تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

ومن الذكر درس العلم بل هو أجله وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من حديث الدنيا.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا ، وحب الدنيا ، لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة».

وفي الحديث : «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال الله تعالى : إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها عمارها ، وطوبى لعبد تطهّر في بيته ثم زارني في بيتي ، فحقا على المزور أن يكرم زائره».

وعنه صلّى الله عليه : «من ألف المسجد ألفه الله».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا رأيتم الرجل يرتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان».

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ : من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوء.

قال في السفينة : وروي عن أبي هريرة (من بنى مسجدا من مال حلال بنى الله بيتا في الجنة من در وياقوت).

قال الحاكم : وفيها دلالة على أن للحاكم أن ينتصب للحكم في المسجد ، كما قاله أبو حنيفة ، خلاف ما يقوله الشافعي.

وأخذ هذا الحكم من الآية ليس بواضح ، وقد أجمعوا أنه إذا دخل لا ليحكم فعرضت القضية في المسجد أنه يجوز ، وأجمعوا على جواز الفتيا في المسجد.

واختلفوا إذا دخل ليحكم ، فقال في الوافي : ليس للقاضي أن يحكم في المسجد.

٤٠١

وقال الشافعي ، ورواية لأبي حنيفة : إنه يكره.

وقال أبو حنيفة في الرواية الظاهر وأصحابه ، ومالك : لا يكره ، وقد صحح هذا الأمير الحسين ، وذكره للهادي.

وقال في (شرح الإبانة) : لا خلاف بين السادة أنه لا يكره القضاء في مسجد.

حجة الجواز : عموم قوله تعالى في سورة المائدة : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ولم يخص مكانا ، وكما لو عرضت القضية في المسجد وقياسا على الفتيا ، ولأنه مروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجلس للقضاء في المسجد ، ويحتبي ببردته عند مقام إبراهيم.

قال في الشفاء : روي ذلك عن يحيى عليه‌السلام بإسناده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك حكم عثمان ، وكذلك أمر أمير المؤمنين شريحا أن يجلس في المسجد للحكم ، ولأنه أبعد من التهمة.

وحجة المنع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما بنيت المساجد لذكر الله».

وقوله عليه‌السلام : «جنبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، وشراءكم وبيعكم ، وخصوماتكم ، ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم ، وسل سيوفكم» ولأنه يؤدي إلى أن لا يصله الجنب والحائض والكافر.

وقوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) خصهما بالذكر تفخيما لهما.

وقوله تعالى : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) في الكشاف وجهان :

أحدهما : أن المراد بالخشية التقوى ، وأن لا يختار على رضى الله رضى غيره ، لتوقع مخوف ، وأن يؤثر حق الله على حق نفسه.

والأمر الآخر : أنهم كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية ، وإلا فالمؤمن يخشى المحاذير.

٤٠٢

قوله تعالى

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ)

النزول

اختلف في ذلك فقيل : نزلت في المسلمين ، واختلف في ذلك فقيل : تفاخر المهاجرون وولاة البيت ، فقالوا : نحن سقاة الحاج ، وعمار المسجد الحرام ، فنحن أعظم أجرا فنزلت عن الأصم.

وعن النعمان بن بشير : كنت عند المنبر فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج.

وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام.

وقال آخر : الجهاد أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ، وسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت.

وعن ابن عباس : أن العباس قال : لئن كنتم سبقتم بالإسلام والهجرة ، والجهاد ، فقد كنا نعمر المسجد ، ونسقي الحاج ، فنزلت.

وقيل : تفاخر العباس وطلحة بن شيبة وعلي عليه‌السلام فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية ، وقال علي عليه‌السلام : لقد صليت القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فنزلت ، عن الحسن ، والشعبي ، ومحمد بن كعب القرظي.

