تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وروي أن بعض (١) الصالحين رأى شبابا سكارى في يوم عيد فسلم عليهم ، ثم قال : لا يخلو حالكم إما أن يقبل صومكم فيلزمكم الشكر وما هذا فعال الشاكرين ، أو تكون أفعالكم مردودة فيلزمكم الحزن وما هذا فعال المحزونين ، فتابوا ولبسوا الصوف من بركة كلامه.

ومررت مع عابد اليمن ، سيد فضلاء الزمن ، إبراهيم بن أحمد الكينعي (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ في بعض الليالي في بعض سكك صنعاء فصادفنا قوما معهم رنّة الملاهي ، فاستدعى كبير أولئك المتجندة ووعظه ، فاعتل بأن ذلك مسرة بفتح وقع في بلاد الباطنية ، فقال له ما معناه : إن الله أوجب عليك الشكر فلا تجعل شكره عصيانا ، فتاب واستغفر.

ودخل رجل على أمير المؤمنين يوم عيد وهو يأكل الخشكار فقال : اليوم يوم عيد وأنت تأكل هذا؟ فقال : اليوم عيد من قبل صومه ، وشكر سعيه ، وغفر ذنبه ، والخشكار : نخالة البر.

وفي الخبر أن سليمان عليه‌السلام كان يطعم الناس الحوّاري (٣) ، ويأكل الخشكار.

قوله تعالى

(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) [الأنعام : ٧١ ـ ٧٢]

ثمرة ذلك وجوب الصلاة ، ولكن الدلالة مجملة ، وفي تخصيصها بالذكر من بين أنواع الشرائع ، وعطفها على الأمر بالإسلام ، وهو قوله :

__________________

(١) وفي نسخة ب (كما جاء ذلك من جهة) بحذف (في).

(٢) في ب (رجلا من الصالحين).

(٣) الحواري : بضم الحاء ، وتشديد الواو ، وفتح الراء. حوارى الطعام : ما حور ، أي : نقي وبيض. ومنه : الدقيق الأبيض النقي. صحاح.

٢٤١

(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) والتقدير : وأمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة ، وكذلك كونه قرنه بالأمر بالتقوى ـ دليل على تفخيم أمرها ، وعظم شأنها.

قوله تعالى

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٧٤]

ثمرة الآية : الدلالة على وجوب النصيحة في الدين سيما للأقارب ، فإن من كان أقرب فهو أهم (١) ، ولهذا قال تعالى في سورة الشعراء :

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقال تعالى في سورة التحريم (٢) : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ابدأ بنفسك ، ثم بمن تعول» ولهذا بدأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعلي ، وخديجة ، وزيد ، وكانوا معه في الدار ، فآمنوا ، وسبقوا ، ثم سائر قريش ، ثم بالعرب ، ثم بالموالي ، وبدأ إبراهيم بأبيه ، ثم بقومه.

وتدل الآية على أن النصيحة في الدين ، والذم والتوبيخ لأجله ليس من العقوق ، كالهجرة ، هكذا في التهذيب.

وفي الآية دلالة على بطلان قول الإمامية : إن الإمام لا يجوز أن يكون أبوه كافرا ؛ لأنه إذا جاز نبي أبوه وزوجته كافران ، فكذا الإمام أولى.

قوله تعالى

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) [الأنعام : ٧٦]

قيل : القائل بهذا آزر لا إبراهيم ، فإنه لما قال آزر ذلك ، قال

__________________

(١) لعل المأخذ من فعل إبراهيم عليه‌السلام ، وتقديمه أباه.

(٢) وفي نسخة (المتحرم).

٢٤٢

إبراهيم : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وقيل : إنه إبراهيم ، وكان ذلك قبل إدراكه.

وقيل : قال ذلك على سبيل المحاجة ، وأراد الاستفهام الذي للإنكار ، فحذف الهمزة ، وذلك جائز كقول الشاعر :

لعمرك ما أدري إن كنت داريا

بسبع رمين الحمر أم بثماني (١)

قال في التهذيب : لكن إنما تحذف همزة الاستفهام للضرورة ، وقيل : إنه قال ذلك في حال النظر على وجه التقسيم والسير ، لا على وجه الخبر ، وقيل : قاله بيانا لإحالة ما يزعمه الخصم ليبطله ، كقوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) أي : في زعمك.

