وقيل : الوصيان ، وأراد تأكيد الأمر في الوصية لاثنين.

قال جار الله : وقوله : (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) لأن إذا ظرف.

قال : وفي الإبدال منه دليل على وجوب الوصية ، وأنها من الأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها مسلم ، ولا يذهل عنها.

وقوله : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) اختلف ما أريد بذلك ، فقيل : أراد من أهل ملتكم ، وهم المسلمون ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن

٢١٩

المسيب ، وعبيدة السلماني ، ويحيى بن يعمر ، ومجاهد ، وقيل : من أقاربكم ، وجعل الأقارب أولى ؛ لأنهم أعلم بأحوال الميت وبالأصلح له ، وهم له أنصح ، وهذا مروي عن الحسن ، وعكرمة وعبيدة ، وقوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قيل : لفظة أو للتفصيل لا للتخيير ، واختلف ما أراد بالغير فقيل : أراد من غير ملتكم ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وأبي موسى ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وشريح ، وإبراهيم ، وعبيدة ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وابن زيد ، وأبي علي.

وقيل : من غير عشيرتكم عن الحسن ، والزهري وعكرمة ، وابن شهاب ، والأصم ، وقوله تعالى : (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) التقدير وكنتم قد أوصيتم إليهما ودفعتم المال إليهما ، فاتهمهما الورثة بالخيانة ، وقوله : (تَحْبِسُونَهُما) يعني : أن الحكم في ذلك أن تستوقفوهما ، وهذا خطاب للورثة ، أي : تستوقفون الشاهدين ، وقيل : الوصيين ، على حسب الاختلاف في قوله : (مِنْكُمْ).

قال ابن عباس : وهذا في الكفار ، فأما المسلمون فلا يمين عليهم.

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) قيل : صلاة العصر ، عن شريح ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، لأن ذلك الوقت وقت اجتماع الناس ، وقيل : وقت صلاة الظهر أو العصر لتعظيم الصلاة ، وهو مروي عن الحسن ، وقيل : لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكم بعدهما.

قال جار الله : وفي حديث بديل (لما نزلت صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة العصر ودعا بعدي ، وتميم فاستحلفهما عند المنبر فحلفا ، ثم وجد الإناء بمكة ، فقالوا : إنا شريناه من عدي ، وتميم).

وقيل : هي صلاة أهل الذمة ، وهم يعظمون صلاة العصر (١).

__________________

(١) الكشاف ١ / ٦٥٠.

٢٢٠