وقيل : لما نزلت قال العباس : إذا نرفضها يا رسول الله ، فقال : «أقيموها ، فإن لكم فيها خيرا» ومن قال : نزلت في الكفار اختلفوا فقيل : قال علي عليه‌السلام : ألا تهاجر ، فقال : ألست في أفضل من الهجرة ، أسقي الحاج ، وأعمر البيت الحرام فنزلت عن ابن سيرين.

٤٠٣

وقيل : إن المشركين سألوا علماء اليهود فقالوا : نحن ولاة البيت ، وسقاة الحاج ، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود : أنتم. مع علمهم بخلاف ذلك ، وذكر أبو مسلم أن الخطاب للمشركين ، واستدل بآخر الآية.

ثمرة الآية أن الجهاد من أعظم القرب ، لذلك قرنه بالإيمان ، وفي الحديث عنه عليه‌السلام ـ : «الجهاد سنام الدين» وقد فرع على هذا لو أوصى بماله لأحسن وجوه البر ، فإنه يصرف في الجهاد.

وقال أبو علي : في طلبة العلم ويدل على أن عمارة المسجد الحرام ، وسقي الحاج من القرب ، فالمعنى الإنكار والنهي أن يجعل سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام كمن آمن وجاهد ، وفي قراءة ابن الزبير وأبي وجزة السعدي (١) : (سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) على الجمع.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)

__________________

(١) أبو وجزة بالزاي المعجمة : يزيد بن عبيد ، أو أبي عبيد ، شاعر سعدي ، ذكره في القاموس ، وفي شمس العلوم : أبو وجزة كنية مولى كان من القراء ، وفي حاشيته : إنما قال : من القراء لأنه مشهور بالشعر.

٤٠٤

النزول

قيل : كان الرجل يريد الهجرة وأهله يتعلقون به فيدع فنزلت.

وقيل : إنها متصلة بما قبلها ، وأنها نزلت في امتناع العباس وطلحة من الهجرة عن مجاهد.

وقيل : كان من آمن ولم يهاجر لم يقبل إيمانه حتى يجانب الآباء والأبناء إذا كانوا كفارا ، فقال جماعة : إن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وعشيرتنا ، وتخريب دورنا ، وكسدت تجارتنا ، فنزلت عن ابن العباس.

وقيل : لما أمروا بالهجرة كان من الزوجات والعشائر من تعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وأولاده ، ويقولون : ننشدك الله أن تضيعنا فيرق ويدع الهجرة ، فنزلت.

وقيل : نزلت في السبعة الذي ارتدوا ولحقوا بمكة فنهى الله عن موالاتهم.

وثمرات هذه الآية أحكام :

الأول : تحريم موالاة الكفار كائنا من كانوا من غير فرق بين الأقارب والأجانب ، ولكن ما هذه الموالاة المنهي عنها؟

قال الحاكم : قيل : إنها موالاة الدين ، وذلك التعظيم والمدح ، والذب عنه ، وأن يحله محل نفسه.

وقيل : أراد بطانة وأوداء يفشون إليهم أسرارهم ، ويؤثرون المقام معهم ، ولا يبر الكافر بما يرجع إلى تعظيمه.

وأما منافع الدنيا فالإعانة في حاجة ، والمؤاكلة فلا يكره ، والنفقات من منافع الدنيا ، ويجب نفقة الكافر للزوجية عند من جوزها ، وللملك ، وللأبوين الذميين.

٤٠٥

قال الحاكم : ودلت الآية على أن تولي الكافر كبيرة ؛ لأن قوله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا) توعدا ، وقد وصفهم الله تعالى بالظلم.

قيل : أراد المعصية ، وقيل : لأنهم وضعوا الولاية في غير موضعها.

قال في الكشاف : وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله أبعد الناس ، ويبغض في الله أقرب الناس إليه».

الحكم الثاني : وجوب الهجرة ولها شروط.

الحكم الثالث : وجوب الجهاد ، ولكن في الآية إشارة إلى أنه لا يجب استئذان الآباء ، وهذا ظاهر المذهب ، وقد ذكره المنصور بالله.