وأما قول من يقول : كان معتقدا فليس بصحيح ؛ لأن ذلك كفر ، والأنبياء معصومون.

وقد يستدل بالآية على أن دلالة غروب الشمس رؤية كوكب ، وهذا الاستدلال فيه نظر من وجهين :

الأول : أن المراد فلما أظلم عليه الليل وستر بظلامه ؛ لأن جنّ بمعنى ستر ، ومنه الجنّة ؛ لأن الشجر يسترها ، والجنّ لاستتارهم ، والجنون لأنه يستر العقل ، والجنين لاستتاره ، والمجن لأنه يستر ، وذلك لا يكون إلا بعد الغروب بأوقات.

الثاني : أن النجم قيل : هو الزهرة ، وقيل : المشتري ، وهما نهاريان ، وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء ، فمذهب الهادي ، وسائر القاسمية من المؤيد بالله وغيره ، وأحد قولي الناصر ـ أن أمارة الغروب أن

__________________

(١) في كتب النحو ، واللغة ، والأدب (أم بثمان) وقد صوب في النسخ (بثمانيا) ولا معنى له. والبيت قاله عمر بن أبي ربيعة وقبل هذا البيت :

بدا لي منها معصم حين جمرت

وكف خضيب زينت ببنان

٢٤٣

يرى كوكب ليلي ، وأحد قولي الناصر ، ورواية في الكافي عن زيد ، وأحمد بن عيسى ، وعبد الله بن موسى بن جعفر ، والفقهاء : أنه يعرف بسقوط قرصة الشمس ، واختار هذا الإمام يحيى.

حجة الأولين : الآية ، ودلالتها على ما ذكر غير واضحة ، واحتجوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صلاة حتى يطلع الشهاب».

أجاب في (شرح الإبانة) بأن الشهاب هو ما يظهر من الكواكب الكبار التي تكون بالنهار ، ولكن شعاعها يظهر بغروب الشمس.

حجة الآخرين : ما ورد في الحديث أن جبريل عليه‌السلام صلى بالنبي عليه‌السلام حين وجبت الشمس ، وتوارت بالحجاب ، وحديث ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى المغرب حين غابت الشمس في الحجاب) وكنا نصلي معه على ذلك إلى أن فارق الدنيا.

وفي السنن عن يزيد بن الأكوع قال : (كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس ، إذا غاب حاجبها).

وفي السنن أيضا عن أنس بن مالك قال : كنا نصلي المغرب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم نرمي ، فيرى أحدنا موضع نبله.

وروي في مجموع أحمد بن عيسى أن بني مدلج كانوا يصلون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المغرب ، ثم ينصرفون فيرمي أحدنا بسهم فينظر إلى موضعه ، وبنو مدلج حي من الأنصار.

قال القاضي جعفر : النجوم النهارية ثلاثة : الزهرة ، والمشتري ، والشعرى وهو علب.

قال القاضي محمد بن حمزة : واختلف في السماك ، قيل : واختلف

٢٤٤

في المريخ أيضا ، وقد ذكر في (الروضة والغدير) أن الخلاف في العبارة ، وأن مغيب الشمس ، ورؤية كوكب متلازمان في أعالي الجبال (١).

تكملة لهذا

قال في (شرح الإبانة) : الاحتياط يقضي بتأخير الفطر والصلاة حتى يرى كوكب ليلي ، ويكره تأخيرها إلى اشتباك النجوم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تزال أمتي بخير أو قال : على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشبك النجوم» روى هذا في السنن.

قوله تعالى

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) [الأنعام : ٨٠]

دل ذلك على جواز المحاجة (٢) في الدين ، وذلك كثير في كتاب الله تعالى.

قوله تعالى

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى)(٣) [الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥]

__________________

(١) أي : لمن في أعالي الجبال ، وقد تقدم هذا في قوله تعالى في سورة النساء (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ).

(٢) الدلالة من لفظ وَحاجَّهُ لأنها مفاعلة وفاعل ، لنسبه أصله إلى أحد الأمرين متعلقا بالآخر للمشاركة صريحا ، فيجيء العكس ضمنا ، كما في التصريف. يقال : المبتدي قومه ، فهو في حكم المدافع ، فينظر ، اللهم إلا أن يقال يمكن أن تكون البداية منه بالدعاء والاحتجاج استقام الكلام والله أعلم (ح / ص).