وقال الشافعي ، والإمام يحيى : إنما يخرج للحج والجهاد بإذن الأب ، لأخبار وردت.

قوله تعالى :

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ)

فسر باثنين وسبعين موطنا ، فلهذا قال الليث : إن من أقر بمال كثير لزمه اثنان وسبعون لهذا التفسير.

والمذهب : نصاب من أحد النقدين ؛ لأنه الكثير في الشرع من حيث أن مالكه يكون به غنيا.

وقال المؤيد بالله والشافعي : ما فسر به ؛ لأن ذلك من ألفاظ الإضافة.

وقال مالك : ربع دينار ؛ لأنه يقطع به.

وما ذكره الليث مردود بأن يقال : قد فسرت المواطن بثمانين ، روي ذلك عن أبي مسلم ، وفسرت بأنه أراد من وقت آدم إلى وقت محمد.

٤٠٦

قوله تعالى

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً)

دلت على أنه يجب الانقطاع إلى الله تعالى ، والاتكال عليه ، ولأن في القصة أن الوقعة كانت بحنين وهو واد بين مكة والطائف ، وكان المسلمون اثني عشر ألفا ، فقال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فساءت رسول الله.

وقيل : قائلها رسول الله ، وقيل : أبو بكر ، فأدركتهم كلمة الإعجاب وانهزموا حتى بلغ المنهزم مكة ، وبقى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذ بلجام بغلته ، وأبو سفيان بن الحرث بن عمه ، قيل : وشيبة بن عثمان ، وعلي عليه‌السلام فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا رب ائتني بما وعدتني» وقال للعباس وكان صيتا : «صح بالناس ، فنادي الأنصار فخذا فخذا ، ثم نادى يا أصحاب الشجرة ، ويا أصحاب سورة البقرة» فكروا عنقا واحدا وهم يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة وأخذ رسول الله كفا من تراب فرماهم به ، وقال : «انهزموا ورب الكعبة» فوقع القتل والأسر والسبي ، وقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغنائم ، وأعطى المؤلفة ، فتكلم الأنصار فلاطفهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى طابت خواطرهم ، وأسلم قوم بعد ذلك فاستطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفوس المسلمين بهبة ذراريهم ونسائهم.

دل ما حكي في القصة على جواز ما ورد ، وحسنه من جواز التأليف ، وملاطفة المؤمنين ، والرمي بالحصى حال الحرب ، والإرهاب بالأصوات التي يرهب بها ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك اليوم : «أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب».

٤٠٧

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

ثمرات هذه الآية تظهر في أحكام :

الأول : في نجاسة المشركين ، وقد اختلف العلماء في هذا الحكم ، فمذهب القاسم ، والهادي ، والناصر ، ومالك وغيرهم إلى أن الكافر نجس أخذا بظاهر الآية ؛ لأنه الحقيقة ، ويؤيد ذلك حديث أبي بلتعة الخشني فإنه قال للنبي صلّى الله عليه : إنا نأتي أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم ، فقال عليه‌السلام : «اغسلوها ثم اطبخوا فيها».

وقال زيد بن علي ، والمؤيد بالله ، والمنصور بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : إن المشرك طاهر ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضأ من مزادة مشركة ، واستعار من صفوان دروعا ولم يغسلها ، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبي عليه‌السلام إلى الأسارى ولا تغسل ، وكان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطبخون في أواني المشركين ، ولا تغسل.

والآية فيها تأويلان :

الأول : أنه تعالى جعل المشركين نجسا ؛ لأنهم لا يتجنبون النجاسة ، فهي ملابسة لهم ، فجعلوا بمثابة النجس ، لذلك ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون.

الثاني : أنه تعالى شبههم بالنجس من حيث أنه يجب تجنبهم ، وإبعادهم عن الحرم كما يقال : فلان كلب وخنزير ، فجعل هذا مقدمة لقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ).

وعن ابن عباس : أعيانهم نجسة كالكلب والخنزير.

٤٠٨

وعن الحسن : من صافح مشركا فليتوضأ ، وروي هذا عن عمر بن عبد العزيز ، أراد يغسل يده ، وهذا كالقول الأول ، وكل يتأول ما احتج به الآخر ، والظاهر العموم في الكفار ، ورجحه الحاكم ، واختار الطهارة ، وقيل : أراد الوثني.

الحكم الثاني

يتعلق بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا). وقد اختلف ما المراد ، فعند الهادي عليه‌السلام في ذلك دلالة على أن كل كافر يمنع من دخول المسجد ، أيّ مسجد كان ؛ لأن ما ثبت للمسجد الحرام ثبت لسائر المساجد ، إلا بمخصص.

قيل : وهو قول أكثر أهل البيت ، ومالك.

وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة : لا يمنعون من أي مسجد ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد ، ولأن أبا سفيان دخل مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مشرك ، وأنزل وفد نجران المسجد ، ولما فتح عليه‌السلام مكة التجئوا إلى البيت ، ولما قرأ عليه‌السلام سورة براءة ، ونادى ألا لا يحج بعد هذا العام مشرك ، كانوا في المسجد ولم يمنعهم.

وقال الشافعي : يمنعون من الحرم ، ومن المسجد الحرام لظاهر الآية.

وعن قتادة وجابر : يمنعون من الحرم ، إلا أن يكون عبدا أو أمة أو ذميا.

قلنا : قوله تعالى في سورة البقرة : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) يعم المساجد.

وعن عطاء : أراد بالمسجد الحرام الحرم ، ونهيهم عن الدخول نهي للمسلمين عن تمكينهم ، وأمر بمنعهم.

٤٠٩

وقيل : أراد نهيهم عن الحج والعمرة ، ولهذا قال تعالى : (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وذلك سنة تسع ، ويدل على هذا أن عليا عليه‌السلام نادى بسورة براءة ، قال : ألا لا يحج بعد هذا العام مشرك.

وفي هذا دلالة على أن حج الكافر لا يصح.

وقد قال أهل المذهب : ومن حج ودينه دين العامة باعتقاد التشبيه والجبر لم يصح حجه.

وقيل : أراد أنه لا يتولى المشركون على المسجد الحرام ، ويتعلقون بمصالحه.

وهاهنا بحث وهو أن يقال : إذا دخل كافر مسجدا من المساجد هل يجب على الهدوي منعه وإخراجه ؛ لأن مذهبه أنا مأمورون بذلك أو لا يجب عليه؟ ولا يجوز له ؛ لأن المسألة خلافية ، وقد أجاز ذلك المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، ولعل المنع أظهر لما تقدم أن النهي لهم نهي للمسلمين عن تمكينهم ، وأمر لهم بمنعهم.

الحكم الثالث

يتعلق بقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)

وسبب نزولها أن المشركين كانوا يتجرون في مكة ويجلبون إليها الطعام ، فلما منعوا شق ذلك على المسلمين وخشوا انقطاع المتاجر فنزلت.

وفي ذلك دلالة على أنه لا يترك الواجب بتقاصر أحوال الدنيا ، وأنه ينبغي الترغيب والتسهيل على احتمال المشقة بالمنافع الصالحة في الدنيا ، ولهذا وعد تعالى بأن الله سيغنيهم.

وذكر بعضهم أن منعهم عن الحج منسوخ بقوله تعالى في سورة المائدة : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

قال الأصم : ليس كذلك ؛ لأنه لم يكن خروج المشركين إلى الحج بأمر الله ، فنسخه.