(٣) تمام الآيات (وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٨٥ ـ ٨٦].

٢٤٥

دلت على أن الذرية تنطلق على الأولاد وإن سفلوا ، ويدخل أولاد البنات ؛ لأن عيسى من أولاد بنته ، فعلى هذا لو وقف شيئا على ذريته دخل الجميع ، واختلف إلى من يعود الضمير في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) فقيل : إلى نوح ؛ لأنه أقرب ، ولأن يونس ولوط ليسا من ذرية إبراهيم ، وقيل : أراد من ذرية إبراهيم ، ويكون لوط ويونس معطوفين على نوح.

قوله تعالى

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) [الأنعام : ٩٠]

أي : على ما أؤدي من الرسالة ، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم ؛ لأن ذلك يجري مجرى تبليغ الرسالة.

قوله تعالى

(تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١]

يعني : أهل الكتاب يخفون صفة الرسول عليه‌السلام ، وفي ذلك دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الديني عمن يهتدي به.

قوله تعالى

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام : ٩٥]

الآية تدل على جواز الحجاج في الدين.

قوله تعالى (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٠٦]

٢٤٦

النزول

قيل : إن المشركين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجع إلى دين آبائك ، فنزلت.

واختلف ما أريد بالإعراض؟ فقيل : أراد الاستجهال لهم فيما اعتقدوه من الشرك ، وقيل : أريد به الهجران لهم دون الإنذار ، وترك الموعظة ، عن أبي مسلم ، وقيل : الإعراض عن محاربتهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) عن ابن عباس.

قوله تعالى

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٨]

النزول

قيل : لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال المشركون : يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك ، فنزلت الآية ، ونهاهم عن سب آلهتهم ، عن ابن عباس.

وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم ، فنهاهم عن ذلك ، لئلا يسبوا الله ، عن قتادة.

وقيل : لما حضرت الوفاة أبا طالب انطلق الملأ من قريش أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وجماعة معهم فدخلوا عليه ، وقالوا : أنت شيخنا ، وإن ابن أخيك محمدا آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه ، وتنهاه عن ذلك ، فدعا أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما حضر قال : ما تريدون؟ فقالوا : نريد أن تكف عنا وتدعنا وآلهتنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل أنتم معطيّ كلمة إن أعطيتم ذلك ملكتم العرب ، ودانت لكم العجم»؟ قالوا : نعم عشر أمثالها ، فقال : «أن تقولوا لا إله إلا

٢٤٧

الله» فأبوا واشمأزوا ، وقالوا : إما أن تكف عن آلهتنا وسبها ، أو لنسبن من أمرك بهذا ، فنزلت الآية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبوا ربكم» فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم ، عن السدي.

ثمرة هذه الآية : أن الحسن يصير قبيحا إذا كان يحصل القبيح بفعله (١).

قال الزمخشري (٢) : وسب آلهتهم قربة وطاعة ، لكن نهوا عن ذلك ؛ لأنه يؤدي إلى قبيح.

وقال الحاكم : نهوا عن سب الأصنام لوجهين :

الأول : أنها جماد لا ذنب لها.

والثاني : أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسب الله تعالى.

قال : والذي يجب علينا بيان بغضها (٣) ، وأنه لا يجوز عبادتها ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، وأنها لا تستحق العبادة ، وهذا ليس بسب ، ولهذا قال أمير المؤمنين يوم صفين : لا تسبوهم ، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم.

واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة سواء فعل الحسن أم لا ، لم يسقط الواجب ، ولا يقبح الحسن ، ولهذا قال الحسن لما رجع ابن سيرين ، وقد خرج إلى جنازة فرأى ابن سيرين النساء فرجع ، فقال

__________________

(١) إن قيل : قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) يقضي بخلافه ، ويمكن الجواب عن هذا أن المراد إذا كان الحسن هو الداعي إلى القبيح بحيث لولاه لما فعل ، كما في السب ، بخلاف النداء إلى الصلاة فليس من المعابة ، لأنهم مستهزءون بجمع هذا النداء ، وإنما ذلك كالمذكر ، وإلا فهم بانون عليه سواء نودي للصلاة أم لا ، وقد أشار سيدنا عادت بركاته إلى معنى هذا في قوله ، واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة .. الخ.