٤١٠

قوله تعالى :

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)

وفي هذه الجملة حكمان :

الأول : وجوب قتال من هذه صفته من الكفار حتى يخرج عن هذه الصفة بالإسلام ، أو يبذل الجزية فيقر على ذلك ، وإن كانوا يرتكبون من المنكرات العظائم من الكفر وشرب الخمر ، وأكل الخنزير ، ومثل هذا لا يجوز في حق من أسلم أن يؤخذ منه عوض ، ويقر على المعاصي ؛ لأن الشرع قد ورد بهذا ، ولا بد من أن تكون مصلحة ، وأن جهل وجهها مع أن إقرارهم بالجزية قد يكون لطفا لنا بالشكر على قهرهم ، ولطفا لهم يكون باعثا على الدين لأجل المخالطة.

الحكم الثاني : جواز أخذ الجزية ممن هذه حاله من أهل الكتاب ، وهذا إجماع.

قال في النهاية : وذكر بعضهم الإجماع أنها لا تؤخذ من قرشي كتابي ، وفي الجملة فقد اختلف العلماء ممن تؤخذ منهم الجزية ، فقال الشافعي : لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.

وأما المجوس فله قولان : هل هم أهل كتاب أو ليسوا أهل كتاب ، وعلى القولين يؤخذ لأنهم وإن لم يكونوا أهل كتاب فقد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب».

وروي عن علي عليه‌السلام وعبد الرحمن بن عوف أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، فأخذ الجزية منهم بالسنة ، لا بالكتاب.

٤١١

واختلفوا فيمن عدا من ذكر على أقوال :

الأول : تحصيل أبي العباس ، واختاره الأخوان وهو قول أبي حنيفة أنها تؤخذ من أهل الكتاب ، ومن مشركي العجم الذين لا كتاب لهم دون عبدة الأوثان من العرب.

أما وجه أخذها من أهل الكتاب فلهذه الآية الكريمة.

وأما أخذها من مشركي العجم الذين لا كتاب لهم فلما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لقريش : «هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم العرب وأدت لكم العجم الجزية» والآية في أهل الكتاب عامة لم تفرق بين أن يكون عربيا أو عجميا.

وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذها من نصارى نجران.

وأما أنها لا تؤخذ من مشركي العرب أهل الأوثان فتخصيص الرسول عليه‌السلام العجم بقوله : «وأدت لكم العجم الجزية» وقوله تعالى في هذه السورة : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) ولا خلاف أن المراد بهذه الآية المشركون من العرب ؛ لأن العهد إنما كان بينهم وبين النبي عليه‌السلام فكان الأخذ من كفار العرب أهل الأوثان لا دليل عليه.

وعن علي عليه‌السلام ـ : لا تؤخذ الجزية من مشركي العرب.

قال في الكشاف : وروى الزهري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب».

وقال الشافعي : لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب فقط أخذا بالآية ، وهي قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

وقال مالك : من كل كافر أخذا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته لأمراء السرايا :

٤١٢

(أدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أبو فادعوهم إلى الجزية) ، وذلك عام ونحن نقول بتخصيصه (١).

وقوله تعالى : (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) اختلف في معنى قوله تعالى : (عَنْ يَدٍ)؟

فقال في الكشاف ما معناه : إن ذلك يحتمل أن يكون المراد يد المعطي ، أو يد الآخذ ، فإن أريد المعطي احتمل أمرين :

الأول : أن المراد (عَنْ يَدٍ) أي : عن يد مواليه غير ممتنعة ؛ لأن من امتنع لم يعط يده ، ولهذا يقال : نزع يده من الطاعة كما يقال : خلع ربقة الطاعة من عنقه.

والثاني : أن يريد (عَنْ يَدٍ) أي : نقدا غير نسيئة ، ولا مبعوثا مع الغير برسالة.

وإن كان المراد به الأخذ احتمل أمرين :

الأول : أن المراد عن يد قاهرة.

والثاني : عن إنعام عليهم بانه قبول الجزية ، والاعفاء من القتل نعمة عليهم.

وقوله تعالى : (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) المعنى : تؤخذ منه على الصغار والذل ، وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ، وأن يتلتل تلتلة ، ويؤخذه بتلبيبه ويقال له : أدّ الجزية ، وإن كان يؤديها ، ويزخ في قفاه ، وقد روي الزخ عن الكلبي.

وروي أنه يعطيها قائما ، والآخذ جالسا عن عكرمة ، وأبي علي.

وروي أنه يعطيها بيده ماشيا لا راكبا ولا برسالة عن ابن عباس.

__________________

(١) بناء على تأخره أو بصحة تقدم الخاص.

٤١٣

وقد قال في الانتصار : يطأطئ الذمي رأسه عند أن يسلم الجزية ، ويصفّ ما يسلم في يد المستوفى ، ثم يؤخذ المستوفى بلحيته ويضرب بيده في لهازمه.

وفي وجوب ذلك تردد ، المختار أنه مستحب لأن العقوبة لا تجب إلا في الحدود :

وهذا حكم ثالث في كيفية أخذ الجزية.

ويتبع ذلك فروع ثلاثة :

الأول :

في مقدار الجزية ، وقد أجملت في الآية ولم تبين مقدارها ، واختلف العلماء في ذلك.

فمذهبنا وأبي حنيفة أنها تؤخذ على الطبقات الثلاث من الفقراء اثنا عشر درهما ، ومن الغني العرفي ثمانية وأربعون درهما.

وقال المنصور بالله : الغنى الشرعي.

ومن المتوسط أربعة وعشرون ، والوجه أن عليا عليه‌السلام وعمر فعلا ذلك بمحضر من الصحابة.

وقال الشافعي : على كل حالم دينار غنيا كان أو فقيرا.

قال في النهاية : هذا أقله ، والأكثر غير مقدر ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ، أو عدله معافر ، وهي ثياب باليمن.

وقال في النهاية عن مالك : الواجب ما فرضه عمر أن على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهما ، وضيافة ثلاثة أيام مع ذلك لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه.

٤١٤

وقال قوم : إن ذلك غير محدود ، بل هو مصروف إلى اجتهاد الإمام ، ولهذا اختلفت الرواية عن عمر ، منهم الثوري.

وقال أحمد : دينار أو عدله معافر ، ولا يزاد ولا ينقص ، فهذا سبب الاختلاف.

الفرع الثاني :

لا تؤخذ ممن لا يقتل من صبي أو امرأة أو عبد ؛ لأنها بدل القتل ، وهؤلاء لا يقتلون.

وتؤخذ من الفقير الذي لا حرفة له عندنا والشافعي في أحد قوليه.

وقال أبو حنيفة ، ومحمد بن عبد الله ، وأحد قولي الشافعي : لا تؤخذ منه.

وأما الراهب المتخلي والمقعد والمجنون والشيخ فقال في النهاية : اختلفوا.

قال في الانتصار : لا تؤخذ من المتخلي والشيخ الفاني ، وعند الشافعي تؤخذ من الشيخ الهم والزمن.

الفرع الثالث :

أنها تؤخذ عندنا وأبي حنيفة قبل كمال الحول بناء على أنها تسقط بالموت والفوت.

ويقول : مضي السنة مسقط ؛ لأنها بدل عن القتل ، ولا يعقل القتل لما مضى ، ولأنها عقوبات ، وهي لا تكرر بتكرر سببها.

وقال الشافعي : بعد كماله ، بناء على أنها لا تسقط ، وهو قول قوله أبي يوسف : ومحمد.

ثم اختلف هل تسقط بالإسلام أم لا ، فمن قال : إنها لا تسقط بالإسلام ، وهذا قول الشافعي : شبهها بالديون ، ومن قال بسقوطها

٤١٥

بالإسلام شبهها بحقوق الله التي تسقط بالإسلام ، وهذا تخريج أبي العباس للهادي ، وهو قول المؤيد بالله ، ومحمد بن عبد الله ، وأبي حنيفة وأصابه.