(٢) الكشاف ٢ / ٤٣.

(٣) لعله يريد : باعتبار ما يتعلق بها من الأفعال لا لذاتها ؛ والله أعلم (ح / ص).

٢٤٨

الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع (١) ذلك في ديننا ، وكان فعل محمد بن سيرين توهما حتى نبهه الحسن (٢).

وقد ذكر في هذا مسائل : منها إذا كان نهيه عن المنكر يؤدي إلى منكر أقبح منه ، أو أكثر لم يجز النهي ، بل ينهى عن النهي.

ومنها : إذا كان في صلاة أو وضوء وحضر منكر قدّم إزالته على الصلاة ، وعلى الوضوء إن كان مضيقا ، ولو فاتت الصلاة ، ولو صلى لم تجزه صلاته ، على ما صحح للمذهب ؛ لأنه منهى عن تمامها (٣) ، والشيء الواحد لا يكون الإنسان منهيا عنه مأمورا به إذا كان طاعة ومعصية ، وهذا قول مالك.

والمروي عن أبي حنيفة ، والشافعي صحة الصلاة ؛ لأن عصيانه بترك النهي ، وقد يكون تاركا له بغير الصلاة ، وهذا أحد احتمالي أبي طالب.

ومنها : إذا صلى وصبي يغرق ، وهو كالأول.

ومنها : لو أرادوا عقد النكاح بشهود فسقة ، وكان مذهب الزوجين اشتراط العدالة ، أو بغير شهود ، وكان الشهود العدول إذا حضروا فعل منكر ، أو ازداد فقيل : لا يجوز الحضور ؛ لأنه سبب في فعل المنكر ، ولقائل أن يقول : إذا كان أخف من الوطء حراما لزم الحضور ، وذلك لأن

__________________

(١) أي : نقص.

(٢) قد تقدمت القصة في آخر النساء في قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها) الخ. هذا يؤيد أنه إذا لم يتهم بالرضاء بفعل المحظور جاز له الوقوف ، والقياس على القواعد فعل ابن سيرين.

(٣) قوله (لأنه منهي عن تمامها) هذا يناسب قول من يقول : الأمر بالشيء نهي عن ضده.

٢٤٩

الوطء حراما مع العلم يوجب الحد والفسق ، فيكون أخف من منكر لا يوجب فسقا (١).

ومنها : إذا وقف للوضوء خشي غصب متاعه الذي لا يجحف ، ففي اللمع أنه يجب الوضوء قياسا على شراء الماء ، وقرره بعض المفرعين (ح) (٢) ، قال : لأن فاعل الحسن غير فاعل القبيح ، وضعفه الفقيه يحيى بن أحمد ، وولده الفقيه محمد بن يحيى ؛ لأن فعله للوضوء يصير مسببا للمعصية بخلاف الشراء ، وما ذكره الفقيه يحيى البحيبح ضعيف ، ويلزم أن لا يفترق الحال بين ما تدخله الإباحة كأخذ ماله ، وما لا تدخله كأخذ مال الغير ؛ لأنه سبب من معصية ، وقد يفرق بينهما بعض المفرعين (س) (٣) وليس بالواضح.

ومنها : إذا باع العصير ممن يتخذه خمرا ، أو السلاح ممن يضرّ به المسلمين ، أو العيدان ممن يتخذها طنابير فإطلاق الهادي عليه‌السلام والوافي أن ذلك لا يجوز ؛ لأنه مسبب للمعصية.

وعن الأخوين ، والقاضي جعفر ، والأمير الحسين : أنه يجوز إذا قصد نفع نفسه (٤) ؛ لأنه لم يحصل منه إلا التمكين ، وقد مكن الله تعالى الكفار بخلق القدرة ولم يقبح ، وهذا مردود ، فإنه يحسن من القديم ما لا يحسن منا (٥) ، وفي تمكينه تعالى لهم تعريض لنفعهم بالامتثال (٦) ؛ ليحصل الثواب ، وقد قال قاضي القضاة ، وأبو رشيد ، وأبو مضر : إن

__________________

(١) أو يوجب فسقا ، فهو أخف لعدم استمراره ، وهذا وجه التشكيك.