وأما إذا مات فقد تعذرت الصفة التي تؤخذ عليها وهي الصغار.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)

وهذه الآية قد تضمنت أمرين :

الأول : النهي للأحبار والرهبان عن أخذ أموال الناس بالباطل ، وذلك وارد على ما كانوا يعتادون من أخذ الرش على الأحكام والتخفيف في الشرائع وأراد بالبرهان علماء النصارى ، عن أبي علي.

وقيل : كانوا يرتشون ويحرفون كتاب الله ويكتبون أشياء ويقولون : هذا من عند الله.

وقيل : يأخذون من سفلتهم في تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإنما خص الأكل لأنه معظم التصرف ، ومعناه يتملكون ، فوضع الأكل في موضعه.

وقيل : يأكلون ما يشترون بالرشا ، وفي هذا إشارة إلى تعيين الثمن ، وأن الفاسد كالباطل ، وأنه لا يملك كما قاله الناصر والشافعي ، والخلاف ظاهر في الطرفين ، وفي ذلك دلالة على تحريم الرشا على الباطل ، وقد ورد لعن الراشي والمرتشي.

وكذا يحرم أخذ العوض على فعل الواجب ، وفي جواز الدفع للدافع ليتوصل إلى حقه خلاف ، رجح الحاكم الجواز ليتوصل إلى الحق ، كالاستفداء.

٤١٦

قال الحاكم : يدخل في تحريم الرشا الأحكام ، والشهادات ، والفتاوى ، وأصول الدين ، وأصول الفقه وفروعه ، وكل من حرف شيئا لغرض الدنيا.

فإن قلت : قد يتوصل كثير من أهل الحالات إلى شيء من الواجبات بإسقاط شيء منها فهل هذا يشبه التيسير في الشرائع ، والمسامحات فيها بعوض ، أو يفترق الحال في ذلك ، ولعله يقال : الحال تختلف فحيث يترك الإمام جزاء من الواجبات ويأخذ جزءا على سبيل التأليف لهم بترك الجزء (١) ، ويريد بذلك تقريبهم إلى الحق وعدم خذلانهم للمسلمين فهذا جائز.

وكذا إذا أعطوا شيئا من بيوت الأموال ، وأقرهم بترك قتالهم لمصلحة كما يفعله الأئمة في صلح كثير من الظلمة عند أن يعرفوا أن أخذ المال للمسلمين أصلح من حربهم فذلك جائز.

وأما إذا أخذ من العاصي شيئا وسوغ له المحذورات أو أسقط عنه واجبا فذلك لا يجوز ، كأن يأخذ منه شيئا ويقره على ما يجوز في الشريعة فهذا حكم.

الحكم الثاني : مما تضمنته الآية تحريم الكنز ، وقد اختلف فيمن وردت فقيل : نزلت في أهل الكتاب عن بعض الصحابة ، وهو قول الأصم.

وقيل : في أهل القبلة عن السدي.

وقيل : هي عامة فنهي الجميع.

وقد تضمنت النهي عن الكنز ، ولكن اختلف هل في الآية نسخ أم لا؟ فقيل : لا نسخ في الآية ، بل المراد بهذا ما منع منه الزكاة الواجبة.

__________________

(١) يقال : هل يبرءون منه أم لا؟ وما أراد بالترك وظاهر المذهب أنهم لا يبرءون إلا أن يحمل الترك على الصرف والرد أو يبنى على قول من يصحح البراء والله وأعلم.

٤١٧

قال جار الله وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أدي زكاته فليس بكنز ، وإن كان باطنا ، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا».

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا سأله عن أرض له باعها؟ فقال له : احرز مالك الذي أخذت واحفر له تحت فراش امرأتك. قال : أليس بكنز؟ قال : ما أديت زكاته فليس بكنز.

وعن ابن عمر : كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما لم تؤد زكاته فهو الذي ذكره الله تعالى ، وإن كان على ظاهر الأرض.

قال الحاكم : وقد روي هذا عن ابن عباس ، والحسن ، وعامر ، والشعبي ، والسدي ، والضحاك.

قال أبو علي : وهو إجماع.