(٢) هو الفقيه يحيى بن حسن.

(٣) هو الفقيه حسن بن محمد النحوي.

(٤) وهو المختار في غير السلاح والكراع ، كما في الأزهار.

(٥) يقال : لأنه إنما يقبح القبيح لوقوعه على وجه ممن كان.

(٦) لأنه من تمام التكليف ، والله أعلم (ح / ص).

٢٥٠

المودع إذا عرف أن صاحب الوديعة ينفقها في المعصية لم يسلمها إليه ، وله جحدها ، والحلف على أن ليس عنده وديعة وينوي يجب عليه تسليمها (١).

أما إذا أراد سفر الحج أو غيره ، وعرف أنه يؤخذ منه الأتاوة فقال الشافعي : إن هذا يمنع من وجوب الحج ، ومذهب الأئمة أنه لا يمنع (٢) ؛ لأن هذا الشيء يشبه السكون في أرض يحكم فيها الظلمة بما شاءوا من أخذ شيء من المال فهذا جائز ، ولا تجب الهجرة لهذا عند الأكثر ، وذلك كالإجماع ، ويحكى الخلاف لبعضهم (٣) ، ومن هذا تولي القضاء من جهة الظلمة إذا كان لا يتم له إلا بذلك لا يجوز ؛ لأنه يكون متوصلا بفعل القبيح إلى فعل الحسن ، والصور في هذا تكثر.

قوله تعالى

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) [الأنعام : ١١٤]

قيل : معناه قل يا محمد هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار ، وما دل عليه الدليل فهو حكم الله تعالى من سنة ، أو إجماع ، أو قياس ، أو تحكيم بين الزوجين ، أو خبر الواحد.

وأما ما لم تدل عليه دلالة فهو لا تجب طاعته ، وليس بحكم الله ، ومن ذلك أحكام المنع.

__________________

(١) تقدم مثل هذا في تفسير قوله تعالى في آخر النساء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) الآية ، وسيأتي مثله في براءة ، في قوله (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) الآية.

(٢) إذا كان المعتاد ، والله أعلم ، وإلا جاز ولا يجب ، ولعله حيث يسلمه هو ، لا لو كان يغتصب عليه ، فلا يجوز ،

(٣) وممن منعه إمامنا المنصور القاسم بن محمد عادت بركاته. (ح / ص).

٢٥١

قوله تعالى

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١١٦]

هذا يدل على أنه لا يجوز التقليد ، وإنما هذا في أصول الدين دون الفروع.

قوله تعالى

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) وما (فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) [الأنعام : ١١٨ ـ ١٢٠]

النزول

قيل : قال المشركون للمؤمنين إنكم تزعمون أنكم تتبعون أمر الله ، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم بسكاكينكم ، فنزلت الآية عن ابن عباس.

وقيل : لما نزل تحريم الميتة كتب مجوس فارس إلى مشركي العرب أن محمدا يزعم أنه متبع لأمر الله ، وما ذبح الله بسكين من ذهب لا يأكلونه ، وما ذبحوه يأكلونه ، فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت.

وثمرة هذه الآية أحكام :

منها : إباحة ما يذبح من الحيوان ؛ لأن صيغة الأمر هنا المراد به الإباحة ، مثل (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) ومثل : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) والمراد : فكلوا مما ذبح ، وذكر اسم الله عليه ، دون ما لم يذكر اسم الله عليه ، وذلك

٢٥٢

الميتة ، وما سمي عليه اسم الأصنام ، فتدل بالمفهوم على تحريم الميتة ، وما ذبح على النصب.

وقوله : (اسْمُ اللهِ) قيل : هو اسم الله بهذا اللفظ ، الذي هو الله ، وقيل : ذكر الله بكل قول فيه تعظيم له ، كالرحمن ، وسائر أسمائه ، لقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ولقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ثم إن ظاهر الآية اشتراط التسمية على الذبيحة.

قال المؤيد بالله : ولو قال : الحمد لله مريدا به التسمية حل ، لا إن أراد به الشكر ، ويأتي مثل هذا إذا هلّل ، أو سبّح عند سماع الرعد (١).

وقد اختلفوا في حكم التسمية على ثلاثة أقوال :

الأول : قول القاسم ، والهادي ، وسائر الأئمة أن التسمية شرط على الذاكر ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ؛ أخذا بالظاهر ، وخرج الناسي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وكذا الجاهل.

وقال الشافعي ، ومالك في رواية : إنها مستحبة غير واجبة ، وقالوا : المراد بما ذكر عليه اسم الله الاحتراز من الميتة ، وما ذكر عليه اسم النصب بدليل قوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

وقال الشعبي ، وداود ، وأبو ثور ، ورواية عن مالك : لا يؤكل ما لم يذكر عليه اسم الله ، سواء ترك عامدا ، أو ناسيا أخذا بالعموم ، وسبب نزول الآية دليل للشافعي ، ومالك ـ أن المراد : الميتة بالذي لم يذكر عليه اسم الله.

قلنا : إن في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ، وإلا فلا تأكل».

__________________

(١) غير المعتاد يجزي مع القصد ، كما ذلك معروف في موضعه. (ح / ص).

٢٥٣

قال جار الله (١) ـ رحمه‌الله ـ : ومن حق ذي البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان ، لما يرى في الآية من التشديد العظيم ، وذلك قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وقوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

قال المؤيد بالله : ولو تقدمت التسمية بوقت يسير ، أو كلام يسير فلا بأس.

وقوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي : عرض لكم في ترك أكل ما ذكر عليه اسم الله ، وهذا أيضا تأكيد لشرط التسمية ، وفيه ما تقدم ، وقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) قرئ فصل ـ بفتح الفاء والصاد ـ أي : الله تعالى ، وهو ما ذكر في سورة المائدة وهو : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) وقيل : المائدة نزلت بعد الأنعام بمدة ، فلا يردّ ذلك إلى ما ذكر فيها ، لكن يقال : فصل على لسان الرسول ، ثم نزلت بعد ذلك في القرآن ، وقيل : أراد فصله في عدة السور ، في الأنعام مثل قوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية ، وفي غيرها ، وقرئ : فصل ـ بضم الفاء وكسر الصاد ـ على ما لم يسمى فاعله ، أي : بيّن ، والصاد مشددة في أكثر القراءات ، وفي قراءة عطية فصل ـ بتخفيف الصاد ـ أي : جزم ، وقطع الحكم به ، وقرئ : ليضلون ـ بفتح الياء ـ ويضلون ـ بضم الياء ـ أي : يضلون غيرهم ، وفي ذلك دلالة على تحريم الحكم والفتوى بغير دلالة ، ولكن اتباع الهوى.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وذلك أكل الميتة والدم ، ولحم الخنزير عند ضرورة الجوع ، والخوف على النفس.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٤٨.

٢٥٤

وقوله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ)

قيل : أراد السر والعلن ؛ لأن الإسرار به لا يخرجه عن كونه إثما ، كما كانت الجاهلية ترى أن الزنى ما كان إعلانا في الحوانيت ، دون أن تزني بالصديقة في السر.

وقيل : القليل والكثير ، وقيل : أفعال القلب وأفعال الجوارح ، وقد قال الحاكم : فيها دلالة على أن العبد يؤخذ بأفعال القلب ، كما يؤخذ بأفعال الجوارح.

وقيل : الظاهر ما ظهر تحريمه ، والباطن ما فيه شبهة ، ويعضده الخبر : «المؤمنون وقافون عند الشبهات».

قوله تعالى

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١]

قيل : أراد الميتة ، وقيل : أراد ما ذبح على النصب ؛ لأن الأعراب كانت تأكل الميتة ، فجدالهم فيما ذبح على النصب.

وقيل : أراد ما لم يسم عليه جملة ، فالشافعي يقول : أراد الميتة ، أو ما ذبح على النصب ؛ لأن من أكل ذلك فسق ، ومع الاستحلال يكفر ، بخلاف ما ذبحه المسلم ، ولم يسم عليه ، فإنه لا يفسق ولا يكفر إن استحله ، وقيل : أراد ما لم يذكر اسم الله عليه ، ولو ذبحه مسلم ، والمراد بالفسق الخروج من طاعة الله.