وقيل : كان هذا قبل نزول آية الزكاة فنسخته آية الزكاة.

وفي البيان لابن أبي النجم عن أمير المؤمنين أنه قال : نسخت الزكاة كل صدقة ، ونسخ الأضحى كل ذبح ، ونسخ رمضان كل صوم ، فكلما أديت زكاته فليس بكنز ، وكل ما غلت زكاته فهو كنز.

فإن قيل : قد روي عن أبي أن ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدي زكاته أو لم تؤد؟

قيل : ذلك بعيد ، إلا أن يحمل على أنه إذا كنز ماله يشغله عن فرائض الله ، وذلك ما روي عن عبد الواحد بن زيد (ما فضل من المال عن الحاجة فهو كنز) فليس بشيء ذكره الحاكم.

وما ورد من رواية أبي هريرة من جمع عشرة آلاف فهو كنز.

وعن أبي ذر : (من جمع المال كوى به).

٤١٨

وما روى سالم بن الجعد (١) أنها لما نزلت قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تبا للذهب والفضة قالها ثلاثا».

فقالوا : أيّ : مال نتخذه؟ فقال : «لسان ذاكرا ، وقلبا خاشعا ، وزوجة تعين أحدكم على دينه».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها».

وتوفي رجلا فوجد في مئزره دينار فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كيه». وتوفى آخر ووجد في مئزره ديناران فقال : «كيتان».

قال جار الله : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة. وأما بعد وجوبها فالله أعدل أن يبيح ذلك ثم يعاقب عليه.

ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبد الله يقتنون الأموال ، وما عابهم أحد ممن اختار الأفضل والأدخل في الورع والزهد ، وأعرض عن الفتنة.

وإنما قال : (وَلا يُنْفِقُونَها) ، وقد تقدم اثنان؟

قيل : لأن الضمير يرجع إلى مدلول عليه ، أي : لا ينفقون الكنوز وأعيان الذهب والفضة.

وقيل : رد الضمير إلى الأعم الأغلب ، وهو الفضة.

وقيل : رد إلى المعنى ؛ لأن كل واحد منها عدة كثيرة ، فهذا كقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا).

وقيل : حذف أحد الضميرين لدلالة الآخر عليه كقول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما عندك

راض والرأي مختلف

أي : نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض.

__________________

(١) اسم ابن أبي الجعد رافع الكوفي من مشاهير التابعين وثقاتهم.

٤١٩

قوله تعالى

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)

في هذا إشارة إلى أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية وهي شهور الأهلة دون شهور الفرس ، وهذا في الزكاة والدية ، والجزية إلا أجل العنين فقد جعل العلماء الاعتبار فيه بالأشهر الرومية ؛ لأن الطبائع تختلف بحسب الفصول.

وأما المعاملات من الآجال والخيار فالمتبع العرف ، وأفادت الآية أن الأشهر الحرم لهن اختصاص من بين سائر الشهور قيل : أراد تعالى تحريم القتال فيهن لكن قال الأكثر : إن ذلك قد نسخ بقول تعالى في هذه الآية (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) وهذا مروي عن عبادة ، وعطاء الخراساني والزهري وسفيان.

وروي أنه عليه‌السلام قاتل هوازن في شوال وبعض القعدة ، وهذا قول الأكثر ، وصححه الحاكم.

وعن عطاء بن أبي رباح (١) ، أن ذلك غير منسوخ.

وتدل الآية على أن من ترك القتال ، وسلّم الجزية ، فإنه لا يقاتل ؛ لأنه تعالى قال : (كَما يُقاتِلُونَكُمْ).

__________________

(١) هو عطاء بن عبد الله الخراساني وهو ابن أبي مسلم البلخي الخراساني مولى المهلب بن أبي صفرة ، سكن الشام ولد سنة خمس ومات سنة خمس وثلاثين ومائة سنة روى عنه مالك بن أنس ومعمر بن راشد البصري (جامع الاصول).

٤٢٠