قوله تعالى

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧]

هذه خصال عطفت على ما تقدم من جعلهم نصيبا من الحرث

٢٥٥

والأنعام لشركائهم ، فعطف أنه زين لهم قتل الأولاد بالوأد وقيل : كان بالنحر للآلهة ، وكان الرجل في الجاهلية يحلف لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب ، وكانوا يقتلون البنات خشية العيلة ، أو خشية العار.

وروي أن النعمان أغار على قوم فسبوا نساؤهم ، وكان فيهم بنت قيس بن عاصم ، ثم اصطلحوا ، فأرادت كل امرأة عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها ، فحلف قيس لا يولد له بنت إلا وأدها ، فسار ذلك سنة فيما بينهم.

وروي أن قيس بن عاصم قتل من بناته سبعين بنتا ، وكذلك حكى الله سبحانه أفعالا للجاهلية لم يفعلوها ، بدلالة من تحريم بعض الأنعام ، وبعض الحرث ، وجعله لآلهتهم ، وكذلك تحريم ما في بطون الأنعام على الإناث ، قيل : أراد اللبن ، وقيل : الأجنة الحية.

فثمرة هذه الجملة أنما فعل بغير دلالة شرعية ، أو تقرب به لغير الله لم يجز ، وهل يدخل في ذلك العزل من الواطئ أم لا؟ فقال القاسم العياني : إنه لا يجوز ، وإنه الوأدة الصغرى ، والأكثر على جوازه ، لكن يحتاج إلى رضاء الزوجة الحرة ، لترتفع المضارة.

وقال الإمام يحيى : يجوز مطلقا ، ولا يحتاج إلى إذن.

قوله تعالى : (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) [الأنعام : ١٤] وذلك مثل البحيرة ، والسائبة ، والحام ، وتحتمل الآية أن يستدل بها على أنه لا يجوز تحريم الحلال ، كما قاله الحاكم والزمخشري.

قوله تعالى

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ

٢٥٦

كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام : ١٤١]

[النزول]

قيل : نزل قوله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا) في ثابت بن قيس بن شماس ، وذلك أنه أدخل المساكين على نخيله ، وكانت له خمسمائة نخلة ، فأتوا على جميعها ، ولم يعد على أهله بشيء ، وعاد عليهم بذلك مكروه ، فالمعنى : لا تسرفوا في الصدقة ، نظير قوله تعالى : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩].

ولهذه الآية ثمرات :

الأولى : أن في ثمر هذه المذكورات حقا لازما ، واختلف في ذلك الحق ، فقيل : إنه غير الزكاة ؛ لأن هذه الآية الكريمة مكية ، والزكاة إنما فرضت في المدينة.

ثم اختلفوا في هذا الحق هل هو ثابت أو منسوخ؟ فقال مجاهد ، والشعبي ، والنخعي : إنه باق ، وهو إطعام من يحضر الحصاد لهذه الآية.

وفي التهذيب عن علي عليه‌السلام ومحمد بن علي ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن عمر ، والحكم ، وحماد ، وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس : هو حق ثابت غير الزكاة ، وهو ما تيسر مما يعطى المساكين.

فقال بعض هؤلاء : هو التقاط السنبلة ، وقال بعضهم : يعطى قبضات.

وقال بعضهم : كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مرّ به.

وقال بعضهم : هو حق منسوخ بإيجاب العشر ، ونصف العشر ، وبقوله عليه‌السلام : «ليس في المال حق سوى الزكاة».

٢٥٧

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه» وهذا مروي عن ابن عباس.

وقيل : بأنه الزكاة ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومحمد بن الحنفية ، وزيد بن أسلم ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وطاوس ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، والضحاك ، وأبي علي ، وأبي مسلم ، وأن الآية مدنية ، لكن مقدار الحق مجمل ، وعمومها يقضي بوجوب الزكاة في جميع هذه الثمار ، وفي هذا أقوال متعددة للعلماء.

فمذهب الهادي ، والمؤيد بالله : يجب في كل ما أخرجت الأرض ، إلا أن المؤيد بالله استثنى الحطب ، والحشيش ، والقصب الفارسي.

وعند أبي حنيفة : يجب إلا في الحطب والحشيش ، والقصب الفارسي ، والتبن ، وعند الناصر إلا في هذه الأشياء ، وسعف النخل.

وقال الشافعي : لا تجب إلا فيما يقتات ويدخر.

وقال أبو يوسف ، ومحمد : في المكيل والموزون.

وقال الثوري ، والحسن بن صالح : لا زكاة إلا في البر ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، فالهادي عليه‌السلام أخذ بعموم هذه الآية ، وبالعموم في قوله تعالى في سورة البقرة : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) وبعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر».

قال الشافعي : إنه قد ورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس في الخضروات صدقة» وورد أنه لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن لا يأخذ من الخضروات.

قلنا : نحمله على أن ذلك دون النصاب ، والناصر قال : لا تجب في سعف النخل ونحوه ؛ لأن قد أخذت منه ثمرة يجب فيها الحق ، فأشبه الأرض ، أو فأشبه الشجر.

٢٥٨

الثمرة الثانية : أن عموم الآية يقضي أنه يجب في القليل والكثير ، وأن النصاب غير معتبر ، فالقاسم ، والهادي ، والمؤيد بالله اعتبروا النصاب ، وقالوا : العموم مخصوص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» وهذا قول الشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد ، والثوري ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام وابن عمر ، وجابر.

وقال أبو حنيفة ، والداعي ، وزفر ، والحسن بن زياد : يجب في القليل والكثير ؛ لعموم الآية ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والزهري ، والنخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وفي حديث أبي سعيد الخدري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (ليس فيما دون خمسة أوسق من الحنطة والشعير ، والتمر والزبيب صدقة) وبهذا احتج الناصر ، فلم يعتبر النصاب إلا فيها.

أما الخضروات فالذي ذكره الإخوان أنه يعتبر النصاب فيه بمائتي درهم ؛ لأنه مال لا نصاب له في نفسه ، فكان نصابه كنصاب أموال التجارة.

وقال الناصر ، وأبو حنيفة ، وزفر : يجب في القليل والكثير.

وقال أبو يوسف : إذا بلغت قيمته خمسة أوسق من أدنى ما يكال.

وقال محمد : إذا بلغ خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ، وهذه مسألة أصولية ، وهي جواز التخصيص بالقياس ، فأبو علي ، وكلام أبي هاشم أوّلا ، وبعض الفقهاء منعوا من ذلك ، وقال بعض الشفعوية : يجوز إذا كان القياس جليا.

قال في غرر الحقائق في شرح الفائق : ومذهب أكثر الفقهاء من الحنفية ، والشافعية ، ويحكى عن مالك ، وهو قول أبي هاشم آخرا ، والكرخي ، واختاره الإمام الناطق [بالحق] والمنصور بالله ، واعتمده

٢٥٩

الشيخ الحسن الرصاص ـ جواز تخصيص العموم بالقياس (١) ، واحتجوا بأنه إجماع الصحابة ، ولذلك جعلوا حد العبد على النصف قياسا على الأمة ، وهو تخصيص لعموم قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

الثمرة الثالثة : في الحال التي يتعلق بها الوجوب ، وقد قال تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي : وقت حصاده ، دل ذلك على أن هذا وقت الوجوب ، وهذا قد نص عليه أهل المذهب.

قال جار الله : ومعنى الإيتاء حالة الحصاد : هو أن يعزموا على ذلك ، ويهتموا به ، ولا يؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإتيان ، يعني : لأن حالة الحصاد لا يجب الإخراج ، بل لا بد من صرم الزرع ودياسته وكيله ، ووقت الحصاد : يوم انعقاد الحب ، ذكر ذلك أبو حنيفة ، وغيره.

قال الحاكم : وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفا على الأرباب ، فلا يجب عليهم ما أكل قبله ، وقد قال الزمخشري : إنما قال تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) لئلا يتوهم أن وقت الإباحة للأكل إنما يكون بعد الإدراك.

وقال الحاكم : لئلا يتوهم أن فيه حقا قبل الإدراك فلا يأكل منه.

الثمرة الرابعة : إذا استأجر أرضا زرعها ، هل يجب عشرها على المؤجر أو على الزراع الذي هو المستأجر؟

فقال القاسم ، والمؤيد بالله : مذهبا وتخريجا ، وأبو يوسف ، ومحمد ، ومالك ، والشافعي : إن العشر على المستأجر (٢) لأنه المالك ، وذلك يؤخذ من هذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ

__________________

(١) وهو المختار عند أهل الأصول.

(٢) وهو المختار.

٢٦٠